إنّ علمَ اللغةِ Linguistics ليس عِلمًا واحدًا ، وإنّما هو عُلومٌ مختلفةٌ تفرّعتْ عنِ الدّراسةِ العلميّةِ للغة ، بحيثُ أصبح الآن لكلِّ فرعٍ منها علماء ومتخصصون في هذا الفرع أو ذاك من هذا العلم ، بل لقد أصبح لكلِّ فرعٍ منها اليوم دراساتُهُ وأبحاثُه وكتُبُه ودوريّاتُه التي تصدرُ بالمئاتِ بل بالآلاف في شتّى أنحاء العالمِ كلّ عام ، حتى بات من العسيرِ على المتخصص في هذا العلمِ أو أحدِ فروعِه أن يتابعَ كلَّ جديدٍ يصدر في قضاياهُ وموضوعاتِه .
ولكنْ رغم اختلافِ فروعِ علمِ اللغةِ وتشعُّبِها إلا أنّ هناك صلاتٍ وثيقةً بين فروعِ هذا العلم ؛ بحيثُ لا يجد الباحثُ أوِ العالمُ في أيِّ فرعٍ من فروعِه بُدًّا من معرفةِ بقيّةِ الفروعِ الأخرى ، لكي يحقق تقدُّمًا أو يصدرَ أحكامًا عن بيّنةٍ في فرعِ تخصُّصِه . فعالمُ الأصواتِ ـ مثلا ـ لا بدّ أن يكونَ على معرفةٍ واعيةٍ ببقيّةِ الفروعِ الأخرى ، وبخاصّةٍ الصرفَ والنحوَ والدلالة ، ومثل ذلك عالمُ النحوِ لا بد له أن يعرف علمَ الأصوات والفنولوجيا والصرف والدلالة وهكذا ؛ لأنّ تحليلَ البنيةِ اللغويّة يخضعُ في نهايةِ الأمر لنظامٍ واحدٍ يجمعُ بين أنظمةِ اللغةِ الأخرى المتمثلةِ في الأصواتِ والصرفِ والنحو والدلالة .
ولكنّ تطوّرَ العلمِ في السنواتِ الأخيرة فرض على العلماءِ لونًا من التخصصِ في بعضِ فروعِ هذا العلم ، أو في فرعٍ واحدٍ من فروعِه .
..
ونتيجةً للتقدم الذي أحرزه علمُ اللغةِ والفروعُ المختلفة التي تمخّض عنها ؛ اتّفق علماءُ اللغةِ أو أغلبُهم على تقسيمِ عِلْمِ اللُّغةِ إلى فرعينِ كبيرين :
1) عِلْمُ اللُّغةِ العامُّ General Linguistics أو علمُ اللغةِ النّظري Theoretical Linguistics :
وكلاهما المقصودُ غالبا عندما نستخدم عبارة «علم اللغة» Linguistics دون كلمة عام أو نظري ، وكلاهما يدرس الظواهر اللغويّة الصّوتية والصّرفية والنحويّة والدلالية بصفةٍ أساسيّة ، وهي الظواهر التي تشتركُ فيها جميع اللغات . يُضاف إلى ذلك مناهج البحث في اللغة ، أو بعبارةٍ أخرى فروع من علم اللغة النظري ، وهي : علم اللغة التاريخي ، وعلم اللغة المقارن ، وعلم اللغة الوصفي ، وغير ذلك مما سنعرضُ له من فروع هذا العلم .
2) عِلْمُ اللُّغةِ التّطبيقيّ Applied Linguistics :
وهو يُمثِّل الفرع الثاني الكبير من فروع علمِ اللغة ، ويقوم هذا العلم على استغلال نتائج ودراسات علم اللغة العام ، أو النظري ، وتطبيقها في مجالات لُغويّة معيّنة ، كما سنرى فيما بعد .
ومعنى هذا ؛ أنّ كل فرع من فروع علم اللغة النظري يقابله بالضرورة فرع آخر تطبيقيّ انبثق عن الفرع النظري له ، ومعظم هذه الفروع التطبيقية لم يعرفْها التفكير اللغوي التقليدي على النحو الذي هي عليه الآن ، بعكس فروع علم اللغة النظري ، الذي عرفتِ الدراسات اللغوية التقليدية جوانب فيه ، ولكن بغير المنهج المتبع في دراستها اليوم .
وفيما يلي سنقفُ أمامَ كلِّ فرعٍ من فروع علم اللغة النظري ، وعلم اللغة التطبيقي ، حيث نعرِّفُ كلَّ فرعٍ منها تعريفًا موجزًا مختصرًا ؛ لنعرفَ حدوده ، ومجاله ، ولكي نرى الصورة العامّة لعلم اللغة كما هي عليها الآن ، ومن ثم ندرك شبكة العلاقات التي تربط بين فروع هذا العلم المختلفة .