إبراهيم صمب
25-01-2014, 12:41 PM
لُغَاتِ الشُّعُوبِ الإِسْلاَمِيَّةِ بَيْنَ الْخَطِّ الْعَرَبِيِّ الإِسْلاَمِيِّ وَالْخَطِّ اللاَتِينِيِّ الصَّلِيبِيِّ
إن الخطّ يُعَدُّ أثرا من آثار الأمم الراقية، ومظهرا من مظاهر حضارتها؛ لذا كلما تقدمت أمة اشتدّت حاجتها إلى الخط والكتابة، ولعل هذا ما جعل ابن خلدون يذهب إلى أن الخط من جملة الصنائع التي تتبع في تقدمها ونموها تقدم العمران ورقي الحضارة، وأنه كلما أوغل شعب في البداوة قلَّل من الكتابة، وإن وُجْدِتْ كتابةٌ لسبب ما كانت إلى الرداءة أميل( ).
وإذا تتبعنا تاريخِيّاً الكتابة بالحرف العربِيِّ، وجدنا أنها كانت موجودة قبل الإسلام، سواء في قلب الجزيرة أو في أطرافها؛ وذلك أن كثيرا من العرب الجاهليين كانوا يعيشوا في الحواضر، وكان من بينهم من يعرف القراءة والكتابة؛ بدليل أن ورقة بن نوفل كان يكتب الكتاب العربي والعبراني، وبدليل أن قريشا لما قاطعت النبي r كتبت بذلك صحيفة، وعلّقتها في جوف الكعبة.( )
وعلى ذلك تكررت مادة (ك ت ب) وأدوات الكتابة: من القلم والصحف والقرطاس في (القرآن الكريم)؛ لأنه غير المعقول أن يخاطب القرآن الكريم قوما بهذه الآلات، ولم يكونوا على علم وبصيرة بها.
ومع ذلك كله فإن الكتابة بالحرف العربِيِّ لم تنتشر انتشارا واسعاً قبل الإسلام؛ لقلة دواعيها آنذاك، وتلكم الدواعي تتمثل في العهود والمحالفات بين القبائل أو بين أفرادها، قال ابن فارس «فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرا ووبرا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كلّ يعرف الكتابة والخط والقراءة»( ).
حتى هذا القليل المرسوم بالحرف العربِيِّ كان مختلفا في أصله؛ لعدم وجود أدلة قاطعة وروايات ثابتة( )، وكان مرتبكا في شكله، محتاجاً إلى تطوير وتحسين؛ ولهذا وذاك وُصِفَتِ العربُ الجاهليون بأنهم أُمِّةٌ أُمِّيِّةٌ( )؛ لكون أغلبهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة، والقليل الذي عرفوه رديئ.
مكانة الخطّ العربيّ: للخطّ العربِيِّ مُمَيِّزات من بين الخطوط المعروفة في عالمنا اليوم، فهو ينفرد بصفات خاصة، صقلت ذاتيته، وأبرزت شخصيته، من أهمّها ما يلي:
أولا: أنه يمينِيُّ الاتجاه، أي: أنه يكتب من اليمين إلى اليسار، وهذه ميزة حسنة؛ إذ إن الخطّاط في هذه الحالة يشاهد بكلّ دقّة سطر الورقة، كما أنه يتحكم تحكُّماً تامًّا بقلمه.( )
ثانيا: وجود حروف خاصة، لا توجد في غيره من خطوط اللغات الأخرى، كحرف الضاد.( )
ثالثا: التصاق الحروف في الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سواء في الكتابة اليدوية أو المطبعية؛ مِمّا يسهّل القارئ على استيعاب شكل واحد لا شكلين، كما هو الحال في الكتابات اللاتينية.( )
رابعا: اتحاد نطق حروفه، في حين نجد كثيرا من الحروف الأجنبية كاللاتينية ولهجاتها لها قيم مختلفة، فحرف (c) مثلا ينطق في الإنجليزية سينا تارة، وكافا مرة أخرى، وقد يجتمع النطقان في كلمة واحدة مثل: (circle). ( )
أثر الإسلام في الخطِّ العربِيِّ:
لما كان الإسلام دين علم وتحضر، كان لزاما على الذين يشتغلون في الحقل الثقافي أن يولوا وجوههم شطر الخط العربي، لاكتشاف جمالياته ومميزاته، وإبعاث طاقاته في تمثيل المنطوق؛ مما يعطي دليلا ملموسا على رقي الحضارة الإسلامية.
ولما كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين مقروءا، كان لزاما على الخط العربي أن يحتضن هذا الكتاب العظيم للعلاقة الوثيقة بين الخط والكلام؛ ولذا أصبح واجبا على كل مسلم يريد قراءة القرآن أن يتعلم الكتابة والخط العربِيَّ( ).
فقد كان الرسول r أحرص الناس على انتشار الكتابة والقراءة بين المسلمين، بل ضرب لذلك المثل الأعلى؛ إذ جعل فداء أسرى غزوة بدر من المشركين الذين يعرفون الكتابة: تعليم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة( )، ولم يقتصر اهتمامه r بالكتابة على الرجال فحسب، وإنما شمل أيضا النساء، فقد أمر r الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها أن تعلم الكتابة لزوجته حفصة رضي الله عنها.( )
وقد اقتدى المسلمون بنبيهم r، فبذلوا جهودا كبيرة في الحفاظ على هذا الخط وتطويره وتحسينه.
من تلكم الجهود أنه لما فشا اللحن في العصر الأموي خاف المسلمون على لغة القرآن، فوضعوا علامات علامات الإعجام وعلامات الإعراب؛ للتمييز بين الحروف والكلمات المتشابهة شكلاً وإعراباً( )، تلك المتشابهات التي لا يعرفها، ولا يفرِّق بينها إلا من سلمت سليقته، وقليلٌ ما هم في ذلك العصر.
ولم يكتف المسلمون بذلك بل أعادوا ترتيب الحروف الأبجدية إلى الترتيب الألفبائي، كما ابتكروا أو طوّروا نظام الحركات والسكنات إلى (الفتحة والكسرة والضمة، والسكون والشدة) للدلالة على تحرك الحرف بصوت مدّ قصير، أو خلوه منه، وإلى تشديده. ( )
فهذا غيض من فيض من التطويرات التي ابتكرها المسلمون لتحسين الخط العربِيِّ؛ مِمّا جعل الخط العربي يتربع على قمة الحضارة الإسلامية، وينتشر في شبه الجزيرة وخارجها، وأصبحت له مراكز يُعْزَا إليها، كالخط المكي نسبة إلى مكة، والخط المدني نسبة إلى المدينة، والخط الكوفي نسبة إلى الكوفة، والخط البصري نسبة إلى البصرة، والخط الأصفهاني نسبة إلى أصفهان،( ) وغير ذلك من أسماء الخطوط الدالّة على تكاتف المسلمين -من مختلف البلدان وشتى الأجناس- في تلك العملية الجليلة، التي رفعت من شأن الخطّ العربِيِّ، وجعلته عالَمِيّاً، لا يختصُّ بجنس معيَّن.
