بسم الله الرحمان الرحيم, والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين, محمد النبي خاتم الأنبياء والمرسلين, والصلاة والسلام على إخوانه الموحدين من أنبياء وَرُسُلٍ وصحابة وتابعين, وعلى كل مسلم صالح أمين, مؤمن بالله ورسله وكتبه وملائكته وباليوم الآخر, وبالقدر خيره وشره.
أما بعد, فلا أخفي عليك أني قد تنفست الصعداء خلال هذه الأسابيع الأخيرة, وكان هذا بالخصوص إثر انتهائيَّ دراسة ما أعده إلى اللحظة كفايةً مؤقتةً لمن أراد معرفة تأريخ الفراعنة, وصحيح أني لم أقمْ بعبور آخر عصور تلك الحقبة التاريخية من تأريخ البشر الجاهلي, بما يستوجبه الذكر من بيان واختصار, أو بما يكفي حتى من شرح واستفسار, إلا أن َنِيَّةَ العودةِ مرة أخرى ـ لنفض غبار هاتيك العصور الفانية ـ نيةٌٌ لا تفارقني ظلالها أينما ألقيت مراسيَّ وحيثما رزن بي المكان, وهي بلا شك مسألةٌ ستمسي قناديلها عالقةً بالقدر إلى أن يشاء العزيز المتعال.
هذا وإني لأرجو من العالي الكبير أن يفتح أمامي آفاق قريبة, علني أحققَ في نهاية المطاف ما يتطلبه هذا المشروع من بحث حصيف, ومطالعة مرجعية وروائية, وناهيك عن ترصيص لكبرى الأحداث التي سَأرَبُ بنقلها ـ من الفرنسية إلى العربية ـ بلغة سَلِسَةٍ مفهومة, و هذا قد لا يعني بالضرورة ركود عزيمتي, أو جمود إرادتي في طلب العلم النافع والمزيد منه أكثر فأكثر.
كلا, والله! لن أسقط من حسابي غداء الروح, تلكم المعرفة التي يحي به الأحياء وهم يعلمون, والحكمة التي إن قلَّ أصحابها كثُر الأفدام وانتشروا هنا وهناك انتشار الجراد في الخضراء والبيداء... يعتون في الأرض فسادا ويظنون أنهم يحسنون صنعا.
أكرر و المكرر أحلى, و أقول "إنه ليس لي أن أكون على شاكلة الفدم الجهول! مادامت فطرتي تعتقل أنفاسي في معقلها, داخل جوفي في آمان الله... تحبسها لفية ولا تطلق سراحها و لا تحررها أبدا, إلا بعد لحظة إملاءها ـ على جهازي التنفسي ـ أمر الاستعداد والتوثب لما هو بعد جهد ما من الجهود أو حركة ما من الحركات" وللعلم فالأمرُ هنا بحد ذاته لا ينحرف عن نظام كيانِ البشرِ ولا عن مسارِ عريكةِ الآدميِّ, الذي حكم الله عليه وَبَنِيهِ بالكدح وطلب الرزق الحلال.
هنالك في الأجداب القاحلة فلاحٌ يعمل في حقله من بزوغ الفجر إلى ظهور الضحى, وهنا في القيعان فلاح لا يشرع في عمله إلا في صدر الضحى, لكنه لقدرته عن الأول ـ وصبره وحبه لعمله وصلاحية بيئته ـ يستمر يعمل بوفاء ومهنية عاليين...هكذا, إنه يعمل في حقل عبادة مثمرة ولا يتوقف عنها إلا من أجل عبادة أخرى, وإنه ليزال لنتقل من عبادة لأخرى حتى يرى الشمس تأفل من فوقه, وتأوي إلى جحرها وحصنها الحصين.
