فكان المبدأ في الخبر بعد استفهام يستعلم ، فـ : "ما هُنَّ؟" ، إذ كان من المبدإِ تشويق يجمل في الدلالة أَنِ : "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ" ، وهو ، أبدا ، التكليف العام المستغرق بما كان من دلالة تغليب تطرد ، وخطابه يؤسس في حق الكافر فيكون اجتنابه الشرك ، وهو أول موبقة ، يكون ذلك تأسيسا في حقه إذ يخلي المحل من عارض يفسد ما استقر أولا من فطرة وجدان يبطن ، ولا يحصل بذلك إيمان يجزئ إلا أن يشفع بإثباتٍ يُحَلِّي المحل ، فنفي العارض المفسد من الشرك ، وإثبات آخر يصلح من التوحيد ، فالنهي عن الشرك يستلزم ضرورةً الأمر بِضِدٍّ من التوحيد ، وذلك أول في دين جزئ في حصول اسم في الباب ينفع ، فكان منه التأسيس في حق الكافر ، وكان منه توكيد واحتراز في حق من آمن أولا ، فَلَا يُقَارِفُ نَاقِضًا لِمَا حَصَلَ أولا من إيمان ، وهو ما عَمَّ نَاقِضَ الأصل الجامع وآخر لكمال واجب ، فكان من ذلك خطاب توكيد في حِقِّ مَنْ آمن مع احترازٍ مِنْ ضِدٍّ ، وخطاب تأسيس في حق من كفر وجحد ، سواء أكان ذلك مبدأ أمره أم كفر بعد إيمان ، فيتوجه إليه التكليف أن يرجع إلى فطرة أولى كان ينتحلها قوةً وفعلًا ، كما يتوجه التكليف إلى الجاحد أن يرجع إلى فطرة أولى قد ثَبَتَتْ قوةً وإن لم يشفعها بالفعل الذي يَتَأَوَّلُهَا في الاعتقاد والقول والعمل ، شرعةً تستغرق المحال كافة وبها السيادة الدينية تنصح ، فلا تكون إلا لواحد هو الأول : أولية الإطلاق كمالا قد عم فاستغرق الذات والاسم والوصف والفعل والحكم جميعا ، فذلك ما جاوز الاعتقاد إلى الاحتكام ، فكان من التزام الشرعة في القول والعمل ما يصدق آخر في الجنان يثبت من اعتقاد وتصديق ينصح ، فتوحيد الاعتقاد أول ، وهو توحيد العلم المحكم ، وذلك ما تناول الأسماء والصفات والأفعال ، توحيدا في الإلهيات وآخر في أفعال الربوبية ، وأصله أول قد أُجْمِلَ في الوجدان ، فلا ينفك يطلب بيان التفصيل بما تَتَابَعَ من نجوم التنزيل ، وتوحيد الامتثال تال بعد الاعتقاد ، ومنه ما تقدم من حكم الربا فهو يجاوز الحكم العملي ، إذ ثم أول من اعتقاد يجزئ إنِ الاعتقادَ العام الذي يصدق الشرائع كافة ، أو آخر أخص يَتَنَاوَلُ أحكام الربا والبيع ، وثم تال من الامتثال فهو يتأول اعتقاد التحريم أن يترك الملف ما عنه قد نُهِيَ ، فَتَوْحِيدُ الامتثال لازمٌ لتوحيد الاعتقاد ، من وجه ، وهو قسيمه من آخر ، وبهما جميعا يحصل الدين المجزئ ، فتوحيد العمل والطلب يصدق توحيد العلم والخبر ، وكلاهما حتم لازم في حصول الاسم الديني النافع ، وإن اختلف الخطاب على التفصيل آنف الذكر ، فَثَمَّ ، خطاب التوكيد في حق المؤمن ، وثم خطاب التأسيس في حق الكافر ، فكان من انفكاك الجهة ما يَنْفِي التَّعَارُضَ ، بل ثم تكامل في المعنى ، وتعاضد في الفحوى ، وهو ، من وجه ، شاهد به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فهذه واوُ جمعٍ مذكَّرٍ وهي واحدة ، قد اختلفت مدلولاتها في الخارج ، فكان منها تغليب يجاوز المذكر إلى المؤنث ، إذ كل بخطاب الوحي يُكَلّفُ ، وكان منها خطاب حاضر وآخر قد غاب فلم يشهد المجلس ، وإنما امْتَثَلَ الشاهد أن يُبَلِّغَ ، وكان منها خطاب موجود فهو المخاطَب فعلا ، وآخر لَمَّا يوجدُ بعد ، فهو المخاطَب قوةً ، وكان منها خطاب المؤمن توكيدا وخطاب الكافر تأسيسا ، وكل أولئك ما دل عليه مبنىً واحد ، بل هو حرف في النطق والكتب ، وإن كان في الدلالة الاسمَ ، فهو ضمير ذو دلالة أخص قد تناولت جمع الذكور ابتداء ، ثم كان من الدلالات ما تقدم ، فكل أولئك مما يثري السياق وَيَزِيدُ ، وبه ، كما تقدم ، الاستئناس في عموم اللفظ المشترك .
فكان النهي عن اجتناب الموبقات وكان من المبدإ في ذكرها شِرْكٌ هو الأفحش ، فَهُوَ لِمَا تَلَا مِنَ القولِ والعملِ يَنْقُضُ ، ومنه شرك السيادة وذلك ما قَدْ عمت به البلوى في كلِّ جيلٍ ، فكانت منه الخصومة المستحكمة بَيْنَ النُّبُوَّاتِ وَأَقْوَامِهَا المنكِرَةِ ، وهي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، وإن تَنَاوَلَتِ الشِّرْكَ في الحكم والشرع إلا أن ثم الأول في التصور الذي يحصل في الذِّهْنِ ، ومنه ما يكون من ملزوم أَوَّلَ ربوبيةً تجاوز ما يَتَبَادَرُ من الخلق الذي أثبته الجيل المشرك أولا ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَثَمَّ من الربوبية تاثير وتدبير به سنن الآفاق والأنفس تجري ، فيكون منها شاهد أن الوحي حق ، كما جاء في محكَمِ الذِّكْرِ أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، وهو ما عُجِّلَ بِالسِّينِ مَئِنَّةَ التَّقْرِيبِ فذلك مما يَتَنَاوَلُ تقريبَ زَمَنٍ يتَعَاقَبُ فَلَا يَنْفَكُّ فِي كُلِّ جِيلٍ يَتَبَادَرُ ، وتقريبَ آيٍ إلى الذهن بما يكون من تجريب وبحث ، فلم يكن أولا من الآلة ما يُدْرِكُ ، وكان من الغيب ما قد أُجْمِلَ ، فَلَمْ يكن العدم حتى اكْتُشِفَ ، بل له وجود أول وإن لم