ثناء حاج صالح
24-07-2017, 03:38 AM
السلام عليكم
كنت قد دعوت الدكتور ضياء الدين الجماس ،باعتباره عضوا في لجنة الترجمة في (المعجم الطبي الموحد )، لمناقشة خطإ علمي يرد في منهاج علم الأحياء للصف الثالث الثانوي في جميع الدول العربية . وقد وعد مشكورا بالمناقشة. هذه المقالة كنت قد كتبتها في عام 2008 أي منذ 9 سنوات تقريبا . ولا أجد الآن حاجة لتعديل شيء فيها بسبب استمرار الخطأ الذي تتحدث عنه المقالة حتى الآن ، كما كان مستمرا لعقود مضت قبل كتابتها .
الترجمة الاصطلاحية والغلط العلمي
ثناء حاج صالح
مقدمة
تمتلك المصطلحات اللغوية تلك القدرة المميزة على تشتيت انتباه القارئ المدقق ، وتضطره للوقوف أمامها دقيقة صمت ليستعرض مدخراته المعرفية واللغوية محاولاً إجراء المطابقة بين إمكانيات المصطلح وبين ما يرمي إليه من معنى . وقد يطول وقوف هذا القارئ الحائر أمام المصطلحات اللغوية التي لا يعرف لها جذوراً معرفية في ثقافته الخاصة عندما يواجهها في نص مكتوب بلغة أجنبية ، ومع ذلك سيتابع القراءة غاضاً الطرف عنها بإرادته أو بغير إرادته . فحينما تستطلع آداب الشعوب وثقافاتها تواجهك المصطلحات كإحدى الخصائص التي تعبر عن تمايز اللغات المختلفة تاريخياً واجتماعيا ً واقتصادياً وثقافياً ودينياً. لذلك علينا احترام المصطلحات و محاولة التمتع بفنونها وأشكالها وما تضفيه على اللغات من سمات التمايز والتلون ، لكن يجب التوقف عن احترامها عندما تتمادى لتشكل بوجودها خطراً على المفاهيم العلمية الأساسية التي يجب أن تكون محددة ودقيقة ومشتركة بين جميع لغات العالم .
بين عمومية المصطلحات ودقة المفاهيم الأساسية
نحن هنا نخوض في مشكلة الاتفاق على وضع مصطلحات لغوية عند ترجمة النصوص العلمية من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية دون مراعاة أنها تطرح مفاهيم علمية أساسية تبنى عليها قوانين واستنتاجات علمية أخرى . وبالتالي يحق لنا التساؤل عن نتائج الدمج غير المنطقي بين أهم صفات المصطلحات وهي ( العمومية) وأهم صفات المفاهيم العلمية الأساسية وهي (الدقة ) . مع التنويه إلى أن المفاهيم العلمية الأساسية وفق السير التاريخي لها إنما تحاول التخلص من جميع الشوائب التي تعترض طريقها بهدف الوصول إلى حالة من التجريد تمثل الصيغ والنماذج الرياضية التي تصل إلى درجة من التركيز والدقة تصبح فيها المعاني مكثفة وحرفية . أما المصطلحات اللغوية فإن آخر اهتماماتها هما الدقة والتركيز ، وأبعد مطمح عنها هو حرفية المعاني .فكيف لا يكون من التجني جمع الشمل بينهما ؟ ولعل من نتائج هذا الجمع الفاشل تلك الاستنتاجات العلمية المضحكة التي ترتبت على استخدام مصطلح ( الرؤية المجسمة ) ليشمل التعبير عن مفهومين علميين أساسيين دقيقين ومتغايرين هما (الرؤية الفراغية) و(الرؤية المفردة ) .
لماذا نرى الأشياء مجسمة ؟
إذا كنت طالباً أو مدرساً أو باحثا ً فالسؤال مطروح عليك ! وبوسعك البحث عن الإجابة . لكن أين ستبحث عنها ؟ أفي المراجع العربية أم الأجنبية ؟ إذ أن الأمر سيختلف بالنتيجة فإن كنت باحثاً في المراجع العربية فتوخ الحذر من التعثر بالمعلومات المغلوطة التي تقدمها لك التعابير الاصطلاحية ، وكيف لا تسقط في فخ المترجمين وأنت مضطر للأخذ بمصطلح تم تعميمه على جميع الدول العربية ليتم الاعتماد عليه في جميع المراجع المدرسية العربية ، ومن ثم تم تدريسه على ما هو عليه من وضوح الغلط منذ عقود ، فتعثر به من أراد الاستشهاد به خارج الكتب المدرسية ، وهو معذور في ذلك لأنه ظنه حقيقة علمية موثقة في المراجع العلمية ( العربية ) .
ومثال هذا ما ذكره الدكتور محمد راتب النابلسي في الصفحة 241 من كتابه (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – آيات الله في الإنسان ) حيث كتب )) كيف أن هذه العين تستطيع أن ترى البعد الثالث ! وهو العمق ...ترى الطول والعرض والعمق ، لو جعل الله لنا عيناً واحدة لرأينا بها الأشياء مسطحة لا مجسمة بأبعادها الثلاثة .. )) ، وجميعنا نعلم أن هذا الاستنتاج الذي توصل إليه الدكتور النابلسي غير صحيح علمياً ، بل إنه مثير للدهشة بسبب سهولة نقضه ، فنحن لا نرى الأشياء المجسمة مسطحة عندما ننظر إليها بعين واحدة ، بل نراها مجسمة سواء أنظرنا إليها بعين واحدة أو بالعينين معاً ، مع فارق بسيط في الوضوح والدقة ، ومن أحب التشكيك في هذا الكلام ما عليه إلاّ أن يغمض الآن إحدى عينيه وينظر بعين واحدة فقط ، ثم ليحكم بنفسه فيما إذا كان يرى الأشياء مسطحة مع أنها في الواقع مجسمة ، ومن كان يشكك في قراره الشخصي فليبحث عن شخص آخر قد ابتلاه الله بفقد إحدى عينيه ، وليتجرأ على اتهامه بأنه لا يرى الأشياء المجسمة مجسمة بل يراها مسطحة ، ثم ليتحمل هو - لا أنا ـ عواقب هذا الاتهام الخطير ، وما بالنا نستنكر هذا الاتهام ونحن نقدمه في مناهجنا المدرسية بكل شجاعة وحزم لكل طلاب الوطن العربي على أنه الحقيقة العلمية ! فقد ورد ـ على سبيل المثال ـ في كتاب علم الأحياء للصف الثالث الثانوي العلمي الصادر عن وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية للعام الدراسي 2003 ـ 2004 في الصفحة 106 ما يلي ((أما سبب الرؤية المجسمة فيعود إلى تشكل خيالين للجسم نفسه على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين الأمر الذي يسمح باندماجهما معاً في الباحة البصرية في المخ فيبدو الجسم بأبعاده الثلاثة . ويمكننا التحقق من صحة ذلك بالضغط على كرة إحدى العينين بحيث نغير مكان ارتسام خيال الجسم الموجود في الباحة المشتركة للرؤية بالعينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد )) . وعدلت هذه الفقرة في العام 2006 ـ 2007 فأصبحت كما يلي (( يؤمن المخ الرؤية المجسمة حيث يتشكل للجسم الواحد خيالان على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين ، عندما يصل ذلك إلى المخ فإنه يقوم بدمجهما معاً مما يسبب رؤية الجسم بأبعاده الثلاثة، أي تحدث الرؤية المجسمة)) .
سؤال غير وجيه
لعل إحدى مهام مدرس مادة علم الأحياء حث الطالب على طرح الأسئلة العلمية التي تمكنه من توجيه مداركه نحو فهم الظواهر الطبيعية سواء ما تعلق منها بجسم الكائن الحي أو ما تعلق بالعوامل الطبيعية البيئية بروح الاستكشاف والبحث العلمي ، ولكن أمام مادة علمية مغلوطة لا تكاد تقنع الطالب الساهي كيف سيقف المدرس ليشرح النتائج التي ربطت بغير أسبابها ؟ وكيف يمكنه أن يردع الطالب عن الاتجاه الصحيح في التفكير عندما يعلن تمرده على تقبل تلك المادة .. وهو الذي يعلم ان أسلوب تحصيل الدرجات العالية في الشهادة الثانوية إنما يعتمد على الحفظ الحرفي الذي يغيب ذكاء الطالب ورؤيته الشخصية في إدراك ظواهر الحياة . من هنا كان لا بد من طرح تسوية غير عادلة ولا منطقية يوجه فيها الطالب إلى الفهم والاستيعاب بطريقته الخاصة وإلى (الحفظ البصم ) بطريقة الكتاب ، ذلك لأن السؤال المطروح على الطالب ليس سؤالاً وجيهاً أو هو على الأقل ليس أكثر وجاهة من أسئلة أخرى كثيرة شبيهة به لم يفكر أحد في طرحها أو التوقف عندها والتصدي لإجاباتها في المناهج الدراسية بكل هذا الإصرار ، إذ يمكننا أيضاً أن نسأل : لماذا نرى الأشياء ذات البعدين مسطحة ؟ ولماذا نرى الأشياء ذات البعد الواحد خطية ؟ ولماذا نرى الأشياء نقطية ؟ وما الذي يجعل فهم سبب الرؤية المجسمة أهم من فهم أسباب الرؤية المسطحة والخطية والنقطية ما دامت المرئيات ليست كلها ثلاثية الأبعاد ؟
وفي الحقيقة إن هناك إجابة واحدة لكل تلك الأسئلة وهي في منتهى البساطة : نحن نرى الأشياء كما هي في الواقع لأن بنية العين الفيزيائية المجهزة بالأوساط الشفافة الكاسرة للضوء تسمح من خلال تجانسها بالحفاظ على قرينة انكسار ثابتة ومتساوية لجميع الأشعة الصادرة عن الشكل المرئي والداخلة عبر الأوساط الشفافة إلى العين .