انتشار الخطِّ العربِيِّ في الشعوب غير العربية: في العصور الوسطى أو في عصور رقيّ الحضارة الإسلامية انتشر الخطُّ العربِيُّ مع اللغة العربية في بلدان ومناطق لا ينتمي أهلها أصلاً إلى الجنس العربي، فبعض تلك الشعوب استخدموا اللغةَ العربيةَ مكان لغاتهم الأمّ، كما في دول شمال إفريقيا والمغرب العربي، في حين ظلّت بعض تلك البلدان تستخدم لغاتها المحلية، ولكن بحروف عربية، مع تعديل بسيط، كما هو الحال في الدول التي تستخدم الأردية والفارسية، بل كما في معظم الدول الإسلامية، كإفريقيا السوداء.
فقد كتب الفرس لغتهم بالحروف العربية، وابتكروا الخطَّ الفارسيّ "التعليق" بيد مير علي التبريزي المتوفى سنة 919ھ، كما حوَّروا الخطَّ الكوفي، فأصبحت المدَّات فيه أكثر وضوحاً.
أمَّا الترك فقد حوَّلوا خطَّ الرقاع، وابتكروا (الهمايوني الديواني) بيد الأستاذ إبراهيم منيف.
وفي الأندلس رأينا صوراً أخرى من الحفاوة التي لقيها الخطُّ العربِيُّ بعيداً عن موطنه الأصليّ، فقد اهتمَّ الحكَّام بالخطِّ العربي وتعلَّموه ونسخوا به الكتب، لا سيما المصاحف، كما اهتمَّ سواد الناس بالمخطوطات ذات الخطِّ العربِيِّ الجميل.( )
وفي ما وراء النهر في منظقة وسط آسيا نجد الخطَّ العربِيَّ يتطوَّر تطوُّراً باهراً، ففي أثناء حكم الأمير تيمور اختُرِعَ نوعٌ من الخطِّ الأوزبكي القديم المبني على الأبجدية العربية، سُمِّيَ بخطِّ (النستعليق)، فقد قام كبير الخطاطين مير علي التبريزي وسلطان علي مشهدي باختراع هذا الخطّ. وقد أسس الخطاط مير علي هراوي -من هراة- مدرسة بخارى للخطِّ، تلك المدينة التي أصحبت من أكبر المراكز للخطِّ العربي؛ لمكانتها المرموقة في الحضارة الإسلامية والثقافة العربية.
من هنا يلاحظ أن المسلم العجمي يعتبر اللغة العربية لغته الأولى؛ لذا يحاول إتقانها، ويعتَزُّ بإجادتها، لأنها لغة القرآن الكريم آخر الكتب المقدسة، وقد يتساهل في لغته القومية دون غضاضة، ولكنه لا يسمح لنفسه بالتساهل في العربية لغة أدبه ودينه وشريعته، ولو يكتفي باستخدام الحروف العربية في لغته المحلية.
وبذلك احتفظت لغة القرآن الكريم حيويتها وطلاقتها في أقطار غير عربية؛ مِمّا أدّى إلى تلاحم الأمة الإسلامية وتوحُّدها فكريّاً؛ إذ اللغة وعاء الفكر، والخطُّ إناء اللغة، وهذا ما أثار ثورة الحاقدين على الإسلام، فقاموا بحملات شرسة ضدّ اللغة العربية وأبجديتها.
الحملة الصليبية على الخطِّ العربِيِّ: لما فطن أعداء الأمة الإسلامية إلى ذلك الترابط الوثيق بين العربية والإسلام -وقد يئسوا من التغلب على دين الله في مواجهات حربية مكشوفة- عمدوا؛ لتحقيق مآربهم، إلى تفكيك اللغة العربية في بعض المناطق الإسلامية التي غلبوا عليها، فلجئوا إلى تعطيل الدراسة باللغة العربية أو تعويقها، وأحلوا مكانها لغاتهم، وفي بعضها الآخر حيث لم يتمكنوا من إحلال لغتهم محلّ اللغة العربية توجهوا إلى الدعوة بإحلال الحرف اللاتيني المتداول في اللغات الأروبية محلّ الحرف العربِيِّ، مدَّعين أن الحرف العربي - وقبله اللغة العربية - غير قادر على مواكبة العصر والتماشي مع تقلباته السريعة.
وقد افتتح هذه الدعوى الباطلة المستشرق الفرنسي" لويس ماسينون Louis Massignon" عندما ألقى محاضرة في جمع من الشباب العربي في باريس عام 1929م، ومما جاء في محاضرته: "إنه لا حياة للغة العربية إلا إن كتبت بحروف لاتينية"( ) وقد تحمس لهذه الفكرة وتبناها عبد العزيز فهمي، فدعا إلى استبدال الحروف العربية وجعلها حروف لاتينية، وطرح فكرته هذه في الجلسة التي عقدها مجمع اللغة العربية في 3 مايو سنة 1943م( ).
وفي سنة2000م، أصدرت فرنسا قرارا حققت به رغبة المستشرق ماسينيون، الذي تمنى في سنة 1929م أن تحل الحروف اللاتينية محل الحروف العربية. والقرار الفرنسي يلزم متعلمي العربية بكتابتها بالحرف اللاتيني. والمحزن أن الاعتراض على القرار الفرنسي الأخير إنما جاء من رجل فرنسي لا من مسئول عربي.
كان ماسينيون مستشارا بوزارة المستعمرات الفرنسية، وكان واعيا جدا بأن إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي يؤدي لا محالة إلى تقويض الثقافة العربية. ومن قَبْلِ ماسينيون كان على رأس إدارة دار الكتب في مصر شخص يدعى كارل فولرس K. Vollers سولت له نفسه أن يحرم العرب من كنوز دار الكتب وغيرها، فكان يطالب بنبذ الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية . ومثله المستشرق الإنجليزي سلدون ولمور Seldon Willmore الذي تولى ”القضاء“ بالمحاكم الأهلية بالقاهرة إبان الاحتلال البريطاني لمصر، وتولى أيضا مهمة القضاء على الثقافة العربية، من خلال دعوته إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية.
أثر الحملة الصليبة على الخط العربِيِّ: خلال القرن العشرين الميلادي تحوَّلتْ شُعُوبٌ إسلاميةٌ عديدةٌ عن كتابة لغاتها بالحروف العربية التي كانت قد اختارتها:
• في آسيا الوسطى: فرض الاتحاد السوفيتي الأبجدية السيريلية على شعوب التركمان والطاجيك والقرغيز والأوزبك والأزر والقزاخ والتتار والشيشان والبشكير والبلوش وغيرهم، ثم تحول معظمها بعد انهيار الاتحاد إلى الخط اللاتيني تحت التأثير الأمريكي والتركي.
• في أفريقيا: النوبية والسواحيلية والصومالية والسونجاي حول نهر النيجر غيرت كتابتها من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وكذا الكتابة في لغة "الهاوسا" في شمال نيجيريا.
• في شرق آسيا: المالايو في ماليزيا من اللغات التي غيرت كتابتها إلى الحرف اللاتيني.
• في أسيا الصغرى وأوروبا: تحولت التركية والبوسنية والألبانية إلى اللاتينية.
