هذه مقالة من مجموعة مقالات كتبتها بعنوان مع الأدب العربي
ولما رأيت موضوع شاكر الغزي أحببت أن أنشر ما كتبته على حلقات
مع الأدب العربي 1
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا في النشاة
تمهيد
الكثير ممن خاضوا في الأدب العربي كانوا قد ربطوا نشأته إما بظواهر اجتماعية أوشخصيات معينة .فمنهم من ربط ظهور الشعر بالحداء وهو قصائد أو أناشيد وأراجيز ـ إن جاز التعبير ـ كانت العرب تحث بها الإبل على السير , وقيل إن هذه الأراجيز كانت تنظم على إيقاعات مشي الإبل , أو على حركات أرجلها عند المشي ـ إن جاز التعبير ـ لأني مازلت غير مقتنع بان أخفاف الإبل تصدر أصواتا عندما تقع على الرمال !
فهل يعقل أن يكون الدافع الذي أدى إلى ظهور الشعر هو حث الإبل على السير فقط ؟
وحتى لو كان ذلك صحيحا , ألا توجد دوافع أقوى وأهم , تجعل موقفنا أكثر قوة إذا أسندنا ظهور الشعر إليها ؟ دوافع لا تتعلق بالإبل ولا بصوت مشيها ؟ دوافع تخص الإنسان العربي نفسه ؟
بالتأكيد هناك دوافع نفسية كثيرة جعلت العربي يقول الشعر .لأن الإنسان بصفة عامة لا يبتكر ولا ينظم شعرا ولا يبدع إلا لإحساسه بأن ذلك سيشبع دوافعه ويرضي فضوله .
ألا يمكن أن تشكل التسلية وملء الفراغ دافعا جعل العربي يحدو ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال دعونا ندخل إلى الجو الذي كان العربي يعيشه وهو يحدو ,ولنعش معه اللحظات التي كان يحدو فيها إبله , ولنر أية مراع تلك التي سيذهب إليها ؟
إنها صحراء واسعة وقاسية ـ وان كانت لا تخلو من الواحات المتناثرة فيها والتي تفصل بينها مسافات شاسعة ـ يخرج بإبله وغنمه صباحا , يخرج وهو غير واثق من عودته ,فإن سلمت أنعامه من اللصوص ووحوش الصحراء , لم يسلم هو من الغزاة وقطاع الطرق والموتورين .
إذن فلديه مهام إضافية غير الرعي ,فبحكم وجوده في أطراف الحي عليه أن يكون حذرا ومتنبها لأي طارئ .
ألا يمكن أن يكون حداؤه ـ في ظل هذه الظروف القاسية ـ لتسلية النفس وقطع الوحدة ؟
وإن صح لنا جعل التسلية سببا في ظهور الحداء , فهي بالتأكيد صاحبة فضل على ظهور الشعر .