يُدْرَكْ فِي جِيلٍ تَقَدَّمَ ، فلم يكن من عدمِ وجدانِه بالحسِّ والبحثِ : دَلِيلٌ أنه غير موجود فذلك التحكم المجافِي عن المنقولِ والمعقولِ كَافَّةً إِذْ يَغْلُو فِي الحسِّ حتى يُصَيِّرَهُ مَنَاطَ الإثباتِ والنفيِ حَصْرًا ، وَيَحُدَّ به العلم فلا يجاوزه نصا ! ، فالعلمُ مَا يُدْرَكُ بالتجريب والحس ، وَالْتِزَامُ ذَلِكَ مما يَنْحَطُّ بالناظر إلى دَرَكَةِ الحيوانِ الأعجم ، وهو لأشرف خاصة في المكلف يُهْدِرُ ، خاصة العقل الذي يؤمن بالغيب ، وهو ما يجاوز الدماغ الثابت في الحس ، وخاصة الروح اللطيف وهو ما يجاوز الجسد الكثيف ، فَلَيْسَ إلا أَدَاةَ التّنْفِيذِ لما يكون من وَعْيٍ وَمَشَاعِرَ محلُّها الجنان الناصح ، فلا يُحَدُّ العلم بما تقدم من المدركات المحسوسة ، فذلك مما يجافي عن المعيار المحكم في حد العلمِ الذي به المعلوم يُدْرَكُ فإنه يجاوز الحس إذ ثم من أدلة العلم : الخبر من خارج فيما غَابَ عَنِ المدارِكِ ، فلا تُرَجِّحُ وليس ثم مرجِّح من خارج ، فالوحي ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، الوحي في الباب عمدة إِنْ في مَاضٍ تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ الخلقِ ، أَوْ تَالٍ يجاوز الحس إلى مُغَيَّبٍ لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ ، أو تَالٍ يُجَاوِزُ إِلَى بَرْزَخٍ هو الفارق ، وَنَشْرٍ وَحَشْرٍ فَحِسَابٍ فَجَزَاءٍ فمستقَرٍّ في جنة أو نار ، فكل أولئك مما يجري مجرى الجائز ، بادي الرأي ، فَلَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج العقل والحس إذ لا يتناولانه في المبدإ ، وإن كان يجوِّزانه في الجملة ، بل العقل يُوجِبُ مِنْ بَعْضٍ وإن إيجابا آخر قد أُجْمِلَ ، كما إيجابه أن لهذا الخلق خالقا في المبدإ ، وكما آخر أن ثَمَّ دَارًا تجاوز دَارَ الحسِّ ، وَفِيهَا يُقْضَى بالعدلِ ، فذلك معنى لم يحصل في كلِّ خصومة في الأولى فكان من ذلك ما استوجب تاليا يَسْتَدْرِكُ وبه القصاص المحكم ، فكل أولئك مما جَازَ أَوْ وَجَبَ في الحكم ، والعقل والحس ، مع ذلك ، لا يرجح إن في إثبات يُرَجِّحُ طَرَفًا من الجائز دون آخر أو بيان لما أُجْمِلَ من واجب ، فلا يكون ذلك إلا بالوحي الذي يخبر بما جاوز مدارك الحس ، فكان من ذلك ما استوجب البحث أولا في دلائل الوحي فإذا سَلِمَتْ للناظر فَمَا تَلَا أيسر ، إذ مناط الإثبات أو النفي أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ إلى الأصل ، فإذا صَحَّ الحديث فهو المذهب ، وإن كان قَالَ الوحيُ فَقَدْ صدق كما فِقْهُ الصديق الأعظم ، رضي الله عنه ، فكان في الباب الأولَّ ، إذ قاس قياس الأولى ، فمن صدق أن الخبرَ ينزل من السماء فكيف لا يصدق بمعراج إليها يثبت ؟! ، فاستدل بالأصل على الفرع ، فقد ثَبَتَ له أولا صدقُ الدَّعْوَى الرسالية فَلَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا تَلَا من الخبر والحكم ، فَمَسْلَكُ نوعٍ يَتَنَاوَلُ ، كما ذكر من حقق ، جنسَ الدعوى ، ومسلك شخص يتناول عين الدعوى ، ثم أدلة تفصل إن في الخبر أو في الحكم فكلاهما من الوحي المصدَّق .
ومنه محلِّ شاهدٍ تَقَدَّمَ مِنْ آيٍ كانت غَيْبًا فِي جيلٍ ثم شُهِدَ في آخر بما كان من بحث وتجريب ، فكان منه كشف لا إنشاء كما يزعم من تَبَجَّحَ فغلا في دلالة الحس أنه وحده دليل الإثبات والنفي ، بل هو دليل يكشف في مواضع ما كان موجودا في المبدإ وإنما غاب عن الحس والمدرك ، ثم كان منه آي تشهد أَنَّ الوحيَ حَقٌّ ، وذلك العام الذي استغرق حَقَّ الخبر صدقا وحق الحكم عدلا ، فثم من دلالة "أل" في "الحق" : دلالة بيان أول لجنس المدخول وهو الثابت في نفس الأمر ، ودلالة عموم قد استغرق وجوه المعنى ، فهو الحق المطلق ، إن اسم الله ، جل وعلا ، فهو الحق وما يدعون من دونه الباطل ، أو الوحي فهو الحق وما سواه من المحدَث من دين أو مذهب فهو الباطل ، فكان من ذلك عموم قد استغرق ، كما تقدم ، فحق في كلمات التكوين النافذ ، وآخر في كلمات التشريع الحاكم ، مع توكيد بالناسخ "إِنَّ" في قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ) ، واسمية جملة تحكي الثبوت والديمومة ، وقصر بتعريف الجزأين ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : هو الحق ، وهو ما يحمل على المبالغة على تأويل هو الحق لا حق غيره ، وذلك ما يحتمل الحقيقة بالنظر في الخصيصة ، خصيصةِ الخبرِ والإنشاءِ في نصوص تكليف فلا تُتَلَقَّى إلا من مشكاةِ التَّنْزِيلِ ، وهو ما حَسُنَ معه إسناد العامل في "سَنُرِيهِمْ" إلى ضمير الجمع الفاعل حكاية التعظيم مع إضافة الآيات إلى الضمير المجموع تعظيما آخر يواطئ في "آيَاتِنَا"، فكان من النظم ما يَتَمَاثَلُ ، فإسناد إلى ضمير الجمع في "سَنُرِيهِمْ" ، ثم إضافة إليه في "آيَاتِنَا"، ولا تنفك تحكي العموم المستغرق ، وهو ما أُجْمِلَ ثُمَّ أُبِينَ عن أنواعه في الآفاق وفي الأنفس ، وتحت كلٍّ من الآحاد ما يَكْثُرُ ، وفي كلٍّ دليلٌ أن الوحي هو الحق المحكم ، فذلك معنى به تأويل ينصح لمعنى يزيد من تدبير محكم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجاوز تدبير الكون المحدث ، فثم تدبير الوحي المحكم بما تَنَزَّلَ من كلمات الخبر والحكم ، فالتدبير معنى أخص يجاوز ما كان أولا من الخلق ، وإن كان في الخلق آي يعظم وحجة تنصح ، فذلك الملزوم الأول في الاستدلال ، ولا ينفك يدل على لازم في الخارج ، فيكون الاقتران بين الملزوم واللازم ، مع أخرى تحكي قسمة أجزاء تَسْتَغْرِقُ مَا به المعنى الديني المجزئ يَثْبُتُ ، توحيدا في العلم والخبر و آخر في العمل والطلب ، فلا ينفك آي التكوين يحكي سيادة في التدبير والتأثير كما آخر في الحكم والتشريع .
فلا يسلم الأمر إن في الكون أو في الشرع إلا أن تكون السيادة لواحد هو الخالق الحاكم ، جل وعلا ، وتلك السيادة المطلقة التي استغرقت التكوين والتشريع كَافَّةً ، كما دلالة "أل" في "السَّيِّد" في قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "السَّيِّدُ اللهُ" ، فهي تحكي الماهية ، من وجه ، ماهية المدخول وهو معدن السيادة التي لا يَصْلُحُ أمرٌ إلا أن تكون لواحد ، فالسيادة ، كما تقدم في مواضع ، لا تكون إلا لواحد ، إِنْ فِي الدين أو في الدنيا ، إن في الشرع أو في السياسة ، فَلَهَا ، كما يقول أهل الشأن ، لها خاصة التفرد ، فالإقليم الواحد في اصطلاح السياسة المحدَث ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، الإقليم الواحد لا يستقر إلا أن يكون الحكم لواحد له في عمومِ الأقليمِ كلمةٌ تَنْفُذُ ، وإليه الأمر يرجع ، وإلا فسدت الحال بما كان من تَعَدُّدِ السلاطين والملوك ، فلكلٍّ من الأمر ما يخالف عن آخر ، ولكلٍّ هوى وحظ غالب ، ولكلٍّ من التأويل ، نَصَحَ أَوْ غَشَّ ، لكلٍّ من تأويل الكليات الأخلاقية والسياسية المجملة ما يواطئ الحظ الذي لا يسلم منه خلق لما قد جُبِلُوا عليه من النقص والفقر والجهل مع ما يَعْرِضُ له من آفة وما كان من مبدإِ العدمِ ومنتهى الفناء بعد وجود ليس يكمل فهو الجائز الذي افتقر إلى مرجح من خارج ، كلم تكوينٍ ينفذ من واجب وجود هو الأول أولية الإطلاق بما اتصف به أزلا وأبدا من الكمال المطلق وبه امتاز من المخلوق المحدَث فلا يخلو ، كما تقدم من نقصٍ ، وهو ما نال الفرد والجمع ، فسيادة الأفراد أو الشعب وهم آحاد تَتَفَاوَتُ أحوالهم في العقل والفكر مع آخر في الهوى والحظ ، ومعيار الحسن والقبح والأخلاق الذاتي الذي لا يجاوز فليس ثم حكم يَأْطِرُ من خارجٍ فَيَحُدُّ الأخلاق حدا جامعا مانعا به الاحتراز من تأويلات تَبْطُنُ قد اجتهدت أَنْ تُخَرِّجَ أخلاقَ الأثرةِ والشحِّ على جادَّةِ عَدْلٍ وَنُصْحٍ ! ، فَثَمَّ من المعيار الذاتي الذي لا يجاوز ، ثَمَّ منه ما اضطرب فَلَمْ يَنْضَبِطْ ، ولكلٍّ منه ما يُوَاطِئُ ، فيكون من الشرائع كَثِيرٌ يَتَعَدَّدُ فَهُوَ يضاهي عدد الأفراد في الخارج ، أو الشريعةُ ، كما تقول بعض المدونات السياسية المحدثة ، الشريعة مُجَزَّأَةٌ على آحاد في الخارج ، ولكلٍّ منها حظ ، وهو في نفسه حاكمٌ يُشَرِّعُ ، وَإِنْ قَلِيلًا يُخَالِفُ هواه وحظه عن كثير ، وينالهم بالأذى ، ولو تَذَرَّعَ بالحرية المطلقة ، وتلك مادة تضاهي الفرض المحض الذي يجرده الذهن ، فَهِيَ المحال الذاتي ، فَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا ولها شرعٌ يَأْطِرُ ، ولو حَدًّا أدنى ، بل قد صار من العجب في جيل قد تأخر ، أَنِ اسْتَبَدَّ مَنْ يَنْتَحِلُ الحرِّيَّةَ أَنْ يَفْرِضَهَا على الخلق كَرْهًا ، فهو يفرض تأويله الذي استحسن ، وإلا فَالْكُلِّيَّةُ المطلَقَةُ ، كُلِّيَّةُ الحريةِ ، تلك مما حَسُنَ بَدَاهَةً في النَّقْلِ وَالْعَقْلِ والفطرةِ والحسِّ وكلِّ معيارٍ يَنْصَحُ في الاستدلال ، وإنما الخلاف في حَدِّ هذا المعنى ، معنى الحرية ، مع ما يكون من تأويلٍ له في الخارج قد عُظِّمَ فيه الفرد وإن نَالَ من الجمع ، فآل الأمر إلى فَرْدَانِيَّةٍ لا حرية ، والفردانية معدن أَثَرَةٍ وأنانيَّةٍ تروم التحكم ، ولو استبدت وَقَيَّدَتْ حُرِّيَّاتِ غيرٍ انتصارا لأخرى هي حرية الذات إذ تَطْغَى وتجاوز الحد ، فتأويلها ، كما يذكر بعض النقاد ، تأويلها حكم الأقلية التي تصدر عن هوى وذوق غايته لذة تدرك بالحس وأداته قُوَّةٌ تَأْطِرُ وَأَرْزَاقٌ تُحْتَكَرُ في مثالٍ ، رأسُ المالِ فيه هو الحاكم ، فمن جمع واكتنز ، وصادر واحتكر ، مع ما يحتكر من أخرى : قوى الحس وبها يباشر القتل والضرب والحبس ..... إلخ ، وله من معيار التشريع ما يسلك به جادة التأويل ، ولو الباطني ، أَنْ يُؤَطِّرَ هذه الجنايات على قاعدة حق وعدل ، بل وأخرى من الوحي والشرع ، وهو ما تعظم به البلوى أن تنسب الجناية إلى الشريعة العليا ، جناية الاستبداد الذي يَتَأَوَّلُهُ واحد يَرُومُ التأله أَنْ يَقْضِيَ في الخلق بالهوى والحظ ، وتلك الفردانية