وقفة وعبرة من اللغة التركية: كانت تركيا منذ عهد قريب عاصمة الخلافة الإسلامية، وهي آخر دولة احتضنت الخلافة الإسلامية؛ مِمَّا جعلها مرمى الصواريخ الصليبية؛ لذا فإن تغيير الكتابة التركية من الحرف العربي إلى اللاتيني يعَدُّ صفحة من كتاب ضخم في رأس الزعيم التركي الذي قام بهذه العملية، فقد كان هذا الزعيم يهدف إلى تغيير الثقافة الإسلامية السائدة في عادات الأتراك وتقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وملبسهم وغير ذلك، ويتجلى هذا في الحجج التي قيلت إنَّها هي البواعث لتغيير الكتابة التركية، من تلكم الحجج ما يلي:
1. أن اصطناع الحروف اللاتينية يجعل اللغات الأوروبية أقرب منالاً إلى الإنسان التركي.
2. أن العربية تعجز بصوائتها الثلاثة عن استيعاب ثمانية صوائت تركية.
3. أن الكتابة العربية كتابة ســامية، وبمــا أن التركية غير سامية، توجَّب إحلال حرف آخر محلّ الحرف العربِيِّ.
مناقشة الحجة الأولى: يمكن أن ترد على هذه الحجة جملة من الاعتراضات، أهمها:
أ/ أنها تفترض أن سيادة الحضارة الأروبية، ومن ثم لغاتها، ستستمر إلى الأبد؛ ولهذا لا بدَّ للتركي أن يتعلم ما يعينه على فهم لغات هذه الحضارة الخالدة. وهذا الرأي -كما علَّمَنا التاريخ- لا يثبت عند النقاش. فما الموقف إذا سادت حضارة شرقية كاليابانية أو الصينية، فهل تغير تركيا كتابتها مرة أخرى؟
ب/ إن التركيَّ خسر الاتصال بتراثه المكتوب بالحروف العربية (وهو التراث التركيّ برمته) مقابل معرفة تافهة. فكيف تعتزّ أمة فقدت تراثها؟!!
ج/ إن جزءًا من هذه المعرفة التركية للحروف اللاتينية يقف عائقًا أمام التركي في نطقه الصحيح للغات الأوربية؛ لأن الكتابة التركية الجديدة قد أجرت مجموعة من التغييرات في الحروف اللاتينية لتجعلها منسجمة مع اللغة التركية. وأهم تلك التغييرات جعل الحرف (c) ينطق جيمًا، وجعل الحرف نفسه بعد وضع زائدة تحته (c) ينطق مثل الصوت الأول في كلمة chair الإنجليزية. كذلك وضع زائدة تحـت الحــرف (s) لينطق شينًا. وهذا مخالف لما في اللغات الأوربية الرئيسة: الإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ لأن التركي بهذه التغييرات سيقرأ الإنجليزية cat: (جات) بالجيم كما في اللسان التركي، والصحيح (كات). والأمر نفسه يحصل في هذا الحرف وقد وُضِعت تحته زائدة؛ لأن التركي يقرؤه شينا، والفرنسي ينطقه سيناً، والسبب في ذلك أن العادات اللغوية للمرء تؤثر في تعلمه لغة أخرى.
مناقشة الحجة الثانية: صحيح إن الصوائت العربية محدودة العدد قياسًا بعددها في لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية والتركية، بيد أن هذا لا يستدعي إلغاء الكتابة العربية.
فالناظر إلى الحروف التركية الجديدة الدالة على الصوائت، سيجد أنها لم تترك بعض حروف العلة اللاتينية على حالها، بل أجرت فيها تغييرات للدلالة على التغيير في نطقها، فنجدها تضع رقم الثمانية العربِيَّ على (a)، ونقطتـــين فــوق حرف (u)، ونقطتين فوق حرف (o)، وهكذا مما يماثل -إلى حدٍّ ما- بعضًا مما في الألمانية والفرنسية.
أفما كان في وسع اللغة التركية الحديثة إدخال تغييرات على أحرف العلة العربية لتستوعب الصوائت التركية التي لا وجود لها في العربية؟، كما حدثت في اللغة الفارسية المكتوبة بالحرف العربِيِّ، حيث استخدمت الحروف العربية، وطوّعت قسمًا منها؛ لتعبر عن أصوات فارسية لا وجود لها في العربية الفصحى. فنجد أن الباء المهموسة، وهي التي نجدها في حرف (p) الإنجليزي، موجودة في الفارسية، ولا توجد في العربية الفصحى. ومع ذلك لجأ الفرس إلى كتابة هذا الصوت بوضع نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الباء؛ ليصبح المجموع ثلاث نقاط.
مناقشة الحجة الثالثة: تفترض هذه الحجة وجود ارتباط عضويّ ضروريّ بين شكل الحرف ونطقه، يشابه ارتباط النار بالحرارة أو البرق بالرعد. وإذا كان الأمر كذلك، وفقًا لهذه الحجة لا بد للغة أن تتخذ الحروف التي تتناسب مع عائلتها اللغوية التي تنتمي إليها،
والواقع يكذب هذه الحجة ويفندها، فليس هناك ارتباط ضروريّ بين شكل الحرف ونطقه، وإنما هناك علاقة اعتباطية يُكسبها المجتمعُ، لا الحرفُ نفسه، وآية ذلك أن صوت الراء -مثلاً- يكتب بأشكال عدة، فنجده يكتب في الإنجليزية (r) وفي العربية (ر) وفي الروسية (p) وهكذا. فلو كان هناك تلازم بين شكل الحرف والصوت لكُتب بصورة موحدة في اللغات المختلفة.
ومِمَّا يؤكد ذلك أن الفارسية والأردو لغتان تنتميان إلى اللغات الهندوأروبية، ولكنهما تستخدمان الكتابة العربية، في حين استخدمت لغات أفريقية تنتمي إلى عوائل لغوية لا علاقة لها بالعائلة الهندوأروبية الحرف اللاتيني.
وقد استخدمت اللغة التركية نفسها الحرف العربي، ثم الحرف اللاتيني، وهي لا تنتمي إلى أيٍّ من العائلتين الساميتين أو الهندوأروبية، وإنما تنتمي إلى عائلة اللغات الألتية Altaic.
والحقّ أنّ الغرض من هذا التحوّل من الحرف العربِيِّ إلى الحرف اللاتيني هو: فصم وقطع العلاقة بين التركي وماضيه الإسلاميّ، بحيث لا يستطيع التركي الآن قراءة رسالة كتبها أبوه أو جدُّه في الربع الأول من هذا القرن، وبهذا يسهل تشكيل عقل التركي بما يُقَدَّم إليه من زاد فكريّ وحضاريّ غربِيّ حديث حسب الغايات المرسومة.
والغريب من الأمر أن تركيا تخلت عن الحرف العربي سنة 1928م، وعلى الرغم من هذا فإن وزير الخارجية لفرنسا (دومنيك دوفيلبان) قال بالأمس القريب: «إن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يهدد هوية أوروبا وحدودها«.
تنبيه إلى ما وراء هذه الدعوى الباطلة: إن خطة إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربيِّ تجري تحت لافتات التطوير والتحديث والتيسير ومواكبة العصر الإلكتروني ومكافحة الأمية، وكلها شعارات زائفة، وتمويهات مضلّة، الغرض منها هدم الإسلام وحضارته.
