رسم الخليل خارطة الإيقاع العروضي للشعر جاعلا كل ما تألف من حرفين: متحرك فساكن، سببا خفيفا (نرمز له بالرمز س)، وما تألف من ثلاثة حروف: متحرك فساكن فمتحرك، وتدا مجموعا (نرمز له بالرمز و ).
وقد لاحظ الخليل في كل البحور، التي خبر تضاريسها، أنه لا يفصل بين كل وتدين إلا سبب أو سببان على الأكثر، حتى إذا وصل إلى بحري المنسرح والخفيف لاحظ أن الأسباب والأوتاد تسلك فيهما مسلكا يفرض عليه وجود ثلاثة أسباب متوالية:
البحر المنسرح:
إن ابن زيد لا زال مستعملا .......... للخير يفشي في مصره العرفا
س س و س س س و س و
وبالتالي فلا بد أن يكون له الشكل التفعيلي التالي:
مستفعلن مفعولاتنا فاعلن
وكذلك في البحر الخفيف:
حل أهلي ما بين درنا فبادو ............ لى وحلت علوية بالسخال
س و س س س و س و س
وله الشكل التفعيلي التالي:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
غير أنه سرعان ما تبدى له وهمية توالي هذه الأسباب الثلاثة في المنسرح والخفيف عندما وجد عبر استقرائه المعمق للشعر هذين الشاهدين:
في المنسرح:
منازل | عفاهنَّ | بذي الأرا ..... كِ كل وا | بل مسبـ|ـل هطل
س س و س س (و) س س و
فجعل له الشكل التالي المعبر عن زحاف الخبن في تفاعيله كافة:
متفعلن معولات متفعلن
وفي الخفيف:
يا عمير | ما تظهر | من هواك ........ أو تجن يستكثر حين يبدو
س و س س (و) س س و س
وجعل له الشكل التفعيلي المعبر عن زحاف الكف في جميع تفاعيله:
فاعلات مستفع ل فاعلات
( س = سبب خفيف، و = وتد مجموع، (و) = وتد مفروق)
هنا تأكد الخليل من أن ما يتوهمه البعض سببا ثالثا (في متوالية الأسباب) ما هو إلا جزءا من وتد مفروق بدليل وقوع الخبن على مستفعلن الثالثة في المنسرح، ووقوع الكف على (مستفع لن) الثانية والخامسة في الخفيف .
وهنا أيضا يحق لنا أن نحاكم الخليل في أخذه بهذين الشاهدين النادرين اللذين لا يوجد مثيل لهما في الشعر الذي عرف منذ الجاهلية وحتى عصر الخليل. فإذا أخذنا بأن البيتين هما مما استقرأه الخليل من شعر الجاهلية المغرق في القدم، جاز لنا ألا نأخذ بهما فيما استحدث من الشعر، وأن نجعل قواعده في المعاقبة والمراقبة مقتصرة على مرحلة معينة من الشعر في العصرين الجاهلي والأموي لا يتعداهما أثرها.
وقد كنا نحسب أن الجوهري قد أنكر الوتد المفروق حينما رفض التفعيلة (مفعولات)، إلا أننا الآن نجد هذا الإنكار مزيفا، وأن كل ما فعله الجوهري من رفض للوتد المفروق في الخفيف إنما كان رفضا سطحيا لا قيمة له. فنحن نجده في رفضه لـ(مفعولات) يقبل بها إن جاءت على وزن (مستفعنلُ) !!! فأي فرق، إذن، بين هاتين التفعيلتين يبقى حين ننظر إلى بنائهما السبب وتدي (س س (و)).
لكن الجوهري، وهذا هو الغريب، يأتي (ولا نعلم من أين) بشاهد فيه طي مستفعلن في الخفيف ، وهو ما يعني وجود الوتد المجموع فيه بشكل سافر بدلا من الوتد المفروق، قال:
ظفرت نفسي بمُنى مطلوبِ * فعلالاتِ الفرَسِ اليعبوبِ
ثم علق بقوله: "وكان الخليل لا يجيز طيه فيهما، ويقول لأن رابعه ساكن الوتد في الدائرة، والوتد لا يزاحف في حشو البيت".
فأي تناقض هذا الذي نجده عند الجوهري في اعترافه بالوتد المفروق في شاهد، وتمسكه بالوتد المجموع في شاهد آخر ، وأي عبث في المفاهيم التي حددها الخليل للأوتاد المفروقة والمجموعة؟!
وعودة إلى ملاحظة الأسباب المتوالية الثلاث في بحور أخرى، كالمضارع، وشاهده:
دعاني إلى سعاد ......... دواعي هوى سعاد
و س س س و س
مفاعيل فاعلاتن
أما الخليل فقد قاس بناء هذا البحر على نحو ما بنى به بحري المنسرح والخفيف من الأسباب والأوتاد في الدائرة التي تجمعهم جميعا:
و س س (و) س س
مفاعيل فاع لاتن
وذلك على الرغم من أن تفعيلته الثانية لم توجد مطوية أبدا، وبالتالي فليس ثمة ما يمنع اعتبار السبب ما قبل الأخير من أن يكون جزءا من وتد مجموع.
ومرة ثانية ، يقفز علينا الجوهري بشاهد الخبن الذي يفتت وتد الخليل تفتيتا تاما من ناحية ، ومن ناحية أخرى ينتهك به قاعدة عندنا للزحاف في الأسباب الثلاثة المتوالية، هي بسط قبض بسط، فيقوم بما أسماه خبن فاعلاتن فيه، قال:
وأضياف طرقونا * قريناهم بحجان
ثم يقول: "وكان الخليل لا يجيزه في المضارع خاصة، ويقول: لأن فاع وتد مفروق ، وأصله في الدائرة: لات مس تف . قال (وهذا كلام الخليل): والأوتاد لا تزاحف في حشو البيت، لأنه بنى هذه الدائرة على مستفعلن مستفعلن مفعولات، وفك المضارع منها من أول الوتد الثاني".
كأن الجوهري لم يزاحف وتد المتدارك ليشتق منه الخبب !