ونحن نرى الأشياء المجسمة مجسمة حتى لو كنا ننظر إليها بعين واحدة لأن كل نقطة من الجسم المرئي يصدر عنها شعاع يسقط بعد محصلة انكساراته في الأوساط الشفافة على نقطة مقابلة له في شبكية هذه العين وفق زاوية ورود معينة لا تتقاطع مع زاوية ورود شعاع آخر صادر عن نقطة أخرى من الجسم المرئي ، وأثناء ارتسام الخيال على كل شبكية يتم الحفاظ على نسب الأبعاد والمسافات والزوايا المختلفة للجسم المرئي بحيث تكون مطابقة لما هي عليه في الجسم المرئي في الواقع سواء أكان ثلاثي الأبعاد أو غير ذلك ، وذلك لأن الأشعة الضوئية الساقطة جميعها ودون استثناء تسير وفق خطوط مستقيمة بحسب قوانين الضوء .
كما أن مسقط الشكل المرئي على الشبكية يخضع لقوانين ارتسام الخيال التي أرساها الفنان ليوناردو دافنشي وسماها ( قواعد المنظور ) وهي تدرس في المعاهد والكليات الهندسية والفنية .
فهناك إذاً تمثيل للشكل المرئي نقطة نقطة على الشبكية الواحدة باستثناء تلك النقاط من الشكل التي تسقط الأشعة الصادرة عنها على منطقة خروج العصب البصري من العين ( النقطة العمياء ) حيث لا يتم تمثيلها بسبب عدم وجود الخلايا البصرية المستقبلة في تلك النقطة . لكن على الرغم من وجود اختلاف بين الخيالين المتشكلين في كلتا العينين بسبب الاختلاف في موقع ارتسامهما نتيجة وجود مسافة فاصلة بين الشبكيتين. ورغم وجود نقطتين عمياوين تنقص كل منهما جزءاً مختلفاً عن الأخرى. ووجود خيال يمثل الجانب الوحشي من المجال البصري لكل عين يختلف في مضمونه عن الجانب الوحشي للمجال البصري في العين الأخرى . فإن ما يحدث عند النظر بالعينين معاً هو تطابق الخيالين معاً في باحة الرؤية في المخ مما يؤدي إلى رؤية الشكل كاملاً غير منقوص بسبب تكامل الخيالين واندماجهما في خيال واحد لا ينقصه أي جزء من الشكل المرئي.فالعين ترى الأشياء المجسمة والمسطحة والخطية والنقطية كما هي عليه في الواقع لأنها مصممة فيزيائياً من خلال أوساطها الشفافة المتجانسة ذات القوة الكاسرة الثابتة في لحظة النظر لتؤثر على الأشعة الضوئية الساقطة فيها جميعا ً بشكل متماثل .
إشكال علمي أم لغوي ؟
لنعد الآن إلى تلك الفقرة التي جاءت في كتاب علم الأحياء والتي تحاول تفسير سبب الرؤية المجسمة فتؤدي على إشكال لغوي وعلمي في آن واحد .
أما الإشكال اللغوي فهو استخدام كلمة (مجسمة) للدلالة على مفهوم تقدمه كلمة أخرى وهي كلمة ( مفردة ) .
وأما الإشكال العلمي فهو الخلط بين مفهومين علميين يحتاجان إلى الدقة في التعبير عنهما . والإشكال العلمي هو محصلة الإشكال اللغوي طبعاً .
وعلينا أن نحل الإشكالين معاً قبل أن نبحث في السبب الذي ساق إليهما ، والحل بسيط جداً ، نحتاج فيه إلى استبدال كلمة مفردة بكلمة مجسمة في السؤال والإجابة ، فيصبح السؤال : ( لماذا نرى الأشياء مفردة ؟ ) وهو سؤال وجيه جداً، لأننا نملك عينين اثنتين فلماذا نرى الجسم المرئي واحداً على الرغم من تشكل خيالين اثنين له على الشبكيتين ؟ وتكون الإجابة التي وردت في كتاب علم الأحياء بعد هذا الاستبدال كما يلي: ((أما سبب الرؤية المفردة فيعود إلى تشكل خيالين للجسم نفسه على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين الأمر الذي يسمح باندماجهما معاً في الباحة البصرية في المخ فيبدو الجسم بأبعاده الثلاثة . ويمكننا التحقق من صحة ذلك بالضغط على كرة إحدى العينين بحيث نغير مكان ارتسام خيال الجسم الموجود في الباحة المشتركة للرؤية بالعينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد )).
وهكذا تصبح هذه الفقرة أكثر وضوحاً وإقناعاً وقد كانت قبل ذلك غير منطقية خاصة عندما ذكرت أنه يمكن التحقق من سبب الرؤية المجسمة بالضغط على إحدى العينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد وما هذا الكلام إلا تعليل للرؤية المفردة ، فعند الضغط على إحدى العينين سنشاهد للجسم خيالين ولن تتحقق الرؤية المفردة في حين أن مشاهدة الخيالين ليس دليلاً على أن الرؤية المجسمة لم تتحقق فمن الممكن أن يكون هذان الخيالان لشكل مجسم ، وهذا يعني ان الرؤية المجسمة قد تحققت ولكنها الآن مجسمة ومزدوجة أيضاً .
مصدر الغلط
بالرجوع إلى المعجم الطبي الموحد Unified Medical Dictionary الصادر عن منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط ، والذي يتضمن 150000مصطلحا ً اتفق عليه الأطباء والمعجميون العرب من سائر البلدان العربية والذي يعمل من خلال لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية ، نجد الترجمة الاصطلاحية التالية :( الرؤية المجسمة : Haploscopic Vision ) مع العلم أن المقطع Haplo -) ) مأخوذ من الاسم ( Haplosis ) وهو بمعنى ( التفرد ) فلو كانت الترجمة السابقة دقيقة وحرفية لكانت (الرؤية المفردة HaploscopicVision:) . وهناك عدة استخدامات للمقطع (Haplo- ) في المعجم الطبي الموحد نفسه وكلها تشير إلى مفهوم التفرد مثل : (متعلق بالمنظار الفارد : (Haploscopic و (رؤية فردية :Haplopia ) و( النمط الفرداني : (Haplotype .
ولكن ما الذي دعا الأطباء والمعجميين العرب إلى ترجمة Haploscopic Vision بالرؤية المجسمة اصطلاحياً وليس بالرؤية المفردة حرفيا ً ؟ لقد كانوا- على ما يبدو – مضطرين لفعل ذلك بسبب الحاجة إلى توحيد المصطلحات العلمية العربية وذلك بالاتفاق على استخدام مصطلح واحد لا أكثر عندما يكون الموضوع هو نفسه ، أي بهدف عدم استخدام أكثر من مصطلح واحد للتعبير عن المفهوم نفسه ، وهذا ما جعلهم يقعون في حيرة من أمرهم أمام عبارتين إنكليزيتين تستخدمان معاً في اللغة الإنكليزية في موضوع ( الرؤية بالعينين Binocular ) فهناك العبارة التي سبق ذكرها Haploscopic Vision .
أما العبارة الثانية فهي Stereoscopic Vision وهناك اختلاف واضح في المعنى الدقيق لهاتين العبارتين لكنهما تستخدمان معاً في موضوع الرؤية بالعينين للحاجة إلى ذلك ، فالمعنى الدقيق للعبارة الأولى هو( الرؤية المفردة ) أما المعنى الدقيق للعبارة الثانية فهو ( الرؤية المجسمة أو الفراغية أو ثلاثية الأبعاد ) وذلك بناء على الترجمة الخاصة بالمقطع ( Stereo – ) الذي وردت ترجمته في المعجم نفسه هكذا : ( مجسم – فراغي – ثلاثي الأبعاد : Stereo ) .
وبما أن المعجميين العرب قد اتفقوا على اختيار ترجمة (Stereo – ) بمعنى ( مجسم ) كما اتضح لاحقاً أصبحت الترجمة الحرفية لعبارة Stereoscopic Vision هي ( الرؤية المجسمة ) وبما أنها تقترن مع عبارة Haploscopic Vision دائماً عند الحديث عن موضوع الرؤية بالعينين في اللغة الإنكليزية فقد ترجموا العبارة الأخيرة ترجمة اصطلاحية بالمعنى نفسه أي : الرؤية المجسمة وقاموا بتثبيت ذلك في المعجم كما رأينا .
وخلاصة القول في هذا أنهم قد ارتكبوا خطأ ً مركباً على مرحلتين :
المرحلة الأولى بالاختيار غير الموفق لترجمة (Stereo –) بمعنى مجسم ، وكان الأولى والأكثر ضرورة أن يختاروا ترجمتها بمعنى ( فراغي ) .