ولنستمع إلى باحث غربيٍّ هو "إدوارد بنسون( )" مدير مدرسة اللغات الشرقية في لندن، حيث قال : حذار من استعمال الحروف اللاتينية في كتابة اللغة العربية؛ لأن الحروف العربية هي حروف لغة القرآن، وإذا مسستم الحروف العربية مسستم القرآن، بل هدمتم صرح وحدة الإسلام لأن الإسلام أساسه اللغة العربية، فإذا ضاعت ضاع الإسلام.
ويقول الأستاذ/عبد القادر حمزة( ) "فأولى للذين يقولون بالحروف اللاتينية أن يكشفوا القناع عن وجوههم، وأن يقولوا: إنهم يريدون في الحقيقة هدم اللغة العربية.
فالهدف الذي يعلنونه إنما هو تسهيل اللغة العربية وتخفيفها، ولكن الهدف الذي يرمون إليه – وهم يخفونه – إنما هو تضييع اللغة وتدميرها، لأنه لو تمت الكتابة بالحرف اللاتيني فإن اثني عشر حرفا من حروف العربية ستضيع لعدم وجود الحرف المقابل لها في الحرف اللاتيني، وهذه الحروف هي : الثاء والجيم والحاء والدال والذال والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف، لأنه لا يوجد في الحروف اللاتينية ما يقابلها بنصها، وسوف تدخل في حروف أخرى وتضيع الحروف الأصلية، وهذا هو هدف أعداء الإسلام .
ولكن يندى جبين المرء خجلا عندما يخبر أولاده بأسماء عربية (ناضلت) من أجل تبديل الحرف العربي، من أمثال عبد العزيز باشا فهمي، وسعيد عقل، وعثمان صبري.
ويا للأسف إن بعض أبناء الإسلام المصابين بعقدة التفوق الأروبي والغربي، هم من يروجون لمثل هذه الدعوات، ويدافعون عنها، بل إنهم يسعون للتنظير والتحاضر فيها!؛ مما جعل الوقعة والصدمة أشد، كما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنّد
لا غرو -بسبب هذه التبركة!! من أبناء العربية والإسلام- أن تسجل تلك الحملة الحاقدة بعض انتصارات في عدد من البلدان الإسلامية، كاندونيسيا وتركيا، والدول الناطقة بالفرنسية والإنجليزية من إفريقيا كالسنغال ونيجيريا، والمثال الحي من ذلك ما نشاهده ونسمعه عن الجزائر وتونس والمغرب من اصطدام واضطراب بين الحرف العربي والحرف اللاتيني، بل بين العربية نفسها والفرنسية، التي لها أنصار كثر من أبناء المسلمين الذين يرفضون العودة إلى لغة القرآن الكريم، ويتشبثون بتلابيب اللغة الغازية، على أنها –في نظرهم- الأداة الوحيدة للتحضّر.
وقد شجع انحراف هؤلاء الأبناء العاقين كثيرا من حكومات الدول غير العربية إلى اتخاذ قرارات ضد العربية، وشن سياسات تنبذ الحرف العربي.
ومع الأسف الشديد فإن المسلمين -مع ما لديهم من إمكانات مادية هائلة- لا يقدمون شيئاً للدفاع عن لغتهم، خلافاً عن أصحاب اللغات الأخرى، فمثلا حينما قام أحد الوزراء ذوي التوجه الإسلامي في السنغال بإلغاء اللغة الألمانية في بعض المعاهد نظراً لعدم الحاجة إليها، تدخلت ألمانيا وقطعت جميع المساعدات؛ مما دفعت السلطات المحلية إلى إقالة هذا الوزير.
في الوقت الذي تكتوي الأمة الإسلامية من نيران هذا التخاذل وذلك التقاعس من قبل أبنائها نجد أن التايلنديين والصينيين والهنود واليابانيين والفيتناميين والكوريين وغيرهم يرفضون تبني الحرف اللاتيني، ويصرّون على حرفهم الذي كتب به تراثهم، ولم يحدث قط أن أولئك قد اقترحوا تغيير حروفهم للحاق بالركب العالمي، بل من المفارقات العجيبة أن تلك الأمم الآسيوية تفوق على المسلمين في التمدن والتنمية على الرغم من تمسكهم بلغتهم وحرفهم.
على كلّ حال فإن كتابة لغات الشعوب الإسلامية بالحرف اللاتيني لن تجعل تلك الشعوب تلحق بالركب الحضاري العالميّ، وإنما سيؤدي ذلك إلى خسارة حضارية لا يمكن تقديرها؛ لما فيه من قطع الصلة بين الشعوب المسلمة وتراثها النضير وتاريخها الأثيل منذ عشرات القرون، من ثم يتم إحداث القطيعة الثقافية الفظيعة التي ستسلخ جسم الأمة الإسلامية من كلّ هويتها.
ومن وجهة براجماتية فإن تدوين لغات الشعوب الإسلامية بالخطِّ اللاتيني فكرة تؤدِّي إلى إهدار كل الإنجاز البشريّ المسجَّل بالحروف العربية، فماذا سيكون مصير ذلك التراث العلمي الضخم الذي أنتجته العقول المسلمة على مدار التاريخ؟ وماذا سيكون مصير القرآن والسنة؟
ومن وجهة جمالية فإن استعمال الحروف اللاتينية يقضي بالموت على فنون الخط العربي وزخارفها التي بلغت عبر القرون غاية الكمال الفنِيِّ من مختلف البلدان الإسلامية.
ومن ناحية استراتيجية فإن تدوين لغات الشعوب الإسلامية بالحروف اللاتينية تمكين وتوطيد للغات المستعمرين في العالم الإسلامِيّ؛ إذ تعدُّ تلك العملية مرحلةً من مراحل السلخ الثقافِيِّ.
وأخيرا فإن قضية الكتابة بحرف معيّن قضية حضارية مصيريّة؛ لذا يجب على الحكومات والمؤسسات الإسلامية تحمُّل المسؤولية في إيجاد أجهزة وبرامج حاسوبية معاصرة، تصل إلى كل فرد، فتسهِّل له كتابة لغته بالحرف العربِيِّ.
وعلى الأفراد والشعوب الإسلامية عدم الاغترار والانجرار وراء دعوى "محو الأُمِّيّة" على حساب ثقافتهم وهويّتهم الإسلامية؛ فتصيبهم ما أصاب الشعب التركيّ.
ولا يعني هذا التمسك بالحرف العربِيِّ تحجُّراً وتشدّدا وهجرا للغات الأخرى، فللمسلم أن يتعلّم ما شاء من اللغات ما لم يكن ذلك على حساب هويّته الإسلامية.
واللهَ سبحانه وتعالى ندعو أن يعيد الشعوب الإسلامية إلى رشدها ووعيها؛ فتدرك الضراوة الكامنة في (الدعوة إلى محو الأُمِّيّة)، و(جعل الحرف اللاتيني مكان الحرف العربِيّ)؛ فتلك الدعوة إن هي إلا إبعاد ومحو للثقافة الإسلامية، التي احتضنها وكفلها القرآن الكريم المنزل بلسان عربِيٍّ مبين.
الكاتب: د/ إبراهيم انجاي.