التي لا يمكن لها أن تحكم إلا أن تَظْلِمَ وَتُقَيِّدَ ، وإن تذرعت بحرية الفرد الذي يصير الجمع أَمْثَالَ الذَّرِّ الذي يتدافع ، فلكلٍّ مرجعه الذي يَتَنَاوَلُ ، ولكلٍّ معياره الذي إليه يتحاكم ، فذاتية المرجع تُفْضِي إلى إبطال أي معيار من خارج يحكم ، ولو الكليَّاتِ العامة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، فلكلٍّ تأويله في باب الحسن والقبح ، فهو سيد في نفسه ! ، فما استحسن فهو الحق لا عن معيار من خارج يحكم قد سلم مما لم يسلم منه المحل المحدَث ، فَيَنْتَثِرُ الجمع إلى آحاد لا ينتظمهم سلك ، فلكلٍّ سلكه الذي يروم نظم الجمع فيه بما يواطئ أهواءه وأذواقه ! ، ولا قليلَ يحكم في كَثِيرٍ طَوْعًا ، فلا يكون ذلك إلا أَنْ تَعْظُمَ شبهةُ الْفَرْدَانِيَّةِ ، فَيُغْرِي الفرد المستبِدُّ الجمعَ أن يصير على آحاد تستبد ! ، فكلٌّ يستبد بما يهوى ويجد ، فيصير المجتمع ذَرَّاتٍ يَأْطِرُهَا قانون الصراع والانتخاب كما اقترح فرض التطور ، فكان من المكر في المبدإِ أن انحط بالإنسان إلى دَرَكَةِ الحيوانِ الأعجم بل أخرى دونها ، فَلَيْسَ المخلوقَ المكرَّم الذي سواه الخالق ، جل وعلا ، بِيَدِهِ ، بل هو خَبْطُ عشواءٍ قد خُلِقَ من غير شيء ، فلا خالق هو الأول ! ، وذلك ما يجافي ، كما تقدم في مواضع ، مَا يُجَافِي مُسَلَّمَاتِ العقل والفطرة بل والحس الذي صيره التطور معيار الإثبات المحكم ، فإن التجريب والبحث ، وما يكون من استقراءٍ ورصدٍ ، كل أولئك ما يدل ضرورة أَنَّ هذا الإتقان والإحكام لا بد له من أول ليس الأول المجرد من الوصف عِلَّةً فاعلة بالطبع ، بل هو أول له مِنْ كَمَالِ العلمِ تَقْدِيرٌ بِهِ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ ، وكمال قدرة بها أَنْفَذَ وَأَوْجَدَ ، ولا تقوم هذه الصفات بداهة إلا بِحَيٍّ له من الحياة أصلٌ لكلِّ وصفٍ تال يقوم بالذات ، فالحياة ، كما يقول أهل الشأن ، أصلُ كُلِّ وصفٍ ، إِنْ وصفَ الذات أو آخر من الفعل ، مع كمال مطلق قد انفرد به الخالق الأول بما كان من استقراء ورصد لآي في الكون والنفس ، فإن العاقل لا يجحد المعلوم الضروري لدى كل عاقلٍ أن الأسباب جميعا لا بد أَنْ تَرْجِعَ إلى سبب أول لا سبب قبله وإلا لَزِمَ التسلسلُ فلا يكون ثَمَّ خَلْقٌ إذ لن يكون أبدا أَمْرٌ تَامٌّ ، فكل أمرٍ بتكوين أو تدبير يطلب أولا عنه يصدر ، فمتى يصدر إن لم يكن ثم أول مطلق لا أول قبله ؟! ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، هو ما المثال له يضرب بما كان من سلطان في الأرض ، فإن الأمر إذا لم يُرَدَّ إلى الملِكِ وله من قوة السلطان ما ينفذ وليس يرجع إلى آخر قبله وإلا ما كان الْمَلِكَ ذا الحكم النافذ ، ولو نظام شورى يَحُدُّ إن كان المرجع فيه وحيا أو آخر على ضد فالمرجع فيه وضع محدث يَنْتَحِلُ سيادة الأمة المجموعة أو أخرى من سيادة الشعب ذي أَفْرَادٍ كما الذَّرَاتِ إذ تَتَنَافَرُ بما يكون لكلٍّ من الخصائص ، فلا بد من مَلِكٍ إليه يُرَدُّ الأمر ، وَإِنْ فِي شُورَى ، فهو يَسْتَشِيرُ سواء أُلْزِمَ أو لم يُلْزَمْ ، فلا بد من واحد يَنْتَهِي إليه الأمر ، وإلا فسد الأمر ، فمع الشورى مُلْزِمَةً أَوْ مُعْلِمَةً ، ناصحة أو غاشة ، رسالية أو حداثية ، فمع الشورى لا بد من واحد يحكم وإليه الأمر يرجع وإلا اختل نظام الملك فصار لكلٍّ مرجع سيادة وحكم ، وصار الخلق على أحزاب تَتَنَافَرُ ، فَلَيْسَتْ لشورى تَنْصَحُ ، وإنما كُلٌّ لِحَظِّهِ يَتَأَوَّلُ وإن عن هوى يتكلف من المعنى ما بَعُدَ أو بَطُنَ ، فلا يَصْلُحُ الأمر إلا أن يَرْجِعَ إلى واحد قد انْفَرَدَ ، وإن كان حَدُّهُ في الخلق أن يَتَوَاضَعَ فلا يزعم العلم المطلق فليس ذلك إلا لواحد هو الخالق الذي خلق بالعلم والحكمة ، فَعَلِمَ من ذلك ما به استحق المرجع في الأمر والنهي ، في الخلق والشرع ، وتلك المتلازمة الضرورية في الاعتقاد والتصور ، ولها أثر في الشريعة والنسك ، فإن العلم أول والعمل المصدِّق ثان ، وثم من الخلق فعلُ ربوبية تنفذ ، وثم من الشرع حكمُ ألوهية تحكم ، وبهما حد جامع لما يجزئ من دين ناصح ، فلا يسلم لصاحبه إلا بأول من الخبر يصدق ، ومنه خبر الخلق ، فذلك مما انفرد به الرب المدبر ، جل وعلا ، ومنه حكم الشرع ، فذلك مما انفرد به الحاكم المشرع ، تبارك وتعالى ، وذلك التلازم الضروري في النقل والعقل والفطرة والحس كافة ، ولا تكون حال تستقيم إلا أن يكون ثم أول من التوحيد ، توحيد الأمر ، فإن الْمُلْكَ في الدنيا إن تَعَدَّدَت مُلُوكُهُ فَسَدَ ، فلا يستقيم إلا أن يرد إلى واحد ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فلا يكون المخلوق على حد الخالق ، جل وعلا ، في هذا الباب ، باب الملك ، فإنه لا يُطْلَقُ وَصْفًا إلا لذي الحمد والمجد ، جل وعلا ، وأما ملك المخلوق فهو مما يحد ، وَإِنْ بَلَغَ ما بَلَغَ من السعة والغنى ، فهو الممنوح بعد عدم ، المسلوب بعد زمن ، فيؤتيه ، جل وعلا ، من شاء من خلقه وينزعه ممن شاء ، فيكون ذل بعد عز ، وفقر بعد غنى ، أحوالا تتعاقب وهي في المحل الواحد تتغاير ، وبها ، أيضا ، حد فارق يميز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فشتان ملك الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وملك المخلوق في آخر ، وإن كان ثم اشتراك في وصف الْمُلْكِ واسمِ الْمَلِكِ ، فهو الاشتراك في المعنى المجرَّد في الذهن دون آخر في الخارجِ فهو المقيد بالموصوف الذي به يوصف معنى يقوم بالذات فهو فرع عنها ، فكان من ذلك للخالق ، جل وعلا ، ما يليق : الملك المطلق وهو القديم الأول وله من الآخرية آخر يَتَأَبَّدُ ، وكان للمخلوق ، في المقابل ، ملك يقيد فهو الحادث بعد عدم ، المقيد فلا يطلق ، الذاهب إلى فَنَاءٍ بعد الوجود والكمال فليس بعده إلا النقص ثم الفناء ، فثم القدر الفارق بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، وهو ما تناول الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان ثم ، ما تقدم ، من الاشتراك في المعنى المطلق الذي يجردع الذهن ، ومنه وصف الملك آنف الذكر ، فَقَدْ صَحَّ فِي الباب : الأصل المطلق في الذهن ، صح في حَقِّ كُلٍّ ، فلا يستقيم الملك ، ولو المحدَث في الأرض ، إلا أن يكون الْمَلِكُ واحدا ، وإلا فَسَدَ الأمر إذا اسْتَكْثَرَ الخلقُ من الأمراءِ والسلاطينِ ، وشاهد الماضي والحاضر بِذَا يَشْهَدُ ، فَلَمَّا انشطرت العصبة الجامعة في السياسة والحرب في بلاد أندلس مُؤَرِّقَةِ الفكرِ ، فانحل نظام بني أمية وقد كان سلكا يجمع أهل الجزيرة ، ولهم منه الذخيرة ، فَزَالَ وقامت على أطلاله ممالك صغرى وصفها الجامع : التشرذم والتفرق ، وحصول مُلْكٍ لدى كلٍّ ، وإن حَقِيرًا لا يُؤْبَهُ ، فليس له من وصف الملك إلا يسير أو هو عنه عَارٍ فلا يَصْدُقُ فيه اسم الملك إلا دعوى لا دليل عليها يشهد ، بل شاهد الحال لها ينقض ، مع ما أُغْرِيَ بَيْنَهُمْ من عداوة وبغضاء إذ نسوا بعض ما ذكروا به ، وذلك تصديق ما كان أولا ممن قال إنه من النصارى ، فـ : (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، وذلك سَنَنٌ يَطَّرِدُ ، إذ حكاية ما كان من المتقدم : عِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَخَّرَ ، من وجه ، ومثال لعام قد استغرق كُلَّ نَاسٍ لِحَظٍّ مما ذُكِّرَ به من الوحي المحكم ، فذكره في هذا السياق لا يخصص العام ، وإنما يبين عن معناه الذي يطرد فهو يستغرقُ كُلَّ أحدٍ حصل له الوصف : نِسْيَانًا لِلذِّكْرِ ، فيكون من العقاب المعَجَّل : إغراء عداوة وبغضاء تَعْظُمُ ، وهو ما استفيد من إسناد العامل إلى ضمير الجمع في "فَأَغْرَيْنَا" ، حكاية التعظيم في الوصف وهو مما يحسن في مقام الجلال والوعيد أَلَّا يُقَارِفَ المكلَّف هذا الفعل الذميم ، ولو تَرْكًا ، فَالتَّرْكُ فِعْلٌ كَمَا قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، مع عنوان عداوة وبغضاء قد دخلت عليه الأداة "أل" فَزَادَتْهُ الاستغراق لوجوه المعنى ، وذلك في الخطب أفدح ، مع ما كان بَعْدًا من الإنباء يوم الحساب والجزاء ، فـ : (سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، ولا يخلو السياق من التفات من المتكلم إلى الغائب ، إهمالا لهم في مقام التكلم أن ينبئهم الله ، جل وعلا ، فَعَدَلَ عن مَقَامِ التَّكَلُّمِ على تقدير : وسوف نُنَبِّئُهُمْ ، إلى مقام الغيبة ، فسوف يُنَبِّئُهُمُ الله ، إهمالا لهم وَتَرْكًا أَنْ يُوَاجَهُوا في مقام التكلم إذ يخاطبهم الله ، جل وعلا ، وذلك في الوعيد أعظم ، وهو ما استوجب النهي عن النسيان ، وليس ذلك نسيان السهو فلا يأثم من كان منه ، إذ قَدْ كان من الرخصة أن رُفِعَ عنه قلم التكليف وما يكون بَعْدًا من الإحصاء والتسجيل إلا أن يكثر ذلك فيصير العادة فلا يَنْفَكُّ يحكي تقصيرا إذ لا يَتَحَرَّى صاحبه لأمر دينه ما يَتَحَرَّى من آخر لدنياه ، فليس ذلك ، في الجملة ، نسيان السهو فلا يأثم من كان منه ، وإنما هو نسيان قد تَعَمَّدَ صاحبه الفعل ، فَكَذَّبَ بِأَخْبَارٍ وَعَطَّلَ مِنْ أحكامٍ ما به النقصان بعد التمام ، فكان النهي عن النسيان والترك فذلك سبب في حصول العداوة والهجر ، وما يكون بعدا من الحرب والقتل واستباحة ما حُرِّمَ ، فَأَوَّلُ التَّفَرُّقِ بالأبدان : تَفَرُّقٌ في المذاهب والأديان ، إذ الظاهر أبدا فرع عن الباطن ، ومبدأ التفرق باطن في الفكرة ومنتهاه ظاهر في الحركة ، ولا ينفك مَنْ خَالَفَ عن الجادة وفارق الجماعة ، لا ينفك يوصم بالجهل والغلو والتعصب ، وتلك مادةُ كُلِّ شَرٍّ يُفَرِّقُ وَيُشَتِّتُ ، وهو سبب لِمَا تلا يوم الحساب والجزاء ، فتلك الساعة وهي أدهى وَأَمَرُّ ، ولا ينفك النهي عن النسيان والترك يستلزم أمرا بِضِدٍّ من الاستمساك والأخذ فلا يأخذ بعضا وَيَنْسَى بعضا ، وإنما يأخذ الكتاب كله بقوة ، فذلك سبب في حصول الاجتماع والألفة مع وعد بالخير يوم البعث والحشر ، فاطرد السياق وانعكس ، إن في الخبر أو لازمه من الإنشاء ، ومناطه أبدا أن يكون ثم اعتصام لا افتراق ، وهو ما قد نص عليه الوحي أمرا بالاعتصام بالكتاب والحبل وعطفا لِنَهْيٍ عن ضد ، فهو يلازمه في الدلالة والفكر ، كما آي آل عمران المحكم إذ تأمر أولا ثم تنهى ، فـ : (اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) .