والمرحلة الثانية أنهم غيبوا الحديث عن الرؤية المفردة بترجمتهم العبارة الخاصة بها اصطلاحياً ( بالرؤية المجسمة ) وهذا ما أدى إلى دمج مفهومي الرؤية المفردة والرؤية الفراغية دمجاً لغوياً بتعبير ( الرؤية المجسمة ) .
وهكذا أصبحنا نشرح في مناهجنا الدراسية كيفية الرؤية الفراغية بالتركيز الخاطئ على رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد ( المجسمة ) بدلاً من التركيز على رؤية الفراغ ثلاثي الأبعاد وأصبحنا نبرهن على حدوث رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد – وهو الذي لا يحتاج إلى برهان – ببرهان توحيد الخيالين ودمجهما في المخ لإحداث الرؤية المفردة الذي يحتاج فعلاً إلى تبرير وبرهان . وها نحن نخرج من غلط لنقع في غلط آخر مترتب عليه .
والآن لنوضح الخطأ الأول الذي ارتكبوه باختيار ترجمة ( Stereo –) بمعنى (مجسم ) بدلاً من معنى ( فراغي ) . فعند الحديث عن موضوع الرؤية بالعينين كما وجدنا في المراجع الإنكليزية يقوم الباحثون بتقسيم حقل الرؤية الكلي الذي نراه عند النظر بالعينين معاً أي (الرؤية الفراغية ) إلى ثلاثة حقول هي حقل الرؤية المشترك الذي يؤمن الرؤية المفردة على الرغم من وجود خيالين للشكل المرئي على الشبكيتين وهو الذي يستخدم الباحثون للتعبير عنه عبارة Haploscopic Vision وهي عبارة ضرورية لإيضاح وجود هذا الحقل عند النظر بالعينين معاً وهذا أمر لا جدل فيه ، فضلاً عن حقلين للرؤية غير المشتركة هما حقلا الرؤية الوحشيان الأيمن والأيسر لكل من العين اليمنى واليسرى واللذان يختلفان عن بعضهما بالخيال الذي يقدمانه إلى حقل الرؤية الكلية ( الفراغية ) فكل منهما يحمل جانباً من الصورة لا يحمله الآخر ، وينتج عن اجتماع الحقول الثلاثة حقل الرؤية الكلية أو الفراغية . إذاً فالرؤية الفراغية لا تختص برؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد التي أصبح المعجميون العرب يعبرون عنها بالرؤية (المجسمة) بل إن الرؤية الفراغية تعني الحقل المرئي من الفراغ وهذا الكلام يوضح الخطأ الثاني الذي ارتكبوه عندما ترجموا ( Stereo – ) بمعنى (مجسم ) بدلاً من معنى ( فراغي ) .
وربما يبدو للوهلة الأولى وجود تطابق في المعنى بين تعبيري الرؤية المجسمة والرؤية الفراغية ، ولكن هذا التطابق غير موجود عملياً ، ففي الذخيرة اللغوية العربية المستخدمة ترتبط دلالة عبارة الرؤية المجسمة بما هو مجسم أي ( جسم يحتل من المكان حيزاً وهو ثلاثي الأبعاد ) فيفهم منها التركيز على الأشياء المجسمة المرئية في المكان ، أما دلالة الرؤية ( الفراغية ) فتفيد في الإشارة إلى المكان الذي توجد فيه المرئيات أكثر من التركيز على المرئيات نفسها ، وهكذا يسبق الذهن إلى تحديد جزء من المكان المرئي وهو ( الأشياء المجسمة ) عند استخدام تعبير الرؤية المجسمة بينما يسبق الذهن إلى تحديد المكان ( الفراغ) بأكمله عند استخدام تعبير الرؤية ( الفراغية ) وهذا ما أدى إلى الغلط العلمي الذي صرنا إليه .
وبناءً على هذا يكون اختيار ( Stereo – ) بمعنى ( فراغي ) أفضل وأكثر دقة من غيره . وتصبح الترجمة الدقيقة لعبارة Stereoscopic Vision هي (الرؤية الفراغية) . وبهذا يندرج مفهوم الرؤية المفردة الذي يتمثل بحقل الرؤية المشترك ضمن مفهوم الرؤية الفراغية ، وبهذا يتضح مفهوم التخاطل Parallax الذي يعني اختلاف المنظر باختلاف المكان الذي يسببه وجود مسافة فاصلة بين الشبكيتين بحيث يكون الخيالان المتشكلان على كل منهما مختلفين قليلاً عن بعضهما بحسب ورود الأشعة الضوئية الساقطة على سطح كل منهما وبسبب اندماج الطرفين الأنسيين للخيالين وهما متماثلان تقريباً في خيال مشترك يقع في حقل الرؤية المشترك للعينين مع بقاء الطرفين الوحشيين للخيالين وهما مختلفان مستقلين عن بعضهما البعض في حقلي رؤية جانبيين كل منهما خاص بإحدى العينين . ولقد تم التعبير عن مفهوم التخاطل في المعجم الطبي الموحد بوضع إشارة المساواة ( =) بين التعبيرين الإنكليزين اللذين يحملان الفكرة نفسها كما يلي :
( Parallax Binocular = Stereoscopic Parallax ) أي : (التخاطل بالعينين = التخاطل الفراغي) .
وهذا يعني أن الحديث يدور عن الرؤية ضمن الفراغ وأن الرؤية الفراغية متعلقة بالمكان بسبب التخاطل أو اختلاف المنظر باختلاف المكان ، وهذا ينتج عن الرؤية بالعينين معاً أيضاً .
مركز الغلط
كما يقول لك المثل : لا دخان بغير نار ، فإذا بحثت عن السبب الذي جعل الأطباء والمعجميين العرب العاملين على ترجمة المصطلحات الطبية إلى العربية يوافقون على استخدام مصطلح ( الرؤية المجسمة ) باعتبار الرؤية بالعينين هي أساس الرؤية المجسمة (رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد ) كما يزعمون فارجع إلى النصوص الإنكليزية لتجدها جميعاً توضح أهمية الرؤية بالعينين معاً من أجل إدراك الأبعاد الثلاثة وخاصة البعد الثالث بشكل صحيح ودقيق ، إذ يؤدي اندماج الطرفين الأنسيين للخيالين في الحقل المشترك إلى زيادة الإيضاح ، وهذا أمر طبيعي لأن زيادة شدة المنبه تؤدي إلى زيادة شدة الإحساس بسبب زيادة عدد الخلايا الحسية المنبهة بالمنبه نفسه ، فالخلايا البصرية التي تقع في حقل الرؤية المشترك تتلقى الأشعة الضوئية الصادرة عن الجزء المتوسط نفسه من الشكل المرئي بزاويتي ورود تكادان تكونان متطابقتين على المنطقتين المتناظرتين من الشبكيتين وهذا ما يجعل الخيال المرتسم على كل منهما مماثلاً للآخر فتكون الرسائل العصبية المرسلة منهما إلى الدماغ متماثلة ويؤدي هذا إلى زيادة شدة الإحساس فتكون الرؤية أكثر وضوحاً ، كما أن تراكب الخيالين في المخ يؤدي إلى إكمال النقص الموجود في كل منهما والناتج عن وجود النقطتين العمياوين والحقلين الوحشيين ويؤدي هذا إلى رؤية المزيد من الحقل الفراغي فيسبب الدقة والوضوح في إدراك الأبعاد الثلاثة وهذا هو كل شيء .
ولكن الفرق شاسع بين أن يقال لك : إن الرؤية بالعينين معاً هي سبب رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد (الرؤية المجسمة ) أو يقال : إن الرؤية بالعينين معاً هي التي تسبب رؤية الفراغ المرئي كاملاً مما يؤدي إلى الإدراك الدقيق للأبعاد الثلاثة .
فأنت تستنج من القول الأول أن الرؤية بعين واحدة فقط تجعلك غير قادر على رؤية الأشياء المجسمة أو ثلاثية الأبعاد كما هي ( أي مجسمة ) بل تجعلك - يا لللأسف- تراها ( مسطحة ) !
بينما تستنج من القول الثاني أن الرؤية بعين واحدة تجعل الحقل المرئي في الفراغ عندك أقل أو أصغر بالمقارنة مع ما يحدث عندما تتم الرؤية بالعينين معاً ، وبسبب ذلك فإن الرؤية بعين واحدة تقلل من إدراكك الصحيح أو الدقيق عند تقدير المسافات والأبعاد بين النقاط المختلفة من الفراغ لذلك فأنت لن تستطيع تقدير هذه الأبعاد بشكل دقيق عندما يطلب منك ذلك .
ولإيضاح ما هو مقصود بعدم الإدراك الصحيح للأبعاد عند النظر أو الرؤية بعين واحدة قم الآن بتجربة بسيطة ، وأحضر خيطاً وإبرة ، ثم حاول أولاً إدخال طرف الخيط في ثقب الإبرة وأنت تنظر بالعينين معاً ، وبعد ذلك أعد المحاولة ولكن مع إغماض إحدى العينين والاعتماد على عين واحدة فقط في الرؤية . وستجد أن الصعوبة في المحاولة الثانية أكبر بكثير وستشعر أن الصعوبة تكمن في تقدير الزاوية وتحديد البعد بين طرف الخيط وثقب الإبرة وذلك لأنك تعتمد على عين واحدة ، ومع ذلك فقد تستطيع بعد عدة محاولات النجاح في إدخال طرف الخيط في ثقب الإبرة على الرغم من النظر بعين واحدة فقط لكن عليك أن تعترف بالصعوبة التي واجهتها .
