استفتاء كردستان هو الحدث السياسي الأكبر في هذه الآونة وهو الذي أبان عن رغبة الشعوب الكردية جميعا في إقامة وطن كردي للأكراد ، وهو ما يقفز بالذهن مباشرة إلى حلم يهود في إقامة وطن قومي أو كيان عنصري وظيفي يحقق أهداف النظام الدولي أو القوى العظمى التي تهيمن عليه ، فكلا الشعبين ، الكردي واليهودي ، يشكو ، كما يقول بعض الفضلاء ، من العزلة الثقافية في محيط عَرَبِيٍّ غالب وهو ، أيضا ، ما تشعر به إيران ذات النَّزْعَةِ الْفَارِسِيَّةِ فَثَمَّ عُزْلَةٌ ثَقَافِيَّةٌ وثم ثأر تاريخي يزيد في المثال الفارسي وإن كان الجميع يشكو من العزلة آنفة الذكر وهو ما يجعلهم أقرب إلى التواصل واضرب له مثلا بثلاثة وافدين على مجتمع جديد يخالف عن ثقافتهم ولسانهم فلئن اختلفوا آنذاك فكل واحد منهم له ثقافته الخاصة إلا أن ثم ما يجمع بينهم وهو الإحساس بالغربة وهو ما يجعلهم أقرب إلى التَّوَاصل ، وهو ما يَسْتَثْمِرُهُ الغرب في تَقْوِيَةِ هذه الأقليات ليستخدمها في السيطرة على الأغلبية بأحزمة سياسية تكونها هذه الأقليات فهي أطواق تحوط الأغلبية وحول دون تمددها خارج نطاق معين ، فضلا عما تُثِيرُهُ هذه الأقليات من القلاقل التي تُفْضِي في أحيان كثيرة إلى انفجار الكيانات السياسية الهشة التي تَضُمُّهَا ، وقد بلغ التَّوَاصل بين القيادات اليهودية والقيادات الكردية كل مَبْلَغٍ وهو أمر لا تنكره القيادة الحالية قيادة مسعود البرزاني ومن قبله أبيه مصطفى ، كما ينوه بعض الباحثين ، فكان كيان يهود من أصدقاء العائلة البرزانية ، فظروف النشأة واحدة ، حاجة الغرب إلى كيان وظيفي يحقق أهدافه في مرحلة من مراحل العمل السياسي والعسكري ، فكانت ولادة الكيان اليهودي في الأرض المقدسة إذ وَافَقَ مصالح مركبة للنظام الدولي في إعادة رسم الخريطة الإقليمية بعد انسحاب الاحتلال القديم ، الاحتلال البريطاني الاستعماري المباشر الذي رام عمارة الشرق على بُنْيَانٍ يحقق مصالح الغرب عن طريق فرض الحماية العسكرية المباشرة مع استعمال أدوات محلية تُحْكِمُ بها بريطانيا السيطرة على دول المنطقة فلم يعد الاحتلال ، كما يقول بعض الفضلاء ، احتلالا مباشرا فجا هدفه تخريب العمران وانتهاب الثروات بل نجح في وضع مخطط كامل لاستعمار البلاد المحتلة ، وتحويلها إلى كيانات وظيفية تابعة ، فَكَانَ انسحاب بريطانيا من المنطقة بعد رعاية الكيان الوظيفي الجديد وهو الكيان اليهودي الذي انْتَقَلَتْ كفالته كسائر المجاميع الوظيفية الفاعلة في المنطقة من الكفالة البريطانية إلى الكفالة الأمريكية مع مشاركة الاتحاد السوفييتي في الإدارة ، ولو كبديل تلجأ إليه الأنظمة إذا أرادت التمنع من السيد الأمريكي ! فلا تجد فراشا آخر سوى الفراش السوفييتي ، فهي تنتقل من فراش إلى آخر ، إذ تجد فيه من الدفء ما لا تجد في الأول في إطار سياسة جديدة أرست قواعدها أمريكا فلم تكن تحالفاتها في الجملة تحالفات راسخة كالتحالفات الكلاسيكية القديمة ، كتحالف بريطانيا أو رعايتها المباشرة لدول الخليج ، فبريطانيا ترتبط بها ارتباطا وثيقا بوصفها الدولة الْمِنْشَئَةَ والراعية لهذه الدول التي تشبه أن تكون ، أيضا ، مجموعات وظيفية تكونت نِتَاجَ تَفَاعُلٍ مركب لمصالح وَقِيَمٍ عَالَمِيَّةٍ جديدة تم استثمارها في هذا المشهد السياسي المعقَّد ، فكانت المصلحة البريطانية آنذاك تَقْضِي بإنشاء هذه الكيانات الوظيفية في الشرق المسلم فهي أدوات التقويض للكيان السياسي الإسلامي الجامع ، الكيان العثماني ، وهو ما اسْتَثْمَرَ مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون ، ومنها مبدأ الحق في تقرير المصير لمن شاء النظام الدولي له أن يقرر مصيره ، فلا يقرر مصيره إلا من تدعمه القوى العظمى ليحقق استقلاله إذ يوافق ذلك مصالح النظام الدولي فإن خالف عنها فليس له هذا الحق ، فالشعوب العربية مطلع الحرب العالمية الأولى لها حق تقرير مصيرها الذي اختارته القوى العظمى ! ، وهو حق الانفصال عن الدولة العثمانية ، الكيان الإسلامي السياسي الجامع ، فَلَهَا الحق في ذلك ، ولها الحق أن تحمل السلاح تحت قيادة لورانس العرب ، ضابط الاستخبارات البريطاني ! ، فَلَهَا الحق أن تطعن دولة الخلافة تحت قيادة بريطانيا مع وعد سَامٍ بكيان عربي جامع ، فصاحب الجلالة ، ملك بريطانيا ، لن يمانع في استبدال الخلافة العربية الخارجة من دوحة النبوة بالخلافة العثمانية العتيقة ، فاستثمرت بريطانيا مبدأ حق تقرير المصير للشعوب ، اسْتَثْمَرَتْهُ أن تُفَتِّتَ العالم الإسلامي فتحوله إلى شظايا جغرافية لا تحقق معيار الدولة إلا وفق المنظور الغربي ، بل وليتها تضاهي الدولة المدنية الحديثة في الغرب ، مع استبدادها العظيم ، ولكنها على أدنى تقدير تستمد شرعيتها من الشعب ، ولو بعد تدجينه التدجين الناعم بخطاب الإعلام الخادع الذي يوهم المواطن أنه يشارك في صناعة القرار ! ، وليس له إلا اختيار ما تختاره له النخب السياسية والاقتصادية الفاعلة ، ولكنه على أدنى أحواله يختار ! ، فلا يقهر ويقمع كنظيره في الدول الوظيفية في الشرق ، فلم تكن تلك الدول ، كما تقدم ، إلا أدوات تُنَفِّذُ مخطط القوى العالمية ، وأبرزها آنذاك تفكيك الكيان الإسلامي الجامع ، ثُمَّ قمع أي حراك في الداخل يَرُومُ استعادة المجد التالد ، مجد الخلافة التي صارت مثار السخرية من النخب الوظيفية الفكرية والسياسية العلمانية فصاحبها يعيش في القرون الوسطى وهو ما تَسَلَّلَ إلى نفوس بعض من ينتسب إلى الحركة الإسلامية رضوخا لضغط الواقع فصار يتندر كما يتندر الخصم وصار يرضى بمثال الغرب السياسي فلا يرضى هو الآخر ! إلا بالدولة المدنية الحديثة مع طلائها بصبغة إسلامية باهتة تحفظ له ما تَبَقَّى من ماء الوجه إن كان ثم بقية منه ! ، ومن يخرج عن النص فيصدق وعود الغرب فهو يفرط في التفاؤل بعد ما قدم من التنازل في سذاجة مفرطة يظن صاحبها أن القوى الدولية تُوفِي بالعقد وَتَرْعَى الأمانة والعهد ! ، وهو ما ظنه الأمير فيصل ابن الشريف حسين بعد دخول الإنجليز دمشق فكان الشريك في تحرير الشام من احتلال الترك ! ، مع ما كان من الترك من استبداد عظيم استند إلى نظرية سياسية عنصرية ، هي النظرية الطورانية ضيقة الأفق التي سيطرت على مقاليد الحكم في تركيا بعد الانقلاب العسكري الناجح على السلطان عبد الحميد آخر خليفة ذي رؤية واستراتيجية بعيدة المدى وَذِي إدارك وَوَعْيٍ بِمُخَطَّطَاتِ النظام الدولي الذي كان يَتَشَكَّلُ آنذاك على أعتاب الحرب العالمية الأولى ، مع سعيه وبحثه عن أي موطئ قدم يهودي في الأرض المقدسة كمسمار أول يُدَقُّ في نَعْشِ الخلافة العثمانية ، فهو أول إجراء في تقسيم المنطقة ، فلم يكن الرفض يستند إلى حكم الدين فقط ، وإن كان هو المعتمد الرئيس لأي مسلم فهو الحاكم المهيمن الذي تخضع له الأهواء والمصالح ، ومع ذلك كان قرار السلطان عبد الحميد ولو بالنظر في الأبعاد الجيوسياسية المجردة دون نظر في أحكام الدين المنزلة ، كان قرار حكيما يدل على الرؤية السياسية الثاقبة فهي واسعة تغطي عالمه آنذاك ، بَعِيدَةٌ تَنْظُرُ في مآلات نشوء كيان يهودي في الأرض المقدسة فليس دوره إلا دور المجموع الوظيفي الذي يطعن الكيان الإسلامي ويسارع في تفتيته وإضعافه ثم السيطرة عليه وإخضاعه كما هي الحال الآن ، فهو لاعب رئيس في مخطط التقسيم الجديد فكان له دور رئيس في نشوء الكيان الكردي ، محل الشاهد ، فعلائقه مع الأكراد علائق وطيدة قديمة ، وقد زادت منذ احتلال العراق في 2003 بعد مخطط إضعاف طويل المدى من لدن الحرب العراقية الإيرانية التي كان كيان يهود فيها وسيط الصفقة المشهورة ، صفقة إيران كونترا التي اشترت فيها إيران السلاح من الشيطان الأعظم أمريكا لتحارب العراق الذي دعمه العرب على خلفية الصراع المحتدم بين الثورة الشيعية في إيران والأنظمة العربية الحاكمة التي تكره التغيير ، الناعم أو الصلب من باب أولى ! ، فهي تقف خلف أي ثورة مضادة ، بغض النظر عن مبادئ الثورة الأصلية ، صحيحة أو باطلة ، إسلامية أو علمانية ، شيعية أو سنية ، فالتاريخ ، كما يتندر بعض الفضلاء ، يذكر أن النظام الحاكم في الجزيرة العربية قد دعم نظام الإمامة الزيدي الشيعي في اليمن ضد الثورة ذات المنطلقات اليسارية والتي حظيت آنذاك بدعم القاهرة ذات الميول القومية الاشتراكية ، فكانت الحرب بالوكالة كالعادة وهو ما تورطت فيه مصر بعد ذلك في حرب عصابات تَقَصَّدَ الخليجُ فيها كسر شوكة مصر فقد كانت مركز هيمنة وتسلط وكان استبدادها يؤرق الجوار فضلا عما تحمله آنذاك من قيم الثورة على الأنظمة الملكية ، وهو ما يجعلها تتضافر فتتحالف ولو اختلفت أيديولوجياتها الدينية والسياسية فلا بد من الوقوف في وجه الثورة ، أيا كانت ، كما حدث بعد الثورة الفرنسية التي نجحت في القضاء على الملكية الكاثوليكية الثيوقراطية فاستبدلت بها أول جمهورية علمانية في أوروبا ، فقض ذلك مضاجع الملكيات الأوروبية وحملها أن تتحالف جميعا من النمسا إلى روسيا وهو ما عده المؤرخون لطفا إلهيا استنقذ الدولة العثمانية التي كانت قوى العالم آنذاك تستعد للإجهاز عليها واقتسام تَرِكَتِهَا فقد دب الضعف في أوصالها وصارت آيلة للسقوط وقابلة لمشاريع التفتيت والتقسيم على الورثة الأوروبيين ، ولكن الثورة العلمالنية الجمهورية على الأنظمة الملكية قد شغلت أوروبا عن الدولة العثمانية ، بل وجعلتها تَتَحَالَفَ مع السلطنة العثمانية باعتبارها إمبراطورية من جملة الإمبراطوريات القائمة آنذاك والتي يُشَكِّلُ الطرح العلماني الثوري في فرنسا آنذاك خطرا عليها ، وقد كان هذا الطرح بالفعل سَبَبًا في انقسام الدولة العثمانية على المدى الطويل فإن نخبة الاتحاد والترقي ، النخبة العلمانية القومية في تركيا والتي انقلبت على السلطان عبد الحميد ، هذه النخبة قد استقت أفكارها من قَنَاةِ العلمانية الفرنسية ، وكان أتاتورك مع ميله البريطاني السياسي ذا خلفية ثقافية فرنسية وهو ما انعكس على مشروعه العلماني الصلب الذي استعمل من أدوات القمع ما صار مثالا قياسيا على العلمانية ضد الدينية الصلبة فكانت دولته فرنسية الفكر وإن كانت بريطانية الدعم ، فبريطانيا هي من اكتشف هذا النجم الصاعد أواخر الحرب العالمية الأولى ثم كانت الصفقة السياسية التي أجهزت على ما تَبَقَّى من الكيان الإسلامي الجامع فقد كان في حكم الميت ولم يكن ينتظر إلا رصاصة الرحمة التي أطلقها أتاتورك إذ أعلن الإعلانَ الرسمي عن إلغاء منصب السلطنة ثم الخلافة ، فَأَلْغَى الرمز ، ولو بُرُوتُوكُولِيًّا ، ليمحو من الأذهان هذا الاصطلاح العتيق ، اصطلاح الخلافة الذي صار بعد ذلك محل تَنَدُّرٍ وسخرية تارة ، ومحل التهمة والجناية أخرى ! ، فهو محاولة لقلب نظام الحكم الملكي أو الجمهوري ..... إلخ ، فاستبدلت الدولة المدنية الحديثة بالخلافة ، واستبدلت ، وهو الأخطر ، قِيَمُ هذه الدولة الحديثة وهي ، في الجملة ، قيم لادينية استوحت أفكارها من ثورة فرنسا ضد الدينية ، استبدلت هذه القيم بقيم الوحي الفكرية والسياسية والاقتصادية ..... إلخ ، وهو ما افتقر إلى بيئة اجتماعية تقبل هذا التغيير المفاجئ ، وإن كانت المنطقة قبل ذلك قد مرت بأطوار من التغريب المتدرج لا سيما في مصر فقد كانت مثالا آخر على العلمانية البريطانية الناعمة التي تتدرج في التغيير فلا تصدم الجمهور بإجراءات قاسية كما صنعت العلمانية التركية الأتاتوركية فهي ، كما تقدم ، فرنسية صلبة ، فكانت التجربة البريطانية في مصر وهي ما أفرز نخبة علمانية حاكمة ، وهي التي أخرجت طبقة الموظفين الأفندية ! كما يقال في مصر ، وهم الذين شكلوا نواة الدولة البيروقراطية الحديثة ، فهم عماد النظام العلماني الحديث فقد تلقوا العلم في مدارس بريطانيا التي أرست في نفوسهم قيم الدولة المدنية الحديثة التي تحول المواطنين إلى موظفين مطيعين فلا تحدثهم أنفسهم بثورة تغيير إذ ارتبطت مصالحهم المباشرة بهذه الدولة فهم نواتها الصلبة فلا عجب أن يكونوا أشد الناس عداوة لأي تغيير سواء أكان ناعما إصلاحيا أم صلبا ثوريا فهم نواة الدولة العميقة وهم بعد ذلك نواة الثورة المضادة الصلبة ، فالثورة المضادة تتألف من جسم له رأس ، فرأسه نخب في السياسة والحرب والاقتصاد والإعلام والثقافة ، فذلك رأس لا بد له من جسد ينفذ أفكارها ويخرجها من الخيال إلى الواقع فالجسد هو هذا النظام البيروقراطي الذي نجحت بريطانيا في إنتاجه عبر مؤسسات التعليم الحديث فقد كان من أمضى الأسلحة الضاربة التي فاقت في أثرها أثر السلاح المباشر بمراحل كثيرة فقد نجحت في انْتِزَاعِ العداوة من القلوب وهو ما لا تحققه الحرب المباشرة فغايتها أن تنتزع البلاد وتأسر الأبدان ولكنها لا تأسر الأفئدة والألباب بل لا تزيدها إلا المقاومة والعناد ، ولو من منطلق إنساني أرضي لا يأرز إلى منطلق رسالي سماوي ، فيكون دفاع النفوس التي أُشْرِبَتْ قِيَمَ الدين أعظم ، ويكون نَزْعُ فتيل المقاومة أعسر ، فالدين يطلق من ملكات النفس ما لا يحده وصف فتجهله مراكز التحليل والبحث ، بل ويجهله الإنسان نفسه فالوحي إذ علم من مكامن الضعف والقوة في النفوس ما لا تعلمه فهو أدرى بقيادها وهو أمهر في توظيف ملكاتها على وجه تحصل به الغاية في الأولى والآخرة فوحده الوحي ما يحقق الغاية التي تَبْغِيهَا النفس الشريفة فتعيش كريمة وتموت سعيدة وتغادر إلى درا البقاء وقد أحسنت تدخر لها فكانت حياتها حلقات اتصلت من سعادة في الأولى ونجاة في الآخرة وذلك أمر تدركه النفوس وحدها إذ تجد أثره المباشر ، فلا يوفيه الكلام حقا فمهما مهر اللسان في الوصف فلا بد من مباشرة الأمر ، ومن عاش في ضنك الطغيان فهو أعلم الناس بِحَاجَةِ النُّفُوسِ الضرورية إلى الرسالة السماوية فوحدها من يحرر النفس التحرير الكامل فلا تخدع الناس بصور من الحرية الزائفة تطلق العنان للشهوات والغرائز وَتُغْرِي العقل أن يُنَافِسَ الوحي وينازعه خاصة السيادة فإن العقل إذا أطلق له العنان فلم يقيد بالوحي انقلب طاغوتا آخر يجاوز طغيانه ما قد يتبادر إلى الذهن من الطغيان السياسي ففي داخل كل إنسان طاغوت قد يفوق في طغيانه طغيان الحاكم الجائر الذي يمقت استبداده ويروم زواله فَلَوْ وُضِعَ مكانه لكان طغيانه أعظم بقدر ما يفارق من الوحي المحكم ، فلا تكون الحرية حقا إلا أن يكون الحاكم في الناس وحيا من خارج عقولهم يحسن فيهم السيرة فلا غرض له أن يستلب منهم حظا فهو حكم الخالق الغني الذي خلق هذه الحظوظ الذي يتنافس فيها الطغاة في السياسة والاقتصاد وسائر الناس بما جبلوا عليه من شهوة الأثرة وحب التملك فلا يزيدهم الطمع في أسباب الملك إلا فقرا ، وماهية الطغيان واحدة ، فإن طغيان الساسة أن يَبْغُوا على رعاياهم وَيَبْغُوا على غيرهم رغبة في التوسع طغيان لا منتهى له فلا يلجمه إلا الوحي ولا يرشد حركة السياسة والحرب والاقتصاد إلا أن يكون ثم بنيان محكم من القيم ويكون من رجالات الحق من يَتَأَوَّلُهُ ، فلا يلتفت إلى حظ النفس ما استطاع إلى ذلك سبيلا فتكون حركة سياسته وحربه وتجارته فَتْحًا يَرُومُ هداية الناس إلى الحق ، فلا يطمع في حكم البلاد بهواه ، وإنما يروم حكمها بقانون الوحي الذي نَزَلَ من السماء فهو أعدل الحكام في الخصومات إذ تجرد ، كما تقدم ، من الحظوظ النفسانية ، فهو يحسن إلى الناس ما استطاع ، وهل أعظم إحسانا أن يهديهم إلى الحق المنزل وهو مع ذلك يحمل من رصيد القيم ما يجعله يعف أن يَسْتَبِدَّ أو يَسْتَلِبَ ومن يتحمل أعباء هذا الأمر لا بد أن يتجرد من حظه ما استطاع سبيلا وإلا انقلب الأمر وصار وبالا أن صار الوحي ذريعة إلى تحقيق الأغراض الخاصة فيكون العقاب العاجل أن يُوكَلَ إلى نفسه وأن يذهب جهده سدى وأن ينحسر أمره إذ لم يرسخ في النفوس فلم يكن إلا رغبة في التوسع اتشحت برداء الدين فصار الدين آلة يوظفها لتحقيق أغراضه وعظم الشؤم أن صار ذلك دعاية تطعن في الوحي بما كان من أخطاء أتباعه ، مع أن ذلك مما لا يلزم في الحجاج العقلي فلا يحتج منصف في الخصومة لا يحتج بأخطاء التطبيق أن يسندها إلى النظرية ، فقد يصح النظر والاستدلال ويكون الخطأ في الإنفاذ ، ومن يتحمل أعباء القيم لا سيما القيم الرسالية يجد ، كما يقول بعض الفضلاء ، من ثقل الحركة بما يَتَحَمَّلُ من القيم ما يجعل خطواته أبطأ خلافا لمن يطلق العنان لخطواته فهو يمارس السياسة والحكم بطريق براجماتية محضة وذلك ما يجعل أمره أيسر بالنظر في قانون السياسة المحدث قانون المصالح لا المبادئ فليست إلا قشرة تُزَخْرِفُ يكسى بها لب صلب من المصالح فليست المبادئ إلا ستارا يخفي وراءه ما يخفي من باطل يفتضح مع أول اختبارٍ حق ، لا جرم كان عجز الاستشراق كعقل استراتيجي يفكر ويضع خطط التحكم والسيطرة ، لا جرم كان عجزه أن يحلل حركة الفتح الأولى من منطلق المبادئ فلا يقيم لها وزنا في التحليل المادي المباشر الذي لا ينظر إلا في المصالح فَرَاحَ يحلل الأمر تحليل المصالح دون نظر في قيم الرسالة ومبادئها فهي عنده كسائر الشعارات السياسية المحدثة من حرية وعدل ومساواة ..... إلخ فليست إلا شعارات يَرْفَعُهَا الساسة والمترشحون في عمليات الانتخاب التي تحكي مصالح النخب الفاعلة ، فلم يطق الاستشراق إلا أن ينطلق من هذه الخلفية المادية التي لا يتقن غيرها آلةَ تحليلٍ واستنباط فمرتكزاته في الفكر والسياسة مرتكزات مادية بحتة ، فلا يدرك ، بداهة ، غايات الفتح الذي أمر به الرب ، جل وعلا ، تحريرا للأرض من حكم الوضع المحدث وتحريرا للنفوس من حكم الطغيان المطلق ، مع ما شابه من نَقْصٍ في مواضع فهو تأويل بشر تحملوا الأمر وشرعوا في تأويله فلا ينفك تأويلهم بداهة عن تقصير في مواضع لا يجد الاستشراق غيرها لِيُؤَيِّدَ ما توصل إليه من أحكام سابقة ، فهو يفتش في مشاهد النقص وهي الأقل ، ويغفل عن مشاهد الكمال وهي الأكثر ، فيخالف عن قياس العقل المحكم فإن العبرة بالغالب لا بالنادر فالحكم حال استقراء آحاده في الخارج يحصل من صورة المجموع الغالب لا القليل النادر فيكون الاستقراء الكامل أو الغالب الذي يفيد العلم أو الظن الراجح ، فكان التعسف في الاستدلال والاستنباط فيوظف القليل النادر في توكيد الحكم الجائر الذي أصدره الاستشراق على حركة الفتح قبل أن ينظر في معاركه وغزواته ويقارنها بِغَزَوَاتِ غيره ، فيدرك القدر الفارق الذي يقضي ضرورة بالمخالفة في الحكم تفريقا بين المختلفين ، فتلك بديهة العقل الناصح الذي يزعم الاستشراق انتحاله ، ولكنه يخالف عنه فثم ثأر تاريخي مع الوحي ينطلق منه المستشرق وإن كان لادينيا فركز العداوة التاريخية المتأصلة في العقول يلح عليه في تحليل أي حدث فنفسه راغبة في الذم مقتصدة في المدح لا تمدح إلا لتخدع الناظر فتدس في مدحها الذم ، فيعجز الاستشراق لا سيما السلطوي الذي يَرُومُ استعمار الشرق وَاسْتِبْنَاءَهُ على مثال يحقق غايات المركز في السيطرة والتحكم ، يَعْجَزُ أن يجد علة مادية مباشرة لأمثلة من قَبِيلِ رد الجزية على أهلها حال الانسحاب والانحياز كما صنع الفاتحون مع أهل حمص لما اضطروا أن ينحازوا فليست الجزية آنذاك حقا ، إذ عجزوا عن الوفاء بالشرط ، وصاحب المبدأ لا يحيد عنه ولا يَتَأَوَّلُهُ إذا خالف عن حظوظه فضلا أن يكون براجماتيا لا مبدأ له إلا المصلحة فلن ينظر في المال الذي حصله إلا أنه غنيمة فكيف يرجعها إلى الناس فيجد من التأويلات ما به يستحل هذا المال ، فلا يجد التحليل المادي سَبَبًا يقنع في هذا المثال بل يصف صاحبه أنه مختل العقل أو صاحب مُثُلٍ جوفاء لا تصلح في حكم البلاد وسياسة النفوس فلا تصلحها هذه المثالية البلهاء ! ، وليس ثم عاقل طبقا لنظرية السياسة المادية المعاصرة ، ليس ثم عاقل يستولي على بلد ثم يَتْرُكُهَا طوعا أن خالف في فتحه شرطا من شروط الوحي ! ، فالمذهب المادي يَرَى ذلك غنيمة باردة بلا أي تكلفة فكيف يَتْرُكُهَا كما ترك الفاتحون سمرقند وقد وجدوا الأبواب مشرعة بلا مقاومة فدخلوها قبل إنذار أهلها ، فلا يجد السياسي البراجماتي عناء أن يفتش طلبا لأي تأويل يبرر هذا الفتح الناجز ، فما أغناه عن آخر يقاتل فيه فتعظم خسائره المادية فهي وحدها معيار النجاح والفشل ، فليس ثم معيار مبادئ أو قيم ، بل قيمة الربح المباشر إن في السياسة أو في الحرب أو في الاقتصاد هي معياره الأوحد الذي يقيس به حركته في الخارج فليس ثم نجاح إلا بقدر ما يحقق من مكاسب مادية وإن جاوز لأجلها ما جاوز من القيم الدينية والأخلاقية ، وليس ثم فشل إلا بقدر ما يفوته من المكاسب المادية وإن سلك جادة الوحي قيما ومبادئ وأحكاما وشرائع ، فهي ، كما تقدم ، تثقل كاهل صاحبها وتبطئ خطواته في عالم السياسة والحرب والتجارة ولكنها تُرَسِّخُ بُنْيَانَ القيم والمبادئ التي تمتاز بها الإنسانية من الحيوانية ، فالحيوان وحده من يجعل قيم المادة واللذة بغيته العظمى إذ لا عقل له يدرك إلا ما يجد بمدارك حسه ، فمن يمارس التقية الدينية أو السياسية يكون ميدان عمله في السياسة المعاصرة أوسع وأرحب ، وتكون خطواته أسرع ومكاسبه أعظم ، ولكنه يخسر من إنسانيته بقدر ما يخالف عن قيم الوحي وأحكامه ، فضلا عن خسارة أعظم لأجر يدخره العاقل لدار الجزاء الأوفى إن كان لا زال يؤمن بها إيمانا يجاوز حد التصديق المجرد لِنَصِّ الوحي المنزَّل دون أن تظهر آثاره في الخارج في أخلاق السياسة والحرب والتجارة ، فصاحب الإيمان المحكم برسالة الوحي المنزَّل يكون تصديقه أعظم فهو يشفع الدعوى بالبينة من إجراءت فاعلة على الأرض تحكي صدق الدعوى فليست شعارا يطلق بلا شاهد من الفعل يصدقه ، فكما أن الإيمان قول وعمل ، فكذلك السياسة فهي دعوى تطلق وعمل في الخارج يُصَدِّقُ أو يُكَذِّبُ ، لا جرم كان عمل السياسة داخلا في حد الإيمان الذي استغرق سائر الحركات الاختيارية في الخارج ، ما بطن منها وما ظهر ، ما خص الفرد في شعائره أو عم الجماعة في تشريعاتها السياسية والتجارية والاجتماعية والجنائية ..... إلخ ، وصاحب الإيمان المحكم ، من وجه آخر ، تكون خطواته أثقل فهو يحمل من التكليف ما يشق فليس مطلق اليد والقدم أن يبطش ويخطو بلا رقيب يحاسب كما هي حال السياسي البراجماتي ، وإنما قيد التكليف يبطئ الحركة ويجعل صاحبه محل استهداف مباشر ، فلا بد ، في المقابل ، من قوة تعوض هذا النقص ، وهي قوة تجاوز القوة المادية ، وإن كان إعدادها حتما لازما من قوة البشر وآلة الحرب وما يتطلبه ذلك من بذل ونفقة فلا يقوم هذا الدين كما يقول بعض المحققين إلا بأخلاق الشجاعة في الحرب والكرم في البذل ، فلا يقوم الدين بجبان بخيل فذلك نقص في الأخلاق يقعد صاحبه أن يقوم بهذا الأمر العظيم ، فلا بد من قوة روح كَتِلْكَ التي اتصفت بها النفوس التي تحملت أعباء الوحي الأول فكان من هذه القوة الروحية الفتية ما عوض النقص في القوة المادية فنجحت هذه الجموع المؤمنة التي تشربت قيم الرسالة السماوية أن تناجز جيوش الإمبراطوريات الأرضية مع التفاوت الكبير في القوى المادية فلم يهمل الفتح الأول إعداد العدة ، ولكنه لم يقتصر على العدة المادية المحضة دون نظر في رصيد القيم والأخلاق فضلا عن معنى التكليف في الشرع فهو معنى يجاوز معنى الأخلاق المجرد فيسمو بها إلى درجة أعلى فهي أخلاق الرسالة ذات المرجع السماوي المحكم ، فتلك قوة الروح التي تُعَوِّضُ النقص في أسباب المادة ، وتلك قوة الفكرة الشريفة التي تصحح الحركة الفاعلة في السياسة والحرب ، فلا تكون حركة احتلال واستعمار يستنزف الثروات ولا يحقق من النمو والازدهار إلا بقدر ما يحفظ مصالح المحتل ويعظم مكاسبه في مستعمراته في الأطراف فإن أنشأ فَالرَّفَاهُ يرجع ، كله أو معظمه ، إليه فهو مستثمر يتاجر ، ولا يوجد ، بداهة ، تاجر يَرُومُ الخسارة ! ، وهو لأجل ذلك يستبيح قهر الشعوب وإذلالها بل قد استجاز المحتل الأبيض استرقاق السود والملونين ، فليسوا إلا أدوات وظيفية بها يعمر أرضه ويحرث زرعه ، كما يحكي تاريخ الرق في الأرض الجديدة ، في أمريكا ، بلد الحرية فما وضع تمثالها في أمريكا إلا كجزء من خطة الخداع الاستراتيجي ! ، فإن أكثر الناس حديثا عن الحرية والديمقراطية هو أعظم الناس استبدادا وقمعا ، سواء أكان القمع ناعما كما في المركز أم صلبا كما في الأطراف ، فحركة الفتح لامست شِغَافَ القلوب إذ صدقت في دعواها أنها جاءت تحرر الشعوب ، وكان الفعل مصداق القول ، فلم تكن الحرية دعوى أو شعارا بلا برهان يصدق من أفعال الفاتحين وأحكامهم ، ولم تكن الحرية ، كما هي الحال الآن ، وسيلة إفساد للشعوب ببث الفواحش ونواقص المروءة ونواقضها والخروج بها عن أخلاقها وأعرافها وإن دخل هذه الأعراف من وجه آخر من التقليد ما صيرها باردة تتعصب في غير مواضع التعصب وتلين في مواضع التمسك ، فصارت معاركها في الهوامش والأطراف دون النفاذ إلى لب الإشكال الفكري والسياسي ، فهي ، كما يقول بعض المعلقين ، انتقال بالمجتمع من دائرة الصراع الفكري والسياسي الذي تخشاه السلطة إلى دائرة المرح سواء أكان بَرِيئًا أم متهما ! ، فضلا أن يكون ماجنا فاحشا يخالف عن أحكام الدين ومعايير الأخلاق ، فهذا المرح الزائد وهو في بعض الأحيان فاحش ! ، هذا المرح معيار تُخْتَبَرُ به صلابة المجتمع في دينه وأخلاقه ، فإن رضي وفرح وانقاد واستسلم فذلك نجاح أول تَتْبَعُهُ نجاحات أخرى فيكون الانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل الغزو الثقافي ، وهو ، من وجه آخر ، دعاية تحديث كاذب تقتصر على الصورة الظاهرة فتحرف الناس عن جوهر الإشكال الفكري والسياسي ، فهي لا تناقش ، بداهة ، نظرية السيادة ، فمن يلهو ويعبث لا يعنيه بداهة أيكون الحكم للوحي المنزل أم للوضع المحدث بل قد يركن إلى الوضع المحدث إذ يشبع شهواته فلا يجد فيه من قيد الحلال والحرام ما يجده في الوحي الذي صار عبئا ثقيلا ولولا بقية حياء لجهر بعداوته ، فالتحرر من قيده هو الحرية التي نجح المحتل في إيهام الناس بها ، فلا تحصل الحرية إلا بالانحرافات الدينية والأخلاقية إلحادا وانحلالا دون نظر ، بداهة ، في استبداد السلطة أو قمعها فقد نجحت في تحويل الدفة ونقل الصراع إلى دائرة لا تهددها ، فضلا