وسواء كان العمل في مجال الفلاحة أو الزراعة أو الصناعة أو في غيرها من مجالات العطاء, فالأصل المنصوص عليه عقلا وشرعا لا يقترن بمجال العمل أو قدرة المرء على القيام به وحسن أداءه, كما أنه لا يقاس أيضا بالإنتاج الإجمالي, قليلا كان أو كثيرا, لكنه يقترن ويقاس بالحلال والحرام, مما يعنى بوضوح أن حكم الله حكم شامل عام, لا يخص فئة من الناس أو جماعة دون أخرى, وإنْ عَدَّ بعض الزائغين المتواكلين أنفسهم من الخواص ابتغاء التملص من الفرائض والواجبات الشرعية, وذلك لأن الدين لله وحده, تستوي فيها جميع الطوائف والفئات, عجمية كانت أو عربية.
وعلى ما سلف ذكره من الكلام , فمن الضروري أن نفقه أن حكم الله جل تعالى لا يأخذ بالاعتبار شأن الفرد الخاص بقدر ما يأخذ شأنه العام, وشأن الفرد العام هذا, قد عُلِمَ أنه في عالم الواقع يختلف بحسب الأفراد والأغراض, وبحسب البيئات التي تتم فيها الأعمال, شرا باطلا كانت أو خيرا حقا.
أخي محمد, لك مني الآن تحية طهر وصفاء, تحية كان لِزماً عليَّ أن أمدَّ أصابعي إلى السماء! عل أن أكُ أول من عثر عليها صافية بيضاء.
آهٍ ثم آه, لو أنك رأيتني لحظتها يا محمد, وأنا أمتُ إلى تلك الدرقاء, الشماء العلياء بالمدح والثناء, لقلتَ: " إنه لا يليق بالكيِّسِ أن يستجير بالرمضاء... عُدْ إلى رشدك ودع ما للأهكاء للأهكاء". نعم إنه لو كنت شاهدتني لحظتها وأنا أجهز قوافل الزهراء بخطاباتي, لعلمت يقينا أني إنما كنت أدعو الجوزاء ـ شعرا ونثرا ولحنا ـ إلى هجرة صبايا الفضاء, و لأيقنت عندها عِلماً أن الجوزاء لتاركة إياهن تركا واحدا, وهذا فقط من أجل أن تقبس من أنفاس تحيتي النورانية ما لو وصفه الواصفون لما وصفوه إلا على أجلادهم البضة أو صفائح صدورهم الناعمة الفذة.... وهل أنفاسها يا محمد إلا هذه المفردات المهموسة المغزى ؟ أو تلك الأجسام الجلية المعنى, نعم تلك هي!! من لولاها لما اقتحيت فضل عيادة الجوزاء, و لا نلت شرف وصف تحية تنهر من حبر محبرة وشجباء, تحية ثار لمعانها على الدرقاء ثورة عمياء, فأذاقها على مرأى الأنواء طعنته النجلاء, وحينها أشرقت شمس الأمل الجديد, وغابت سُدُمُ الوهنِ السوداء.
صديقي الفاضل, إن تحيتي لا تقل غضارة من نسمة عليلة شريفة, باسقة جليلة عريقة... مميزة هي من دون النسائم! قلَّ أن تجدها بين تمائم الأولياء؟ وقل أن ترَأرَأ الأقلام بأعناقها المشرئبة إلا ووجدت نفسها مقفرة المادة, عاجزة تماما أن تعبر عن طربها الأخذ, ولذا تجدها تخجل وأيادي الأدباء كلما قدِمت على وصف مقام من مقاماتها, وناهيك أنها لتقشعر كِيعا وفرقا من نسج نعت من نعوتها, في أسلوب عارض أو سياق من سياقات الكلام. فلا عجبَ إذا إنْ هي كما تسمع وترى, و ذلك لأنها لا تكاد تعبر عن غير الأخوة النفيسة, بل إنها الأخوة الصفية النقية التي حبذا أن تظل بين أبناء هذه الأمة خير عهد تعاهدوا عليه, غير نابذين له في العسر و لا ناقضين له في اليسر.