وهذا يعني أن الرؤية بالعينين معاً ضرورية وأساسية للإدراك الصحيح للأبعاد والمسافات الفاصلة بين النقاط في الحقل المرئي من الفراغ.
وبما أن الفراغ ثلاثي الأبعاد فهي ضرورية للإدراك الصحيح للأبعاد الثلاثة وخاصة البعد الثالث ( العمق أو الارتفاع) لأنه يمثل البعد الأكثر صعوبة في التمييز الدقيق بسبب كونه البعد الثالث أي أن البعدين الأول والثاني موجودان مسبقاً وبسبب وجود البعد الثالث تتعقد العلاقة الهندسية لكل نقطة من الفراغ الديكارتي إذ ينشأ لها ثلاثة متحولات تمثل موقعها بالنسبة إلى ثلاثة محاور هي الطول والعرض والعمق بدلاً من متحولين اثنين يمثلان موقعها بالنسبة لمحوري الطول والعرض فقط في الأشكال المسطحة أو متحول واحد في الخط المستقيم . وهكذا يكون النظر بالعينين معاً أفضل وأكثر دقة عند الحاجة إلى تمييز البعد الثالث فيكون تقديره أكثر دقة مما يحدث عند النظر بعين واحدة فقط .
مراجع إنكليزية
النص الأول :
هذا النص مأخوذ من أحد المراجع الطبية العالمية المعتمدة في الدراسات الأكاديمية العليا وهوDuane`s Ophthalmology-Program تحت عنوان ( الرؤية بالعينين ) ويدور فيه الحديث عن أهمية الرؤية بالعينين لإدراك المسافة في البعد الثالث للفراغ المرئي لا عن رؤية الأشياء المجسمة والبعد الثالث هنا يتعلق بالفراغ المرئي أو بكيفية حدوث الرؤية الفراغية .
Binocular Vision
5- And probably the most dramatic reason for binocular vision, tow eyes permit stereoscopic depth perception the ability to use the difference in the images due to each eye viewing from the slightly different view point , known as binocular disparities , to perceive distance in the third dimension of visual space .
وترجمة النص : الرؤية بالعينين
وربما كان المبرر الأقوى للرؤية بالعينين معاً هو أن عينين اثنتين تسمحان بإدراك البعد الفراغي بسبب استخدام الاختلاف في الأخيلة الناجم عن المنظر المختلف قليلاً المتكون في كل عين والمعروف بتباين الرؤية بالعينين لإدراك المسافة في البعد الثالث للفراغ المرئي .
النص الثاني :
هذا النص من Physiology of eye – Program يؤكد على أهمية الرؤية بالعينين من أجل الرؤية المفردة التي تؤدي إلى الإدراك الدقيق للبعد .
Your vision –Dominace test
The dominace test gives us an important clue to how binocular vision works . Because our spaced a few inches apart on our head , each eye sends a slightly differnet image to the brain , these different images are necessary for binocular vision and accurate depth perception . Instead of seeing tow images ( double vision ) the brain integrates the image from both eyes into a single perception , instead , in the input from one eye is preferred over the other eye as shown by the dominace test , as a result , the dominace eye supplies the view we see with both eyes open , this view is supplemented with clues about depth perception by the non-dominate eye .
ترجمة النص : رؤيتك – اختبار السيطرة
يقدم لنا اختبار السيطرة توضيحاً مهما لكيفية الرؤية بالعينين . فبسبب توضع العينين بشكل منفصل عن بعضهما البعض ببضعة إنشات على رؤوسنا فإن كل عين ترسل صورة مختلفة قليلاً عن الأخرى إلى الدماغ ، وهذا الاختلاف في الصورتين ضروري من أجل الرؤية بالعينين وإدراك البعد الصحيح فبدلاً من رؤية صورتين ( الرؤية المزدوجة ) يدمج الدماغ الصورتين من كلتا العينين في إدراك بصري مفرد . وبالمقابل ، فإن الخيال الوارد من عين واحدة يقدم شيئاً إضافياً عما تقدمه العين الأخرى كما ظهر من اختبار السيطرة وكنتيجة لذلك فإن العين المسيطرة تقدم المنظر الذي نراه بالعينين المفتوحتين معاً ، هذا المنظر يتم إكماله بالمعلومات الدقيقة حول إدراك العمق من قبل العين المسيطرة .
النص الثالث :
هذا النص من المرجع السابق يتحدث عن أهمية الرؤية بالعينين لإهمال أثر النقطتين العمياوين .
Blind spot : Our binocular vision allows us to ((ignore)) our blind spot , in normal vision , both of our eyes focus on the same image but each eye sends a slightly different picture to the brain , the visual fields of our left and right eyes overlap significantly so the brain is able to ((fill-in))the blind spots with information from the other eye.
الترجمة :
النقطة العمياء : إن رؤيتنا بالعينين تسمح لنا بتجاهل أثر النقطتين العمياوين ، ففي الرؤية الطبيعية تحدق كل من العينين بالصورة نفسها ولكن كل منهما ترسل صورة مختلفة قليلاً إلى الدماغ ، إن حقلي الرؤية في العين اليسرى واليمنى يتداخلان بحيث يكون الدماغ قادراً على أن يملأ أو يشغل مكان النقطة العمياء من كل عين بمعلومات من العين الأخرى .
مرجع عربي
هذا النص من كتاب علم البيولوجيا – الجزء الثاني ، نقترح أن تتم قراءته باستبدال عبارة الرؤية المجسمة بالعبارة الموجودة ضمن القوسين لملاحظة الفارق في إيضاح المفاهيم المطروحة ضمن النص :
(( ....الرؤية بالعينين والرؤية المجسمة Binocular Vision and stereoscopic vision تحدث الرؤية بالعينين حين يتراكب حقلا الرؤية لكلتا العينين بحيث أن نقرة كلتا العينين تتبأر على الجسم نفسه ، وتمتاز هذه الرؤية عن الرؤية بعين واحدة بمزايا عديدة تتضمن حقل رؤية أوسع وتعويض إصابة إحدى العينين بالعين الأخرى فهي مثلاً تلغي تأثير البقعة العمياء وتمثل أساس الرؤية المجسمة ( الفراغية ). وتعتمد الرؤية المجسمة ( الفراغية ) على إحداث العينين بآن واحد صوراً شبكية مختلفة قليلاً يحللها الدماغ ويحولها إلى صورة واحدة ، وكلما كان التوضع الجبهي للعينين أكبر كان حقل الرؤية المجسمة (الفراغية ) أكبر ، فمثلاً تتمتع العين البشرية بحقل رؤية كلي قدره 140 درجة ، أما الحصان فإن عينيه متوضعتان جانبياً لذا يكون حقل رؤيته المجسمة ( المفردة ) باتجاه الأمام محدوداً ويستخدمه لرؤية الأجسام البعيدة ، أما إذا كانت الأجسام قريبة فإن الحصان يدير رأسه نحوها ويستخدم الرؤية بعين واحدة من أجل فحص التفاصيل . إن التوضع الجبهي للعينين والتوضع المركزي للنقرتين اللتين تحدثان حدة بصرية جيدة هما أساسيان في الرؤية المجسمة (الفراغية ) الجيدة التي تفسح المجال لتقدير أفضل لحجم الأجسام وإدراك عمقها وبعدها ....)) .
من المسؤول ؟
وأخيراً لا بد من إثارة سؤال.. فهل يمكن إعادة المناقشة في مصطلح (الرؤية المجسمة ) وذلك لإعادة الترجمة الدقيقة لعبارتي الرؤية المفردة والرؤية الفراغية لتصحيح المعلومات المغلوطة فيما يتعلق بالنصوص المدرسية ؟ ومن المسؤول عن القيام بذلك ؟
المراجع
1- المعجم الطبي الموحد C.D – Unified Medical Dictionary منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط ، الإصدارة الحوسبية الخامسة .
2- موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – آيات الله في الإنسان – الدكتور محمد راتب النابلسي .
3- علم البيولوجيا – الجزء الثاني ترجمة : أ.د دياب أبو خرمة أ.د حسن خاروف أ.د عبد الرحمن مراد أ.د أحمد عثمان أ.د رويدة أبو سمرة د. يوسف مخلوف د. نزار شفيق حمودة .
4- علم الأحياء البيولوجية للعام الدراسي 2003-2004 الثالث الثانوي العلمي- وزارة التربية – الجمهورية العربية السورية
5- علم الأحياء البيولوجية للعام الدراسي 2006-2007 الثالث الثانوي العلمي- وزارة التربية – الجمهورية العربية السورية .
6- C.D- Physiology of the eye – program,produced in Brunswick, Maine (USA) by Interactive eye ,L.L.
7- C.D Duane`s ophthalmology- program . Lippicott-Ravan.
