بسم الله الرحمن الرحيم
إذا رأينا أن وضع كتب الأضداد، يدخل في مجال التأليف المعجمي، فإنه اقترن تاريخياً بولادة هذا النوع من الكتابة. وقد "ولدت معجماتنا اللغوية صغيرة متفرقة غير منظمة، ثم نمت شيئاً فشيئاً، وتوسعت وتكاملت جيلاً بعد جيل"(1)
وعلى الرغم من أن الصينيين واليونان قد سبقوا العرب في وضع المعاجم ببضع مئات السنين، إلا أن العرب سبقوا أوروبا في هذا المضمار بأكثر من تسعة قرون ذاك أن تأليف أول معجم عربي يعود إلى القرن الثامن الميلادي، في حين يرجع تأليف أول معجم أوروبي إلى القرن السابع عشر، وهو معجم انكليزي(2).
ولقد جمعت ألفاظ اللغة العربية ودونت ورتبت خلال ثلاث مراحل تاريخية، بدأت الأولى منها أواخر القرن الهجري الأول واستغرقت زهاء مئة سنة حتى أواخر القرن الثاني للهجرة. وفي هذه المرحلة جمعت الأحاديث الشريفة والقصائد الشعرية وبعض الأعمال النثرية. "وكان علماء اللغة يأخذون الألفاظ العربية من أفواه عرب الصحراء، أو الوافدين على الأمصار، ممن لم تتأثر ألسنتهم بمخالطة الأعاجم."(3)
في المرحلة الأولى جمعت المفردات والألفاظ كيفياً دون ترتيب أو تنظيم "لأن الغاية كانت تتجه أولاً إلى الجمع والتدوين دون غيره، خوفاً على العربية من الغريب الدخيل"(4) وعرفت المرحلة الثانية قدراً أكبر من التنظيم، كجمع الألفاظ التي تشترك في حرف واحد أو التي ترتبط برابطة الأضداد. وفي المرحلة الثالثة وضعت المعجمات الشاملة المنظمة، واعتمد مؤلفوها على ما كُتب في المرحلتين السابقتين، فجمعوا وأضافوا ورتبوا ونسقوا.
وفي هذه الأثناء ظهرت كتب الأضداد وهي "التي جمعت ألفاظاً تأخذ معنيين متضادين، بحيث يمكن استخدام كل لفظة منها لمعنيين متنافرين، إذ أن كل لفظة تعني الشيء وضدَّه"(5)
وبين الذين وضعوا معجمات الأضداد: الأصمعي، والسجستاني، وابن السكّيت وقطرب، وأبو الطيب اللغوي، وابن الدهان، والصغاني، وابن الأنباري. وقد قام المستشرق أوغست هفنر بتحقيق كتب الأضداد التالية:
- الأضداد - تأليف الأصمعي. "ت- 215هـ"
- الأضداد -تأليف ابن السكّيت "ت- 244هـ"
- الأضداد- تأليف السجستاني "ت- 255هـ"
ونشرتها معاً في بيروت سنة 1913م دار الكتب العلمية. ونشر هفنر أيضاً كتاب الصغاني في الأضداد في السنة ذاتها وجعله ذيلاً للكتب الثلاثة.
أما كتاب قطرب "الأضداد" فقد حققه المستشرق هانس كوفلر ونشره عام 1931 في مجلة "ISLAMICA" المجلد الخامس.(6)
وحقق الدكتور عزة حسن كتاب أبي الطيب اللغوي: "الأضداد في كلام العرب" ونشره المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1382هـ - 1963م.
وتولى تحقيق كتاب ابن الدهان "الأضداد في اللغة" محمد آل ياسين ونشرته مكتبة النهضة في بغداد ط2 سنة 1382هـ- 1963م.
أما كتاب الأضداد لابن الأنباري(7) محمد بن القاسم، فقد صدر في طبعة حديثة أولى في القاهرة سنة 1325هـ "اعتنى بضبطها بالشكل وتصحيحها -حضرة- ملتزم طبعها الشيخ محمد عبد القادر سعيد الرافعي، صاحب المكتبة الأزهرية مع العلامة اللغوي الشيخ أحمد الشنقيطي بعد مقابلتها على نسخة قديمة من خط المؤلف- يعني: ابن الأنباري"(8).