أنها ترسل رسائل سياسية إلى المركز فهي أداة من أدواته الوظيفية في بث قيمه الفكرية والأخلاقية ولو خالفت عن الوحي ، فهي القيد الذي يلجمه وهي الحرب التي تغزو معاقله بذريعة الحرب على الأصولية الدينية المتطرفة ، وهي ، سوق رائجة يحسن يَتَّجِرُ فيها الجميع ومنهم بعض الأفاضل من رءوس الإفتاء الذين يعتبرهم الإسلام السياسي مرجعا في الفتوى مع ضعف رؤية في السياسة قد صير تيار الإسلام السياسي مطية وورقة مزايدة إن في يد بعض دول الإقليم كما في أزمة الخليج الحالية ، فبعد أن كان محل الرضى والقبول لدى طرف في الخصومة الحالية وهو الطرف المحاصِر فكان له من برامج الدعوة والفتيا وكان له من الكتب والأبحاث ما هو محل احتفاء انقلبت الحال فجأة فصار على قائمة الإرهاب والتطرف وصارت كتبه محل السخط والإتلاف بوصفها ترجع إلى فكر يغذي مادة الإرهاب والتطرف مع أنه كان من ضيوف الشرف في العشر الأواخر من رمضان في الموسم قبل الماضي ولم يكن الأمر ، لو تدبر الناظر ، إلا رسالة سياسية أرسلتها القيادة السياسية في الجزيرة العربية إلى نظيرتها في مصر على خلفية تَوَتُّرٍ مؤقت كان التلاسن فيه شعار المرحلة آنذاك ، فلا بد من مكايدة تُثِيرُ الغيظ أن يستضاف رأس من رءوس الإرهاب طبقا للتصنيف المصري ! ، وأن يكرم فيحظى بلقاء كبار المسئولين في الدولة ، ولا يخلو هذا المرجع الكبير أن يكون واحدا من الذين تستعملهم السلطة في المشهد الْبُرُوتُوكُولِيِّ المعتاد في كل رمضان وفي كل موسم حج فلا بد من استضافة بعض المشاهير لإصباغ مسحة من التدين برعاية أرباب الفكر المسلم فثم جوائز لخدمة الإسلام والدعوة ، وثم ضيافة ..... إلخ ، فكل أولئك جزء من بُرُوتُوكُولٍ سياسي يشكل جزءا من قوة الدولة الناعمة والتي يوظف فيها الدين كجزء رئيس إذ يتوجه الخطاب في الشرق إلى مجتمعات إسلامية محافظة ، فيكون إسباغ الرعاية بمشاريع تَنْمِيَةٍ وتعليم ، فثم مدارس وجامعات تفتتح لها فروعا في الدول الإسلامية النائية ، فهي ، كما تقدم ، جزء رئيس من القوة الناعمة ، إذ تشكل عقول الناشئة أن تَتَشَرَّبَ قِيَمَ الدولة وأفكارها ، فدعوة الإصلاح قد صارت سلاحا من أسلحة الدولة ، فصارت حقا ينفع الطلاب في كثير من مسائل الدين لما في دعوة الإصلاح من خير عظيم ، ولكنه ، من وجه آخر ، مما لم يخل من توظيف سياسي فهو يسهم في ترسيخ دور الدولة كراعية للإسلام وعلومه فهي تقدم الطرح الإسلامي الأصح ، وهي تستقدم هذه العقول الناشئة لتستكمل دراستها على نفقة الدولة بل ويخصص لها من الأموال والجرايات ما يجعلها تَتَفَرَّغُ للدراسة فَتَتَشَرَّبَ قيم الدين الذي تضع السياسة معاييره الرئيسة ثم ترجع هذه العقول إلى بلادها فتنشر ما تعلمت وتكون شعرت أو لم تشعر ، استفادت استفادة مادية مباشرة أو لم تستفد ، بُعِثَتْ بتكليفات خاصة أو جرى الأمر بسلاسة دون حاجة إلى توجيه مباشر من جهات سيادية بل ذلك قد يفسد الأمر فإحكامه أن يتم تلقائيا دون تدخل مباشر قد يفسده ، وكل يحتكر الحق والوسطية ليوظفها في أغراض سياسية ، كما يصنع الأزهر ، وهو مثال آخر لهذه السياسة الفكرية الموجهة وإن كانت قدرات الأزهر المادية أقل بكثير بعد أن قُصَّتْ أجنحتُه المادية بما جرى على أوقافه من السرقة والنهب باسم التأميم ، فالأزهر قد دخل في معركة فكرية حادة مع الحركات السلفية التي تتخذ دعوة الإصلاح في الجزيرة العربية مرجعا لها فكل يروم احتكار المنصب ، منصب المرجع الأعلى الذي يتسم بالدقة والأحكام مع تحريه مقاصد الشرع وانتهاجه جادة الوسط ، فكان استغلال الأزهر كجزء من قوة ناعمة للنظام الاشتراكي في الخمسينيات وما بعدها ! ، وإن كان النظام آنذاك قد تبرم واغتاظ من شعبية الأزهر الجارفة ، لا سيما في إفريقية ، فلم يجد بدا من استعمالها مع غيرة وحقد إذ لا يحضى بمعشار هذه الشعبية ، وهو ما يجري في الجزيرة العربية ، فالسياسة واحدة ، مع اختلاف المرجع ، فمرجع الأزهر مرجع صوفي كلامي ، والمرجع في الجزيرة العربية سلفي حنبلي ، فالسياسة الناعمة واحدة ، فبعثات علمية ، وقوافل إعاثة وإعاشة ، واستضافة بعض الحجاج من كبار المفكرين والعلماء أو من عامة الناس ممن لا يطيقون تكاليف الحج ..... إلخ ، فليس أولئك الأفاضل الذين يحوزون هذه الجوائز العالمية أو يحظون بهدا التكريم في الاستضافة ، ليسوا إلا أداة وظيفية تستعمل في أغراض سياسية في غفلة ظاهرة لا زال التيار الإسلامي يشكو منها فلا يكاد يستفيق مع تكرار هذا الخطأ الذي لم تسلم منه حركة إسلامية ، دعوية أو علمية أو سياسية أو جهادية ، فالجميع قد تم توظيفه طوعا أو كرها ، اختيارا أو اضطرارا ، فإن الحركات والتنظيمات أضعف ، بداهة ، من الأنظمة التي تحكم الدول ، فهامش الدولة في المناورة أكبر بكثير إذ لها من أدوات السياسة والحرب والمال والاستخبار والتخطيط والتنفيذ والكوادر البشرية ..... إلخ ، لها من كل أولئك ما ليس للتنظيمات فهي في تصنيف أدنى إن في السياسة أو في الحرب أو في الاقتصاد مهما بلغت كفاءتها في العمل ومهما بلغت ثقافتها الفكرية والسياسية ومهما بلغت مواردها من تبرعات أو اشتراكات تجمع من الأعضاء ..... إلخ ، ومهما بلغت دقة أجهزتها التي تجمع المعلومات وتجري الاستبيانات والاستطلاعات لآراء الناس ، ومهما بلغت أنشطتها الاجتماعية من فعالية ، بل هي في كثير من ذلك أكثر كفاءة من الدولة ، لا سيما في الدول الفاشلة التي تعجز عن تقديم الخدمات وإدارة المجتمع ، فنجاح الحركات الإسلامية في إدارة النشاط الاجتماعي والخدمي ، الإعاشي والتعليمي والترفيهي والطبي ..... إلخ ، نجاحها في ذلك يفوق في أحيان نجاح الدولة لما تحظى به هذه الحركات من جمهور عريض فهي تباشر من أمور العامة ما يأنف كبار المسئولين أن يباشروه فهم في أبراج العاج وليس لديهم أي رغبة في مباشرة الشأن العام إلا رياء أمام الكاميرات ، مع فساد الجهاز الوظيفي وترهله فهو لا يقدم أي خدمة إلا مدفوعة الأجر ! ، مع أنها إلى الآن خدمة قطاع عام ، ولكن فساد الإدارة وضع لكل خدمة سعرا يزيد على المرتب الذي يَتَقَاضَاهُ الموظف ، فهو لا يكفيه فلا بد من مورد رزق إضافي فيتقاضى مبلغا يزيد مقابل أي خدمة تحت اسم الإكرامية أو العمولة أو الشاي والدخان كما يقال في مصر ! ، وذلك أمر يعرفه كل من يلجأ إلى الجهاز الوظيفي في دولة كمصر ، فلا يكفي استدعاء الموظف أو الفني لعلاج أي إشكال ، في الكهرباء أو الصرف الصحي ..... إلخ ، فلا بد من استدعائه بالبلاغ الأول ، وربما اضطر صاحب الإشكال إلى بلاغ ثان وثالث ، فالخدمة بطيئة وهي ، مع ذلك ، رديئة ، وبعد حل الإشكال لا بد من الإكرامية فهي الراتب الرديف ، ومن لا يدفع فعقابه إن تكرر الإشكال وهو لا بد أن يتكرر لرداءة البنية التحتية ، فعقابه بعد ذلك أن يتأخر الموظف وربما تجاهله أياما ليذوق وبال أمره ويتعلم الدرس فيبادر بالدفع ، فتلك حال الجهاز الوظيفي في أي نظام حكم فاسد وهو ما يحدث فراغا في الجانب الخدمي يبادر التيار الإسلامي في العادة أن يشغله بما يقدم من خدمات بديلة ينوب فيها عن الدولة التي تحسن توظف هذا التيار الفاعل فهو يتحمل عنها عبء الخدمة ولا يطمع أن ينافسها في ميدان السياسة إلا بقدر ما تفسح له وفق توازنات دقيقة يضع معيارها أكثر من جهة ، فالنظام الدولي يرقب تمدد التبار الإسلامي ويحسن يقيس قوته ومدى تأثيره في صناعة الرأي العام فيقدم التوصيات بكيفية مواجهته بالطرق الصلبة ، أو احتوائه بالطرق الناعمة ، أو كسره بالقوة الصلبة ثم تهذيبه وتطويعه بالقوة الناعمة في إطار ما اصطلح أن يسمى سياسة العصا والجزرة ، فإن معادلة السياسة ، من وجه آخر ، لا تقتصر على النظام الدولي فهو الذي يرسم السياسة العامة في كيفية التعاطي مع أي ظاهرة تهدد نفوذه ومصالحه في المنطقة ولو على المدى البعيد ، ولكنه لا يتدخل في التفاصيل فذلك متروك لأدواته في الإقليم وفي الداخل ، فيكون من تدافع السلطة مع تيارات المعارضة ما يشهد حالا من المد والجزر ، والمهادنة تارة والمواجهة أخرى ، كما هي الحال الآن في مصر إذ جاوز التيار الإسلامي قانون اللعبة السياسية فَرَامَ زيادة عما هو مقرر مسموح ، فكانت الضربة القاسية التي تَتَرَاوَحُ بين رغبة في الاستئصال وهو أمر يستبعد ، ورغبة في التأديب والتهذيب لئلا يخرج عن النص ، وذلك الأقرب ، وإن كانت الجرعة الآن أقوى بكثير ، فلكل جرم عقاب يلائمه ، فالعقاب في هذه الجولة أشد ، والجميع من يريد الاستئصال ومن يريد التأديب ، الجميع يسلم أن هذه الضربة قد أضعفت التيار الإسلامي فعودته إلى سابق عهده أمر قد يستغرق زمنا طويلا ، كما كانت الحال بعد كل علقة ساخنة ! ، ولا أحد تقريبا يتدبر ، فتاريخ التيار الإسلامي مع السلطة في مصر خير شاهد على ذلك ، فثم صراع انتصرت فيه الدولة حتى الآن ، ولو بالنقاط فلم تنجح في توجيه ضربة قاضية للتيار الإسلامي نظرا لشعبيته الكبيرة ، وإن كان فيها نظر ، لا سيما وقد استندت في أحيان كثيرة إلى أنشطته الخدمية دون عناية بالجوانب الفكرية ، فكانت رغبة المركز في إدارة المشهد على قاعدة الاحتواء لا الاستئصال ولو إلى حين ، فهو يفتح قنوات الاتصال مع الأجنحة الإسلامية المعتدلة ! ، وتلك خدعة أخرى مشهورة قد تكررت في جولات كثيرة ، فهي طعم التقطته بعض الحركات الإسلامية ، لا سيما حركات الإسلام السياسي ، فأمعنت في تقديم أدلة الاعتدال فهي ضد الإرهاب والتطرف وهي ضد التعصب والتزمت ، ومثالها ما تقدم من نصيحة قدمها ذلك الشيخ الفاضل ، مرجع التيار السياسي المعتدل ، داعية التوسط فهو ضد التزمت ، فترك كل وجوه النقص في نظام السياسة والحكم في جزيرة العرب ، وكل المظالم الاجتماعية ..... إلخ ، ترك كل ذلك وقدم نصيحة مخلصة إلى القيادة أن تسمح للمرأة بقيادة السيارة ! ، فقد انتهت كل المشاكل والمعضلات ولم تَبْقَ إلا هذه النصيحة ، وهي ، لو تدبر الناظر ، خطاب يوجه إلى المركز ، لا إلى الحكومات المحلية أو الإقليمية ، فهي تطمئن الغرب ، وهو من بيده القرار في المنطقة فالتيارات السياسية تختزل المسافة وتخاطبه مباشرة بما تفتي به على وجه يحقق مصالحه مباشرة كما في فتوى أخرى مشهورة بجواز مشاركة الجندي الأمريكي المسلم في الحرب على بلاد الأفغان فهو يحارب تحت راية وطنه الذي تعرض لاعتداء ورد العدوان حتم لازم ! ، فتفتي بما يحقق مصالح الغرب إما مباشرة ، كما تقدم ، أو من وجه غير مباشر كما في هذه النصائح التي تدل على سعة الأفق والانفتاح على أدوات العصر ، مع ما كان من مزايدات دينية وعلمانية على هذا الأمر الذي صار معركة مصيرية ولا يعدو أن يكون ، كما تقدم ، من المباح الذي يتأثر بقرائن تحتف به من مصالح ومفاسد وأعراف فتكفي هذه الكلمات ، والله أعلم ، أن تحسم هذا الإشكال ، ولكن الجميع يروم استثماره في تحقيق مكسب سياسي ، فالجميع الآن يزايد في خطابه الذي يوجه إلى مراكز صنع القرار في المركز ، فنحن معتدلون لسنا ضد المرأة وحرياتها مع ما يكون من مزايدات في هذا الباب تجري مجرى الاصطياد في الماء العكر ، فمع القرار الأخير سارعت الجهات الإعلامية المحسوبة على تيار الإسلام السياسي ، سارعت إلى بث رسالة قديمة توجه فيها هذا الشيخ الفاضل بالنصح إلى القيادة في الجزيرة العربية أن تسمح للمرأة بقيادة السيارة فهو دليل يؤكد للغرب أن مستقبل المنطقة لن يرسمه إلا الإسلام الوسطي المعتدل الذي يروم هذا التيار احتكاره وكأنه ، ولو بشكل غير مباشر ، يقدم نفسه بديلا كأداة وظيفية يستعملها الغرب في إدارة المشهد في الشرق عوضا عن الأنظمة العتيقة فقد انتهت صلاحيتها فضلا أنها لا توافق في الجملة المزاج العام في المنطقة الذي يَتُوقُ إلى جرعة تدين وجرعة حرية ولو في هذه المسألة الجزئية ، فهي تستثمر في رسالة كلية لا تقتصر بداهة على هذا المشهد الجزئي أو مشهد الاحتفال المختلط بالعيد الوطني أو مشهد الإجهاز الناعم على هيئات الاحتساب بسحب صلاحياتها والتضيي عليها شيئا فشيئا ، أو مشهد إعطاء المرأة رخصة أن تُفْتِي ....... إلخ بغض النظر عن صحة هذه الأمور أو بطلانها فمنها حق ومنها باطل ومنها حق يُرَادُ به باطل ، وهو ما يَتَقَصَّدُهُ الجميع الآن إذ يسارع في هذه المشاهد الجزئية أن يوصل رسائل كلية للغرب فنحن على جادة الإصلاح سائرون ، فالأنظمة تسابق ، وتيار الإسلام السياسي في الجملة يزايد أنه هو ، أيضا ، منفتح بل هو أشد انفتاحا وديمقراطية من هذت الأنظمة المستبدة وهو لا يحمل في فكره ما يعارض مصالح المركز بل هو على أتم استعداد للتنسيق من أجل مصلحة الجميع ! ، وذلك في حد ذاته ، تنازل هائل أن يسلم التيار الإسلامي أن تعايشه مع الغرب ممكن على وجه يجاوز حد المهادنة المؤقتة ، فتنشأ أجيال إسلامية ! لا ترى أي تعارض بين مرجعية الإسلام السماوية ومرجعية المركز الأرضية ! ، فتحل عرى الولاء والبراء في القلوب وتصير المعركة معركة مصالح لا أكثر دون التفات إلى أصل الصراع ، وهو ، كما تقدم مرارا ، نظرية السيادة التشريعية والسياسية لا معركة قيادة المرأة للسيارة أو الاحتفال المختلط .