كنت قد دعوت الدكتور ضياء الدين الجماس ،باعتباره عضوا في لجنة الترجمة في (المعجم الطبي الموحد )، لمناقشة خطإ علمي يرد في منهاج علم الأحياء للصف الثالث الثانوي في جميع الدول العربية . وقد وعد مشكورا بالمناقشة. هذه المقالة كنت قد كتبتها في عام 2008 أي منذ 9 سنوات تقريبا . ولا أجد الآن حاجة لتعديل شيء فيها بسبب استمرار الخطأ الذي تتحدث عنه المقالة حتى الآن ، كما كان مستمرا لعقود مضت قبل كتابتها .
الترجمة الاصطلاحية والغلط العلمي
ثناء حاج صالح
مقدمة
تمتلك المصطلحات اللغوية تلك القدرة المميزة على تشتيت انتباه القارئ المدقق ، وتضطره للوقوف أمامها دقيقة صمت ليستعرض مدخراته المعرفية واللغوية محاولاً إجراء المطابقة بين إمكانيات المصطلح وبين ما يرمي إليه من معنى . وقد يطول وقوف هذا القارئ الحائر أمام المصطلحات اللغوية التي لا يعرف لها جذوراً معرفية في ثقافته الخاصة عندما يواجهها في نص مكتوب بلغة أجنبية ، ومع ذلك سيتابع القراءة غاضاً الطرف عنها بإرادته أو بغير إرادته . فحينما تستطلع آداب الشعوب وثقافاتها تواجهك المصطلحات كإحدى الخصائص التي تعبر عن تمايز اللغات المختلفة تاريخياً واجتماعيا ً واقتصادياً وثقافياً ودينياً. لذلك علينا احترام المصطلحات و محاولة التمتع بفنونها وأشكالها وما تضفيه على اللغات من سمات التمايز والتلون ، لكن يجب التوقف عن احترامها عندما تتمادى لتشكل بوجودها خطراً على المفاهيم العلمية الأساسية التي يجب أن تكون محددة ودقيقة ومشتركة بين جميع لغات العالم .
بين عمومية المصطلحات ودقة المفاهيم الأساسية
نحن هنا نخوض في مشكلة الاتفاق على وضع مصطلحات لغوية عند ترجمة النصوص العلمية من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية دون مراعاة أنها تطرح مفاهيم علمية أساسية تبنى عليها قوانين واستنتاجات علمية أخرى . وبالتالي يحق لنا التساؤل عن نتائج الدمج غير المنطقي بين أهم صفات المصطلحات وهي ( العمومية) وأهم صفات المفاهيم العلمية الأساسية وهي (الدقة ) . مع التنويه إلى أن المفاهيم العلمية الأساسية وفق السير التاريخي لها إنما تحاول التخلص من جميع الشوائب التي تعترض طريقها بهدف الوصول إلى حالة من التجريد تمثل الصيغ والنماذج الرياضية التي تصل إلى درجة من التركيز والدقة تصبح فيها المعاني مكثفة وحرفية . أما المصطلحات اللغوية فإن آخر اهتماماتها هما الدقة والتركيز ، وأبعد مطمح عنها هو حرفية المعاني .فكيف لا يكون من التجني جمع الشمل بينهما ؟ ولعل من نتائج هذا الجمع الفاشل تلك الاستنتاجات العلمية المضحكة التي ترتبت على استخدام مصطلح ( الرؤية المجسمة ) ليشمل التعبير عن مفهومين علميين أساسيين دقيقين ومتغايرين هما (الرؤية الفراغية) و(الرؤية المفردة ) .
لماذا نرى الأشياء مجسمة ؟
إذا كنت طالباً أو مدرساً أو باحثا ً فالسؤال مطروح عليك ! وبوسعك البحث عن الإجابة . لكن أين ستبحث عنها ؟ أفي المراجع العربية أم الأجنبية ؟ إذ أن الأمر سيختلف بالنتيجة فإن كنت باحثاً في المراجع العربية فتوخ الحذر من التعثر بالمعلومات المغلوطة التي تقدمها لك التعابير الاصطلاحية ، وكيف لا تسقط في فخ المترجمين وأنت مضطر للأخذ بمصطلح تم تعميمه على جميع الدول العربية ليتم الاعتماد عليه في جميع المراجع المدرسية العربية ، ومن ثم تم تدريسه على ما هو عليه من وضوح الغلط منذ عقود ، فتعثر به من أراد الاستشهاد به خارج الكتب المدرسية ، وهو معذور في ذلك لأنه ظنه حقيقة علمية موثقة في المراجع العلمية ( العربية ) .
ومثال هذا ما ذكره الدكتور محمد راتب النابلسي في الصفحة 241 من كتابه (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – آيات الله في الإنسان ) حيث كتب )) كيف أن هذه العين تستطيع أن ترى البعد الثالث ! وهو العمق ...ترى الطول والعرض والعمق ، لو جعل الله لنا عيناً واحدة لرأينا بها الأشياء مسطحة لا مجسمة بأبعادها الثلاثة .. )) ، وجميعنا نعلم أن هذا الاستنتاج الذي توصل إليه الدكتور النابلسي غير صحيح علمياً ، بل إنه مثير للدهشة بسبب سهولة نقضه ، فنحن لا نرى الأشياء المجسمة مسطحة عندما ننظر إليها بعين واحدة ، بل نراها مجسمة سواء أنظرنا إليها بعين واحدة أو بالعينين معاً ، مع فارق بسيط في الوضوح والدقة ، ومن أحب التشكيك في هذا الكلام ما عليه إلاّ أن يغمض الآن إحدى عينيه وينظر بعين واحدة فقط ، ثم ليحكم بنفسه فيما إذا كان يرى الأشياء مسطحة مع أنها في الواقع مجسمة ، ومن كان يشكك في قراره الشخصي فليبحث عن شخص آخر قد ابتلاه الله بفقد إحدى عينيه ، وليتجرأ على اتهامه بأنه لا يرى الأشياء المجسمة مجسمة بل يراها مسطحة ، ثم ليتحمل هو - لا أنا ـ عواقب هذا الاتهام الخطير ، وما بالنا نستنكر هذا الاتهام ونحن نقدمه في مناهجنا المدرسية بكل شجاعة وحزم لكل طلاب الوطن العربي على أنه الحقيقة العلمية ! فقد ورد ـ على سبيل المثال ـ في كتاب علم الأحياء للصف الثالث الثانوي العلمي الصادر عن وزارة التربية في الجمهورية العربية السورية للعام الدراسي 2003 ـ 2004 في الصفحة 106 ما يلي ((أما سبب الرؤية المجسمة فيعود إلى تشكل خيالين للجسم نفسه على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين الأمر الذي يسمح باندماجهما معاً في الباحة البصرية في المخ فيبدو الجسم بأبعاده الثلاثة . ويمكننا التحقق من صحة ذلك بالضغط على كرة إحدى العينين بحيث نغير مكان ارتسام خيال الجسم الموجود في الباحة المشتركة للرؤية بالعينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد )) . وعدلت هذه الفقرة في العام 2006 ـ 2007 فأصبحت كما يلي (( يؤمن المخ الرؤية المجسمة حيث يتشكل للجسم الواحد خيالان على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين ، عندما يصل ذلك إلى المخ فإنه يقوم بدمجهما معاً مما يسبب رؤية الجسم بأبعاده الثلاثة، أي تحدث الرؤية المجسمة)) .
سؤال غير وجيه
لعل إحدى مهام مدرس مادة علم الأحياء حث الطالب على طرح الأسئلة العلمية التي تمكنه من توجيه مداركه نحو فهم الظواهر الطبيعية سواء ما تعلق منها بجسم الكائن الحي أو ما تعلق بالعوامل الطبيعية البيئية بروح الاستكشاف والبحث العلمي ، ولكن أمام مادة علمية مغلوطة لا تكاد تقنع الطالب الساهي كيف سيقف المدرس ليشرح النتائج التي ربطت بغير أسبابها ؟ وكيف يمكنه أن يردع الطالب عن الاتجاه الصحيح في التفكير عندما يعلن تمرده على تقبل تلك المادة .. وهو الذي يعلم ان أسلوب تحصيل الدرجات العالية في الشهادة الثانوية إنما يعتمد على الحفظ الحرفي الذي يغيب ذكاء الطالب ورؤيته الشخصية في إدراك ظواهر الحياة . من هنا كان لا بد من طرح تسوية غير عادلة ولا منطقية يوجه فيها الطالب إلى الفهم والاستيعاب بطريقته الخاصة وإلى (الحفظ البصم ) بطريقة الكتاب ، ذلك لأن السؤال المطروح على الطالب ليس سؤالاً وجيهاً أو هو على الأقل ليس أكثر وجاهة من أسئلة أخرى كثيرة شبيهة به لم يفكر أحد في طرحها أو التوقف عندها والتصدي لإجاباتها في المناهج الدراسية بكل هذا الإصرار ، إذ يمكننا أيضاً أن نسأل : لماذا نرى الأشياء ذات البعدين مسطحة ؟ ولماذا نرى الأشياء ذات البعد الواحد خطية ؟ ولماذا نرى الأشياء نقطية ؟ وما الذي يجعل فهم سبب الرؤية المجسمة أهم من فهم أسباب الرؤية المسطحة والخطية والنقطية ما دامت المرئيات ليست كلها ثلاثية الأبعاد ؟
وفي الحقيقة إن هناك إجابة واحدة لكل تلك الأسئلة وهي في منتهى البساطة : نحن نرى الأشياء كما هي في الواقع لأن بنية العين الفيزيائية المجهزة بالأوساط الشفافة الكاسرة للضوء تسمح من خلال تجانسها بالحفاظ على قرينة انكسار ثابتة ومتساوية لجميع الأشعة الصادرة عن الشكل المرئي والداخلة عبر الأوساط الشفافة إلى العين .