إن الخطّ يُعَدُّ أثرا من آثار الأمم الراقية، ومظهرا من مظاهر حضارتها؛ لذا كلما تقدمت أمة اشتدّت حاجتها إلى الخط والكتابة، ولعل هذا ما جعل ابن خلدون يذهب إلى أن الخط من جملة الصنائع التي تتبع في تقدمها ونموها تقدم العمران ورقي الحضارة، وأنه كلما أوغل شعب في البداوة قلَّل من الكتابة، وإن وُجْدِتْ كتابةٌ لسبب ما كانت إلى الرداءة أميل( ).
وإذا تتبعنا تاريخِيّاً الكتابة بالحرف العربِيِّ، وجدنا أنها كانت موجودة قبل الإسلام، سواء في قلب الجزيرة أو في أطرافها؛ وذلك أن كثيرا من العرب الجاهليين كانوا يعيشوا في الحواضر، وكان من بينهم من يعرف القراءة والكتابة؛ بدليل أن ورقة بن نوفل كان يكتب الكتاب العربي والعبراني، وبدليل أن قريشا لما قاطعت النبي r كتبت بذلك صحيفة، وعلّقتها في جوف الكعبة.( )
وعلى ذلك تكررت مادة (ك ت ب) وأدوات الكتابة: من القلم والصحف والقرطاس في (القرآن الكريم)؛ لأنه غير المعقول أن يخاطب القرآن الكريم قوما بهذه الآلات، ولم يكونوا على علم وبصيرة بها.
ومع ذلك كله فإن الكتابة بالحرف العربِيِّ لم تنتشر انتشارا واسعاً قبل الإسلام؛ لقلة دواعيها آنذاك، وتلكم الدواعي تتمثل في العهود والمحالفات بين القبائل أو بين أفرادها، قال ابن فارس «فإنا لم نزعم أن العرب كلها مدرا ووبرا قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم، فما كلّ يعرف الكتابة والخط والقراءة»( ).
حتى هذا القليل المرسوم بالحرف العربِيِّ كان مختلفا في أصله؛ لعدم وجود أدلة قاطعة وروايات ثابتة( )، وكان مرتبكا في شكله، محتاجاً إلى تطوير وتحسين؛ ولهذا وذاك وُصِفَتِ العربُ الجاهليون بأنهم أُمِّةٌ أُمِّيِّةٌ( )؛ لكون أغلبهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة، والقليل الذي عرفوه رديئ.
مكانة الخطّ العربيّ: للخطّ العربِيِّ مُمَيِّزات من بين الخطوط المعروفة في عالمنا اليوم، فهو ينفرد بصفات خاصة، صقلت ذاتيته، وأبرزت شخصيته، من أهمّها ما يلي:
أولا: أنه يمينِيُّ الاتجاه، أي: أنه يكتب من اليمين إلى اليسار، وهذه ميزة حسنة؛ إذ إن الخطّاط في هذه الحالة يشاهد بكلّ دقّة سطر الورقة، كما أنه يتحكم تحكُّماً تامًّا بقلمه.( )
ثانيا: وجود حروف خاصة، لا توجد في غيره من خطوط اللغات الأخرى، كحرف الضاد.( )
ثالثا: التصاق الحروف في الكلمة الواحدة بعضها ببعض، سواء في الكتابة اليدوية أو المطبعية؛ مِمّا يسهّل القارئ على استيعاب شكل واحد لا شكلين، كما هو الحال في الكتابات اللاتينية.( )
رابعا: اتحاد نطق حروفه، في حين نجد كثيرا من الحروف الأجنبية كاللاتينية ولهجاتها لها قيم مختلفة، فحرف (c) مثلا ينطق في الإنجليزية سينا تارة، وكافا مرة أخرى، وقد يجتمع النطقان في كلمة واحدة مثل: (circle). ( )
أثر الإسلام في الخطِّ العربِيِّ:
لما كان الإسلام دين علم وتحضر، كان لزاما على الذين يشتغلون في الحقل الثقافي أن يولوا وجوههم شطر الخط العربي، لاكتشاف جمالياته ومميزاته، وإبعاث طاقاته في تمثيل المنطوق؛ مما يعطي دليلا ملموسا على رقي الحضارة الإسلامية.
ولما كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين مقروءا، كان لزاما على الخط العربي أن يحتضن هذا الكتاب العظيم للعلاقة الوثيقة بين الخط والكلام؛ ولذا أصبح واجبا على كل مسلم يريد قراءة القرآن أن يتعلم الكتابة والخط العربِيَّ( ).
فقد كان الرسول r أحرص الناس على انتشار الكتابة والقراءة بين المسلمين، بل ضرب لذلك المثل الأعلى؛ إذ جعل فداء أسرى غزوة بدر من المشركين الذين يعرفون الكتابة: تعليم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة( )، ولم يقتصر اهتمامه r بالكتابة على الرجال فحسب، وإنما شمل أيضا النساء، فقد أمر r الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها أن تعلم الكتابة لزوجته حفصة رضي الله عنها.( )
وقد اقتدى المسلمون بنبيهم r، فبذلوا جهودا كبيرة في الحفاظ على هذا الخط وتطويره وتحسينه.
من تلكم الجهود أنه لما فشا اللحن في العصر الأموي خاف المسلمون على لغة القرآن، فوضعوا علامات علامات الإعجام وعلامات الإعراب؛ للتمييز بين الحروف والكلمات المتشابهة شكلاً وإعراباً( )، تلك المتشابهات التي لا يعرفها، ولا يفرِّق بينها إلا من سلمت سليقته، وقليلٌ ما هم في ذلك العصر.
ولم يكتف المسلمون بذلك بل أعادوا ترتيب الحروف الأبجدية إلى الترتيب الألفبائي، كما ابتكروا أو طوّروا نظام الحركات والسكنات إلى (الفتحة والكسرة والضمة، والسكون والشدة) للدلالة على تحرك الحرف بصوت مدّ قصير، أو خلوه منه، وإلى تشديده. ( )
فهذا غيض من فيض من التطويرات التي ابتكرها المسلمون لتحسين الخط العربِيِّ؛ مِمّا جعل الخط العربي يتربع على قمة الحضارة الإسلامية، وينتشر في شبه الجزيرة وخارجها، وأصبحت له مراكز يُعْزَا إليها، كالخط المكي نسبة إلى مكة، والخط المدني نسبة إلى المدينة، والخط الكوفي نسبة إلى الكوفة، والخط البصري نسبة إلى البصرة، والخط الأصفهاني نسبة إلى أصفهان،( ) وغير ذلك من أسماء الخطوط الدالّة على تكاتف المسلمين -من مختلف البلدان وشتى الأجناس- في تلك العملية الجليلة، التي رفعت من شأن الخطّ العربِيِّ، وجعلته عالَمِيّاً، لا يختصُّ بجنس معيَّن.