وما يُثَارُ الآن من هذه المعارك المصيرية ! ، هو ، من وجه آخر ، شاغل يشغل الرأي العام بما يكون من شذوذ في القول والفعل وخروج عن أعراف الجماعة وتقاليدها خروجا حادا مفاجئا فَيَصِيرُ الناس في تساؤل وشغل يجعل السلطة تَنْفَرِدُ بالحكم فليس ثم من يناقش أو يراجع فالجميع في خضم هذه الحرب الجانِبِيَّةِ قد اسْتُنْزِفَ فلم يَبْقَ ثَمَّ وقت أو جهد أن تنكر الجماعة على السلطة ما تقترف من فواحش الفكر والسياسة فهي أصل الداء وما الانحرافات الأخرى إلا نتاج من نواتج الانحراف الأعظم ، الانحراف في تأصيل نظرية السيادة التي جاء الوحي يمحضها لِلْخَالِقِ الشارع ، جل وعلا ، فَلَوْ سادت هذه النظرية فضاء الفكر لَزَالَ كل انحراف في السياسة أو في الأخلاق ، لا جرم كانت السلطة المستبدة سعيدة بما يجري الآن من انحراف أخلاقي واجتماعي فهي ترضى بالحرية المشروطة ! ، حرية الإلحاد والانحلال والمخالفة عن أحكام الوحي والأخلاق والعرف مع الحفاظ على قبضة الاستبداد محكمة تقمع أي حرية تجاوز هذا القدر ، فالحرية الفكرية في تأصيل النظرية السيادية الشرعية ، والحرية السياسية في إبداء الرأي والمعارضةِ والمشاركة الفاعلة في الاختيار وصناعة القرار ، كل أولئك خط أحمر يقمع من يقاربه فضلا عمن يجاوزه ، فأين ذلك من الحرية التي وجدها الناس في فتوح الرسالة الأولى ، حتى رضي من لم يدخل في دين الفاتحين أن يدخل في حكمهم إذ وجد عندهم من العدل ما لم يجد في حكم بني جلدته الدينية دون أن يوافق جلدتهم العرقية والإثنية ، فكان الرومان يحكمون النصارى في بلاد الشرق ، أبناء الدين ، سواء أخالفوهم المذهب في مصر ، فكانت مصر على الأرثوذكسية ، أم وافقوهم في الشام فكان النصارى فيها على مذهب الدولة المركزية ، المذهب الكاثوليكي ، فكان الرومان يحكمون النصارى في الشرق باستبداد يأرز إلى اختلاف العنصر ، فالعنصر الرومي الأبيض أرقى من بقية العناصر ، وذلك ثابت لا زال يهيمن على سياسة المركز فلا يأمل الناظر في جذوره الفكرية القديمة وتأصيلاته السياسية الحديثة ، لا يأمل في أي إنصاف أو حرية إلا بقدر ما يمنح السيد الأبيض ، فالحرية والعدالة حكر عليه إذ يقتسم بها غنائمه فلا يعطي غيره إلا فضلة ، وليته ينصف فيعطي الشرق من هامش الحرية ما يعطي لرعيته في المركز ، فهو ، كما تقدم ، مستبد في بلاده الاستبداد الناعم ، مستبد في الأطراف لا سيما في الشرق الاستبداد الصلب بما أنشأ من الأدوات الوظيفية السياسية والعسكرية التي صادرت الحريات العامة وضيقت فضاء المشاركة والمعارضة ، ولو مناصحة ، فضلا أن يكون إنكارا للمنكر أمر به الوحي المنزل على وجه استرعى فيه من الضوابط ما يدل على إحكامه فلم يكن قوله وفعله قول الفوضى وفعله ، ولم يكن سكوته سكوت الذل والاستسلام وإنما أحسن يقول ويفعل في مواضع القول والفعل ، وأحسن يسكت ويكف في مواضع السكوت والكف ، فكان في الوحي غنية عن أي مذهب محدث في التغيير قد يفضي إلى فوضى ، وكان الوحي ، في المقابل ، أعظم منهاج حفظ للناس حقوقهم وحرياتهم الفكرية والدينية ، فلم يكن ، كما قد عمت البلوى الآن بصنائع من ينسب إليه زورا ، لم يكن ذريعة قمع واستبداد كقمع الدولة الكهنوتية السياسية في أوروبا في أعصارها الوسيطة ، ولم يصادم فطرة النفس السوية ، فكل نفس بشرية قد جبلت على حب الحرية وكراهية الاستبداد والقمع فضلا عن الإذلال والاستعباد فلا يزيدها ذلك إلا مقاومة ، ولو فكرا مجردا في الذهن فسرعان ما تظهر آثاره في الواقع إن آنس فرصة تسنح أن يحول المبادئ والأفكار إلى استراتيجيات ومناهج تغيير ، ولو متدرجا ، فضلا أن يكون عنيفا مفاجئا ، وهو ما أدركه الاستعمار الحديث فإنه ، كما يقول بعض الفضلاء ، لم يجعل هدفه الرئيس الاحتلال المباشر واستنزاف الثروات .... إلخ من صور الاحتلال القديم الذي رفع راية الصليب ونهج من القتل والتنكيل ما لم يَزِدِ المسلمين إلا ممانعة ورجوعا إلى الوحي فهو قاعدة ارتكاز راسخة لأي مشروع سياسي أو عسكري مقاوم في هذه البقعة من العالم فضلا عن مشاريع الفتح أيام الفتوة الإسلامية التي يزدريها الآن بعض المسلمين ، بل وبعض الإسلاميين ولو في الجملة ! ، في أعصار الانهزام السياسي والعسكري ، فهم يعتذرون عنها فليست إلا حلقة من حلقات الاحتلال الذي لا يخالف كثيرا عن الاحتلال الروماني والفارسي فهو حركة سياسية توسعية برسم الإمبراطورية المركزية دون نظر في أي قيم فكرية أو دينية ، فليست إلا لحاء كسى المصالح والمطامع في استنساخ شائه لصورة الاحتلال القديم مع القدر الفارق ، بداهة ، والذي شهد به من أنصف من خصوم الوحي إذ يقارن بين ما صنع وأرسى من أخلاق وقيم في مقابل ما صنعت بقية الإمبراطوريات القديمة ، فشهد به الخصم وتبرأ منه صاحبه فهو يجتهد أن يَنْفِيَ عن نفسه تهمة الفتح باسم الجهاد فذلك الإرهاب العسكري ، وتهمة الخلافة فذلك الإرهاب السياسي ، وتهمة الحكم بالوحي فذلك الإرهاب الفكري ، فَلَنْ يَصِيرَ عضوا صالحا نافعا في النظام الدولي إلا أن يَنْفِيَ عن نفسه هذا الثالوث الإرهابي : الفكري والسياسي والجهادي ، ففطن الاحتلال الحديث لما وقع فيه الاحتلال القديم الذي لم يزد المسلمين إلا استمساكا بالوحي فردهم إلى الرسالة وكان ما كان من مشاريع التجديد ، حقيقة لا دعوى ، وكانت الحركات السياسية الجهادية التي توجت بحطين ، كما كانت الحال بعد ذلك إبان الغزو التتري فبعد الانهيار السريع المفاجئ لأمصار الإسلام تحت سنابك الخيل التتري وكأنها قطع دومينو ! ، بعد هذا الانهيار السريع كان اليقظة الفكرية والسياسية وكان الحراك الجهادي الذي توج بعين جالوت وما بعدها بل كانت غلبة الإسلام الحضارية أن دخل التتر الغالبين في دين المسلمين المغلوبين ، فأدرك الغرب أن الاحتلال العسكري المباشر والاستنزاف الفج لثروات الشرق لن يزيد النفوس إلا مقاومة وممانعة ، ولو فكرية صامتة ، فلا تزيدها المحن إلا استمساكا بالوحي كحائط صد أخير ، ولو فكريا ، يحول دون ذوبانها في دين الغالب وثقافته ، فأدرك الغرب ذلك فانتقل إلى خطة بديلة ، وهي الغزو العسكري المباشر كخطوة أولى يُذْبَحُ بها الشرق وَتُكَسَّرُ عظامه وَيُقَسَّمَ جسده غنائم بين الذابحين ، كما صنع الغرب بعد انهيار الخلافة العثمانية بل وقبلها فاستقطع من أطرافها ما استقطع ، وإنما كانت الخطوة الأخيرة الإجهاز على القلب والمركز في بلاد الشرق فكان الإجهاز على مركز الخلافة في تركيا والشرق بعد استقطاع الأطراف عضوا بعد آخر فلم يعد القلب يملك أطرافا وأدوات يدفع بها عن نفسه فهي أدواته في التنفيذ ، فاختل العقل بما وفد من أفكار التغريب ، واستقطعت الأطراف بالغزو العسكري المباشر ، كما كانت الحال في احتلال الجزائر وتعاظم نفوذ القوى الاستعمارية في الهند وجنوب شرق آسيا وشرق إفريقية وشمالها فكان ذلك حصارا مبكرا لدولة الخلافة في حدها الغربي ، وكان اكتشاف رأس الرجاء الصالح كسرا لاحتكارها التجاري فكانت طرق التجارة العالمية من الغرب إلى الشرق تَمُرُّ ببلاد الإسلام ، العراق والشام ومصر ، فكان ذلك مصدر ثروة ورخاء جعل الشرق أَقْوَى في اقتصاده ، وذلك ما أسهم في قوته السياسية فضلا عن قوته الفكرية فهي الظاهرة أبدا بالحجة والبرهان ، وإن كُسِرَت في ميدان السياسة والحرب كما هي الحال الآن فإن حجة الرسالة لم تَنْكَسِرْ وإن انكسرت قوة الشرق السياسية والاقتصادية بما كان من مخالفة أتباع الرسالة عن منهاجها وإن أظهروا تعظيمها واتباعها ، فدعوى يكذبها الشاهد في الخارج ، فكان سعي الغرب القديم أن يفرض الطوق البعيد على العالم الإسلامي قبل النفاذ إلى الفضاء القريب ، وكان لإيران دور رئيس في فرض هذا الطوق من الحد الشرقي إذ الشعور بالغربة والعزلة العرقية والثقافية مع ما تقدم من الأحقاد التاريخية قد هيأها أن تقبل التحالف مع أعداء الإسلام من النصارى الذين ازدهرت قوتهم البحرية في تلك الآونة فكان التحالف مع البرتغال ومن بعدها بريطانيا التي ورثت تَرِكَةَ الاستعمار في الخليج ، وتكاد كردستان الكبرى ، وهي محل الشاهد الأول ، تكاد تكون ، كما يقول بعض المحللين ، طوقا بديلا يحاصر الشرق المسلم فيمنع تمدده شمالا فهو هلال آخر يتكون بالتوازي مع الهلال الشيعي الذي تحالف مبكرا مع القوى الاستعمارية القديمة ، فكان تحالفه مع البرتغاليين إبان نهضتهم البحرية لضرب الخلافة العثمانية في ظهرها وهي تفتح أمصار أوروبا الشرقية والوسطى تِبَاعًا فتعطلت حركة الفتح شيئا فشيئا وتحولت من سياسة الطلب إلى سياسة الدفع وبدأت بمقتضى السنة الكونية النافذة تَتَحَوَّلُ من المبادرة إلى المقاومة فلم يعد ثَمَّ من الهجوم ما يحقق فتوحات جديدة فضلا أنه يشكل حاجزا يَقِي الفتوحات القديمة إذ الهجوم ، كما يقول أهل الشأن ، خير وسيلة للدفاع ، فالهلال الشيعي لعب ولا زال يلعب دورا كبيرا في تطويق العالم الإسلامي السني ، معدن القوة الكامنة إن في الفتح أو في الدفع فمنه خرج الإسلام الأول ، من قلب الصحراء العربية ، فلا بد من تطويق هذا الخطر مبكرا بأحزمة جيوسياسية ، إفريقية وآسيوية ، فحزام في إفريقيا يحول دون تمدده جنوبا كما يظهر في السودان بعد التقسيم واستحداث الكيان السياسي الوظيفي الذي يحمل اسم دولة جنوب السودان النصرانية مع أن النصارى فيها أقلية ولكنها تحكم بواسطة النصارى وتلك ، كما يقول بعض المؤرخين ، ظاهرة تكاد تَنْفَرِدُ بها إفريقية ، ظاهرة الدول ذات الغالبية المسلمة والتي تحكمها نخب نصرانية نجح الاستعمار في إنتاجها فهي تضاهي النخب الوظيفية العلمانية في بلاد الشرق ، إذ هي أدوات التحكم والسيطرة على المجتمع وتنفيذ مشاريع الاستعمار عن بُعْدٍ لا سيما المشروع الفكري والمشروع الاقتصادي الذي يُحَوِّلُ دول الأطراف إلى فناء خلفي خادم لمشاريع المركز إن في تَوْرِيدِ الخامات أو في إقامة مشاريع استثمار مباشر أو غير مباشر ، فيكون الاستثمار المباشر بإقامة المصانع والمزارع التي تَرْعَاهَا وتديرها المجاميع الوظيفية التابعة تحت ذرائع من قبيل تشجيع الاستثمار وخلق فرص العمل ... إلخ , وليس ذلك ، لو تدبر الناظر ، إلا استمرارا للتبعية وتكريسا لها ، إذ تتحول الطاقة البشرية في الأطراف إلى مجاميع وظيفية خادمة فالقرار السياسي في الأطراف قرار تابع غير مستقل فليس ثم من الإرادة السياسية في الأطراف ما يتحمل عبء المشروع المستقل ، سواء أكان إسلاميا أم وطنيا ، فأي خروج عن حكم المركز ، ولو خروجا جزئيا ، فهو نذير الهجوم والتضييق مع تحريك المجاميع الوظيفية المضادة لأي مشروع استقلال فهي أعظم استثمار نجح فيه الغرب فليس نجاحه في الشرق استثمار مصنع أو مزرعة ، وإنما استثماره في العقول أن نجح في احتوائها وتوظيفها عن طريق الاستشراق السلطوي ، كما يسميه بعض الباحثين ، فالاستشراق قد جاوز أهداف الدفاع عن الكيان الغربي النصراني إلى أهداف الهجوم بعد أن نجح في استيعاب المد الإسلامي وتطويقه شيئا فشيئا فقد قضت السنة الكونية لأي مشروع فكري أو سياسي ألا يكون مده متصلا بل يشهد مدا ثم انحسارا كما هي حال الشرق الآن إذ يمر بمرحلة من أصعب مراحله فانحساره الفكري والعلمي والسياسي والعسكري قد بلغ حدا جعله يسقط في قبضة الغرب بعد أن كان هو السيد المنتصر فلم يأخذ بأسباب السيادة بل ركن إلى مجده التالد ، وذلك حق لا ينكر ، وإنما يستنكر العاقل الركون إلى هذا المجد التالد دون البناء عليه مع استمرار الحياة واتصال تيارها السياسي والعمراني ، فمثله كمثل من أنشأ قواعد محكمة ثم اكتفى بها وراح يَتَغَنَّى بصلابتها وليس ثم بيت يأوي إليه بل قد تهدم البيت وانهارت سقفه وحوائطه بفعل المؤامرة الخارجية مع ما سنح لها من انهيار في الداخل فلو كان الداخل صلبا متماسكا ما نجح الخصم في اختراقه ، فكان انهيار الداخل إذ فَقَدَ أسباب القوة والمنعة السياسية والعسكرية ، ولكنه فَقَدَ قبل ذلك أسباب المنعة الفكرية وهو ما يَسَّرَ ظهور النخبة العلمانية المستغربة فهي أعظم إنجازات الاستشراق السلطوي ، وهي ، كما تقدم ، تحاكي الظاهرة الفريدة في إفريقية ، ظاهرة الأقلية النصرانية الحاكمة للأغلبية الإسلامية في قارة انفردت أن الغالبية فيها من المسلمين ولكنهم كالعادة من المستضعفين ! ، فكانت الأحزمة الجيوسياسية الإفريقية التي تحول دول تمدد الإسلام السني من الشمال الإفريقي إلى العمق الاستراتيجي في الوسط والجنوب وهو ما يمثله الكيان الوظيفي الذي يحمل اسم دولة جنوب السودان التي ما كانت لتنشأ إلا بصفقة سياسية تكررت كثيرا ، وفيها ترضى السلطة الحاكمة في الأطراف سواء أكانت خائنة أم متخاذلة ، ترضى أن تَتَخَلَّى عن بعض الأطراف لتستقل فتكون مخلب قط جديد يستعمله الغرب في جرح الشرق وإيلامه ، فيظن الحاكم في هذا المصر أو ذاك أن السلامة له في ذلك فلا تحصل إلا أن يَبْذُلَ جزءا من الدولة كثمن للبقاء في السلطة سواء أكان يتخذ الإسلام شعارا كما هي الحال في السودان الآن ، أم كان يتخذ العلمانية شعارا ، كما صنع أتاتورك ، فإنه قد رضي بالصفقة فوافق على التخلي عن ولايات الدولة العثمانية العربية ، فَبُذِلَ له الثمن مناطق سيطرة ونفوذ استقطعت من الولايات العربية ، لا سيما في بلاد الشام ، وهي حده الجغرافي الجنوبي فكثير من محافظات تركيا الجنوبية هي مناطق تَتْبَعُ في التقسيمات الإدارية العثمانية ولايةَ الشام التي كانت تشمل سورية بامتدادها في الجنوب التركي الحالي فضلا عن لواء الإسكندرونة الذي استقطعته فرنسا من الساحل السوري وأهدته إلى تركيا ! بعد انسحابها من اللواء ودخول القوات التركية مباشرة في 1939 والذي يشبه من وجه انسحاب بريطانيا من الأرض المقدسة ، وإلغاء الحماية البريطانية وهو ما أعقبه مباشرة إعلان قيام الدولة اليهودية كبديل يشغل الفراغ السياسي والعسكري ، فكان دخول تركيا لواء الإسكندرونة شغلا لفراغ سياسي وعسكري تَرَكَتْهُ فرنسا فشغلته تركيا إذ كانت الحكومة المركزية في بلاد الشام ضعيفة مكبلة بإرث من الهزائم السياسية والعسكرية لا سيما بعد معركة ميسلون التي أبانت فيها القوى الدولية عن صدق وعودها للعرب ! ، بالخلافة العربية الجامعة على أنقاض الخلافة التركية ، فَلَمَّا رام العرب الاستقلال ببلاد الشام والحفاظ على وحدتها السياسية ، بعد نكوص بريطانيا عن الوعد الجامع ، فكان النكوص عن وعد أضيق في رقعته الجغرافية فلم يطق المركز كيانا عربيا موحدا في بلاد الشام فذلك بداهة ما يخالف عن مشروع المستقبل القريب مشروع الكيان اليهودي الوظيفي الذي ينفذ رؤى الغرب واستراتيجياته في المنطقة وإن كانت له رؤية واستراتيجية خاصة تَتَقَاطَعُ مع مصالح الغرب في أحيان كثيرة ولكنها تَتَعَارَضُ في أخرى وهو ما يفسر ما يكون في أحيان من خلاف بين الكيان اليهودي والنظام الدولي ، وإن كان الأمر في الجملة يسلك جادة : الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية ! ، لا سيما مع توافق المصالح الاستراتيجية الرئيسة في الشرق فثم عدو واحد وهو العدو التاريخي التالد : الإسلام الذي خرج من هذه البقعة فلا استقرار لمصالح المركز ما دام الإسلام شاهرا سيفه في هذه البقعة الاستراتيجية من العالم والتي تَرَكَّزَتْ فِيهَا الثَّرَوَاتُ وأسباب القوة الفكرية والسياسية التي تحول دون هيمنة المركز ، فمعركته مع الإسلام معركة وجود ، لا تحتمل قسمةً على اثنين ، وإن روج من روج لنظرية التعايش والتصالح ، سواء أكان علمانيا