في مكانٍ ما - على الخَارطة الجريحة – حيثُ لا بَاب ، لا نافذة، لا حِجاب ، السقفُ يمطرُ بسخاء مطراً يحيل الليل نهارا ..
جلسَ الصغيران مع أمهما ، وأنينٌ حاد يخرجُ من أعماقهما ، ليرتد إليهما مرةً أخرى يرجوهما الكف عن إصدار هذه النغمات ، هذا بالإضافة إلى زقْزقةٍ تصدرها عصافيرُ بطنهما تنتشرُ في الأفق على هيئة حبالٍ طويلة تمتد بالأخص إلى نقطة تقطنُ في فؤادِ تلك الإنسانة التي بجوارهما ، لتفتته وتذيبه .
تلك الإنسانة كم تجرعت سمومَ الأحزان ، وكم ذاقت علقمَ الوحدةِ والحرمان والفقدان، ومعانٍ أخرى لا تتسعُ لها القلوب .
تلقي نظرةَ استطلاعٍ حولها للمرة المئة ، والنتيجة : لاشيء ! لا شيء بتاتاً !!..
تذكرته ، رفيق دربها ، ونظرات الأمل التي تملأ عينيه :
- سيعم الأمان ، وستنتهي مشانقُ الظلم ، وسأشتري منزلاً يحملُنا و.....
قاطعه ابنه محمد قائلاً :
- وأنا يا أبي ، أريدك أنْ تشْتَري لي سيارة ..
- إنْ شاء الله ، وسأشتري لليلى الكبيرة دمية جميلة وسندعوها بليلى الصغيرة ..
- لمَ يا أبي ؟ هل سأكبر حينها ؟..
هكذا قالت ليلى ، كأنها أدرَكتْ الحقيقة المرة ، التي ومذ ولدت وهي تعيشُ في خضمها ..
نطقَ الأب بعد ذلك السهم الذي أصابه :
- سيكونُ بإذن الله .
لطالما لامته على أحلامه الوردية ، ونظرته المتفائلة ، هي مؤمنة ، لكنها شربت من المر ما جعلها تشعرُ أنها لن ترى اللون الأبيض في حياتها الدنيوية ، كانَ يجيب عليها في كل مرة بيقين :
- عزيزتي ، قد أكُون متفائلاً كثيرا ، لكن صدقيني هذا ما أحتاجه كي أكملَ ما تبقى .
تلقفت عقلها أفكارٌ تترى ، وأحلام تقاذفتها يمنة ويسرة ، تخيلت ما حولها أشياء جميلة ؛ نقاء ، حب ، أمان ، اجتماع .. ضرورات لم ترها عيناها أبداً ..
- أمي أنا جائع ، قالَ لها محمد لينقلها إلى واقعها من جديد ، ابتسمَت رغم
أن الموضعَ لا يناسب وقالت في نفسِها " لقد انتقلت إلي عادته "إذ بالصغير يصيحُ مجدداً و بحرقة :
- أمــــــــاه ، إني جائع ..
صمتت ، بماذا ترد ؟ من أينَ لها بالطعام ؟ ثلاثة أيام ولم يذق أي منهما طعاما ، ربما سيموتان ..
يحاصرُها ثعبانُ الحيرة ، لا تدري : هل تذهب وتترك الصغيرين هاهنا ، عرضة للأذى ..
أم هل تجلس ، وتمتطي سنامَ الانتظار ؟..
فكرت قليلاً ثم عزمت : سأذهب ، كلتا الحالتين مغامرة ، وانطلقت بعدما أوصتهما بالحرصِ والحذر ، استجدتها الصغيرة :
- أمي .. إني خائفة ، لمن تتركينا ؟..
تماسكت ، ومنعت دمعةً لها من السقوط ، قالت لهما وهي تتصنعُ الثبات :
- لا طاقة لكما بالمشي ، صدقاني .. لن أمكثَ طويلاً ، وسأجلبُ لكما مَا يسد الجوع ، فقط ، اصبرا ..
أكملت المسير ، والقلق أعاصير يوشك أن يقتلع قلبها ..
أخذت تحدث نفسها :
" لن أمكث طويلاً " وما يدريني عن ذلك ؟ .. هل سأجد مبتغاي بسرعة ، والجميع هنا متلهف إليه لأجل حياته ؟.. على الأقل ما استفدته من كذبتي سكب كمية من الاطمئنان عليهما ، مع أني أثق أنها لا تجدي ..
في الطريق ، صادفتها حاوية نفايات ، أطلت عليها ، لم ترَ شيئاً ، لا فأر ، لا جرذان ، لأنه لا طعام أساساً !! ..
تجاوزت ذلك ، وأحست بشيء تحتها " ثمة شيء داسته أقدامي " ..
نظرت إذا بجثة لامرأة ، ذُهلت ..الصدمةُ عقدت لسانها ، وجعلتها تمشي بلا وعي، اضطربت حواسُها ، وخرجَ صوتٌ من أعْماْق أعماقها : ربــــاه .. عونك !..
لم تكن أول جثة ، ولا هي بالأخيرة حتماً ، لكن الملامسة لها جعلتها تشعر بكل هذا، في ذلك الآن .. تذكرت صغاراً لها واقفين على عتبات الانتظار ، فواصلت، وقطعت مسافة إلى أن وجدت رغيفَ خبز ، فرحت به ، ضمته بشدة ، لم تتوقعْ أن تجده في وقتٍ قياسي .. وبأقصى طاقتها انطلقت إلى صغارها ..
حينما وصلت ، داهمتها الفجيعة ، ضجت مشاعرُ الحزنِ بداخلها ..
صرخت :
- مــاتت ليلى ، مـــات محمد ..
ماتَ أطْفـــــــــــالُ العراق !! ...
* * *