ونحن نرى الأشياء المجسمة مجسمة حتى لو كنا ننظر إليها بعين واحدة لأن كل نقطة من الجسم المرئي يصدر عنها شعاع يسقط بعد محصلة انكساراته في الأوساط الشفافة على نقطة مقابلة له في شبكية هذه العين وفق زاوية ورود معينة لا تتقاطع مع زاوية ورود شعاع آخر صادر عن نقطة أخرى من الجسم المرئي ، وأثناء ارتسام الخيال على كل شبكية يتم الحفاظ على نسب الأبعاد والمسافات والزوايا المختلفة للجسم المرئي بحيث تكون مطابقة لما هي عليه في الجسم المرئي في الواقع سواء أكان ثلاثي الأبعاد أو غير ذلك ، وذلك لأن الأشعة الضوئية الساقطة جميعها ودون استثناء تسير وفق خطوط مستقيمة بحسب قوانين الضوء .
كما أن مسقط الشكل المرئي على الشبكية يخضع لقوانين ارتسام الخيال التي أرساها الفنان ليوناردو دافنشي وسماها ( قواعد المنظور ) وهي تدرس في المعاهد والكليات الهندسية والفنية .
فهناك إذاً تمثيل للشكل المرئي نقطة نقطة على الشبكية الواحدة باستثناء تلك النقاط من الشكل التي تسقط الأشعة الصادرة عنها على منطقة خروج العصب البصري من العين ( النقطة العمياء ) حيث لا يتم تمثيلها بسبب عدم وجود الخلايا البصرية المستقبلة في تلك النقطة . لكن على الرغم من وجود اختلاف بين الخيالين المتشكلين في كلتا العينين بسبب الاختلاف في موقع ارتسامهما نتيجة وجود مسافة فاصلة بين الشبكيتين. ورغم وجود نقطتين عمياوين تنقص كل منهما جزءاً مختلفاً عن الأخرى. ووجود خيال يمثل الجانب الوحشي من المجال البصري لكل عين يختلف في مضمونه عن الجانب الوحشي للمجال البصري في العين الأخرى . فإن ما يحدث عند النظر بالعينين معاً هو تطابق الخيالين معاً في باحة الرؤية في المخ مما يؤدي إلى رؤية الشكل كاملاً غير منقوص بسبب تكامل الخيالين واندماجهما في خيال واحد لا ينقصه أي جزء من الشكل المرئي.فالعين ترى الأشياء المجسمة والمسطحة والخطية والنقطية كما هي عليه في الواقع لأنها مصممة فيزيائياً من خلال أوساطها الشفافة المتجانسة ذات القوة الكاسرة الثابتة في لحظة النظر لتؤثر على الأشعة الضوئية الساقطة فيها جميعا ً بشكل متماثل .
إشكال علمي أم لغوي ؟
لنعد الآن إلى تلك الفقرة التي جاءت في كتاب علم الأحياء والتي تحاول تفسير سبب الرؤية المجسمة فتؤدي على إشكال لغوي وعلمي في آن واحد .
أما الإشكال اللغوي فهو استخدام كلمة (مجسمة) للدلالة على مفهوم تقدمه كلمة أخرى وهي كلمة ( مفردة ) .
وأما الإشكال العلمي فهو الخلط بين مفهومين علميين يحتاجان إلى الدقة في التعبير عنهما . والإشكال العلمي هو محصلة الإشكال اللغوي طبعاً .
وعلينا أن نحل الإشكالين معاً قبل أن نبحث في السبب الذي ساق إليهما ، والحل بسيط جداً ، نحتاج فيه إلى استبدال كلمة مفردة بكلمة مجسمة في السؤال والإجابة ، فيصبح السؤال : ( لماذا نرى الأشياء مفردة ؟ ) وهو سؤال وجيه جداً، لأننا نملك عينين اثنتين فلماذا نرى الجسم المرئي واحداً على الرغم من تشكل خيالين اثنين له على الشبكيتين ؟ وتكون الإجابة التي وردت في كتاب علم الأحياء بعد هذا الاستبدال كما يلي: ((أما سبب الرؤية المفردة فيعود إلى تشكل خيالين للجسم نفسه على منطقتين متناظرتين من الشبكيتين الأمر الذي يسمح باندماجهما معاً في الباحة البصرية في المخ فيبدو الجسم بأبعاده الثلاثة . ويمكننا التحقق من صحة ذلك بالضغط على كرة إحدى العينين بحيث نغير مكان ارتسام خيال الجسم الموجود في الباحة المشتركة للرؤية بالعينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد )).
وهكذا تصبح هذه الفقرة أكثر وضوحاً وإقناعاً وقد كانت قبل ذلك غير منطقية خاصة عندما ذكرت أنه يمكن التحقق من سبب الرؤية المجسمة بالضغط على إحدى العينين فنشاهد للجسم خيالين بدلاً من خيال واحد وما هذا الكلام إلا تعليل للرؤية المفردة ، فعند الضغط على إحدى العينين سنشاهد للجسم خيالين ولن تتحقق الرؤية المفردة في حين أن مشاهدة الخيالين ليس دليلاً على أن الرؤية المجسمة لم تتحقق فمن الممكن أن يكون هذان الخيالان لشكل مجسم ، وهذا يعني ان الرؤية المجسمة قد تحققت ولكنها الآن مجسمة ومزدوجة أيضاً .
مصدر الغلط
بالرجوع إلى المعجم الطبي الموحد Unified Medical Dictionary الصادر عن منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط ، والذي يتضمن 150000مصطلحا ً اتفق عليه الأطباء والمعجميون العرب من سائر البلدان العربية والذي يعمل من خلال لجنة العمل الخاصة بالمصطلحات الطبية ، نجد الترجمة الاصطلاحية التالية :( الرؤية المجسمة : Haploscopic Vision ) مع العلم أن المقطع Haplo -) ) مأخوذ من الاسم ( Haplosis ) وهو بمعنى ( التفرد ) فلو كانت الترجمة السابقة دقيقة وحرفية لكانت (الرؤية المفردة HaploscopicVision:) . وهناك عدة استخدامات للمقطع (Haplo- ) في المعجم الطبي الموحد نفسه وكلها تشير إلى مفهوم التفرد مثل : (متعلق بالمنظار الفارد : (Haploscopic و (رؤية فردية :Haplopia ) و( النمط الفرداني : (Haplotype .
ولكن ما الذي دعا الأطباء والمعجميين العرب إلى ترجمة Haploscopic Vision بالرؤية المجسمة اصطلاحياً وليس بالرؤية المفردة حرفيا ً ؟ لقد كانوا- على ما يبدو – مضطرين لفعل ذلك بسبب الحاجة إلى توحيد المصطلحات العلمية العربية وذلك بالاتفاق على استخدام مصطلح واحد لا أكثر عندما يكون الموضوع هو نفسه ، أي بهدف عدم استخدام أكثر من مصطلح واحد للتعبير عن المفهوم نفسه ، وهذا ما جعلهم يقعون في حيرة من أمرهم أمام عبارتين إنكليزيتين تستخدمان معاً في اللغة الإنكليزية في موضوع ( الرؤية بالعينين Binocular ) فهناك العبارة التي سبق ذكرها Haploscopic Vision .
أما العبارة الثانية فهي Stereoscopic Vision وهناك اختلاف واضح في المعنى الدقيق لهاتين العبارتين لكنهما تستخدمان معاً في موضوع الرؤية بالعينين للحاجة إلى ذلك ، فالمعنى الدقيق للعبارة الأولى هو( الرؤية المفردة ) أما المعنى الدقيق للعبارة الثانية فهو ( الرؤية المجسمة أو الفراغية أو ثلاثية الأبعاد ) وذلك بناء على الترجمة الخاصة بالمقطع ( Stereo – ) الذي وردت ترجمته في المعجم نفسه هكذا : ( مجسم – فراغي – ثلاثي الأبعاد : Stereo ) .
وبما أن المعجميين العرب قد اتفقوا على اختيار ترجمة (Stereo – ) بمعنى ( مجسم ) كما اتضح لاحقاً أصبحت الترجمة الحرفية لعبارة Stereoscopic Vision هي ( الرؤية المجسمة ) وبما أنها تقترن مع عبارة Haploscopic Vision دائماً عند الحديث عن موضوع الرؤية بالعينين في اللغة الإنكليزية فقد ترجموا العبارة الأخيرة ترجمة اصطلاحية بالمعنى نفسه أي : الرؤية المجسمة وقاموا بتثبيت ذلك في المعجم كما رأينا .
وخلاصة القول في هذا أنهم قد ارتكبوا خطأ ً مركباً على مرحلتين :
المرحلة الأولى بالاختيار غير الموفق لترجمة (Stereo –) بمعنى مجسم ، وكان الأولى والأكثر ضرورة أن يختاروا ترجمتها بمعنى ( فراغي ) .