عميلا أم إسلاميا ساذجا أو مداهِنًا يتأول ذلك أنه خيار تكتيكي يخادع به المركز فيتحالف معه في القضاء على التطرف والإرهاب فهو أداة من أدوات المقاومة والتجفيف لمنابع الإرهاب العنيف ! ، مع أنه يدرج بعد ذلك في قوائم الإرهاب وإن كان ناعما فهو إرهاب فكري وسياسي ، فتحالفُ المركزِ معه تحالف تكتيكي لا أكثر للقضاء على الإرهاب العسكري مع أن الأول يَتَخَيَّلُ بفرط سذاجته أنه هو الذي يخدع المركز بهذا التحالف المؤقت فتفضي به الحال أن يتحول هو الآخر إلى مجموع وظيفي خادم لأهداف المركز وإن بشكل غير مباشر خلافا للمجموع العلماني الذي يخدم أهداف المركز بشكل مباشر ، بعد الانتقال إلى الخطة البديلة ، خطة الاستشراق السلطوي الذي يحكم السيطرة على الشرق بأدوات فكرية وسياسية ناعمة مع الاحتفاظ بخيار القوة المسلحة إن اقتضى الأمر ذلك ، سواء أكان ذلك إجراء مباشرا ينفذه المركز باحتلال مباشر وهو ما كان مبدأ الأمر ، كما تقدم من سياسة استقطاع الأطراف قبل الوثوب على المركز في الشرق بإجراء علماني صلب في تركيا وآخر ناعم في مصر ، فكانت العلمانية ضد الدينية الفرنسية ، وهي الصلبة ، كانت هي الإجزاء الفاعل في تركيا ، وكانت العلمانية البريطانية اللادينية ، وهي الناعمة ، كانت الإجراء الفاعل في مصر ، فبعد صدمات الغزو المباشر والإجهاز على العالم الإسلامي باستقطاع أطرافه استقطاعا صلبا شهد من المذابح ما يشهد بحضارة المركز ! ، الذي يزعم أنه لاديني منفتح قد تخلى عن الفكر الديني الكهنوتي المنغلق ، فكانت حربه الأولى حربا صليبية ، ولكنها الآن حرب تَنْوِيرِيَّةٌ حضارية يَرُومُ بها استنقاذ العالم الإسلامي من بَرَاثِنِ الجهل والتخلف فلا غاية له إلا تَثْقِيفُهُ وتحديثه ولا يكون ذلك إلا بالقضاء على دينه الرجعي المتخلف فهو ما يحول دون استسلام الشرق وسقوطه في قبضة الغرب ، وهو ، كما تقدم مرارا ، استنساخ شائه لتجربة العلمانية في أوروبا ، فلئن كانت علاجا لتسلط الكهنوت الديني في إمبراطورياتها فإن الشرق ، في الجملة ، لم يشك من ذلك ، وإن وقع منه شيء فأعراض انحراف عن أصل محفوظ لا يزال يندد بالقمع والاستبداد إن باسم الدين أو باسم السياسة فذلك إرث الوحي المحفوظ الذي جاء يخرج العباد من ضيق العبودية للبشر إلى فضاء حرية واسع أن يوحد الخالق ، جل وعلا ، في التصور والحكم ، فوحده الإله المعبود بحق ، وذلك ما يحرر الإنسان من أي عبودية أخرى ، سواء أكانت باسم الدين أم باسم الدنيا ، وهي ما يفحش أَثَرُهُ ويعظم شؤمه إن اقْتُرِفَ زورا باسم الدين كما هي الحال في الجزيرة العربية باستقراء ما يقع الآن من موجات انفتاح وتغريب مفاجئ يدل على هزيمة فكرية ونفسية عظيمة ، وإن كان الظاهر قبل ذلك أن الحكم للشريعة فقد أساء إليها الاستبداد حتى نشأت في أكنافه أجيال تَتُوقُ إلى يوم الخلاص فهي تسارع في التغريب بشكل فج مبالغ فيه فضلا أنه ساذج يقتصر على قشور العلمانية فَلَيْتَهُ نَفَذَ إلى لُبِّهَا فطالب بحقوقة السياسية وإن من منظور غربي مع أن في نظرية الوحي السياسية والتشريعية غنية عن أي مشاريع علمانية تغريبية ، فتجد قطاعات من المجتمع ليست بالقليلة أو بالهينة ، فقد يكون العدد قليلا ولكن انتماءه إلى نخبة المجتمع التي تملك أسباب القوة والسيطرة وهي في الغالب ما يسارع في الترف والتنعم ولكن انتماءه إلى هذه النخبة يجعل أثره أعظم فيجعله أكثرية بما يملك من الأسباب وإن كان أقلية في عدده ، فتسارع هذه القطاعات في هذا التغريب فَرِحَةً جذلة إذ قد فُرِضَ عليها الدين تقليدا لا تأصيلا ، وكان ، من وجه آخر ، أداة من أدوات السياسة البراجماتية فهي توظفه لتحقيق مصالح مادية فتجعله تارة ذريعة لقمع المعارض السياسي وتجعله أخرى أداة تقاوم أي مشروع وافد يهدد السلطة سواء أكان حقا أم باطلا ، فكان الدين في أحيان أداة تقاوم المشروع الثوري القومي الاشتراكي الوافد من مصر ، وصار في أخرى أداة تقاوم خصوم هذا المشروع القومي من أنصار الإسلام السياسي ، فانقلب حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم وهم أعظم من يدفع ثمن التحولات السياسية في المنطقة على وجه يثير الغيظ من هذا الحمق المتكرر ، وانقلبت الأنظمة العسكرية من عدو إبان الحقبة القومية إلى صديق إبان الحقبة الليبرالية الأمريكية فالجميع تابع خاضع لواشنطن والتحالف تحت لوائها هو أقصى ما تَتَمَنَّى هذه الأنظمة المتساندة ، وصار الدين في ثالثة أداة تقاوم المشروع الثوري الشيعي الوافد من طهران فهو مشروع ثوري يلبس عباءة الدين ، ولو زورا ، فلا بد من مقاومته بمشروع يلبس عبادء الدين ، أيضا ، وإن كان في مفرداته الفكرية حقا ، إلا أنه الحق الذي أريد به غرض سياسي براجماتي فلم يكن الغرض حفظ عقائد الناس ، وإنما كان الغرض الحفاظ على عقيدة الدولة الجامعة بعد تحولها إلى أداة سياسية تضمن وحدة البلاد وسلامتها من التنوع الأيديولوجي الذي يهدد استقرار الحكم ، وذلك باستقراء التاريخ هو ما صنع الشاه إسماعيل الصفوي في إيران ، فإنه بعد انتحاله العقيدة الشيعية الإمامية لم يجد طريقة يوحد بها الشعوب الإيرانية فهي على أنحاء شتى حتى الآن ، فتوحيدها أمر صعب عسير المنال إلا بآلة قمع تقهر وتخضع ، وعقيدة قوية صلبة تتسم بالانغلاق والتعصب ولو في أذهان العامة خلافا لأذهان الساسة فإن فضاء السياسة البراجماتي وهامش المناورة التكتيكي فيها واسع فضفاض لا سيما والمذهب نفسه يجعل التقية ، ولو كذبا ، دينا يثاب فاعله ! ، فهي تسعة أعشار الدين ، فكان أن حمل الشاه إسماعيل الناس على مذهبه الإمامي واقترف ما اقترف من المذابح لإفناء الأغلبية السنية أو تَرْكِيعِهَا مع قتل رءوسها الفاعلين في الفكر والسياسة واتخاذ رءوس فكر استقدمها من لبنان وشرق الجزيرة العربية ، فاتخذ من مراجع التشيع في تلك البلاد رءوسَ فكرٍ تروج لمذهب الدولة الجديد وكان توظيف الدين في بلاط السياسة لصناعة نواة فكرية صلبة تقوم عليها الدولة ، وهو ما صنع آية الله الخميني مرشد الثورة في 1979 فإنه نجح في تكوين نواة فكرية صلبة لثورته مع أنه ، كما يرصد بعض الفضلاء ، أَحَسَنَ يُنَاوِرُ وَيُدَاهِنُ ، فتلاعب بخصومه في الداخل ونجح في تحييد الخصوم في الخارج حتى حين فلم تكن طائرته لتهبط في طهران لولا أن أصدرت واشنطن الأمر لنخبتها العسكرية في الجيش الإيراني ألا تستهدف الإمام الثائر فقد أعطى واشنطن وعودا أنه صمام الأمان الذي يقي واشنطن من الانفجار الثوري الصادق على مصالحها الاقتصادية والسياسية في إيران ، فأدركت واشنطن عبر زيارات قام بها بعض المسئولين العسكريين أن أيام الشاه معدودة وأن الشارع يغلي فلا بد من استباق الأمر بثورة شعبية أو أخرى عسكرية كما وقع في مصر في يوليو 52 ، فالمركز يستبق أي ثورة حقيقية فيحتويها ويحرفها عن مسارها لا سيما ووكلاؤه في الداخل كثير فضلا عن جموع من المغفلين قد يكونون ، في أحيان كثيرة ، من الإسلاميين المستعدين للتعاون دون وضوح في الرؤية والاستراتيجية خلافا لعقل استراتيجي كعقل المرجع آية الله الخميني فكان الرجل ، كما يصفه بعض الأفاضل ، ماكينة سياسة بنفس ثوري يعجب الجماهير المتعطشة للحرية والتي تحركها العواطف الجياشة فخطابها لحظة الانفجار لا يكون إلا خطاب الحماسة لا خطاب التبريد فلحظة الثورة ، كما يقول بعض الفضلاء ، لحظة فارقة لا تتكرر والجموع الثائرة سرعان ما تهدأ فإن لم تجد عقلا استراتيجيا يحركها نحو الهدف ، حقا أو باطلا ، فسرعان ما تخمد نارها وتفتر حماستها بل وتصير بعد ذلك من أشد الناس عداوة للثورة لا سيما بعد نجاح الثورة المضادة في احتوائها ثم عقابها بسيل من الأزمات يجعلها تشتاق إلى أيام الاستقرار ولو تحت حكم القمع فتكون بعد ذلك أول من ينادي بذبح الثورة واستئصالها فهي تحرض بل وتشارك في الثورة المضادة وقد كانت بالأمس مادة الثورة ، فمن كان بالأمس يحمل على الأعناق يُدَاسُ اليوم بالأقدام إذ وجدت الثورة المضادة من فضاء الدعاية والإعلام ما صنعت به عقلا جديدا يرى العدو الأخطر هو الثائر القديم ! فقد انتهت اللحظة الفارقة بسرعة ولم تجد من يحسن استثمارها ، كما يضرب بعض الفضلاء المثل بعمرو كُرَيِّم ، رحمه الله ، حاكم الإسكندرية مطلع الحملة الفرنسية فقد قاد المقاومة فأعظم النكاية في الفرنسيين وكانت النفوس تحبه بل وتفديه بالروح والدم ! ، فلما انكسرت المقاومة وقع في الأسر ولم يشأ نابليون أن يقتله إذ أعظم فيه شجاعته وشهامته ، ولو خصما ، في مشهد يضاهي مشهد السلطان سليم الأول إبان دخول العثمانيين مصر بعد انتصارهم على المماليك في الشام ، في موقعة مرج دابق الشهيرة الَّتِي خَانَ فِيهَا بعض قادة المماليك السلطان قنصوة الغوري وكان من أشجع الناس فقتل في الميدان وهو شيخ ناهز السبعين ، فخانه جان بردي الغزالي وخاير بيك فكانت الهزيمة في مرج دابق ، وبعدها سار السلطان سليم الأول إلى مصر وأسر طومان باي ، آخر قادة المماليك البرجية في مصر ، أسره بعد أن استمات في الدفاع عن سلطانه في معركة الريدانية غير المتكافئة ومع ذلك أبى طومان باي ، بشجاعة وشهامة صارت مضرب المثل ، أبى أن يستسلم فقاتل حتى النهاية ووقع في الأسر بخيانة بعض مشايخ العربان فلما وقف بين يدي سليم الأول لم يذل ولم يخضع بل أبدى من ضروب الشجاعة ما جعل السلطان سليم الأول يضن به فعدل عن قتله لولا أن ألخ الخائنون بذلك ! ، فكان محمد كُرَيِّم ، محل الشاهد ، كان بَيْنَ يدي نابليون كطومان باي بين يدي سليم الأول ، فأعظم نابليون في محمد كُرَيِّم شجاعته النادرة وطلب منه الفداء 25000 جنيه يجمعها في أربع وعشرين ساعة فقط ، وهو تاجر كبير له من الديون الكثير ، وله ، مع ذلك ، سابقة فضل ويد منة على عموم التجار في بر مصر فضلا أنه قائد المقاومة الذي التفت حوله الجماهير أيام حرارتها فلما بردت بعد الهزيمة وانكسار المقاومة في موجتها الأولى مع ما أصابها من الإحباط ومشاعر الخوف من المحتل ومشاعر الأنانية والسلبية وهي التي تغلب على الناس في أعصار الهزيمة السياسية والعسكرية ، فلم يجد بطل الأمس من يقرضه هذا المبلغ ! فضلا أن يهبه فيستنقذ قائد المقاومة من هذا المصير فراح ذلك الشهيد يطوف بالناس طلبا للفداء أن يشتروه بهذا المبلغ فلم يجد أحدا ينهض أو يهتم فكل قد اشتغل بنفسه وانصرف إلى حاله وخاف التجار أن يكون ذلك طعما يلقيه نابليون ليعلم من يتعاطف مع المقاومة فيسارع بالبطش به ويعلم مقدار ثروته فيبادر بمصادرتها فلما عجز محمد كُرَيِّم رجع إلى نابليون الذي أبدى أسفه وقال القول المشهور : لست أنا من قتلك وإنما قتلك شعبك الجبان الذي أبى استنقاذك ! ، وكذلك المثل بأحد أبطال المقاومة من أعيان التجار في بَرِّ مصر وهو مصطفى البشتيلي فقد كان قائد الجماهير التي أحبته لكرمه وشجاعته وفضله وأياديه البيضاء على كل أحد ، فكان القائد إبان المقاومة فحرارة الثورة والمقاومة قد اشتعلت في النفوس فَلَمَّا بردت بعد الهزيمة باعته الجماهير كالعادة ! ، بثمن بخس ، بل وشاركت في تجريسه ، أن يركب الدابة وظهره إلى مُقَدَّمِهَا ، وقذفته بالحجارة إمعانا في إرضاء المحتل المنتصر فكل الآن يخطب وده ولو بالمبالغة في النكاية بالقائد الذي سقط فلم يجد من يرع له حرمة وسابقة فضل وإحسان ، بل وتولى كبار معاونيه الإجهاز عليه بالعصي الغليظة فذلك دليل الولاء للسلطة الجديدة ! ، وهل صنعت الجماهير بتيار الإسلام السياسي في مصر إلا ذلك ؟! ، فخيره على الجميع وهو في نفس الآن كبش الفداء السهل الذي يقدم قربانا للسلطة الجديدة التي تملك أسباب القوة الناعمة والصلبة ، ولكنه لم يحسن قراءة التاريخ قراءة المتدبر المعتبر ، واضرب المثل برجل آخر عظيم الهمة دخل المغرب واحدا في نفسه مؤيدا بعزمه ومكره ، وهو أبو عبد الله الشيعي الذي أنشا لبني عبيد ملكهم العظيم في المغرب ، فأتى على دول بأكملها ونشر دعوة الإسماعيلية في قبيلة كتامة المغربية ، عصبة الدولة الجديدة ، وأمر الناس بالخضوع والطاعة التامة للإمام المهدي الذي وفد على البلاد وتولى الأمر وكان من أوائل ما صنع أن قتل الرجل الذي أنشأ له هذا الملك العظيم ، فأرسل من يقتل أبا عبد الله الشيعي فَلَمَّا رام الإجهاز عليه نهاه أبو عبد الله فقال القاتل بعفوية : أمرني بقتلك من أَمَرْتَنِي بطاعته ، وذلك أيضا ، عذر الناس بعد امتصاص صدمة الثورة واستمالة فئام منها حتى صارت تدافع عن الدولة القديمة فهي تُبَرِّدُ النَّاسَ وتخمد فيهم حَرَارَةَ الثورة بما تكيل من الثناء المفرط على الدولة القديمة فهي خط أحمر لا بد من الحفاظ على مؤسساته ورجالاتها من الذهب الخالص ، فأمرها بِقَتْلِ الثورة من أمرته بطاعته وأثنت عليه ! ، فما ذنب من قتل أبا عبد الله الشيعي ، وما ذنب الجماهير التي خرجت تطالب برأس الإسلام السياسي معدن الإرهاب والتطرف وإن لم يحمل سكين طعام بها يدفع عن نفسه ، فأبو عبد الله الشيعي وتيار الإسلام السياسي قد صنعا نفس الصنيع فكانت الحكمة في سنن التاريخ المحكم أن يَلْقَيَا نفس المصير ، وهو المصير الذي نجا منه آية الله الخميني إذ كان ، كما تقدم ، آلة سياسة وثورة وداهية في التخطيط والتنفيذ فامتلك خلاف بقية حلفائه المؤقتين في الثورة على الشاه ، امتلك رؤية واستراتيجية تامة شرع في تنفيذها من اليوم الأول بعد هبوط طائرته في طهران بسلام بإيعاز من الأمريكان للجيش ألا يعترضوا طائرته فكانت واشنطن تطمح في حكم مدني في الظاهر وإن بقي الجيش في الخلفية يحكم فهو صنيعة واشنطن ، وتلك صورة من أَصْلٍ أول ، وهو ما كان في تُرْكِيَا من حكم مدني في الظاهر خلفه جيش علماني شرس يرعى مصالح المركز ويبالغ في الحفاظ على قيمه فهي قدس الأقداس الأتاتوركية ، وتلك صورة صلبة من العلمانية ، ولكن الهيكل العام واحد ، هيكل مدني خلفه قوة عسكرية تتحكم في الأمر ، فهي التي تضع يدها على زر التغيير العنيف إن حصل أي تهديد لمصالح المركز فرعايتها لمصالحه سر وجودها إذ ما استنبطت هذه النخبة في أرض الشرق إلا لهذا الغرض فصار وجودها رهينة لمصالح المركز فهي في فلكها تدور فأي تهديد لمصالح المركز ، فكريا أو سياسيا أو اقتصاديا ، هو تهديد مباشر لهذه النخبة التابعة ، فثم تعاضد ولو من باب التقاء المصالح ، فالنخب الحديثة ليست إلا أدوات تحكم وسيطرة تقمع أي خطر يتهدد المركز ومصالحه ، ولو على المدى البعيد ، فالرؤية والاستراتيجية تقضي أن يحسم الورم في مبادئه قبل أن يستفحل وينتشر في البدن فيصعب استئصاله ، وهو ما نجح فيه الخميني ، ولو جزئيا ، فقد توسمت فيه واشنطن أنه مرجع روحي لا أكثر لمشروع سياسي لا يخرج عن سيطرتها فثم جيش يحرس مصالحها ، فكان أن هادن الخميني حتى صارت له في البلاد كلمة مع إجماع الناس عليه باختلاف أيديولوجياتهم فنجح في خداع الجميع في الداخل وفي الخارج ثم كَشَّرَ عن أنيابه الثورية فكان ما كان من محاكمات صورية لرموز النظام القديم العسكرية والسياسية مع إنشاء لجان ثورية تَتَلَقَّى أحكام التصفية والقتل منه بشكل مباشر فهي مجاميع وظيفية استئصالية قد أشربت قيم الثورة إلى حد التعصب والغلو فراحت تمارس التطهير العنيف فلا احتواء ولا إصلاح ولا إعادة هيكلة لدولة الشاه وإنما المواجهة الشاملة التي تَتَأَيَّدُ بالجموع الغفيرة وإن خُدِعَتْ ، بادي الرأي ، فسرعان ما طالتها أنياب الثورة التي لم يسلم منها أبناؤها فضلا عن غيرهم ، فأكلت الثورة أبناءها الذين أشربوا قيمها