فلم يكن لملوك الطوائف في الأندلس من ذلك حظ ، وإنما وكلوا إلى أنفسهم فالقوي يأكل الضعيف ، وَبَيْنَهُمْ من الدس والمكر ما به التربص والقتل كما في واقعة قد اشتهرت إذ أَوْقَعَ ابن عباد صاحبُ إشبيليةَ بخصومه من البربر ، بعد أن منحهم أَمَانًا وضيافة ، وذلك في الخيانة أعظم ، فأنضجهم بالحطب إذ دخلوا الحمام تَرَفُّهًا ، وكان من ذلك ما به يعجب ويفخر أنه من يقتل أعداءه ويحفظ رؤوسهم في حائط تَتَدَلَّى ، فَيُدْخِلَ الرعب على من خالف أمره وهو مع ذلك ضعيف لا يصمد لِمَا كان من سطوة النصارى وقد امتد سلطانهم بعد انحلال الملك الجامع وصاروا أسياد الجزيرة ، بعد سقوط طليطلة ، حاضرة القوط قبل الفتح ، وإليهم تدفع الجزية من ابن عباد وغيره ، فالقوي منهم ضعيف وإنما قوته على أبناء جلدته طَمَعًا في سعة ملك ، ولو تابعا لأعداء الديانة والوحي ، فذلك ما أفسد الملك إذ آل إلى ممالك صغرى ، وأفسد الحال إذ صار في الخارج ملوك تكثر لا مَلِكٌ واحد عنه الأمر يصدر ، وكان من سخرية وتهكم أن اتخذوا ألقابا تفخم وليس لواحد منهم عليها دليل يشهد ، بل حاله لِضِدِّ ما تَلَقَّبَ تُصَدِّقُ ، وتلك حال الملك إذا انحل بعد عقد ، وتفرق بعد جمع ، واتخذ منه ملوك كالأشباح لا يحصل بهم الغناء لا في دين ولا في دنيا .
ولما وليت بوران بنت كسرى أبرويز الملكَ ، مثالا آخر من فارس ، فالسنة تَطَّرِدُ في العرب والعجم كافة ، لما وليت الأمر كان من رجالات الحرب مَنْ تَحَزَّبَ ، وصار لكلٍّ من الجمع ما ينصر ، فاختل نظام الملك أَنِ انْشَعَبَتْ عُصْبَتُهُ وانحلت قوته وصار على أنحاءٍ تَتَدَافَعُ ، ولكلٍّ رأس هو الفرد الذي ضَاقَ تأويلُه فلا يجاوز عُصْبَتَهُ ، وتلك فَرْدَانِيَّةٌ ، وإن كان ثم جمع ، فقد صار إلى رأي واحد يخالف عن جمع كَاثِرٍ ، ولكلٍّ من المرجع ما يحكي الذات وَإِنْ تَذَرَّعَ أَنَّهُ يَرُومُ مَصَالِحَ الجمعِ ، بل قد صِيغَ له بَعْدًا من مذهب الحرية والفردانية ما يُصَرِّحُ ولا يُكَنِّي فَيَتَذَرَّعُ بمصلحة الجمع وهو يُبْطِنُ مصلحة الفرد ، فالفرد فوق الجمع تذرعا بالحرية التي أُطْلِقَتْ ، وإن كانت من المحال الذاتي ، وذلك الحكم العقلي الضروري الذي تشهد له الحال المحدَثة ، فكان من دعوى الحرية ما يَقْهَرُ الخلق باسمها أن يكفوا أيديهم فلا تَتَنَاوَلَ غَيْرًا بالإنكار والتأديب ، وَلَوِ الابنَ الصغيرَ ، فبطلت قوامة بها يُؤْطَرُ الطفل على جَادَّةٍ من الأخلاق والسلوك ، وَصَارَ من المثال الحداثي ما يَرُومُ له معيارا قد وَضَعَهُ ، وليس وراءَه إلا خلق محدَث ، قد ناله ما نال غَيْرًا من جَهْلٍ وَنَقْصٍ وَفَقْرٍ وآفة وعدمٍ أول وفناء تال وَنُزُوعٍ إلى الطغيان والظلم إذ تَوَهَّمَ الغنى بِمَا جَمَعَ مِنْ سَبَبٍ ، هو ، كما تقدم مرارا ، آية افتقاره التي تشهد بِضِدٍّ مِنْ دَعْوَى الكمالِ المطلقِ ، وَبِهَا يَتَذَرَّعُ أَنَّهُ الأعلم والأحكم والأعدل والأفصح ! ، وكان من فساد الأخلاق أَنْ تَذِيعَ الفاحشة في الخلق فلا يكون ثم زجر يَقِي الجمع شؤم الفحش إذا استعلن به صاحبه ، بل وَتَعَدَّى بَعْدًا بما يؤول إليه الأمر حتما أن يَقْهَرَ غَيْرًا عليه ، ولو لم يشاركه الفعل ، وإنما يُرَبَّى عليه النَّشْأُ تذرعا بالحرية التي نالت من الأديان والأخلاق بل والأبدان ، فَيَسْخَطُ الفطرةَ الأولى تَوْحِيدًا وَعِفَّةً ، بل وَنَوْعًا أول في الخلق الذي لا تكليف فيه إذ ليس محل اختيار يلام صاحبه أن كان نوعه هذا أو ذَاكَ ، فليس محل تكليف ولا اختيار ، وإنما تلك أداة بها المكلَّف يَتَأَوَّلُ ما بِهِ قد كُلِّفَ من التصديق والامتثال ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، تأويل القسم في آي الذكر إذ يحكي الخبر ، خَبَرَ الشيطانِ الْمَرِيدِ إذ : (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ، فكان من لعن الله ، جل وعلا ، خَبَرٌ يَحْكِي الإنشاءَ ، مع دلالة أولى تَثْبُتُ ، فذلك لَعْنٌ قَدْ كَانَ بل وثبت فلا تخلو الماضوية من دلالة توكيد وجزم ، مع أخرى تَطْلُبُ دعاءً أَنْ يُلْعَنَ ، فذلك ما يَعْدِلُ جُرْمَهُ ، وإن لم يكن من ذلك عادة تطرد ، فَسُدَّتِ الذرائع أَنْ يَعْتَادَ اللِّسَانُ اللَّعْنَ ، ولو لَعْنَ مَنِ استحق اللعن والطرد ، فذلك الخبر الذي يحكي الإنشاء دعاءً يَطْلُبُ ، وَثَمَّ من قول الشيطان ، فـ : (قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فليس الضمير في "قَالَ" بداهة يرجع إلى أقرب مذكور ، وهو اسم الله ، جل وعلا ، بل يرجع إلى أَبْعَدَ من ضمير قد