والمرحلة الثانية أنهم غيبوا الحديث عن الرؤية المفردة بترجمتهم العبارة الخاصة بها اصطلاحياً ( بالرؤية المجسمة ) وهذا ما أدى إلى دمج مفهومي الرؤية المفردة والرؤية الفراغية دمجاً لغوياً بتعبير ( الرؤية المجسمة ) .
وهكذا أصبحنا نشرح في مناهجنا الدراسية كيفية الرؤية الفراغية بالتركيز الخاطئ على رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد ( المجسمة ) بدلاً من التركيز على رؤية الفراغ ثلاثي الأبعاد وأصبحنا نبرهن على حدوث رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد – وهو الذي لا يحتاج إلى برهان – ببرهان توحيد الخيالين ودمجهما في المخ لإحداث الرؤية المفردة الذي يحتاج فعلاً إلى تبرير وبرهان . وها نحن نخرج من غلط لنقع في غلط آخر مترتب عليه .
والآن لنوضح الخطأ الأول الذي ارتكبوه باختيار ترجمة ( Stereo –) بمعنى (مجسم ) بدلاً من معنى ( فراغي ) . فعند الحديث عن موضوع الرؤية بالعينين كما وجدنا في المراجع الإنكليزية يقوم الباحثون بتقسيم حقل الرؤية الكلي الذي نراه عند النظر بالعينين معاً أي (الرؤية الفراغية ) إلى ثلاثة حقول هي حقل الرؤية المشترك الذي يؤمن الرؤية المفردة على الرغم من وجود خيالين للشكل المرئي على الشبكيتين وهو الذي يستخدم الباحثون للتعبير عنه عبارة Haploscopic Vision وهي عبارة ضرورية لإيضاح وجود هذا الحقل عند النظر بالعينين معاً وهذا أمر لا جدل فيه ، فضلاً عن حقلين للرؤية غير المشتركة هما حقلا الرؤية الوحشيان الأيمن والأيسر لكل من العين اليمنى واليسرى واللذان يختلفان عن بعضهما بالخيال الذي يقدمانه إلى حقل الرؤية الكلية ( الفراغية ) فكل منهما يحمل جانباً من الصورة لا يحمله الآخر ، وينتج عن اجتماع الحقول الثلاثة حقل الرؤية الكلية أو الفراغية . إذاً فالرؤية الفراغية لا تختص برؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد التي أصبح المعجميون العرب يعبرون عنها بالرؤية (المجسمة) بل إن الرؤية الفراغية تعني الحقل المرئي من الفراغ وهذا الكلام يوضح الخطأ الثاني الذي ارتكبوه عندما ترجموا ( Stereo – ) بمعنى (مجسم ) بدلاً من معنى ( فراغي ) .
وربما يبدو للوهلة الأولى وجود تطابق في المعنى بين تعبيري الرؤية المجسمة والرؤية الفراغية ، ولكن هذا التطابق غير موجود عملياً ، ففي الذخيرة اللغوية العربية المستخدمة ترتبط دلالة عبارة الرؤية المجسمة بما هو مجسم أي ( جسم يحتل من المكان حيزاً وهو ثلاثي الأبعاد ) فيفهم منها التركيز على الأشياء المجسمة المرئية في المكان ، أما دلالة الرؤية ( الفراغية ) فتفيد في الإشارة إلى المكان الذي توجد فيه المرئيات أكثر من التركيز على المرئيات نفسها ، وهكذا يسبق الذهن إلى تحديد جزء من المكان المرئي وهو ( الأشياء المجسمة ) عند استخدام تعبير الرؤية المجسمة بينما يسبق الذهن إلى تحديد المكان ( الفراغ) بأكمله عند استخدام تعبير الرؤية ( الفراغية ) وهذا ما أدى إلى الغلط العلمي الذي صرنا إليه .
وبناءً على هذا يكون اختيار ( Stereo – ) بمعنى ( فراغي ) أفضل وأكثر دقة من غيره . وتصبح الترجمة الدقيقة لعبارة Stereoscopic Vision هي (الرؤية الفراغية) . وبهذا يندرج مفهوم الرؤية المفردة الذي يتمثل بحقل الرؤية المشترك ضمن مفهوم الرؤية الفراغية ، وبهذا يتضح مفهوم التخاطل Parallax الذي يعني اختلاف المنظر باختلاف المكان الذي يسببه وجود مسافة فاصلة بين الشبكيتين بحيث يكون الخيالان المتشكلان على كل منهما مختلفين قليلاً عن بعضهما بحسب ورود الأشعة الضوئية الساقطة على سطح كل منهما وبسبب اندماج الطرفين الأنسيين للخيالين وهما متماثلان تقريباً في خيال مشترك يقع في حقل الرؤية المشترك للعينين مع بقاء الطرفين الوحشيين للخيالين وهما مختلفان مستقلين عن بعضهما البعض في حقلي رؤية جانبيين كل منهما خاص بإحدى العينين . ولقد تم التعبير عن مفهوم التخاطل في المعجم الطبي الموحد بوضع إشارة المساواة ( =) بين التعبيرين الإنكليزين اللذين يحملان الفكرة نفسها كما يلي :
( Parallax Binocular = Stereoscopic Parallax ) أي : (التخاطل بالعينين = التخاطل الفراغي) .
وهذا يعني أن الحديث يدور عن الرؤية ضمن الفراغ وأن الرؤية الفراغية متعلقة بالمكان بسبب التخاطل أو اختلاف المنظر باختلاف المكان ، وهذا ينتج عن الرؤية بالعينين معاً أيضاً .
مركز الغلط
كما يقول لك المثل : لا دخان بغير نار ، فإذا بحثت عن السبب الذي جعل الأطباء والمعجميين العرب العاملين على ترجمة المصطلحات الطبية إلى العربية يوافقون على استخدام مصطلح ( الرؤية المجسمة ) باعتبار الرؤية بالعينين هي أساس الرؤية المجسمة (رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد ) كما يزعمون فارجع إلى النصوص الإنكليزية لتجدها جميعاً توضح أهمية الرؤية بالعينين معاً من أجل إدراك الأبعاد الثلاثة وخاصة البعد الثالث بشكل صحيح ودقيق ، إذ يؤدي اندماج الطرفين الأنسيين للخيالين في الحقل المشترك إلى زيادة الإيضاح ، وهذا أمر طبيعي لأن زيادة شدة المنبه تؤدي إلى زيادة شدة الإحساس بسبب زيادة عدد الخلايا الحسية المنبهة بالمنبه نفسه ، فالخلايا البصرية التي تقع في حقل الرؤية المشترك تتلقى الأشعة الضوئية الصادرة عن الجزء المتوسط نفسه من الشكل المرئي بزاويتي ورود تكادان تكونان متطابقتين على المنطقتين المتناظرتين من الشبكيتين وهذا ما يجعل الخيال المرتسم على كل منهما مماثلاً للآخر فتكون الرسائل العصبية المرسلة منهما إلى الدماغ متماثلة ويؤدي هذا إلى زيادة شدة الإحساس فتكون الرؤية أكثر وضوحاً ، كما أن تراكب الخيالين في المخ يؤدي إلى إكمال النقص الموجود في كل منهما والناتج عن وجود النقطتين العمياوين والحقلين الوحشيين ويؤدي هذا إلى رؤية المزيد من الحقل الفراغي فيسبب الدقة والوضوح في إدراك الأبعاد الثلاثة وهذا هو كل شيء .
ولكن الفرق شاسع بين أن يقال لك : إن الرؤية بالعينين معاً هي سبب رؤية الأجسام ثلاثية الأبعاد (الرؤية المجسمة ) أو يقال : إن الرؤية بالعينين معاً هي التي تسبب رؤية الفراغ المرئي كاملاً مما يؤدي إلى الإدراك الدقيق للأبعاد الثلاثة .
فأنت تستنج من القول الأول أن الرؤية بعين واحدة فقط تجعلك غير قادر على رؤية الأشياء المجسمة أو ثلاثية الأبعاد كما هي ( أي مجسمة ) بل تجعلك - يا لللأسف- تراها ( مسطحة ) !
بينما تستنج من القول الثاني أن الرؤية بعين واحدة تجعل الحقل المرئي في الفراغ عندك أقل أو أصغر بالمقارنة مع ما يحدث عندما تتم الرؤية بالعينين معاً ، وبسبب ذلك فإن الرؤية بعين واحدة تقلل من إدراكك الصحيح أو الدقيق عند تقدير المسافات والأبعاد بين النقاط المختلفة من الفراغ لذلك فأنت لن تستطيع تقدير هذه الأبعاد بشكل دقيق عندما يطلب منك ذلك .
ولإيضاح ما هو مقصود بعدم الإدراك الصحيح للأبعاد عند النظر أو الرؤية بعين واحدة قم الآن بتجربة بسيطة ، وأحضر خيطاً وإبرة ، ثم حاول أولاً إدخال طرف الخيط في ثقب الإبرة وأنت تنظر بالعينين معاً ، وبعد ذلك أعد المحاولة ولكن مع إغماض إحدى العينين والاعتماد على عين واحدة فقط في الرؤية . وستجد أن الصعوبة في المحاولة الثانية أكبر بكثير وستشعر أن الصعوبة تكمن في تقدير الزاوية وتحديد البعد بين طرف الخيط وثقب الإبرة وذلك لأنك تعتمد على عين واحدة ، ومع ذلك فقد تستطيع بعد عدة محاولات النجاح في إدخال طرف الخيط في ثقب الإبرة على الرغم من النظر بعين واحدة فقط لكن عليك أن تعترف بالصعوبة التي واجهتها .