فضلا عن خصومها ، وانتهى زمان التقية السياسية وكان القتل والإعدام والتصفية لعشرات الآلاف وانتقل الناس من استبداد علماني إلى استبداد ديني ، يخالف عن مصالح المركز في أحيان كثيرة فَلَهُ من الرؤية المستقلة ، ولو نسبيا ، وله من القوة العسكرية ما يجعله صاحب مشروع في الإقليم ، ولو تدبر الناظر ، من باب الإنصاف في الحكم على التجارب السياسية ، لو تدبر التجربة الثورية في إيران وهي تجربة فريدة في التاريخ الحديث ظهرت آثارها فورا ولا تزال فكان لها من رد الفعل في دول الجوار ما أرهب الأنظمة وحملها على دعم العراق كحائط صد عسكري ، وحملها على دعم التوجه الديني السني من منظور براجماتي بحت وإن كان ثم خير فهو في الأدوات الفاعلة ، لا سيما الأدوات الجماهيرية التي تبث فيها نخب الفكر والدين الْمُسَيَّسَةُ من الأفكار ما لا يخلو من الحق فتسارع الجماهير إلى انتحال هذه الأفكار والعقائد فهي تَذُبُّ عنها وَتَدْفَعُ وهي تصارع لأجلها وإن ذهبت نفسها لها فداء فلا أشرف من العقد الذي يَبُثُّ في القلب حرارة غريزية بها تغتذي الجوارح وبها تَتَحَرَّكُ الضمائر فيكون من ضمير الجمع ما يصدق دعاية الفكر والسياسة ، فتتحرك الجماهير انتصارا للفكرة فهي أشرف ما ينتحله الإنسان إذ به يظهر القدر الفارق بينه وبين الحيوان الذي يأكل ويشرب وينكح ، فالوظائف البيولوجية لا يحصل بها تمايز بين الأنواع ، وإنما تتفاضل بما يكون لها من العقل مناط التكليف والفهم ، فَلَيْسَ الإنسان إلا كلمة ناطقة تحكي فكرة باطنة انتحلها الجنان فآمن بها إيمان اليقين الجازم فتحركت الجوارح وانبعث الجمهور يفدي الفكرة بروحه ودمه ، فكانت فكرة الوحي ، وهي المثال الأبرز ، فلا أشرف من الدين يحرك الجموع ، فهو يجاوز بها حد العاجل من أمر المعاش الزائل ، وإن كان يرعى هذا المقصد ويعتبره ، فلا يجعله غَرَضًا أول تتحرك لأجله الجماهير فلا يَنْحَطُّ بها إلى دركة الحيوان الذي لا تَنْتَعِشُ جوارحه إلا بما يشبع غرائزه المحسوسة فالعقل آلة التكليف وأشرف أجناسه التكليف بالوحي فهو معدن العدل في التصور والحكم ، واعتبر بتجربة آية الله الخميني ، آلة السياسة والثورة معا ، كما تقدم ، وإن كان ضلاله في الفكر والفعل عظيما بما بث في النفوس من مادة الغلو والتطرف الفكري وهو ما انعكست آثاره في الفعل السياسي والعسكري ، فكانت مغامراته البراجماتية ، كما يَتَنَدَّرُ بِهَا بعض الفضلاء ، فَكُلَّمَا وقع في مأزق أَخَذَ بِنَاصِيَةِ الجماعة الإيرانية فضربها بحائط عريض ، فهو يحافظ على تماسك الجماعة المتباينة الأعراق والأجناس والمشارب ، فلا يجمعها إلا خطر يتهددها من خارج ، أو معركة مصير يحددها الزعيم وحده ، فكانت أزمة الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية ، وهو ما كان إعلان تمرد مبكر ، وإن لم يخل الأمر من تعاون يخفى تارة ويظهر أخرى فتغلب عليه البراجماتية السياسية وهو ما تفسح له التقية المذهبية فضاء واسعا من المناورة التكتيكية ، فكان التلاعن والتلاسن في التظاهرات التي تُنَادِي بسقوط الشيطان الأعظم وتحرق أعلامه وتدوسها بالأحذية ! ، وكان التشارك والتعاون في الصفقات العسكرية ، كصفقة إيران كونترا ، والصفقات السياسية كصفقة الحرب على بلاد الأفغان وبعدها العراق وهي الصفقات الأنجح في تاريخ إيران السياسي الحديث بعد الثورة ، فَلَئِنْ رَعَى المركز هذا التمدد إلا أنه لا يستطيع ضبط الحراك السياسي والميداني الذي يقوم على التدافع والتنازع المستمر ، فنجحت إيران في تحقيق اختراقات نَوْعِيَّةٍ وإن لم تخرج عن السيطرة بالكلية ، فَلَا زال المركز يمسك بالزمام وإن انتزعت منه إيران مكاسب كثيرة بتضحيات عظيمة إذ آمن الشعب كله بفكرة الزعيم التي استعمل لأجلها ما استعمل من قيم الدين ومعانيه فهي ، كما تقدم ، أعظم ما يحرك النفوس ، فكانت ثورة الشعب كله ، وكانت معارك الزعيم التي حشد بها الجبهة الداخلية فحاصر الشيطان الأعظم في سفارته ، وأعلن الحرب على الجوار العراقي ومن وراءه الفضاء العربي السني ، فكان البدء في تصدير الثورة ، ثورة المستضعفين على الظلم وهو معنى شريف أحسن توظيفه مطلع الثورة التي اكتسبت أنصارا في العالم السني ، لا سيما في أوساط الجماهير خلاف النخب السياسية التي أدركت الخدعة وإن لم يكن لها غرض في نصرة دين أو ملة ، فلا يَعْنِيهَا إلا الحفاظ على أنظمة الحكم ، فسارعت بدعاية دينية مضادة ، وازدهرت بضاعة السنة وصار لها من الرواج في سوق الأفكار بقدر ما يدفع دعاية التشيع الفارسي ، وذلك حق آخر ، أراد به الساسة كالعادة باطلا ! ، وإن لم يخل من نفع استفادته العامة أن تَنَبَّهَتْ لخطر الثورة الإيرانية إذ جاوزت فعل السياسة إلى فضاء الدين والفكر ، فَتَسَلَّلَ الباطل في ثياب حق تستحسنه النفوس الشريفة ، فمن ذا يكره الثورة على الظلم كما ثار الحسين رضي الله عنه عليه ، وهو ، كما يقول بعض الفضلاء ، نجاح في استثمار مقتل الحسين شهيدا ، فجاوز به الخميني عتبة اللطم والندب ، وإن لم يخل المشروع السياسي من الملاطم والمآتم المعتادة فهي ركز ركيز ونواة أصيلة لأي طرح شيعي ، سواء أكان كلاسيكيا أم ثوريا ، فاستثارة الأحزان والأحقاد عقيدة في صلب المذهب الشعي السياسي ولولاها كما يقول المرشد الحالى لخمد المذهب وخمل بإخماد نار العاطفة التي تؤججها المراجع في صدور العامة وتحسن تُوَظِّفُهَا في معارك الحرب والسياسة ، وأي دعوى باطلة لا بد لها من قدر هائل من العاطفة يطمس نور العقل بالتعصب الأعمى الذي تغذيه مادة غلو في الحب لا ينفك عن آخر في البغض ، فيكون الولاء التام الذي لا يسلم لصاحبه إلا بِبَرَاءٍ تام من أعداء آل البيت الذين يُعَيِّنُهُم المراجع طبقا لحساباتهم السياسية ومن يريدون الآن وضعه في خانة العدو الاستراتيجي الذي يستحث الأمة أن تقف صفا واحدا كما أوقفها الخميني في حرب الخليج الأولى ضد العراق ، حائط الصد الذي يقف في وجه العدل الذي نجح فيه الخميني إذ أخفق الأئمة سابقا فكان من دولته الزاهرة ما لم يكن في العصور الغابرة ! ، فالرجل ، كما تقدم مرارا ، آلة سياسة وثورة فهو ثائر في الفكر وثائر في الحكم قد نجح في استحداث مرجعية سياسية جديدة تمثل نقلة نوعية في المذهب جدد بها الإمام من فعل السياسة ما صيره نائب المعصوم فأطلقت يده في الجماهير فمن ذا يطيق المخالفة عن أمر الإمام الغائب والنائب الظاهر الذي برز بعد أجيال وأحقاب ليحارب قوى الاستعمار والظلم والاستكبار والصهيونية والإمبريالية ....... إلخ من الدعاية الثورية الكلاسيكية والتي امتزجت بالدين فاكتسبت قداسة في التأصيل وفدائية في التنفيذ فكان من استبسال الشبيبة الإيرانية في الحرب الإيرانية العراقية ما كان مضرب المثل في الفدائية التي بلغت في أحيان حد الجنون في الاقتحام بلا سلاح فَكُلٌّ يَرُومُ مقعده في الجنة الذي بشره به الولي الفقيه ، فأحسن يصنع العدو في الداخل وفي الخارج فمن خالف عن أمره في الداخل فهو خائن للثورة مَصِيرُهُ الإعدام على يد لجان الثورة الجديدة التي سرعان ما نمت وسحبت بساط القوة من تحت أقدام المؤسسة العسكرية الرسمية فهي تَتْبَعُ المرشد مباشرة وهو ما يجعلها مركز قوى ونفوذ لا ينافس ، فكان تمددها شيئا فشيئا في فضاء العمل العسكري ، فتحولت إلى جيش يوازي الجيش النظامي فكان الحرس الثوري ذو التسليح النوعي وذو التخطيط بعيد المدى فقد نشأت له أجنحة في الداخل تحفظ الثورة من أعدائها فكانت نخبة الباسيج ، ونشأت له أنشطة تكنولوجية بها استقل في صناعة السلاح وتطويره ليسد الفجوة التقنية بَيْنَهُ وَبَيْنَ خصومه بعد فرض العقوبات وإن نجحت الدولة الإيرانية في التحايل عليها حتى صار لها من نشاط البحث ما جاوز الخطوط النووية الحمراء ! ، وصار للحرس الثوري من النشاط الاقتصادي ما جعله رقما فاعلا في اقتصاد البلاد فهو مؤسسة قد اكتملت أركانها فَلَهَا من الأيديولوجية الصلبة ما يحفظ تماسكها فهي تتبع المرشد مباشرة في الفكر والثقافة ، ولها من قوة الفعل السياسي ما تَتْبَعُ فيه ، أيضا ، المرشد الأعلى ، فهي الآن ذراعه الفاعل في مشاريعه في الإقليم ، ولها من قوة التصنيع ما يجعلها رائدة في الإقليم فلا أحد تقريبا في المنطقة ، باستثناء تركيا وإيران ، يصنع سلاحه ولو خفيفا بنفسه ، ولها من قوة الاقتصاد ما جعلها رقما فاعلا في عالم المال والأعمال على وجه لم يشغلها عن الهدف الأيديولوجي المقدس ! ، فبرزت هذه النخبة في مقابل الجيش النظامي ، جيش الشاه الذي تشرب قيم العلمانية وَالتَّبَعِيَّةِ الكاملة لواشنطن فَلَا يُؤْمَنُ جانبه قبل تَغْيِيرِ عقيدته العسكرية وظهور أجيال جديدة تستبدل بالنخب القديمة ، فبرزت هذه النخبة البديلة لا سيما والمرشد قد تقصد إضعاف الجيش مطلع الثورة بتصفية قَيَادَاتٍ من الصف الأول ، واختزال فرق وألوية فَتَقَلَّصَ حجم الجيش إلى ما يقارب النصف فهو جيش لا تأمن الثورة بطشه ، فاستحدث المرشد قُوَّةَ الحرس الثوري ، وقادته الآن ، لو استقرأ الناظر تَارِيخَهم ، كانوا نخبة الشباب الثوري ذا المرجع الأيديولوجي الذي استعان به المرشد الأعلى مطلع مشروعه في تطهير الداخل من خصومه وتحقيق طموحه في الخارج ، مع تمتع كثير منهم بقدر راق من العلم الأكاديمي وعقل واع يحسن هضم السياسات والاستراتيجيات وهو ما تمتاز به النخبة الإيرانية الحالية فكثير منها قد جمع العمل السياسي والعسكري ، وكثير منها يحمل أعلى الدرجات العلمية في التخصصات الإنسانية أو التجريبية ، ورئيس الدولة خير شاهد على ذلك فضلا عن رجال من أمثال الرئيس الراحل هاشمي رافسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي ومحسن رضائي قائد الحرس الثوري السابق وسعيد جليلي أحد مسئولي التفاوض في الملف النووي وعلي لاريجاني وأخوه محمد صاحب نظرية "أم القرى" التي أسس فيها لتحول المرجعية الفكرية في المنطقة من مركز الثقل السني إلى مركز الثقل الشيعي ومير حسين موسوي المرشح الرئاسي في 2009 ، والجنرالات رحيم صفوي ومحمد علي جعفري ومحمد حسين باقري رئيس هيئة الأركان الحالي وهو أول رئيس أركان قادم من الحرس الثوري في دلالة لا تخفى على تغلغل الحرس الثوري في المؤسسة العسكرية ....... إلخ وليس ذلك من الترويج لطرح يخالف طرح الرسالة الأولى ولكنه استقراء لتجربة الخصم ففيها ما يعظم نفعه ، ولعل هذه النخبة لو تدبر الناظر ، كانت سببا رئيسا في تماسك الدولة حتى الآن مع ضعف المجتمع بما بَيْنَ قطاعاته وأعراقه من تَبَايُنٍ يصل إلى حد التشاحن والتباغض لا سيما على الخلفية المذهبية الشيعية والسنية ، والخلفية الإثنية الفارسية والعربية والكردية والبلوشية والأذرية وإثنية اللور في لورستان ..... إلخ فهي شعوب متباينة يجمعها اسم إيران في الظاهر ، فهو يرمز إلى الشعوب الآرية ، ويستأثر بالحكم فِيهَا الفرس فذلك باطن الأمر ، وإن استعان الفرس بِبَعْضِ العناصر الفاعلة من بقية القوميات فلا يبلغ ذلك حد التشارك التام في صنع القرار ، فهو فارسي في معظمه ، فالنخبة الفارسية لا تمانع في وزير دفاع عربي ومستشار عسكري رفيع المستوى كعلي شمخاني فولاؤه للثورة ولاء تام جاوز به عَتَبَة الْعِرْقِ فَرَضِيَهُ الفرس في هذا المنصب الحساس بعد اختباره بداهة اختبارات دقيقة لا ينجح فيها إلا من تَشَرَّبَ قيم الثورة ، بل ولا يمانع الفرس في مرشد أعلى من عِرْقٍ يُخَالِفُ العرق الفارسي كالمرشد الحالي علي خامنئي ، فَلَهُ من الباع السياسي والثوري ما يجعله أهلا لهذا المنصب الذي لا يجاوزه منصب آخر ، فكان للرجل من المآثر ما جاوز حد الْعِرْقِ ، وإن لم يخرج عن نظام الحكم الذي يجعل الدولة فارسية الهوية وإن تولى أمرها عربي أو كردي أو أذري .... إلخ فالعبرة بالنظام العام الحاكم ، وتوازنات القوى في المجتمع ، فلئن لم يكن الفرس هم الأغلبية العظمى إلا أنهم قد نجحوا في الاستئثار بأسباب القوة فهم كأي نخبة في الدول المجاورة فغالبا ما تكون القلة التي تستأثر بأسباب النفوذ لتخضع بقية الجمهور ، طوعا أو كرها ، وهذه النخبة الثورية في إيران هي ، كما تقدم ، والله أعلم ، سر بقاء هذا البناء متماسكا حتى الآن مع هشاشته في الداخل بما يشكو من معضلات ثقافية واقتصادية ، فثم نخبة قوية تقود مجتمعا متغاير الأعراق فهي قيد صارم يحول دون انفراط العقد ، وللناظر أن يقارنه بواقع بائس كواقع مصر ، فثم مجتمع وإن كان الآن في مرحلة ضعف وانهيار في القيم والأخلاق فضلا عن ازدراء لقيم الوحي والدين ومطاردة لآي بادرة تدين وإن في ملاعب الكرة ! ، فضلا عن المساجد ومعاهد العلم والبحث ومصانع السياسة والفكر ، فثم الآن حملة تطهير واسعة النطاق من جرثومة الدين التي تُهَدِّدُ النظام الحاكم مع تقصد النخبة إضعاف المجتمع واستلاب أي سبب من أسباب القوة ليظل المجتمع رهين السلطة ، فثم هذا المجتمع الذي يشكو هذا الإضعاف المتعمد إلا أنه بالنظر في وحدته الفكرية والأيديولوجية خير من المجتمع الإيراني ، فثم مجتمع واحد ، في الجملة ، في التصور والفكر فَلَوْ كانت له نخبة كنخبة إيران الآن قد تشربت قيم مشروع فكري وسياسي محكم ، لا سيما وعندها من الحق المحفوظ ما يضاهي نظرية الإمامة المحدثة التي يظهر بطلانها لأي دارس متفحص ، فعندها من نظرية الفكر والسياسة الشرعية ما يُغْنِيهَا عن النظريات المذهبية المتعصبة والنظريات البراجماتية الانتهازية ، فَلَوْ كان لمجتمع كالمجتمع المصري نخبة تؤمن بأفكارها كالنخبة الإيرانية لكان له شأن آخر ، فضعف البناء الاجتماعي في إيران قد عوضه تماسك النخبة ، ووحدة المجتمع المصري في التصور والتوجه الفكري لم يغن عنه شيئا إذ ابتلي بنخبة لا تفقه شيئا لا في سياسة ولا في حرب ، فليست إلا نخبة 50% في الشهادة الثانوية ! ، فلا تصور ولا رؤية ولا استراتيجية ولا أي شيء ! إلا التدبير والكيد لتطويق المجتمع والاستئثار بأسباب قوته مع أن هذا التخطيط المحكم مما يَبْعُدُ في الجملة أن يكون من بنات أفكار نخبة كهذه فهي آلة تنفيذ لا أكثر ، فثم دوائر تخطيط أكبر نجحت في استدراج التيار الإسلامي كالعادة ! ، وهو ، شاء الخصم أو أبى ، يشكل نخبة هذه الأمة إذ يَتَبَنَّى قيمها وأفكارها فلا يخرج عن الإطار العام وإن بَلَغَ التشويه والتسطيح للعقائد والأفكار ما بَلَغَ ، فكان استدراج هذه النخبة كما حدث في مصر في السنوات الأخيرة ، فأقحمت في صراعات غير متكافئة أساءت فيها رءوس التيار الإسلامي التخطيطَ والتنفيذ أيما إساءة فقد أفضى الأمر إلى استئصال قوة المقاومة الفكرية والسياسية الأكبر في المجتمع فَجُرِّدَ المجتمع من نخبة فاعلة ، ظن المجتمع تحت ضغط آلة الإعلام والدعاية أنها العدو فشجع السلطة أن تستأصله وما علم أن هذه النخبة هي عماده الرئيس ، فهو يدفع الثمن الآن كما تدفعه نخبة التيار الإسلامي ، فالمجتمع الآن بالإجماع ، من أيد ومن عارض ، المجتمع الآن يشهد حالا من الانهيار على كافة المستويات فنخبته الفاعلة ما بين قتيل أو أسير أو مطارد أو معتزل قد انطوى على ذاته خشية الملاحقة أو عزوفا عن المشاركة في أي نشاط فاعل في المجتمع ولو لم تكن ثم تبعة أمنية فثم إحباط يحمل الناظر أن ينطوي وَيَنْزَوِي وذلك ما يجعله ، كما يقول بعض المفكرين ، يذبل ويضمحل ، فتخلو الساحة ويكون الفراغ الذي تشغله بداهة نخبة 50% فيصدق فيها قول أبي الطيب :
وَإذا ما خَلا الجَبَانُ بأرْضٍ ******* طَلَبَ الطّعْنَ وَحدَهُ وَالنّزَالا .