وبعد التحية يا صديقي المحترم, فها هو شعاع الاعتقادُ الفكريُّ يظهر فجأة بملامح الفرح والسرور! وكأني به هذه المرة يمسك طبقا من الاستحثاث بيمناه, وصحنا من الترغيب والتشجيع بيسراه. لست أدري صراحة؟ لكنه قد يسألني هذه المرة ذكر مسألة قُلْ, إن راق لك, أنها تتصل بالمعاملات حيناً! وأنها حينا آخر تكاد برمتها تصاهر هوامش الواقع, لما تكمنه بين طياتها من حجج ودلالات مكنونة... تلكم المسألة والقضية هي الخاطرة التي خطرت في كياني وخالجت آفاقها ملاحك روحي, حتى أصبحت تجري بجوفي مجرى الدماء في الأعصاب.
فكرتي تلك! نعم صدقني أخي ولا تتردد!! فإنها قد لاذت إليها عواطفي وانطلقت من ورائها الإرادة في اندفاع شديد غير متهور و لا عات, حتى كأن غاية مجمل هذه الإرادة تنتهي عند حد إبقاءها لنفسها والاحتفاظ بها بما لا يبيحها لغيرها... و إنها لترتجيها وتحرص كل الحرص على أن تنمقها على هيئة فكرة مسلمَّة من العوص المهموم, مؤمنة من الغوص المغموم, وهذا حتى و كي تكون فكرتي ضآمة للغير, أو وحياً لا ينفك أن يساير الصواب من بعض أجزاءه العاهنة, الثابتة بمقاييس العقل والواقع.
أخي محمد, إنه لأعتقد فيما يمتُّ بالعلم والجهل: أن الصلة بينهما صلةُ قديمةُ قدمِ الدهرِ, أزليةُ كضيء النجم. فلا غرابة إذاً أن الناس يحبون العلم, بل ويبتسمون لحامليه بين جوانحهم حمل الأم للجنين بين أحشائها, ولا يذهلنَّك كذلك شأنهم منهم حين يفيضون عليهم بالاحترام والتبجيل, قبل الدعم بالأثمان وصنوف الإحسان, وحسب أهل العلم من العلم شرفا: أن الناس يعظمونهم بين سائر الناس أجمعين, كما أنهم يكنون لهم ـ تحت أجلاد الشارة والهيئة المظهرية ـ من المودة مثلما يكنه الآباء لآبائهم.
أمعن ترى أن حال عقلاء الناس مع ذوي العرفان هو هذا الحال, وعي أن حالهم مع الجاهل كحال الذي يزور ولا يزار... إنهم لا يأبهون به ولا يرفعون له سكنا, ولذا ولأسباب جمة أخرى تجد بعض النبهاء يحدق وجه الجاهل بامتعاض, يتفرس رسمه ويمرق لونه كما لو كان وجهه وجه مجرم من المجرمين أو المُطَالَبِ بهم في كل مكان, وكأني بذا النبيه يشير فجأة بالبنان قائلا " أيها الناس أنظروا ها هناك, إنه الداء العضال والسم الناقع " تحذيرا منه لإخوانه أن يتخذوه خليلا, وتشجيعا لهم أن ينصروه بالعلم بعد إبغاضه لما هو عليه من أسقام الجهل المزمنة. هذا هو الأصل العتيق في تعامل المجتمع مع هاذين النقيضين, إلا أن هناك ثمة نقطة يجتمع حولها كل الأفراد, سواء عُدُّوا من الجاهلين أو من العارفين, وهذه النقطة هي مجرد نقطة جزئية من الناحية العقلية حينما يكون العلم مقارنا بالعلم, أما من الناحية الفطرية فالنقطة نقطة كلية مطلقة, وإنها لكذلك! وليس لها إلا أن تكون على هذه الصورة, وذلك لأن البديهة هي التي تصنفها داخل أذهاننا و تستحيلها إلى الكلية المطلقة السالف ذكرها, ولكنها تبقى نقطة جزئية بعد دراستها بمجاهر الدقة, التي طالما طبعتها بهذا الطابع, وعلى كل حال فالشاهد هو أن البداهة والدراسة يلتقيان في خضم هائج لينجبا فكرة قلَّ لك أن تسمع بمثلها, وهذا خاصة عندما يخبرك صاحبها عنها, معلناً في مقاله هذا وفي يومه هذا, بجرأة لا سابق له بها: أن العلم والجهل فيما يتصل بالفطرة سيان.