وهذا يعني أن الرؤية بالعينين معاً ضرورية وأساسية للإدراك الصحيح للأبعاد والمسافات الفاصلة بين النقاط في الحقل المرئي من الفراغ.
وبما أن الفراغ ثلاثي الأبعاد فهي ضرورية للإدراك الصحيح للأبعاد الثلاثة وخاصة البعد الثالث ( العمق أو الارتفاع) لأنه يمثل البعد الأكثر صعوبة في التمييز الدقيق بسبب كونه البعد الثالث أي أن البعدين الأول والثاني موجودان مسبقاً وبسبب وجود البعد الثالث تتعقد العلاقة الهندسية لكل نقطة من الفراغ الديكارتي إذ ينشأ لها ثلاثة متحولات تمثل موقعها بالنسبة إلى ثلاثة محاور هي الطول والعرض والعمق بدلاً من متحولين اثنين يمثلان موقعها بالنسبة لمحوري الطول والعرض فقط في الأشكال المسطحة أو متحول واحد في الخط المستقيم . وهكذا يكون النظر بالعينين معاً أفضل وأكثر دقة عند الحاجة إلى تمييز البعد الثالث فيكون تقديره أكثر دقة مما يحدث عند النظر بعين واحدة فقط .
مراجع إنكليزية
النص الأول :
هذا النص مأخوذ من أحد المراجع الطبية العالمية المعتمدة في الدراسات الأكاديمية العليا وهوDuane`s Ophthalmology-Program تحت عنوان ( الرؤية بالعينين ) ويدور فيه الحديث عن أهمية الرؤية بالعينين لإدراك المسافة في البعد الثالث للفراغ المرئي لا عن رؤية الأشياء المجسمة والبعد الثالث هنا يتعلق بالفراغ المرئي أو بكيفية حدوث الرؤية الفراغية .
Binocular Vision
5- And probably the most dramatic reason for binocular vision, tow eyes permit stereoscopic depth perception the ability to use the difference in the images due to each eye viewing from the slightly different view point , known as binocular disparities , to perceive distance in the third dimension of visual space .
وترجمة النص : الرؤية بالعينين
وربما كان المبرر الأقوى للرؤية بالعينين معاً هو أن عينين اثنتين تسمحان بإدراك البعد الفراغي بسبب استخدام الاختلاف في الأخيلة الناجم عن المنظر المختلف قليلاً المتكون في كل عين والمعروف بتباين الرؤية بالعينين لإدراك المسافة في البعد الثالث للفراغ المرئي .
النص الثاني :
هذا النص من Physiology of eye – Program يؤكد على أهمية الرؤية بالعينين من أجل الرؤية المفردة التي تؤدي إلى الإدراك الدقيق للبعد .
Your vision –Dominace test
The dominace test gives us an important clue to how binocular vision works . Because our spaced a few inches apart on our head , each eye sends a slightly differnet image to the brain , these different images are necessary for binocular vision and accurate depth perception . Instead of seeing tow images ( double vision ) the brain integrates the image from both eyes into a single perception , instead , in the input from one eye is preferred over the other eye as shown by the dominace test , as a result , the dominace eye supplies the view we see with both eyes open , this view is supplemented with clues about depth perception by the non-dominate eye .
ترجمة النص : رؤيتك – اختبار السيطرة
يقدم لنا اختبار السيطرة توضيحاً مهما لكيفية الرؤية بالعينين . فبسبب توضع العينين بشكل منفصل عن بعضهما البعض ببضعة إنشات على رؤوسنا فإن كل عين ترسل صورة مختلفة قليلاً عن الأخرى إلى الدماغ ، وهذا الاختلاف في الصورتين ضروري من أجل الرؤية بالعينين وإدراك البعد الصحيح فبدلاً من رؤية صورتين ( الرؤية المزدوجة ) يدمج الدماغ الصورتين من كلتا العينين في إدراك بصري مفرد . وبالمقابل ، فإن الخيال الوارد من عين واحدة يقدم شيئاً إضافياً عما تقدمه العين الأخرى كما ظهر من اختبار السيطرة وكنتيجة لذلك فإن العين المسيطرة تقدم المنظر الذي نراه بالعينين المفتوحتين معاً ، هذا المنظر يتم إكماله بالمعلومات الدقيقة حول إدراك العمق من قبل العين المسيطرة .
النص الثالث :
هذا النص من المرجع السابق يتحدث عن أهمية الرؤية بالعينين لإهمال أثر النقطتين العمياوين .
Blind spot : Our binocular vision allows us to ((ignore)) our blind spot , in normal vision , both of our eyes focus on the same image but each eye sends a slightly different picture to the brain , the visual fields of our left and right eyes overlap significantly so the brain is able to ((fill-in))the blind spots with information from the other eye.
الترجمة :
النقطة العمياء : إن رؤيتنا بالعينين تسمح لنا بتجاهل أثر النقطتين العمياوين ، ففي الرؤية الطبيعية تحدق كل من العينين بالصورة نفسها ولكن كل منهما ترسل صورة مختلفة قليلاً إلى الدماغ ، إن حقلي الرؤية في العين اليسرى واليمنى يتداخلان بحيث يكون الدماغ قادراً على أن يملأ أو يشغل مكان النقطة العمياء من كل عين بمعلومات من العين الأخرى .
مرجع عربي
هذا النص من كتاب علم البيولوجيا – الجزء الثاني ، نقترح أن تتم قراءته باستبدال عبارة الرؤية المجسمة بالعبارة الموجودة ضمن القوسين لملاحظة الفارق في إيضاح المفاهيم المطروحة ضمن النص :
(( ....الرؤية بالعينين والرؤية المجسمة Binocular Vision and stereoscopic vision تحدث الرؤية بالعينين حين يتراكب حقلا الرؤية لكلتا العينين بحيث أن نقرة كلتا العينين تتبأر على الجسم نفسه ، وتمتاز هذه الرؤية عن الرؤية بعين واحدة بمزايا عديدة تتضمن حقل رؤية أوسع وتعويض إصابة إحدى العينين بالعين الأخرى فهي مثلاً تلغي تأثير البقعة العمياء وتمثل أساس الرؤية المجسمة ( الفراغية ). وتعتمد الرؤية المجسمة ( الفراغية ) على إحداث العينين بآن واحد صوراً شبكية مختلفة قليلاً يحللها الدماغ ويحولها إلى صورة واحدة ، وكلما كان التوضع الجبهي للعينين أكبر كان حقل الرؤية المجسمة (الفراغية ) أكبر ، فمثلاً تتمتع العين البشرية بحقل رؤية كلي قدره 140 درجة ، أما الحصان فإن عينيه متوضعتان جانبياً لذا يكون حقل رؤيته المجسمة ( المفردة ) باتجاه الأمام محدوداً ويستخدمه لرؤية الأجسام البعيدة ، أما إذا كانت الأجسام قريبة فإن الحصان يدير رأسه نحوها ويستخدم الرؤية بعين واحدة من أجل فحص التفاصيل . إن التوضع الجبهي للعينين والتوضع المركزي للنقرتين اللتين تحدثان حدة بصرية جيدة هما أساسيان في الرؤية المجسمة (الفراغية ) الجيدة التي تفسح المجال لتقدير أفضل لحجم الأجسام وإدراك عمقها وبعدها ....)) .
من المسؤول ؟
وأخيراً لا بد من إثارة سؤال.. فهل يمكن إعادة المناقشة في مصطلح (الرؤية المجسمة ) وذلك لإعادة الترجمة الدقيقة لعبارتي الرؤية المفردة والرؤية الفراغية لتصحيح المعلومات المغلوطة فيما يتعلق بالنصوص المدرسية ؟ ومن المسؤول عن القيام بذلك ؟
المراجع
1- المعجم الطبي الموحد C.D – Unified Medical Dictionary منظمة الصحة العالمية – المكتب الإقليمي لشرق المتوسط ، الإصدارة الحوسبية الخامسة .
2- موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – آيات الله في الإنسان – الدكتور محمد راتب النابلسي .
3- علم البيولوجيا – الجزء الثاني ترجمة : أ.د دياب أبو خرمة أ.د حسن خاروف أ.د عبد الرحمن مراد أ.د أحمد عثمان أ.د رويدة أبو سمرة د. يوسف مخلوف د. نزار شفيق حمودة .
4- علم الأحياء البيولوجية للعام الدراسي 2003-2004 الثالث الثانوي العلمي- وزارة التربية – الجمهورية العربية السورية
5- علم الأحياء البيولوجية للعام الدراسي 2006-2007 الثالث الثانوي العلمي- وزارة التربية – الجمهورية العربية السورية .
6- C.D- Physiology of the eye – program,produced in Brunswick, Maine (USA) by Interactive eye ,L.L.
7- C.D Duane`s ophthalmology- program . Lippicott-Ravan.