وصدر هذا الكتاب أيضاً في الكويت، من تحقيق "أبو الفضل ابراهيم" -التراث العربي عام 1960. وفي هذه الدراسة سنعتمد الكتاب الأول الذي حققه العلامة الشنقيطي.
وجهة نظر في تفسير "الأضداد"
يقول د. مراد كامل في تقديمه كتاب "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" لجرجي زيدان في طبعة جديدة9)
"في أوائل القرن العشرين استطاع "موريس جرامون" و "أنطون مييه" و "جوزيف فندريس" أن يثبتوا أن التغيرات الصوتية وغيرها من التغيرات اللغوية، لا يمكن القول إنها مماثلة للتغيرات التي تحدث في العالم الطبيعي، كما ذهب علماء اللغة خلال القرن التاسع عشر، ولكنها تدل على تفاعل بين الدوافع النفسية الفيزيولوجية، وبين نظام اللغة الذي تطرأ عليه التغيرات. والتغيرات تحدث في الأفراد في اللاشعور أو على هامش الشعور"(10).
يدخل "التضاد" في صميم هذه التغيرات التي تحدث في الأفراد على صعيد اللاشعور.فإن رؤية الشيء أو الحركة، قد تستدعي في اللحظة ذاتها ضده أو ضدَّها. وهذا ما يفسره علم النفس في دراسته تداعي الأفكار، فقد جعل لذلك قانوناً بثلاثة بنود:
- التداعي بالاقتران "اقتران شيء بشيء".
- التداعي بالتشابه "فلان يشبه فلاناً".
- التداعي بالتضاد "أبيض أسود".
ولكن التضاد الهام جداً في اللغة العربية هو ذاك الذي يجعل المعنيين المختلفين- وأحياناً: عدة معانٍ -كامنين في قلب الكلمة الواحدة "فالجَوْن" تعني الأبيض والأسود. و "القَنيص" للصائد والمصيد. و "الكري" للمستأجِر والمستأجَر. و"الطرب" للفرح والحزن. وهذا ما يؤكد أن العقل العربي هو في طبيعته غير سكوني. بل هو جدلي Dialectical.
إن الدكتور عبد الكريم اليافي(11) في دراسة فريدة له عن أبي تمام يستخرج من بعض شعره من الأضداد ما يحمله على القول إن التضاد هو أساس التفكير عنده.
ويرى أيضاً أن أبا تمام "يرى من خلال التضاد أن الحركة هي الأصل في حُسْن الطبيعة وجمال الأرض" وهو يذهب أبعد من ذلك فيقول:
" حين نطالع شعر أبي تمام نجد أنه قد سبق هيغل وأمثاله من الفلاسفة بعصور طويلة فشق طريق الديالكتيك المستند إلى صراع الأضداد، فهو في الحقيقة أبو الجدل الحديث".
ومن الأمثلة الموفقة التي يقدمها الدكتور اليافي في هذا المجال قول أبي تمام:
من سجايا الطلول ألا تجيبا
فصواب من مقلتي أن تصوبا
فاسألنها واجعل بكاك جواباً
تجد الدمع سائلاً ومجيبا
وإذا كانت "الأضداد" توضح حركة الذهن العربي وجدليته، من خلال المفردات التي هي مادة التفكير، فإنها تؤكد من جانب آخر، في الوقت نفسه، مرونة هذا الذهن وقابليته للنقاش وسعة الرؤية اللغوية.
من أساليب التضاد
هنالك أكثر من أسلوب للنفي حسب حركة الذهن، فيمكن أن نقول مثلاً:
"طويل- وغير طويل أو- لا طويل" كذلك القول "قصير- غير قصير أو- لا قصير".
ومثل ذلك قولنا: "أسود- لا أسود أو- غير أسود" كذلك القول: "أبيض- غير أبيض أو- لا أبيض".
ولكن الطبيعي أن نقول "طويل وقصير" و "أسود وأبيض" مثلما نقول "حركة وسكون" و "ظلام وضياء" وهناك معجمات كثيرة اهتمت بهذه الأضداد في بعض فصولها، هي معجمات المعاني مثل "فقه اللغة" للثعالبي و "تهذيب الألفاظ" لابن السكّيت و "الألفاظ الكتابية"(12) للهمذاني. وفيه فصل عنوانه "باب الأضداد" منه "الفرح والغم. اليسار والفقر. المدح والثلب. الدنّو والبعد. الإظهار والكتمان.. إلخ".