وإذا كانت السياسة ، كما يُعَرِّفُهَا بعض النظار أنها فن صناعة الأنصار فذلك لا يكفي فلا بد من تقدير قوة أولئك الأنصار وإلى أي مدى يمكن أن يصمدوا وما معيار ولائهم ، وهل ينصرون الفكرة أو هم جمع كبير لا يعنيه إلا جودة الخدمة فهو يعطي صوته لمن يحقق له خدمة أفضل ! ، أو هو يخضع لمن يملك آلة القوة الصلبة فلا يطيق أن يقدم أي تضحية ، وإذا صُنِعَ الأنصار حقا لا دعوى فلا بد من توظيفهم التوظيف الصحيح لا أن يُلْقَى بهم في صراع غير متكافئ فَيَتِمَّ استئصالهم ثم يتباكى من يتباكى عليهم ليحقق بعض النقاط في الدوائر السياسية والحقوقية الدولية ، فيشبه الأمر ، ولو في أحيان ، أن يكون من باب الاتجار في بورصة السياسة فمن أساء التخطيط والتنفيذ وأفضى بهذه النخبة الفاعلة إلى حتفها ، هو الآن من يتجر بمأساتها ، بعد أن تسبب في هذه المحنة التي لن تَزُولَ آثارها ، والله أعلم ، إلا بعد زمن طويل ، مع ما أحدثت من الشرج الاجتماعي الغائر ، وما أحدثت من فراغ هائل في كافة الأصعدة ، لا سيما الصعيد الفكري والأخلاقي ، فضلا عن صعيد السياسة والإدارة ، فنجحت السلطة في توجيه ضربة أخرى قاسية وإن لم تكن قاصمة ، فالمجتمع الآن يشكو من آثارها ، وهو أمر تَقَصَّدَتْهُ السلطة إذ لا تستمد بَقَاءَهَا إلا من إضعاف المجتمع لا أكثر فتسلبه أي سبب قوة به ينافح أو يكافح ، لا سيما أسباب الفكر والقيم كما يظهر الآن من استفزاز عظيم لقيم المصريين الأخلاقية فَثَمَّ الآن كما يرى الناظر ، أنماط من الفحش قد جاوزت الحد ، وهو ما تختبر به السلطة أخلاق الجمهور قبل أن تشرع في مرحلة جديدة من مراحل الإفساد ، فضلا أنها تشغل الجمهور بهذه المظاهر المستفزة لتمرر ما تشاء من القرارات السياسية والاقتصادية فسياسة شغل الرأي العام بالمعارك الفكرية البعيدة عن أسباب الإشكال الرئيس ، تعطيل الوحي وذيوع الظلم والاستبداد ، هذه السياسة سياسة مشهورة تلجأ إليها السلطة كما يظهر الآن ، أيضا ، من معارك مصيرية في الجزيرة العربية ! ، صارت مضرب المثل سخريةً في مواقع التواصل الاجتماعي ، فهي مكاسب عظيمة تحققها النخبة العلمانية التي تَنُوبُ عن الغرب في تحقيق مشروع التغريب ، والاحتفاء بها يثير العجب فَثَمَّ ناشطة تغالب دموعها في المنفى بعد تحقيق هذا الحلم الذي طالما راودها ، فهي تعتزم الرجوع إلى البلاد بعد طول غياب لتقود سيارتها وتحتفل بهذا الإنجاز الذي يصفه الأزهر أنه إنجاز تاريخي يحسب للمؤسسة الدينية المحافظة في الجزيرة العربية ! في أمر لا يعدو أن يكون من المباحات التي أرسلها الشارع ، جل وعلا ، فكان الإلحاح في هذا الأمر إلحاحا تقصدته السلطة في الماضي لتجيش الرأي العام في أمر مصيري فالدين قد اكتمل والعدل قد ذاع وانتشر ، والوحي حاكم في كل باب ، في الثقافة والسياسة والقضاء ولم يَبْقَ من المعارك المصيرية التي يخوضها المجتمع المحافظ إلا هذه المعركة فنجحت السلطة قديما في استمالة المجتمع بما يوافق ميوله المحافظة حتى بلغ الأمر حد الغلو في الجزم بتحريم أمر ليس إلا مباحا في الجملة إن دخله التحريم فليس أنه في نفسه محرم وإنما قد يعرض من المصلحة أو المفسدة ما يوجب تقييده باعتبار أو إلغاء ، فليس الأمر كما صورت النخبة الدينية آنذاك ، ليس محرما قطعا يوجب الزجر والتعزير وَيُثِيرُ هذا الإشكال ، وإنما كانت السلطة آنذاك تداهن الرأي العام المحافظ لتظهر في صورة المحافظ على قيم المجتمع الدينية ، وكان للنخبة العلمانية آنذاك غرض أن تضرب على هذا الوتر فهو إن تحقق مكسب عظيم واختراق نوعي لصورة اجتماعية تَنْتَسِبُ إلى الدين ، مع مخالفتها له في أحيان كثيرة ، إلا أنها في الجملة تَنْتَسِبُ إلى الدين ، فالطعن فيها ولو بحق ، طعن في أصل نسبتها ، فقد يكون من النقد لهذه التصورات ما هو حق ولكن النخبة العلمانية لم ترد به إلا الباطل وإلا فما سر احتفاء العالم بهذه التغييرات المتسارعة التي تأتي على قيم المجتمع بشكل متسارع مع أنها لا تخرج ، بادي الرأي ، عن أمور شكلية لا تنفذ إلى جوهر المعضلة السياسية فهي الخط الأحمر ، كما هي الحال في مصر ، فلا مانع أن ترسل السلطة رسائل العلمنة الأخلاقية إلى الغرب ليطمئن أن البلاد تسير على قدم وساق في مخطط التغريب ، مع إحكام القبضة السياسية ففي مقابل ذلك يكون الإفساح في العوائد الاجتماعية والأخلاقية سواء أكانت من الدين حقا أم انتسبت إليه ولو في الجملة في إطار ما تقدم من نظرية الصراع المجتمعي الذي تديره السلطة بحنكة فتارة تنتصر للجانب المحافظ كما انتصرت قديما فكانت الحال آنذاك تقضي بذلك ، وتارة تنتصر للجانب العلماني كما تصنع الآن إذ تغيرت الحال ، فكان توجيه النخبة الدينية أن تفتي بالجواز بعد الحظر ، في أمور صارت عنوانا رئيسا لانفتاح فكري يحتفل به التيار العلماني ، كما كان لهذه النخبة الدينية من الأدوار السياسية ما لا يخفى فإبان الثورة الإيرانية كان الخطاب الرسمي للمؤسسة الدينية في الجزيرة العربية : خطاب العداوة المستحكمة لهذه الثورة الضالة المتعصبة وكان الإبراز لمثالبها وذلك حق ، كما تقدم ، ولكنه مما وظف في تحقيق الأغراض السياسية البراجماتية لا الأغراض السياسية الشرعية ، ثم كان لين الخطاب بعد أن وضعت الحرب أوزارها ولو مؤقتا مع انقلاب حاكم العراق على حلفائه القدامى فكان تخفيف العداوة مع طهران آنذاك حتما لازما ، وكان الجهاد الأفغاني ، وهو مثال آخر ، كان هدى ثم انقلب فصار أنصاره فئة ضالة استدرجتها السلطة إلى العنف بما اقترفت في حقها من الجرم ، فنسب إليها من الجرائم ما اقترفت السلطة أضعافه فهي الأولى بالإنكار ، بادي الرأي ، ثم كانت نسبة ذلك إلى خطاب الدين الراديكالي الذي يفتقر إلى التجديد ، على وزان التجديد الذي تسير فيه السلطة قُدُمًا في مصر فيكاد السيناريو يكون واحدا مع اختلاف في الكم ، فالكيف ، عند التدبر والنظر ، واحد ، والبضاعة الرائجة الآن هي تخفيف الجرعة الدينية الراديكالية المتطرفة ، لتدخل الخيل الحرم كما دخلت قديما الأزهر ، فذلك عنوان مُؤَلَّفٍ مشهور أرخ به بعض الفضلاء للحملة الفرنسية على مصر فاختار هذا الاسم الدقيق الذي يعبر عن طبيعة الصراع في حملات الصليب في التاريخ الحديث بعد انتهاء الحملات العسكرية الفجة ، فلم يختر عنوانا من قبيل : ودخلت الخيل مصر ، فقد دخلتها قبل ذلك ولكنها لم تدخل العقل والفكر والثقافة التي يمثلها الأزهر مرجع الدين ومنطلق الثورات التي أقضت مضاجع الحملة الفرنسية فكان دخول خيلها الأزهر سابقة تجاوز حد الاقتحام المباشر فقد حققت اختراقا نوعيا للعقل المسلم في مصر فكانت بذرة علمانية غَرَسَتْهَا فرنسا ثم جاء محمد علي ومن بعده ليسهر عليها حتى اشتدت واستوت على سوقها وأثمرت ما يرى الناظر الآن من ثمار العلمانية المرة ، فكذلك الشأن الآن في معارك التغريب الذي يزحف شيئا فشيئا على أرض الجزيرة العربية فخيله تروم دخول الحرم كما دخلت قبله الأزهر فالاستراتيجية واحدة وهي استراتيجية هادئة وإن كانت الآن ثائرة متسارعة فقد دخلها من أغراض السياسة البراجماتية ما عجل بَوَتِيرَتِهَا ، فالاستراتيجية الرئيسة واحدة وهي الحفاظ على السلطة ، سواء أكانت باسم الدين أم باسم العلمانية ، فالثابت الرئيس المحكم هو السلطة وما سواه فمتشابه يرد إليه ، وغبار هذه المعارك الجانبية يُدْخِلُ المجتمع في حال من البلبلة والاضطراب تجعل السلطة تمضي قدما في تحقيق المشاريع السياسية الأخطر ، فهي ، في الجملة ، ذات السياسة التي تَنْتَهِجُهَا السلطة في مصر فيتم شغل المجتمع بسيل من الفتاوى الغريبة وجمل من الاستنتاجات العجيبة وتقصد لبث أي خبر سواء أكان حقا قد يصدم الجمهور فالفقه أن يخاطب بما يَفْقَهُ ، أم كان باطلا محضا ، أم حقا مازج باطلا فكان الصراع بين مؤيد ومعارض في أمر ليس ذا بال الآن وإن كان له حظ من النظر والفتيا إلا أنه ليس واجب الوقت فثم من المعضلات ما هو أخطر من فتاوى تُبِيحُ ممارسة الجنس مع الحيوانات فالمجتمع الآن عنده من مهمات الدين والدنيا ما يجعله في غنى أن يبحث في جواز مضاجعة الحيوانات ! ، ولكنها سياسة الإلهاء والإشغال فضلا عن زرع نظرية المؤامرة الكونية في أذهان الجمهور ، وهو ما نجح فيه آية الله الخميني ، وهو المثال آنف الذكر ، فقد نجح في صناعة عدو الثورة في الداخل والذي أجهزت عليه لجانه الثورية فكلُّ مَنْ يعارض الولي الفقيه فهو وغد زنيم جزاؤه القتل والاستئصال ، ونجح ، مع ذلك ، في صناعة العدو في الخارج مع إفراطه ومجاوزته الحد في تَبَنِّي سياسة تصدير الثورة بلا تقية اشتهر بها المذهب واشتهر بها الخميني نفسه فكان من أشد الناس مكرا وأعظمهم مهارة في خطاب السياسة المداهن ، وهو ما انقلب بعد الثورة من مداهنة إلى مصارحة ومكاشفة فلا بد من معركة مصيرية تخوضها الأمة الإيرانية ضد الشيطان الأعظم ، فأمريكا وأتباعها من الحكام المستبدين في الشرق عدو في الخارج يجعل الجميع ينسى الخلاف والتنوع العرقي والثقافي الذي يبلغ حد التناقض والذي لا يخلو من تصارع بين النخب والطبقات والأعراق والشعوب فالصورة في الداخل لم تتغير كثيرا وإنما حجبتها سحب الدخان الكثيفة التي أطلقها الإمام ، وإن لم يخرج عن أهداف المركز فقد نجح المركز مع الخلاف الكبير مع الثورة الإيرانية ، نجح في احتوائها عبر أدوات سياسية معقدة ، فلم تغادر طهران مكانها فكانت زمن الشاه أحد الأحزمة التي تقيد الشرق المسلم فتحول دون تمدده شرقا في آسيا الوسطى ، وشمالا في القفقاز وتخوم روسيا ، وإن تولت تركيا تأمين الشمال بحزام أتاتورك العلماني الصلب ، فلم يمانع الغرب أن يمنحه قدرا من الجغرافيا العربية في بلاد الشام نظير تخليه عن بقية الولايات العربية فلا يعنيه إلا المشروع القومي التركي الطوراني العلماني الصلب ذو الأفق السياسي الضيق الذي لا يجاوز رقعة الأرض التركية ، وقد لجأ ، أيضا ، إلى تطهير ثقافي من جنس التطهير الذي لجأ إليه إسماعيل الصفوي ، ولكن تطهير أتاتورك كان ذا طابع قومي لا ديني ، فكان ذلك منشأ إشكال كردي بما كان من إطلاق يد أتاتورك في استئصال الأكراد فكرا وسياسة حتى كان ما كان من حظر اللغة الكردية ، أبسط أدوات الهوية ، فلم يرد إلا هوية تركيا فتركيا للأتراك فقط فمن أراد أن يعيش فيها فليدخل في ديانة أتاتورك القومية ولينبذ أي ولاء آخر ، دينيا كان أو قوميا أو سياسيا .... إلخ ، فمن أراد النجاة فليدخل في دين أتاتورك كافة وهي رسالة إسماعيل الصفوي في إيران قبل ذلك مع اختلاف الدين فكان دين إسماعيل الصفوي هو الدين الشيعي فمن أراد النجاة من القتل فليدخل فيه قبل أن يلقى حتفه ، فاتفقا في الغاية وإن اختلفا في الوسيلة فكانت وسيلة أتاتورك علمانية وكانت وسيلة إسماعيل الصفوي دينية ، ولم يصب أحدهما الحق الذي يجمع الناس على كلمة سواء ، كلمة التوحيد ، ومن عجب أن يتوجه إليه وحده النقد فهو الإرهابي المتعصب الذي يروم حمل الكافة على دينه ، مع أنه أعطى فسحة في الاعتقاد لمن خالف لم تعطها هذه التجارب ، لا سيما التجارب العلمانية التي يجعلها الغرب رائد التغيير الذي لا يكذب أهله فهو يحتفي بتجربة أتاتورك أيما احتفاء وهو أعظم من أيدها وأفسح لها المجال لضرب الخلافة الإسلامية ابتداء فتكون حزاما يطوق الشرق المسلم ويحول دون تمدد فكره وثقافته شمالا ، ثم أفسح لها بعد ذلك لتكون حزاما يطوق الاتحاد السوفييتي ويحول دون تمدده جنوبا باتجاه المياه الدافئة في الخليج والبحر المتوسط والبحر الأحمر ، فغض الطرف عما اقْتَرَفَتْهُ الأتاتوركية من تطهير عرقي وثقافي بلغ حد الحظر للسان الكردي ، والازدراء لاسم الكرد كقومية فأطلق عليهم اصطلاحات من قبيل عرب الجبل فهو ينكر اسم الأكراد فضلا عن وجودهم ، وهو ما صنعت طهران ولو أقل حدة ، فكان من تضييقها على الأكراد لا سيما إبان دولة مهاباد ، وكان من تضييقها على بقية الشعوب الإيرانية باستثناء الشعب الفارسي الذي لا يشكل إلا 30% فقط من مجموع السكان ، فلا بد من حمل الكافة على ثقافته سواء أكان ذلك بوشاح علماني زمن الشاه أم بآخر ديني زمن الخميني ، ولم يخرج الجميع أن يكونوا أحزمة تطوق القلب النابض للإسلام ، مركز الثقل في العالم العربي السني ، كما تقدم ذكره من أحزمة كدولة جنوب السودان في إفريقية ، وحزام آخر بربري يمتد بطول الصحراء الكبرى فيقطع القارة من شرقها إلى غربها فهو حاجز يقي القلب الإفريقي من الغزو الثقافي الإسلامي الوافد من الشمال ، فنظرية الاحتواء واحدة وإن اختلفت الأحزمة في أيديولوجيتها أو ثقافتها ، واليوم في إطار نظرية الاحتواء ، يبدو أن الغرب يفتش في أجندة أفكاره عما يبرر به قيام الكيان الكردي كمجموع وظيفي يشبه المجموع الوظيفي اليهودي كخنجر يطعن الشرق ، لا جرم كان كيان يهود من أبرز الداعمين لهذا الاستفتاء الذي يمهد لإنشاء هذا الكيان مع دعم أمريكي باطن وإن كان الخطاب الرسمي خطاب وزير الخارجية تيلرسون أن أمريكا لا تعترف بهذا الاستفتاء ونتائجه لافتقاره إلى المعايير السياسية الصحيحة مع أن الأخبار قد تسربت أن هذا الأمر قد تم بمشاورة اثنين من الدبلوماسيين الأمريكيين اجتمعوا بالقيادة الكردية في أربيل وأعطوها الضوء الأخضر ، ولو في الخفاء ، وما كان لمسعود برزاني أن يُقْدِمَ على هذا القرار المصيري دون رضى واشنطن بداهة فهو واحد من رعاياها المخلصين في المنطقة ، وهو أحد أبنائها الذي لا يصدرون إلا عن رضى ولي الأمر في واشنطن ، فضلا عن دعم آخر من كيان وظيفي جديد في الخليج صار يضاهي الكيان اليهودي في تشبعه بثقافة المركز ودفاعه عن مصالحه ومناجزته للإسلام كعدو استراتيجي فهو حائط صد متقدم كالحائط اليهودي والحائط التركي الأتاتوركي والحائط الكردي الجديد ، فلا عجب أن يحتفي حائط بآخرَ ، وإن كان الحائط الخليجي مائلا تافها فهو حديث السن