ربما كانت فكرة ربط التسلية بظهور الحداء فكرة سخيفة , وأعتقد إنها الآن لم تعد كذلك
وإذا كان ظهور الحداء بهذه الطريقة ( لحث الإبل ) هو الذي مهد لظهور الشعر , الأمرالذي يقتضي ألا نعد الحداء شعرا , فهل يعد الحداء شعرا ؟
الحداء وظهور الشعر
عندما نقرأ حداء العرب نجد أنه أشبه بالأناشيد منه بالشعر , ولكنه مع ذلك موزون بدقة متناهية , وإن وجد اختلال في وزن بعضه , فإنه لا يكفي لإعطائنا الحق في إصدار حكم عام باختلال وزنه , فمن أين جاءت العرب بهذا الوزن ؟
أضف إلى ذلك اتفاقهم على وزن واحد وهو الرجز, وهل يعقل أن يكون للصدفة دورفي اتفاق حادي اليمن مع حادي الشام , وحادي البحرين مع حادي الحجاز ......... الخ
لماذا لم يقل أحدهم حداءه على أي بحر آخر ؟ إذا كان السبب هو خفة الرجز والتي تناسب حركة الإبل والمشي والرحيل , فلماذا لم يقل ولو واحد منهم حداءه على بحر خفيف غير الرجز ؟ كمجزوء الرمل أو مجزوء البسيط مثلا ؟
فهل كان هذا الاتفاق وليد الصدفة ؟ أم أنه نتاج خبرات سابقة ؟
أما موضوع الصدفة فقد انتهينا منه قبل أن نبدأه لأنه غير منطقي أبدا , وأما موضوع الخبرة فهو معقول , ولكن الخبرة الشخصية لابد أن تستند إلى التجارب الإنسانية والخبرات السابقة , فلا يعقل أن تولد هذه الخلفية عن الشعر وتتشكل في جيل واحد ,لأنها تتطلب الاستناد إلى الخبرات السابقة , وهكذا سنصبح ممسكين بحلقة في سلسلة لاندري أين بدايتها ! والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : ألم يكن هناك شعر غير الحداء؟ حتى ولو قيل على وزن آخر ؟
بالتأكيد هناك أغراض أخرى قيل فيها الشعر سواء كان على الرجز أو غيره , والآن يفاجئنا سؤال آخر وهو ألم يوجد بحر آخر كان يقال للحداء منه ؟
إذا قلنا لا ستولد لدينا سؤال آخر وهو:
ألم يقل شعر آخر غير الحداء وعلى وزن الرجز ؟
بالتأكيد هناك شعر في أغراض أخرى قيل من بحر الرجز إذن هو أول بحر قيل منه الشعر ، وإذا أتفقنا على ذلك كانت مسألة تخصيص الرجز للحداء خاطئة , فالاختيار لا يكون إلا من متعددات , وعلى إتفاقنا سيكون قول الحداءعلى الرجز أمرا إلزاميا وحتميا بحكم عدم وجود البديل .
في هذه المسائل المعقدة أحب أن أطرح بعض الاحتمالات :
الاحتمال الأول : إن الحداء هو الأصل الذي دفع العرب إلى ابتكار الرجز ليصاغ عليه, ثم أخذ الرجز لأغراض أخرى, الأمر الذي مهد لابتكار الأوزان الأخرى .
ولنقف قليلا مع هذا الاحتمال ولنناقشه بطرح سؤال لا بد أن يظهر لمن يعتقد بصحة هذا القول , ما السابق الحداء أم الرجز ؟
من قال الحداء فهذا يتطلب وجود أوزان أخرى ظهرت قبل الرجز , ومن قال الوزن فهو أقرب وإن كان يتطلب وجود شعر غير الحداء كان يقال , ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الحداء هو أولها .
الاحتمال الثاني : هو وجود بحور أخرى مع الرجز ولكنها لم تستخدم للحداء , ويبررعدم ظهورها هو عدم وجود أغراض أخرى للشعر غير الحداء , وعليه فإن مسألة تخصيص الرجز للحداء تصبح أمرا مقبولا , شريطة ألا يقال شعر آخر غير الحداء بنفس الوزن.
ولكننا نرى أن العرب كانت تنظم من الرجز ولذلك من قال إن الرجز مخصص للحداء يكون قد قلب المسالة , لأننا نجد الرجز بعيدا عن الحداء في الفخر أو الحكم مثلا , ولكننا لا نستطيع أن نجد الحداء دون رجز ، فلا حداء من البسيط أو الكامل ...... الخ
الاحتمال الثالث :
هو أن الرجز هو الأصل الذي كان يقال عليه الشعر عموما , ثم أدى تراكم الخبرات عبر الأجيال إلى ابتكار أوزان أخرى .وأرى أن هذا الاحتمال هو الأقرب إلى المنطق ولكن لو قال قائل : لماذا الرجز وليس غيره ؟ أجبته بسؤال أخر هو : ـ
لماذا شعر العرب فقط هو الذي يخضع لقوانين الوزن والقافية ؟ لماذا لم نر ذلك عند الهنود والإغريق وغيرهم ؟
يتبع