العلم والجهل سيان, لكن إنْ هما كذلك فليس إلا على اعتبار أن الفطرة هي النوة التي تنسج من فوقها الأبدان ومن تحتها الأرواح...وهذا معناه أن الجهل والعلم يتصلان لا محالة بفطرة الآدمي, فإذا كانت فطرته سليمة فهو يتقزز من غبار جهل نفسه ويفعل ما بوسعه من أجل نفضها, أما صاحب الفطرة السقيمة فهو لا يعبأ بالعلم و بالتالي لا يهتم بأبوابه أكثر مما يهتم بأكله وشرابه وملابسه.
إنك لا بد أن ترى تدخل الله بقدره النافد وقضاءه ـ من خلال قدره ـ للأول أن يتعلم ويتحرر إلى حد ما من عُقُلِ الجهل, ثم قضاءه للثاني أن يرمى في أجباب الجهل الجافّّة ـ بين حَصَيات الضحضاح الراكد ـ فيكون زاده من العلم بقدر ماء البئر من الضحضاح. وصحيح أنه تعالى من هذا الوجه قد رفع درجة الأول على الثاني بما لا يدع مجالا للشك, ولا ريب أن هدا الفضل فضل منه سبحانه, وهو منة منه محسوسة في أفهامنا إلى حد اليقين, ودليل ذلك أننا نشاهد ثمار هذا الفضل في واقعنا باستمرار, فليس للمتخلف الجهول إذًا أن يسعى سعي الحية الرقطاء وراء ما مثله مكانة العالم العلياء, وخاصة بعد معرفة هذا الكلام... أيسعى و سعيه سعي فاشل بل و باطل من أول باكورته؟ الجواب : كلا.
وهنا يأتي السؤال ويعرض نفسه بعبارة: هل لنا قياس مفهوم الفضيلة بمقياسي العلم والجهل دون بقية المقاييس الأخرى ؟ ثم هل من الحكمة أن نطلق أعنة ألسنتنا عند مقارنة الأعيان بهاذين المقياسين الجائرين أو بذلك المفهوم العام دون المفاهيم الأخرى ؟ أقول كلا مرة أخرى, إنه ليس لنا والله فعل هذا, مادمنا نؤمن أن التجربةَ المعنويةَ قد أثبتت قدرة الإنسان على الإحساس وإثبات الذات بالمعنويات وبينت أنهما شيئان ملزمان للآدمي, لا في كثلة أفراد من بين سائر الأفراد ينحصران ولا أيضا في جماعة من الجماعات.
أخي, لا شك أن القدرة على الإحساس وإثبات النفس عاملان راسخان في أعماق الذكر و الأنثى, لثبات كل منهما ثبات الفطرة نفسها, وعلى افتراض تطورهما جدلا, فهما على أي حال من الأحوال لا يخرجان من دائرة الثبات, بقدر كاف ينال به كل منهما وصف المتطور.
نعم إنه لما كان عدم تطورهما من الحقائق الكبرى, فالحسنُ هو الحسنُ عند الرجل والمرأة وهذا بحد سواء, والقبيح هو القبيح في كل الأحوال, وأعلى مقامات الحسن تميح الحسن صفة الأحسن, وليس أدنى الحسن عندهما بالذي يميح الحسن صفة القبح فضلا عن الأقبح, وبناء على هذه البديهية فالحسن والقبيح إذاً صفتان متخلفتان من حيث المكانة والمنزلة, وقل إن شئت أن الصفتين صفتان تختلفان تماما, وهذا مما لا شك منه !وإن كانتا نابعتين من مصدر واحد. والخلاصة أنهما يضمان إلى لائحة المقاييس التي يقاس بها عند الاختيار, وسواء غابت واحدة منهما عند المقارنة أم لم تغيب فهما عند القياس يكونان دوما على حالة قياس جزم ويقين لا قياس شك وتحفظ.