انتشار الخطِّ العربِيِّ في الشعوب غير العربية: في العصور الوسطى أو في عصور رقيّ الحضارة الإسلامية انتشر الخطُّ العربِيُّ مع اللغة العربية في بلدان ومناطق لا ينتمي أهلها أصلاً إلى الجنس العربي، فبعض تلك الشعوب استخدموا اللغةَ العربيةَ مكان لغاتهم الأمّ، كما في دول شمال إفريقيا والمغرب العربي، في حين ظلّت بعض تلك البلدان تستخدم لغاتها المحلية، ولكن بحروف عربية، مع تعديل بسيط، كما هو الحال في الدول التي تستخدم الأردية والفارسية، بل كما في معظم الدول الإسلامية، كإفريقيا السوداء.
فقد كتب الفرس لغتهم بالحروف العربية، وابتكروا الخطَّ الفارسيّ "التعليق" بيد مير علي التبريزي المتوفى سنة 919ھ، كما حوَّروا الخطَّ الكوفي، فأصبحت المدَّات فيه أكثر وضوحاً.
أمَّا الترك فقد حوَّلوا خطَّ الرقاع، وابتكروا (الهمايوني الديواني) بيد الأستاذ إبراهيم منيف.
وفي الأندلس رأينا صوراً أخرى من الحفاوة التي لقيها الخطُّ العربِيُّ بعيداً عن موطنه الأصليّ، فقد اهتمَّ الحكَّام بالخطِّ العربي وتعلَّموه ونسخوا به الكتب، لا سيما المصاحف، كما اهتمَّ سواد الناس بالمخطوطات ذات الخطِّ العربِيِّ الجميل.( )
وفي ما وراء النهر في منظقة وسط آسيا نجد الخطَّ العربِيَّ يتطوَّر تطوُّراً باهراً، ففي أثناء حكم الأمير تيمور اختُرِعَ نوعٌ من الخطِّ الأوزبكي القديم المبني على الأبجدية العربية، سُمِّيَ بخطِّ (النستعليق)، فقد قام كبير الخطاطين مير علي التبريزي وسلطان علي مشهدي باختراع هذا الخطّ. وقد أسس الخطاط مير علي هراوي -من هراة- مدرسة بخارى للخطِّ، تلك المدينة التي أصحبت من أكبر المراكز للخطِّ العربي؛ لمكانتها المرموقة في الحضارة الإسلامية والثقافة العربية.
من هنا يلاحظ أن المسلم العجمي يعتبر اللغة العربية لغته الأولى؛ لذا يحاول إتقانها، ويعتَزُّ بإجادتها، لأنها لغة القرآن الكريم آخر الكتب المقدسة، وقد يتساهل في لغته القومية دون غضاضة، ولكنه لا يسمح لنفسه بالتساهل في العربية لغة أدبه ودينه وشريعته، ولو يكتفي باستخدام الحروف العربية في لغته المحلية.
وبذلك احتفظت لغة القرآن الكريم حيويتها وطلاقتها في أقطار غير عربية؛ مِمّا أدّى إلى تلاحم الأمة الإسلامية وتوحُّدها فكريّاً؛ إذ اللغة وعاء الفكر، والخطُّ إناء اللغة، وهذا ما أثار ثورة الحاقدين على الإسلام، فقاموا بحملات شرسة ضدّ اللغة العربية وأبجديتها.
الحملة الصليبية على الخطِّ العربِيِّ: لما فطن أعداء الأمة الإسلامية إلى ذلك الترابط الوثيق بين العربية والإسلام -وقد يئسوا من التغلب على دين الله في مواجهات حربية مكشوفة- عمدوا؛ لتحقيق مآربهم، إلى تفكيك اللغة العربية في بعض المناطق الإسلامية التي غلبوا عليها، فلجئوا إلى تعطيل الدراسة باللغة العربية أو تعويقها، وأحلوا مكانها لغاتهم، وفي بعضها الآخر حيث لم يتمكنوا من إحلال لغتهم محلّ اللغة العربية توجهوا إلى الدعوة بإحلال الحرف اللاتيني المتداول في اللغات الأروبية محلّ الحرف العربِيِّ، مدَّعين أن الحرف العربي - وقبله اللغة العربية - غير قادر على مواكبة العصر والتماشي مع تقلباته السريعة.
وقد افتتح هذه الدعوى الباطلة المستشرق الفرنسي" لويس ماسينون Louis Massignon" عندما ألقى محاضرة في جمع من الشباب العربي في باريس عام 1929م، ومما جاء في محاضرته: "إنه لا حياة للغة العربية إلا إن كتبت بحروف لاتينية"( ) وقد تحمس لهذه الفكرة وتبناها عبد العزيز فهمي، فدعا إلى استبدال الحروف العربية وجعلها حروف لاتينية، وطرح فكرته هذه في الجلسة التي عقدها مجمع اللغة العربية في 3 مايو سنة 1943م( ).
وفي سنة2000م، أصدرت فرنسا قرارا حققت به رغبة المستشرق ماسينيون، الذي تمنى في سنة 1929م أن تحل الحروف اللاتينية محل الحروف العربية. والقرار الفرنسي يلزم متعلمي العربية بكتابتها بالحرف اللاتيني. والمحزن أن الاعتراض على القرار الفرنسي الأخير إنما جاء من رجل فرنسي لا من مسئول عربي.
كان ماسينيون مستشارا بوزارة المستعمرات الفرنسية، وكان واعيا جدا بأن إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربي يؤدي لا محالة إلى تقويض الثقافة العربية. ومن قَبْلِ ماسينيون كان على رأس إدارة دار الكتب في مصر شخص يدعى كارل فولرس K. Vollers سولت له نفسه أن يحرم العرب من كنوز دار الكتب وغيرها، فكان يطالب بنبذ الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية . ومثله المستشرق الإنجليزي سلدون ولمور Seldon Willmore الذي تولى ”القضاء“ بالمحاكم الأهلية بالقاهرة إبان الاحتلال البريطاني لمصر، وتولى أيضا مهمة القضاء على الثقافة العربية، من خلال دعوته إلى كتابة العربية بالأحرف اللاتينية.
أثر الحملة الصليبة على الخط العربِيِّ: خلال القرن العشرين الميلادي تحوَّلتْ شُعُوبٌ إسلاميةٌ عديدةٌ عن كتابة لغاتها بالحروف العربية التي كانت قد اختارتها:
• في آسيا الوسطى: فرض الاتحاد السوفيتي الأبجدية السيريلية على شعوب التركمان والطاجيك والقرغيز والأوزبك والأزر والقزاخ والتتار والشيشان والبشكير والبلوش وغيرهم، ثم تحول معظمها بعد انهيار الاتحاد إلى الخط اللاتيني تحت التأثير الأمريكي والتركي.
• في أفريقيا: النوبية والسواحيلية والصومالية والسونجاي حول نهر النيجر غيرت كتابتها من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وكذا الكتابة في لغة "الهاوسا" في شمال نيجيريا.
• في شرق آسيا: المالايو في ماليزيا من اللغات التي غيرت كتابتها إلى الحرف اللاتيني.
• في أسيا الصغرى وأوروبا: تحولت التركية والبوسنية والألبانية إلى اللاتينية.