ضعيف الرؤية ، وإن سياسية براجماتية فيكاد يفجر المنطقة كلها بطموحاته السياسية الكبيرة التي لا تلائم إمكانياته الجيوسياسية والديموجرافية المتواضعة فليس إلا باعث فتنة ومسعر حرب تُفْضِي إلى إضعاف دول المنطقة وتفتيتها ولو على المدى البعيد كما يتربص الآن بجاره الأكبر في الخليج فهو من أكبر الداعمين لذلك التحول المفاجئ في تغريب فج بعد اتشاحه برداء إسلامي لم يحسن القصد في انتحاله فصيره أداة قمع تكرس هيمتنه فضلا عن حراسة مصالح المركز ، فلا مانع من جرعة إسلام أعلى ، إن لم تهدد مصالح المركز بل قد صارت ، من وجه ، أداة من أدواته بما يكون من توظيف باطل للوحي النازل ، فقد صار قَرِينَ الاستبداد والقمع وهو منه براء ، ثم كان هذا التحول المفاجئ الذي يحظى بقبول في قطاعات ليست باليسيرة في الداخل لا سيما وهي تشكل النخبة من حملة المؤهلات العليا في التخصصات الحديثة ومن تأثر بطرحهم لا سيما من ابْتُعِثَ لاستكمال دراسته في الخارج فوجد فيها من الحريات السياسية ما يفتقر إليه في بلاده التي يَتَّشِحُ فيها الاستبداد بِرِدَاءِ الدين فكانت الشبهة العظمى أن الدين الذي يهيمن على المجتمع في بلادنا هو سبب حرماننا من هذه الحريات السياسية فلا بد من حملة تغريب تمحو آثار القديم الذي صار قرين التخلف الفكري والاستبداد السياسي فكانت جناية النخبة السياسية والنخبة الدينية من العلماء الذين تصدوا للإفتاء وصاروا ذراع السلطة الفكري فالثورة الآن عليهم ومن عجب أن السلطة هي التي تَتَوَلَّى كبر هذه الثورة وقد كانت بالأمس أوثق حلفاء المؤسسة الدينية ، فالسلطة الآن تَتَوَلَّى كِبْرَ هذا الأمر إذ تَرُومُ استرضاء المركز بإجراء سياسي واجتماعي استباقي ، فما يجري الآن هو ، بداهة ، يحظى برعاية المركز الذي يمارس الضغط أكثر وأكثر للانتقال إلى مشاريع تغريب تُتَّخَذُ فيها ابتداء بعض الإجراءات الساذجة التي لا تثير اهتمام أي عاقل ومع ذلك يجد الناظر وزارة الخارجية الأمريكية تهنئ السلطة الجديدة المتحضرة على هذه الخطوات الجريئة في الاتجاه الصحيح ، الاتجاه العلماني ، وهو ما يهدد رمزية البقعة لما تضم من أراض مقدسة وتلك جناية عظمى ثانية جَنَتْهَا السلطة الحاكمة على الدين الحق ، فَثَمَّ من يزيد في جرعة الشماتة ، ولو كان من أهل الديانة ، فهو يشمت في السلطة التي يفتضح أمرها يوما بعد آخر ، لا سيما من وجد آثارها القاتلة في بلاده ، كما هي الحال في مصر ، فقطاعات كبيرة من الإسلاميين المصريين تَرَى فيما يقع الآن عاجل عقوبة بالفضيحة لما جنت السلطة في حقها من إجراءات شنيعة ، فكانت من كبار الداعمين لما وقع في مصر من أحداث عنف وقتل لا زال المجتمع يشكو آثارها إلى اليوم وهي خروقات عظيمة في النسيج الاجتماعي المصري لا يُرْجَى لها رتق إلا بعد أجيال وأحقاب ، واليوم تجري السنة ، ولو على مهل ، على من أيد الظلم والقمع ولو بالسكوت في محل البيان فهو بيان ، فيجري عليه من القمع والاستبداد ما كان سببا فيه ، بل ويكون رَائِدُه في التخطيط والتنفيذ نفس الجهاز الأمني العتيد في مصر ! ، فنخبه وكوادره قد استدعيت لبناء جهاز أمني يضارعه ، ويرى الناظر نفس الاستراتيجيات المصرية الأصيلة ، فكما استدعي ضابط من ضباط الأمن السياسي المصري من ذوي التاريخ الإجرامي الكبير لا سيما في التعاطي مع الحركات الإسلامية السياسية ، كما استدعي لإنشاء الجهاز الأمني السياسي في الكيان الخليجي الوظيفي الذي يشرف الآن على مخطط التخريب والتقسيم ، يستدعى الكادر المصري ، نحو 600 عنصر كما تسرب من أنباء ، فهم النواة الجديدة لجهاز أمني سياسي قوي يتبع الجهة السيادية العليا بشكل مباشر ، ويرى الناظر من الاستراتيجيات المصرية ما قد يدفع المجتمع في الخليج أثمانه الباهظة كما دفعها المجتمع في مصر من إفساد ذات البين ! ، فهو يمارس نفس الأساليب في إضعاف المجتمع وتفكيكه والإيقاع بين أفراده بما يكون من تحريض على التجسس باسم الحفاظ على الأمن والسلم العام وهي نبرة تعلو الآن في الخليج فكل من ليس مع الدولة قلبا وقالبا في معاركها المصيرية فلم يظهر التأييد الكامل على حد اليقين القاطع الذي لا يحتمل تأويلا ، ولو تعريضا في الكلام أو سكوتا وإيثارا للسلامة ، فَلَيْسَ ذلك مما يُغْنِي عن صاحبه الآن شيئا فهو محل استهداف كما في حملات الاعتقال الأخيرة ، وهي أيضا تحمل نكهة مصرية ، نكهة المواطنين الشرفاء ! ، أحباب السلطة وأوليائها الذين حرروا عقد الإيمان بالسلطة حبا فيها وبغضا فيها ، وهم ، لو تدبر الناظر ، آلة التقسيم والتفتيت لأي مجتمع أن يصير على حزبين ، حزب يوالي ويبايع وحزب يمانع ويعارض ، ولو معارضة الصمت فهي ، أيضا ، من الخروج على ولي الأمر ، وذلك ما يفضي إلى انطواء كل ذي رأي ، فمصيره القتل أو الأسر أو الهرب والاختفاء أو القمع على طريقة : اضرب المربوط يخاف السايب ، كما يقال في مصر ، وهو ما يفضي بعد حين إلى اضمحلال أي نخبة فكر أو سياسة أو إصلاح ، فهي تغادر المشهد طوعا أو كرها لا سيما بعد إصابتها بالإحباط فلا ظهير ولا نصير ، بل إن الناس في العادة يجاملون المنتصر باضطهاد المنهزم فذلك صك البراءة من تهمة الخروج عن النظام وهو دليل الولاء التام ، وهو آية المحبة الخالصة للسلطة الحاكمة وهو من اليد التي يصطنعها السفلة عند السلطة ولو بإيذاء المؤمنين وتخويفهم وترويعهم فنحن رجالكم ونحن عيونكم الساهرة حفاظا على أمن الوطن من المخربين الذين يريدون تقويض أركانه ومن العملاء الذين يتآمرون مع أعدائه ...... إلخ ، وهل ثم عقل ينبه أو ينبغ في جو تلك حاله من الاستبداد والقمع فيكاد الإنسان يخشى أن يصرح بِرَأْيٍ ، ولو نطقا مجردا من باب التفريج والتنفيس ، فرسالة القمع تستهدف الشريحة الممانعة أو المعترضة أيا كان نوع المعارضة فذلك هامش يتفاوت من نظام إلى آخر ، فثم نظام يقبل من المعارضة ما ينفس كربة الجماهير بإخراج بعض الزفرات الحارة التي لا تضر السلطة إلا أذى وثم نظام يكشر عن أنيابه فلا يقبل بأي معارضة ، ولو سلبية بالصمت ، فلا بد من التأييد التام ، بَيْعَةً في العلن ، وثم نظام يغلظ في العقوبة وآخر عنده من الفطنة ما به يحترز من استثارة العامة بإجراءات عنيفة مباشرة ، فيحتفظ بهامش عفو ، ولو ضئيلا ، وفي هذا الإطار يكون بيت أَبِي الطيب :
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ ******* وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ .
يكون حكاية لواقع الناس في هذه الأعصار التي فشا فيها الاستبداد فصارت البلاد شرا لا يطاق فلا صديق فيها يؤتمن إلا ما رحم الرب جل وعلا ، فضاقت الأرض إذ ضاقت أخلاق أهلها وفسدت ، وصار ذلك من عاجل العقوبة أن صارت الحياة جحيما واختار كثير من الناس الاعتزال إلا في القدر الضروري ، الديني أو الدنيوي ، فهو يتأول نصوص العزلة الشرعية فيجدها خيرا له من نصوص الخلطة ، وإن كانت الخلطة والصبر على الأذى خيرا في الجملة إلا أن ذلك مما لا يطيقه كل أحد بل قد تفسد دنياه وآخرته أن قَلَّ صبره فجزع ولم يصبر على أذى الناس ، فالعزلة بعد التفقه خير له في المنتهى والمبدأ ، ولكلٍّ من الفقه ما يصلح شأنه ، فليس الناس على طريقة واحدة في الأخلاق والصبر ، وصارت صيانة الحشمة أن يُبَاعِدَ الإنسان فلا يكسب ما يصمه فهو يعتزل ويحفظ أدبه ، كما يقال في المثل ، ويحفظ قبل ذلك دينه فلا يقارف من خوارم الديانة أو المروءة ما ينتقص منه إن في معيار الشرع أو في معيار العرف فلا يعتزل وليس له من فقه العزلة ما به يحوط دينه ، ولا يعتزل وليس له من سبب المعاش ما يحفظ مروءته وحشمته بين الناس فلا يكون اعتزاله اعتزال العجز ، وإنما يعتزل صيانة للدين والعرض ، ومن صيانته صيانة الحشمة والهيبة بالاستغناء عن سؤال الناس ، فإذا خلت الدور من الأصدقاء فصارت شرا فليس إلا الاعتزال مع حفظ الديانة والحشمة بالتورع عن اقتراف ما يصم كما قال أبو الطيب في شطر البيت الثاني .
وسلطة الاستبداد ، من وجه آخر ، تُرَاوِحُ بَيْنَ اللين والشدة لا على وجه الحكمة ! وإنما على وجه الكيد لعامة الناس ، فَثَمَّ مرحلة تحسن فيها التهدئة والمداراة ، وأخرى لا بد فيها من الطرق المباشر فالحديد ساخن ، فيفاجئ الحاكم المجتمع في لحظة الضعف أو الصدمة بحزم متتالية من الإجراءات تَنْزِلُ عليه نُزُولَ الصاعقة التي تشل الأركان فإجراءات التغريب إجراءات وافدة لم يعتدها الناس فلا بد ، كما يذكر بعض الباحثين ، من صدمة عنيفة توجهها السلطة إلى المجتمع لتشل ذهنه وأركانه أن يقاوم هذه الإجراءات الغريبة على قيمه الفكرية وعوائده الاجتماعية ، وذلك ، أيضا ، مما حدث في مصر في الآونة الأخيرة ، فثم حزم من التغييرات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية الحادة لا تمر بسلام إن لم تشفع بقبضة قمع وإرهاب لأي معارض يقاوم فلا بد من القضاء على أي مقاومة فاعلة وإجهاض أي حراك قبل أن ينشأ ، فالوقاية خير من العلاج فلن تمر الإجراءات السياسة والاقتصادية الحالية إن في مصر أو في الخليج إلا بقبضة صارمة ، فالخطة واحدة وإن كان ثم نوع اختلاف في التفاصيل ، ونتائجها واحدة وأعظمها ما يراد الآن للخليج كما أريد لمصر من قبل ، فيكاد السيناريو يستنسخ على وجه يجعل الأفاضل يتوجسون من نتائج هذا الحراك المفاجئ على الأخلاق والقيم وعلائق المجتمع فضلا عن آثاره المادية ، السياسية والاقتصادية ، والصدمة هي كلمة السر ، كما يقول الباحث آنف الذكر وإن اقتصر في استشهاده على الصدمات الاقتصادية ، فالطريقة واحدة وغالبا ما لا يقتصر أَثَرُهَا على جانب دون آخر من الحياة ، فالحياة حلقات متشابكة يُؤَثِّرُ بعضها في بعض على وجه لا يمكن فيه الفصل بين الأسباب والنتائج وبين الآثار التي يعضد بعضها بعضا ، فالاقتصادي يُؤَثِّرُ ولو بشكل غير مباشر في أخلاق الناس وعوائدهم ، والقيم الفكرية تؤثر في الأنماط الاقتصادية الاستهلاكية ..... إلخ ، والعقاب الكوني عقاب عام لا يستثني الأفاضل ، فهو يصيب الجميع فلا يكاد يسلم من شؤمه أحد إلا من رحم الرب ، جل وعلا ، ورمزية البقعة ، كما تقدم ، هي محل الاستهداف ، لا السلطة الحاكمة فهي كسائر البشر مما يفنى رجالاته بل ويفنى النظام الحاكم نفسه خلافا لرمزية البقعة المقدسة فهي تمثل الإسلام بصفائه الأول إذ خرج من هذه الأرض فيقع الخلط أن يكون المستهدف في الظاهر هو النظام الحاكم على خلفية خصومة سياسية كما يحدث الآن في الأزمة الخليجية ، فالشقيقة الصغرى المحاصرة تَتَفَنَّنُ في نشر فضائح المحاصِرِين كنوع من الحرب الدعائية المضادة ولكنها شعرت أو لم تشعر توجه سهام النقد إلى رمزية البقعة المقدسة فيكاد الأمر يكون طعنا في الدين الذي اتخذته السلطة الحاكمة رداء أساءت استخدامه ، وكأن الشقيقة الصغرى خلو من الأخطاء ، وكأنها واحة ديمقراطية غربية فالاستبداد فيها من جنس الاستبداد في الشقيقة الكبرى وإن كان ألطف ، والجميع لا يخفي تحالفه الكامل مع واشنطن ، فالأمر لا يعدو أن يكون تبادلا للفضائح في إطار سياسة نشر الغسيل القذر ! ، كما يقال في مصر ، ولا يكون إصلاح الخطأ بآخر بل لا بد من التنويه بالقدر الفارق بين دعوة الإصلاح الأولى ، دعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، مع ما اعتراها من نَقْصٍ لا يسلم منه طرح بشري لا سيما في الإجراء التنفيذي الذي اتسم في مواضع بقدر زائد من العنف والتشدد أفضى إلى إراقة دماء الأصل عصمتها حتى يثبت دليل يوجب الانتقال عن هذا الأصل ، فكان الإسراف في القتل ولو تأويلا ، فلا بد من التنويه بالقدر الفارق بَيْنَهَا وبين ما طرأ عليها الآن من انحراف إذ آل بها الأمر أن تصير أداة من أدوات السلطة .
والغرب الذي يحتفي بهذه المظاهر العلمانية الساذجة هو نفسه الغرب الذي غزا العالم الإسلامي بالأمس بحده وحديده فكان غزوه العسكري المباشر باسم الصليب إبان كاثوليكيته الدينية المتعصبة فكان صليبيا دينيا ، ثم هو اليوم يغزو ، وإن غزوا ناعما ، فهو لاديني متعصب وهو ، مع ذلك صليبي لم يجاوز صليبته قدر أنملة ، بل إنه يستعمل الدين في أحيان كحافز من جملة حوافزه السياسية والعسكرية ، فهو صليبي ديني بالأمس ، وهو صليبي لاديني اليوم ، وخصمه في كلتا الحالين هو الوحي المنزَّل ، والوحي في نفس الآن هو خصم مجموعاته الوظيفية الصلبة أو الناعمة فهي ، كما تقدم ، حائط صده المتقدم وأحزمته التي تقيد الوحي أن يمارس وظيفته العالمية في هداية البشرية ، فهدايتها تذهب بحظوظه ومكاسبه التي لا تَتَحَقَّقُ إلا بتغييب الوحي أن يكون مستمد العقل في التصور والحكم ، وما المجموع الكردي الناشئ إلا واحد من بنات أفكاره إذ فتش في أجندة أفكاره فوجد الضالة في حق تقرير المصير ، فهو ، كما تقدم ، يمنح لبعض الشعوب دون بعض ، فَيُمْنَحُ لتيمور الشرقية ذات الغالبية الكاثوليكية لتستقل عن إندونيسيا ذات الغالبية المسلمة ، ولا يمنح ، في المقابل ، لمسلمي البوسنة والهرسك فَثَمَّ فيتو يمنع قيام أي كيان مسلم في البلقان ، فهو بؤرة أخرى للإرهاب الإسلامي ، فيمنعون هذا الحق الذي أقره النظام الدولي ، فهو ، كسائر أحكامه ، انتقائي ، بل يكون جزاؤهم القتل والاستئصال ، وَيُمْنَحُ للعرب ، أيضا ، لِيُقَوِّضُوا الخلافة العثمانية في إطار صفقة أمريكية بريطانية ، فقد انتفعت بريطانيا بمبادئ الرئيس ويلسون لا سيما مبدأ تقرير المصير فأغرت به العرب ، وأغرت نخب يهود أن تهيج الرأي العام الأمريكي أن يدعم بريطانيا في الحرب العالمية الأولى ، نظير ما تبذله بريطانيا من وعد بلفور بوطن قومي ليهود في الأرض المقدسة وهو المجموع الوظيفي الأبرز الآن في الشرق المسلم لا سيما بعد انتقال كفالته وكفالة بقية المجموعات الوظيفية في المنطقة من الذمة البريطانية إلى نظيرتها الأمريكية .
والله أعلى وأعلم .