.. إلا أن ما يعنينا هنا هو اجتماع المعنيين أو أكثر في لفظ واحد، وهذا ما اهتمت به معجمات الأضداد، وبينها كتاب ابن الأنباري الذي نحن في صدد الحديث عنه.
في تعريف الأضداد
ورد في لسان العرب أن الضد هو كل شيء ضادَّ شيئاً ليغلبه. وورد التعريف نفسه في "تاج العروس" للزبيدي(13) وأضاف: "السواد ضد البياض، والموت ضد الحياة: قال الليث. ويقال: لقي القوم أضدادهم وأندادهم أي: أقرانهم. وقال الأخفش: الند هو الضد والشبه. وقال ابن السكيت: حكى لنا أبو عمرو: الضد مثل الشيء. والضد: خلافه.
وجاء في "المصباح المنير"(14): الضد هو النظير والكفء. والجمع أضداد. والضد خلافه. و (ضادّه) (مضادةً) إذا باينه مخالفة و (المتضادان) اللذان لا يجتمعان كالليل والنهار.
وأشار الشرتوني في "أقرب الموارد"(15) إلى ما دعاه "لغات الأضداد": اللغات الدالّة على معنيين متضادين كالضد للمثل والمخالف.
[ لبحث نصر الدين البحرة تتمة تنشر لاحقاً ]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
n الحواشي:
1- اللغة ومعاجمها في المكتبة العربية. تأليف: د. عبد اللطيف الصوفي- دار طلاس- 1986- ص 34.
2- المصدر السابق -ص 35
3- المصدر السابق - ص 37
4- المصدر نفسه - ص 38
5- المصدر نفسه - ص 67
6- المصدر نفسه- ص 68
7- ابن الأنباري (271- 328هـ= 884- 940م): محمد بن القاسم بن محمد بن بشار، أبو بكر الأنباري، من أعلم أهل زمانه في الأدب واللغة، ومن أكثر الناس حفظاً للشعر والأخبار. قيل: كان يحفظ ثلاثمئة ألف شاهد في القرآن. ولد في "الأنبار" على الفرات وتوفي ببغداد. وكان يتردد إلى أولاد الخليفة الراضي بالله يعلمهم. من كتبه (الزاهر) في اللغة و (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات) و (إيضاح الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل) و (الهاءات) و (عجائب علوم القرآن) و (شرح الألفات) -رسالة نشرت في مجلة المجمع بدمشق. و (خلق الإنسان) و (الأمثال) و (الأضداد) وأجل كتبه -في رأي الزركلي- (غريب الحديث) قيل إنه خمسة وأربعون ألف ورقة.وله (الأمالي) عن "الأعلام" لخير الدين الزركلي -الطبعة الخامسة 1980 دار العلم للملايين -المجلد السادس- ص 334.
8- الأضداد في اللغة. تأليف: تاج اللغة محمد بن القاسم محمد بن بشار الأنباري النحوي- المطبعة الحسينية المصرية بكفر الطماعين بمصر- أواخر شهر شعبان 1325 هجرية.
9- دار الحداثة -لبنان- بيروت- الطبعة الثانية 1982
10- المصدر السابق - ص8.
11- دراسات فنية في الأدب العربي- تأليف: د. عبد الكريم اليافي- طبعة 1972- ص 110 وما بعد
12- الألفاظ الكتابية -تأليف: عبد الرحمن عيسى الهمذاني- مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت 1899- الطبعة الثامنة- ص 296
13- تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي- تحقيق الدكتور عبد العزيز مطر- مطبعة حكومة الكويت- 1970 الجزء الثامن- ص 310.
14- المصباح المنير -تأليف: أحمد محمد بن علي الفيومي المقري- المكتبة العصرية- صيدا- الطبعة الثانية 1997- ص 186
15- أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد -تأليف: سعيد الخوري الشرتوني- مطبعة مرسلي اليسوعية ببيروت سنة 1889 ص 679