وقفة وعبرة من اللغة التركية: كانت تركيا منذ عهد قريب عاصمة الخلافة الإسلامية، وهي آخر دولة احتضنت الخلافة الإسلامية؛ مِمَّا جعلها مرمى الصواريخ الصليبية؛ لذا فإن تغيير الكتابة التركية من الحرف العربي إلى اللاتيني يعَدُّ صفحة من كتاب ضخم في رأس الزعيم التركي الذي قام بهذه العملية، فقد كان هذا الزعيم يهدف إلى تغيير الثقافة الإسلامية السائدة في عادات الأتراك وتقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وملبسهم وغير ذلك، ويتجلى هذا في الحجج التي قيلت إنَّها هي البواعث لتغيير الكتابة التركية، من تلكم الحجج ما يلي:
1. أن اصطناع الحروف اللاتينية يجعل اللغات الأوروبية أقرب منالاً إلى الإنسان التركي.
2. أن العربية تعجز بصوائتها الثلاثة عن استيعاب ثمانية صوائت تركية.
3. أن الكتابة العربية كتابة ســامية، وبمــا أن التركية غير سامية، توجَّب إحلال حرف آخر محلّ الحرف العربِيِّ.
مناقشة الحجة الأولى: يمكن أن ترد على هذه الحجة جملة من الاعتراضات، أهمها:
أ/ أنها تفترض أن سيادة الحضارة الأروبية، ومن ثم لغاتها، ستستمر إلى الأبد؛ ولهذا لا بدَّ للتركي أن يتعلم ما يعينه على فهم لغات هذه الحضارة الخالدة. وهذا الرأي -كما علَّمَنا التاريخ- لا يثبت عند النقاش. فما الموقف إذا سادت حضارة شرقية كاليابانية أو الصينية، فهل تغير تركيا كتابتها مرة أخرى؟
ب/ إن التركيَّ خسر الاتصال بتراثه المكتوب بالحروف العربية (وهو التراث التركيّ برمته) مقابل معرفة تافهة. فكيف تعتزّ أمة فقدت تراثها؟!!
ج/ إن جزءًا من هذه المعرفة التركية للحروف اللاتينية يقف عائقًا أمام التركي في نطقه الصحيح للغات الأوربية؛ لأن الكتابة التركية الجديدة قد أجرت مجموعة من التغييرات في الحروف اللاتينية لتجعلها منسجمة مع اللغة التركية. وأهم تلك التغييرات جعل الحرف (c) ينطق جيمًا، وجعل الحرف نفسه بعد وضع زائدة تحته (c) ينطق مثل الصوت الأول في كلمة chair الإنجليزية. كذلك وضع زائدة تحـت الحــرف (s) لينطق شينًا. وهذا مخالف لما في اللغات الأوربية الرئيسة: الإنجليزية والفرنسية والألمانية؛ لأن التركي بهذه التغييرات سيقرأ الإنجليزية cat: (جات) بالجيم كما في اللسان التركي، والصحيح (كات). والأمر نفسه يحصل في هذا الحرف وقد وُضِعت تحته زائدة؛ لأن التركي يقرؤه شينا، والفرنسي ينطقه سيناً، والسبب في ذلك أن العادات اللغوية للمرء تؤثر في تعلمه لغة أخرى.
مناقشة الحجة الثانية: صحيح إن الصوائت العربية محدودة العدد قياسًا بعددها في لغات أخرى كالفرنسية والإنجليزية والتركية، بيد أن هذا لا يستدعي إلغاء الكتابة العربية.
فالناظر إلى الحروف التركية الجديدة الدالة على الصوائت، سيجد أنها لم تترك بعض حروف العلة اللاتينية على حالها، بل أجرت فيها تغييرات للدلالة على التغيير في نطقها، فنجدها تضع رقم الثمانية العربِيَّ على (a)، ونقطتـــين فــوق حرف (u)، ونقطتين فوق حرف (o)، وهكذا مما يماثل -إلى حدٍّ ما- بعضًا مما في الألمانية والفرنسية.
أفما كان في وسع اللغة التركية الحديثة إدخال تغييرات على أحرف العلة العربية لتستوعب الصوائت التركية التي لا وجود لها في العربية؟، كما حدثت في اللغة الفارسية المكتوبة بالحرف العربِيِّ، حيث استخدمت الحروف العربية، وطوّعت قسمًا منها؛ لتعبر عن أصوات فارسية لا وجود لها في العربية الفصحى. فنجد أن الباء المهموسة، وهي التي نجدها في حرف (p) الإنجليزي، موجودة في الفارسية، ولا توجد في العربية الفصحى. ومع ذلك لجأ الفرس إلى كتابة هذا الصوت بوضع نقطتين أخريين زيادة على النقطة الموجودة في الباء؛ ليصبح المجموع ثلاث نقاط.
مناقشة الحجة الثالثة: تفترض هذه الحجة وجود ارتباط عضويّ ضروريّ بين شكل الحرف ونطقه، يشابه ارتباط النار بالحرارة أو البرق بالرعد. وإذا كان الأمر كذلك، وفقًا لهذه الحجة لا بد للغة أن تتخذ الحروف التي تتناسب مع عائلتها اللغوية التي تنتمي إليها،
والواقع يكذب هذه الحجة ويفندها، فليس هناك ارتباط ضروريّ بين شكل الحرف ونطقه، وإنما هناك علاقة اعتباطية يُكسبها المجتمعُ، لا الحرفُ نفسه، وآية ذلك أن صوت الراء -مثلاً- يكتب بأشكال عدة، فنجده يكتب في الإنجليزية (r) وفي العربية (ر) وفي الروسية (p) وهكذا. فلو كان هناك تلازم بين شكل الحرف والصوت لكُتب بصورة موحدة في اللغات المختلفة.
ومِمَّا يؤكد ذلك أن الفارسية والأردو لغتان تنتميان إلى اللغات الهندوأروبية، ولكنهما تستخدمان الكتابة العربية، في حين استخدمت لغات أفريقية تنتمي إلى عوائل لغوية لا علاقة لها بالعائلة الهندوأروبية الحرف اللاتيني.
وقد استخدمت اللغة التركية نفسها الحرف العربي، ثم الحرف اللاتيني، وهي لا تنتمي إلى أيٍّ من العائلتين الساميتين أو الهندوأروبية، وإنما تنتمي إلى عائلة اللغات الألتية Altaic.
والحقّ أنّ الغرض من هذا التحوّل من الحرف العربِيِّ إلى الحرف اللاتيني هو: فصم وقطع العلاقة بين التركي وماضيه الإسلاميّ، بحيث لا يستطيع التركي الآن قراءة رسالة كتبها أبوه أو جدُّه في الربع الأول من هذا القرن، وبهذا يسهل تشكيل عقل التركي بما يُقَدَّم إليه من زاد فكريّ وحضاريّ غربِيّ حديث حسب الغايات المرسومة.
والغريب من الأمر أن تركيا تخلت عن الحرف العربي سنة 1928م، وعلى الرغم من هذا فإن وزير الخارجية لفرنسا (دومنيك دوفيلبان) قال بالأمس القريب: «إن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يهدد هوية أوروبا وحدودها«.
تنبيه إلى ما وراء هذه الدعوى الباطلة: إن خطة إحلال الحرف اللاتيني محل الحرف العربيِّ تجري تحت لافتات التطوير والتحديث والتيسير ومواكبة العصر الإلكتروني ومكافحة الأمية، وكلها شعارات زائفة، وتمويهات مضلّة، الغرض منها هدم الإسلام وحضارته.