أخي الكريم, لا تشكنَّ أن خيوط العلم والجهل كخيوط الثوب المحكم المتقَنِ نسجه... تداخل سلسلة من الخيوط الرقيقة تنطلق من يمين القطعة الثوبية طولا بخيوط غليظة تأتي من أعلى القطعة عرضا! وجميعها قدرٌ قدَّرَ اللهُ أن يوحد منها الإنسان على صورة يختلف رسمها, ويختلف لونها من فرد لأخر.
و واهم من لا يرى أننا على موعد بموضوع الإنسان حين يكون حديثنا في الفطرة ! ووهمه في غير محله إن جاء هنا على أساس أننا نفرق بينهما بجعل الكلي دون الجزئي وببسطهما معا تحت معنى واحد... أقول: إن الأمر في الحقيقة على خلاف وهمه, إذ أننا نرى أن الفطرة هي نوة جميع البشر على اختلافهم معتقداتهم و أهدافهم, أما جميع ما تفرع منها فهو لا يخرج عنها بشكل قطعي, سواء كان صورة مركبة أو قيمة روحية, كما أننا نرى كذلك أن الفطرة بادي ذي بدء أمر ثابت متطور فعاهن كما هو شأن الإنسان , وهي تلك النوة التي لن يستطيع أحد أن يغير كنهها, مهما فعل أو حاول أن يفعل, إذ أنها في آخر المطاف تعود إلى أصلها الرسيس, وهذا بغض النظر عن الانحراف الذي قد يشوبها أحيانا وبالرغم أيضا من الضباب الذي يشين صفوها الأصيل أحيانا أخرى.
إن شبح الفارق بين العلماء والجهلاء شبح لا وزن له, وهو في الوجود ليكاد على وجه العموم أن يماثل الغول في وجوده! وجود بلا وجود, لا متصل بالحياة هو ولا منفصل عنها تماما. إننا لو تمعنا أمر الجاهل والعالم ـ بأنظار العقل السليم لا بأبصار من حديد ـ لانقشع لنا شأنهما على حقيقته الجوهرية, لا على ما يبدو لنا في أول وهلة أنه حقيقة حتمية, فالعالم والجاهل من حيث الواقع الحسي وفقه البدائه والمعلومات يستويان, وهما أمام المنظر البهيج والورد الشذي المرتَّج والظل الواسع الفج شريجان بل و مماثلان, كما أنهما لا يختلفان في وصف الوجه الجبل بالوجه الجبل, وأنف العجل بأنف العجل ,وهذا يعني أنهما لا يختلفان فيما يتصل بالقدرة على الإحساس في المواقف المعينة واللامعينة, وناهيك عن تقارب أحاسيس كل منهما أمام المجودات من نبات وحيوان وجماد, وعلى هذا أضف كذلك قدراتهما الفعالة لتمحيص النفس بالجهد وإمكانياتهما لبلوغ أسمى المقامات . هذا بالنسبة للمعلومات بصفة إجمالية, أما فيما يخص ما أسميه أنا بفن المصطلحات ـ الذي نجده في مختلف العلوم والفنون ـ فكلمتي فيه أنه كنز ليس للجهلاء فيه من نصيب, ولا أن يطمعوا فيه بمطمعة أدنى الحشرات, ومجرد التقاءهم مع العلماء في غير جزئية واحدة من جزئيات الالتقاء أمر لا يفيد طماعيتهم فيه بقدر ما لا يفيد الشراب الطُسأة, ولك إن شئت أن تقول أنهم لا يملكون من هذا الفن قدر ما يهبهم من الشرف ما وُهِبَهُ العارفون منه, والجهلاء من هذه النبذة أو الناحية دون العلماء بالإجماع, ودليل ذلك أن الأخصائيين هم الذين يرمِّمُون مختلف جوانب هذا المجال الرحب, وهم كذلك الذين يرعونه حق رعايته ويتولون حفظ تطوراته.
