هناك صدر بيت لأبي مُحَسّد المتنبي - الذي ملأ الدنيا وشغل الناس - ربما يختزلُ ما عليه العلم والثقافة في أيام الناس هذه ، وهو صالح – في ظني – لتُدرك به علّةُ هذا التهافت الذي أصاب الثقافة العربية منذ حين غير قريب ، حين يرقى إلى سقوط بغداد على أيدي المغول ، وسقوط غرناطة على أيدي الأوربيين في حروب الاسترداد الإسبانية كما يحلو لهم تسميتها . فمنذ ذلك الحين تحولت جمهرة من أهل الثقافة - أو مدعيها - إلى ارتياد موائدَ الآخرين ، يقنعون منها بالقليل تارة ، أو يرضون بفتاتها تارات ، فيغيرون على ما لغيرهم آخذين إياه كما هو حيناً ، أو يعيدون لوكه ليبدو أنّه صنيعة فكرهم أحياناً أخرى - وما هم بذاك ولا إليه - أو يسترضون به ذا منصب أو جاه ، أو هكذا يظنون ، وربما ما خطر ذاك ببال الذي يحطبون في حبله ، و يجهدون أنفسهم لإرضائه . حدث ذلك منذ أن ترك الناس النصفة ، وأرادوا حوز كل شيء وإحرازه، فأضاعوا كل شيء وبدّدوه .
وذلك البيت من داليّته التي هجا بها كافوراً غلام الإخشيد الذي انقضّ - في غفلة من الزمن - على السلطة بعد سيده ، وصياً على ابنه . ولم أكن أظنّ أنّ ما فعله كافور - الذي سعى إلى شرب كأس التزيي بزي الملوك - حكًرٌ عليه ، بقدر ما هو ديدنُ أمثاله من ذوي النفوس الصغيرة الذين تقصّر بهم همّة ليست لهم ، ولا هم إليها ، وإنّما هم يعتاشون على زاد غيرهم ، طلباً لسلطة ، أو جاهٍ ، أو منصِب ، أو ..... ، وذلك هو قول المتنبي :
جَوعانُ يأكلُ من زادي ، ويمسكني= لكي يُقالَ : عظيمُ القدرِ مقصودُ
و لا أدري لِمَ أصرّ الشُّرّاح على أنّ مراد المتنبي - وإن كنت لا أنكره إنكاراً بيناً - أن يقول : " هو يمسكني عنده كي يتجمّل بقصدي إيّاه ، فيقول الناسُ : إنّه عظيم القدر يقصده المتنبي مادحاً "(1) . فما الذي يريده مثلُ كافور - وقد ملك الزمان - بشعر شاعر تتقاذفه البلاد كما تتقاذفه مطامحه ، فهو على قلق كأنّ الريح تحته ؟ (2) . ويبدو لي - بداء - يقرب من اليقين أنّ المتنبي ما أراد إلا أولئك المنتحلين لكل أمرٍ في غير موضع ، يزينونه ، وينمقونه بكلمة من هنا وأخرى من هناك ، بما يُسعد الحال ، وما ذاك منهم إلا سعيّاً وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء .
وللحديث صلة بحول الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
(2)