ولنستمع إلى باحث غربيٍّ هو "إدوارد بنسون( )" مدير مدرسة اللغات الشرقية في لندن، حيث قال : حذار من استعمال الحروف اللاتينية في كتابة اللغة العربية؛ لأن الحروف العربية هي حروف لغة القرآن، وإذا مسستم الحروف العربية مسستم القرآن، بل هدمتم صرح وحدة الإسلام لأن الإسلام أساسه اللغة العربية، فإذا ضاعت ضاع الإسلام.
ويقول الأستاذ/عبد القادر حمزة( ) "فأولى للذين يقولون بالحروف اللاتينية أن يكشفوا القناع عن وجوههم، وأن يقولوا: إنهم يريدون في الحقيقة هدم اللغة العربية.
فالهدف الذي يعلنونه إنما هو تسهيل اللغة العربية وتخفيفها، ولكن الهدف الذي يرمون إليه – وهم يخفونه – إنما هو تضييع اللغة وتدميرها، لأنه لو تمت الكتابة بالحرف اللاتيني فإن اثني عشر حرفا من حروف العربية ستضيع لعدم وجود الحرف المقابل لها في الحرف اللاتيني، وهذه الحروف هي : الثاء والجيم والحاء والدال والذال والصاد والضاد والطاء والظاء والعين والغين والقاف، لأنه لا يوجد في الحروف اللاتينية ما يقابلها بنصها، وسوف تدخل في حروف أخرى وتضيع الحروف الأصلية، وهذا هو هدف أعداء الإسلام .
ولكن يندى جبين المرء خجلا عندما يخبر أولاده بأسماء عربية (ناضلت) من أجل تبديل الحرف العربي، من أمثال عبد العزيز باشا فهمي، وسعيد عقل، وعثمان صبري.
ويا للأسف إن بعض أبناء الإسلام المصابين بعقدة التفوق الأروبي والغربي، هم من يروجون لمثل هذه الدعوات، ويدافعون عنها، بل إنهم يسعون للتنظير والتحاضر فيها!؛ مما جعل الوقعة والصدمة أشد، كما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهنّد
لا غرو -بسبب هذه التبركة!! من أبناء العربية والإسلام- أن تسجل تلك الحملة الحاقدة بعض انتصارات في عدد من البلدان الإسلامية، كاندونيسيا وتركيا، والدول الناطقة بالفرنسية والإنجليزية من إفريقيا كالسنغال ونيجيريا، والمثال الحي من ذلك ما نشاهده ونسمعه عن الجزائر وتونس والمغرب من اصطدام واضطراب بين الحرف العربي والحرف اللاتيني، بل بين العربية نفسها والفرنسية، التي لها أنصار كثر من أبناء المسلمين الذين يرفضون العودة إلى لغة القرآن الكريم، ويتشبثون بتلابيب اللغة الغازية، على أنها –في نظرهم- الأداة الوحيدة للتحضّر.
وقد شجع انحراف هؤلاء الأبناء العاقين كثيرا من حكومات الدول غير العربية إلى اتخاذ قرارات ضد العربية، وشن سياسات تنبذ الحرف العربي.
ومع الأسف الشديد فإن المسلمين -مع ما لديهم من إمكانات مادية هائلة- لا يقدمون شيئاً للدفاع عن لغتهم، خلافاً عن أصحاب اللغات الأخرى، فمثلا حينما قام أحد الوزراء ذوي التوجه الإسلامي في السنغال بإلغاء اللغة الألمانية في بعض المعاهد نظراً لعدم الحاجة إليها، تدخلت ألمانيا وقطعت جميع المساعدات؛ مما دفعت السلطات المحلية إلى إقالة هذا الوزير.
في الوقت الذي تكتوي الأمة الإسلامية من نيران هذا التخاذل وذلك التقاعس من قبل أبنائها نجد أن التايلنديين والصينيين والهنود واليابانيين والفيتناميين والكوريين وغيرهم يرفضون تبني الحرف اللاتيني، ويصرّون على حرفهم الذي كتب به تراثهم، ولم يحدث قط أن أولئك قد اقترحوا تغيير حروفهم للحاق بالركب العالمي، بل من المفارقات العجيبة أن تلك الأمم الآسيوية تفوق على المسلمين في التمدن والتنمية على الرغم من تمسكهم بلغتهم وحرفهم.
على كلّ حال فإن كتابة لغات الشعوب الإسلامية بالحرف اللاتيني لن تجعل تلك الشعوب تلحق بالركب الحضاري العالميّ، وإنما سيؤدي ذلك إلى خسارة حضارية لا يمكن تقديرها؛ لما فيه من قطع الصلة بين الشعوب المسلمة وتراثها النضير وتاريخها الأثيل منذ عشرات القرون، من ثم يتم إحداث القطيعة الثقافية الفظيعة التي ستسلخ جسم الأمة الإسلامية من كلّ هويتها.
ومن وجهة براجماتية فإن تدوين لغات الشعوب الإسلامية بالخطِّ اللاتيني فكرة تؤدِّي إلى إهدار كل الإنجاز البشريّ المسجَّل بالحروف العربية، فماذا سيكون مصير ذلك التراث العلمي الضخم الذي أنتجته العقول المسلمة على مدار التاريخ؟ وماذا سيكون مصير القرآن والسنة؟
ومن وجهة جمالية فإن استعمال الحروف اللاتينية يقضي بالموت على فنون الخط العربي وزخارفها التي بلغت عبر القرون غاية الكمال الفنِيِّ من مختلف البلدان الإسلامية.
ومن ناحية استراتيجية فإن تدوين لغات الشعوب الإسلامية بالحروف اللاتينية تمكين وتوطيد للغات المستعمرين في العالم الإسلامِيّ؛ إذ تعدُّ تلك العملية مرحلةً من مراحل السلخ الثقافِيِّ.
وأخيرا فإن قضية الكتابة بحرف معيّن قضية حضارية مصيريّة؛ لذا يجب على الحكومات والمؤسسات الإسلامية تحمُّل المسؤولية في إيجاد أجهزة وبرامج حاسوبية معاصرة، تصل إلى كل فرد، فتسهِّل له كتابة لغته بالحرف العربِيِّ.
وعلى الأفراد والشعوب الإسلامية عدم الاغترار والانجرار وراء دعوى "محو الأُمِّيّة" على حساب ثقافتهم وهويّتهم الإسلامية؛ فتصيبهم ما أصاب الشعب التركيّ.
ولا يعني هذا التمسك بالحرف العربِيِّ تحجُّراً وتشدّدا وهجرا للغات الأخرى، فللمسلم أن يتعلّم ما شاء من اللغات ما لم يكن ذلك على حساب هويّته الإسلامية.
واللهَ سبحانه وتعالى ندعو أن يعيد الشعوب الإسلامية إلى رشدها ووعيها؛ فتدرك الضراوة الكامنة في (الدعوة إلى محو الأُمِّيّة)، و(جعل الحرف اللاتيني مكان الحرف العربِيّ)؛ فتلك الدعوة إن هي إلا إبعاد ومحو للثقافة الإسلامية، التي احتضنها وكفلها القرآن الكريم المنزل بلسان عربِيٍّ مبين.
الكاتب: د/ إبراهيم انجاي.