اعتبر بارك الله فيك فن المصطلحات بعين المعتبر! وعي أنه مجال مهم وأنَّ آفاقه أفاق رسيسة عاهنة... إنه يتيح العارف فرصة الإبداع مرة, ومرة أخرى فرصة الإنتاج في حقله الخاص بثقة وفعالية . وبأنه ينبغي رزْنَ أهميته بموازين القدر العالي, فلا تستغربن أن ترى من المتخصصين أديبا أو شاعرا متألقا وهو يعرض ـ من منصته على القارئ ـ لغته السلسة وبلاغته الساحرة, يحليها له بالنقوش المجازية, ويلحنها على هيئة قصيدة ذات إيقاع شجي وعزف سجي بديع, يعبر بواسطتها عما خالج صدر الجاهل وناب عقله, وناهيك عن وصفه بها نفس المنظر الذي يراه والجاهل بأوصاف نعم هي! أوصاف, أنى للجاهل أن يأتي بمثلها؟ ...إنها رموز لغة ناذرة, وصاحبها بلاغي حصيف وصاحب روح مدمنة على دقة البيان.
إن حقيقة الخلاف بين العلماء والجهلاء حقيقة كامنة في ثنايا ما اعتاده المعتادون وصاروا يعجون باسمه كلما اجتمعوا و عزموا على مقارنة المتعاكسات, فهم ـ وهذا ديدانهم الموروث ـ لا يقيمون وزنا أيا كان هذا الوزن لجزئيات الالتقاء العامة, بينما نجدهم دوما يهشون بألسنهم على كل جزئية تفصل بين المقارَنَيْنِ, كأنما ليس هناك من جزئيات صحيحة سواها. هذا وقد يلاحظ على هؤلاء الظلمة أيضا أنهم إن قارنوا لا يقارنون إلا بين المتعاكسات المضادة من جهل وعلم, أو من أبيض وأسود أو من ظاهر وباطن وهلم جرّا, أما أن تجدهم يقارنون بين المماثلات من حسن وحسن ومن قبيح وقبيح ومن نفيس ونفيس فلا! مع أن عدد نقاط الافتراق بين المماثلات قد يفوق أحيانا عدد نقاط الالتقاء والمشابهة بينها وبين المضادات.... جزئيات كانت هذه النقاط أو كليات.
إنني أرى أن فائدة التحليل الفكري الدقيق ـ إنْ جدواه عين جدوى الإحساس الفطري ـ على غير عهد بالواقع! فهل الغاية ـ يا أصحاب المصطلحات ـ لا تُمْنَحُ صفة الغاية إلا إذا ألغيت جميع وسائل الطلب, ما عدا وسيلة واحدة أو وسيلتين, اجتمعتم ومن يحسنون لحن القول على جعلهما قاعدة معصومة, تصطادون بها رؤوس الأخطاء وأذيال السقطات.
الحياة الجسدية عندي لا يمكن أن تتم إلا بحياة الروح, وهذا بغض النظر عن هيئة الجسد العامة, فلا ضعف الجسد بمن يحرم الجسد من الحياة مادامت روحه ترشف الحياة رشفا, وتتجرع الأمل صبوحا و غبوقا. و يبدو أن حتف الجسد العريض وهلاكه أمر محتوم ظاهرا, وهو القائم أصلا على بناء عضلي فاره, ولا عجب أن يكون الحتف نصيب جسدٍ رُبِّيَّ بأصناف الأطعمة وشتى ألوان الأشربة: متى علم أن روح هذا الجسد لم تحظِي بمثل ما حُظي به هو, فلا حركاته إذاً بالدالة على الحياة بمعناها الواسع الشامل, ولا سرعة تنفيذه للأوامر بالتي تعني معنىً ما من معاني الحياة الحقة...إنه لا هذا ولا تلك بالحياة الصحيحة التي تستحق أن نسجل أمجادها... ومن هنا فقط يمكن أن نفصل بين الجهل والعلم, إذ أن الجهل بالفن المعين يعني ابتعاد الإنسان عن مرغوبه معنويا كان أو حسيا, أما العلم به فهو إن فاد فلابد أن يفيد أن حياة الإنسان لا تصل ذروتها إلا بنيل هذا المرغوب, و لكل جاهل بهذا الحقيقة الجوهرية نقص من الحياة الروحية, وجهل بجوهر ينبوع طالما اعتاد الناس أن يترددوا حوله دون أن يُعلم هدفهم من ذلك.