اتصل بالعامل ، عامل اللعن "لَعَنَهُ" ، فكان من تقديمه وهو المفعول ، كان من تقديمه حُكْمٌ واجب كما قَرَّرَ أهل الشأن من نُحَاةِ النطقِ ، فتقديم المفعول على الفاعل واجب إذا اتصل الأول بالعامل ، فقال إذ لُعِنَ : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ، وكان من ذلك دعوى تؤكد بالقسم المقدر إذ قد دلت عليه لام الجواب المتأخرة في "لَأَتَّخِذَنَّ" ، فدل المتأخر من لام الجواب على المتقدم من القسم ، وَكَانَ مِنْ تَوْكِيدٍ تَالٍ نُونُ تَوْكِيدٍ مُثَقَّلَةٍ ، وكان من الإجمالِ في الاتخاذِ لِنَصِيبٍ مفروضٍ ، كان من ذلك ما أُتْبِعَ البيان أَنْ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فكان من تَغْيِيرِ الخلق ما قد عَمَّ إذ أضيف إلى اسم الله ، جل وعلا ، الخالق الحاكم ، فكان من تبديل الخلق : تبديل فطرة التوحيد الأولى ، وما كان من دينٍ محدَث في قطع آذان ..... إلخ ، فَذِكْرُ الْقَطْعِ آنِفِ الذكر يجري مجرى المثال لَعَامٍّ قد استغرق الآحاد كَافَّةً ، آحادَ ما أَحْدَثَ الخلقُ دِينًا لا أصل له في مَحَالِّ تَوْقِيفٍ من قرابين ونذور فذلك ما لا يثبت إلا بدليل من خارج ، فليس يجتهد العقل في حَدِّهِ إذ قد جاوز مدارك حسه ، فلا يَنْفَكُّ يفتقر إلى مرجع تشريع يجاوز ، فالعقل لا يستقل أن يُنْشِئَ الأمر والنهي ، وإن كان من قوة بها يميز الْحُسْنَ مِنَ الْقُبْحِ ، ولكنها ، كما تقدم في مواضع ، لا تجزئ في تشريع أخص يَأْمُرُ وَيَنْهَى في أعيان المحكومات في الخارج ، فغايته في المحالِّ التَّوْقِيفِيَّةِ أَنْ يُجَوِّزَ الحكم ، وهو ما يفتقر إلى مرجح من خارج يزيد الإثبات ، فَلَيْسَتْ دَعْوَى الجوازِ العقليِّ تجزئ وحدها في إيجابٍ أو تَحْرِيمٍ ، في إِثْبَاتٍ أو نَفْيٍ ، فلا تَنْفَكُّ تطلب مرجعا من الوحي وإلا كان الإحداث بالرأي وهو ما ذكر له المثال آنف الذكر ، مثالُ القطعِ لآذانِ الأنعامِ قُرْبَى ما جاءت بها شرعة ، ولكنه رأي أحدثه محدِث إذ رَاقَ له هوى أو ذوقا ، وَتَحَكَّمَ بَعْدًا أَنْ صَيَّرَهُ دِينًا يَلْزَمُ ، فكان منه دعوى من الدليل مجردة وهي مع ذلك المفروضة المتحكَّمة ، ولو التَّحَكُّمَ آنف الذكر ، ترجيحا بلا مرجح في باب من الجائز لا ينفك يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وإلا كانت الدعوى المفتقِرَة إلى دليل أخص مِنْ خَارِجِهَا ، فكيف صارت دليلا يُرَجِّحُ ومقدمةً في الاستدلال ضروريةً تَنْصَحُ فلا تفتقر إلى نظر أول ، بل هي مَبْدَأُ النَّظَرِ الْمُتَرَاكِبِ فلا بد له من مقدمات ومبادئ يحصل باجتماعها وهي العلوم الضرورية ، يحصل بذلك علوم أخرى هي العلوم النظرية التي تفتقر إلى مقدماتٍ في الاستدلال ضرورية ، فكان من دعوى الاستحسان بالهوى والذوق ما صَيَّرَهَا المرجع المحكَّم في الدينِ والشَرْعِ ، وهي الدعوى المجردة التي تفتقر إلى مقدمات أولى ضرورية ، فَأَجْزَأَ في رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي : دعوَى مجرَّدة تَنْفِي ما أَثْبَتَتِ الأولى ، فَدَعْوَى تُنَاجِزُ أخرى ، وقد اسْتَوَيَا في القدرِ واختلفا في الوجه فكان التساقط ، وهو ما لم يسلم إذ كان من الشيطان ما وَسْوَسَ ، وَإِنْ حَمَلَ النَّاظِرَ أَنْ يَتَحَكَّمَ ، فيرجِّح بلا مرجح من خارج إلا أن يكون الوسواس هو المرجِّح بما يُزَيِّنُ وَيُخَيِّلُ ، كما وسواسه لمن حاد عن الجادة ، فكان من الإفك والإثم ما أفسد المحل وصيره قابلا لما بَطَلَ من الفكر والحكم ، إذ شَغَرَ من الحق فَتَنَاوَلَهُ آخر من باطل يشغل ، وهو ما الْتَبَسَ في مواضع حتى صار يخيل لصاحبه أنه نبي يكلم ، وليس إلا شَيْطَانًا يوسوس ، كما الفلاسفة قد حدوا النبوة أنها قوة علم وذكاء ، وأخرى من التخييل الذي يتأول الفكرة الحاصلة في العقل فهو المرجع فلا مرجع يجاوز من وحي ، بل ثم عقل نَابِهٌ لصاحبه من الرياضة والزهد حظ وافر وإن خالف عن الأعراف والعوائد فَتَكَلَّفَ من الجوع والسهر .... إلخ ما به يروم الانخلاع من البشرية والدخول في أخرى علوية يباشر بها الحقائق الباطنة وإن خالف بها عن الشرائع الظاهرة ، بل وخالف عن الظواهر كافة بما انتحل من تَأْوِيلٍ بَاطِنٍ يتلاعب به المتأَول بما استقر من الضروري المحكم من مقدمات هي الأولى في أَيِّ استدلال ينصح ، وتأويلات المستبيِحِ لِمَا حَرُمَ ضرورة في النقل والعقل والفطرة والحس من الربا وهو المثال الذي أجله سيق الكلام ، وهو القبيح في الشرع والقياس إذ فيه من الظلم ما عظم زيادة بلا عوض ، فَبِأَيِّ حق تُسْتَبَاحُ الزيادة وهي السحت وإن رَضِيَ المظلوم ، فرضاه بالظلم لا يُحِلُّه ، وليست يده يَدَ الواهب ، بادي الرأي ، لِيُقَالَ إِنَّهُ راض ، بل ذلك العقد الملزم الذي يستبيح من المحرم ما قد علم ضرورة لا جرم كان إيذانا بحرب من الشَّارِعِ ، جل وعلا ، الذي حَرَّمَ ، فإن المرابي لحده قد تجاوز وفي حماه قد وقع ، فتأويلات المرابي وما اقترح من صُوَرٍ من البيع تُبَاحُ قد استحل بها ما حرم من مأكل الربا ، فتلك التأويلات شُعْبَةٌ مِنْ تَأْوِيلٍ أعم ، هو في الباب ، باب القدح في ظواهر النصوص الصريحة بما كان من تأويلات قبيحة لا تنفك في أحيان تضاهي تأويلات الباطن التي تذرع بِهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَقْدَحَ في الظواهر ، كما تَقَدَّمَ من تأويلات الفلاسفة التي صدرت عن عقل قد طَغَىَ فجاوز الحد ، وإن كان له من الذكاء حظ فلم يكن ثم زَكَاءٌ يشفع فهو الأول يأطر ، بل قَدْ طَغَى الذَّكَاءُ حَتَّى استجاز المخالفة عن وحي السماء بِمَا ضَاهَى من تَأْوِيلَاتٍ بَاطِنِيَّةٍ ، فكان من تلك المخالفة ما به نُبِّئَ الحكيمُ ! ، وَإِنْ وَحْيًا في العقل يحدث فلا مرجع مِنْ وَحْيٍ يَنْزِلُ إلا أن يكون الشيطان الموسوِسَ ! ، وثم من قوة تخييل في الخارج آخر يَتَمَثَّلُ صورةَ الملَك فهو يوحي إلى العقل بما خرج منه ! ، فليس ثم ، كما تقدم ، مرجع وحي من خارج يَنْصَحُ ، ثم يكون من قوة التأثير في الخلق أَنْ يَتَّبِعُوهُ بما يُحْسِنُ من نَظْمِ الكلام ولو تأويلا باطنا يخالف عن البدائه أو ما يقترح لهم من خَارِقَةٍ قد صارت الدليل وإن خالف صاحبها عن محكمِ التَّنْزِيلِ ، لا جرم كان الوحي أبدا هو المرجع المحكم في المسائل كافة ، كما تقدم من سيادة الشعب أَفْرَادًا قد تَنَاجَزَتْ ، وصار لكل شُعْبَةُ يَسْلُكُهَا ، وإن خالف بها عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فيكون من مثال الذَّرِّ آنف الذكر ما به الأفراد يَتَصَارَعُونَ على قاعدة مَادَّةٍ تَنْفِي الغيب المجاوز من خارج ، وتنحط بالمدارك ألا تجاوز الْغَرَائِزَ ، فَتُفَتِّشَ لها عن أصلٍ وقصةِ خلقٍ تَنْقُضُ ما جاء به الوحي من تكريم في المبدإ تسوية ونفخا لروح تلطف وهي معدن الوعي والإرادة فليس البدن إلا آلة ، ولو شَرُفَتْ في تَسْوِيَتِهَا وأعجزت في وصفها بما كان من آي محكمٍ قد تناولها الحس بالاستقراءِ والرَّصْدِ ، وما كان من تجريب وبحث لم يَزِدِ الوحي إلا نصحا به تُقَامُ الحجة على الخلق كافة ، فليس من البدن إلا جند ، وليس من الجنان وهو المحل الأشرف من روح في ماهيتها تلطف ، ليس من الجنان إلا مَلِكٌ يأمر والجند عن أمره تصدر ، ولا يكتمل هذا الوصف الأشرف إلا أن يكون إيمانٌ بِغَيْبٍ يَنْزِلُ ، فتلك خاصة العقل المكلَّف الذي يجاوز مدارك الحس المحدث ، فلا تكون مرجعا في التشريع هو المحَدَث فوصفه من وصف المدارك المحدثة التي غلا فيها الجيل المتأخر فصيرها حصرا ما به العلم يثبت ، وكان التحكم الذي يخالف عن مسلَّمات الضرورة العقلية ، وأخرى ناصحة من الفطرة ، وثالثة تخبر بالشرعة مرجعا يجاوز من خارج قد نصح المحل بما صدق من الخبر ، ومنه خبر الغيب الذي امتاز به المكلَّف من أنواع أخرى لا تعقل إلا عقل الغريزة والحس ، لا جرم كانت عناية الحداثة التي تُنْكِرُ المرجع المجاوز من خارج ، كانت عنايتها أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا في الأصل فلا امتياز لهذا الخلق المكرَّم من نَوْعٍ إِنْسَانِيٍّ يُكَلِّفُ فَلَيْسَ إِلَّا حَيَوَانًا قَدْ جُمِعَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وعظمٍ وعصبٍ وليس يدرك إلا ما يَسْتَثِيرُ الْغَرَائِزَ من إفرازٍ يُرْصَدُ ونبضات تُنْقَلُ ، فليس ثم حقيقة تجاوز هذا البدن المحدَث ، وهو ما يُفْضِي إِلَى تَالٍ من فَرْدَانِيَّةٍ ذَرَّاتُهَا تَتَصَارَعُ على قاعدة الانتخاب الذي فرضته الطبيعة التي خَلَقَتْ ! ، كما فرضت سَيِّدَيْنِ تَبَجَّحَ بها حكيمُ لَذَّةٍ في جيل قد تأخر ، فصير اللذة والألم هما السيدان الحاكمان في هذا الإنسان المكرم ، فلم يجاوز به حد الحيوان الذي تحركه الغرائز ، وهو ما يُفْضِي ، كما تقدم ، إلى تصارع يأرز إلى طبائعِ شُحٍّ وَأَثَرَةٍ وَفَرْدَانِيَّةٍ تذرعت بالحرية المطلقة ، إلا أن يكون من الدين أو المذهب مخالِفٌ فلا حرية له أن يخالف ! ، وليس إلا أن يُنَاجَزَ وَيُدَافَعَ على قاعدة الانتخاب آنفة الذكر ، والغاية فيها لذة ، والذريعة فيها قوة ، فلا يصمد في هذا الانتخاب إلا الأقوى ، وليس للضعيف حق بل قد حَسَّنَ المذهبُ إِفْنَاءَهُ إذ لا نَفْعَ منه يُرْجَى ، بل هو عبءٌ بلا جدوى ! ، فتلك الفردانية التي تَتَذَرَّعُ بالحرية ، وسيادتها سيادة الشعب ! ، فتلك ذريعة إلى أخرى بها السيادة تُسْلَبُ مِنَ الخالقِ الأعلى ، وَتُرَدُّ إلى أَفْرَادٍ في مِثَالٍ ذَرِّيٍّ مُتَنَافِرٍ لا معيار له يجمع ، وَإِنِ الكلِّيَّاتِ الأخلاقية المجملة ، وذلك مثال ، لو تدبره الناظر ، يُفْضِي إلى اضمحلال الجمع ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فلا أمة ولا جمع يصمد إلا أن يكون ثم إجماع ، ولو عَلَى كُلِّيَّاتٍ لا يخالف عنها إلا الجاحد أو المسفسِط ، فلا بد مِنَ الْتِزَامِ الأفرادِ ، ولو حَدًّا أدنى به يستقيم الجمع بما يكون من حكومة عدلٍ ، ولو في اقتسامِ بَاطِلٍ ! ، وهو ما به مُدِحَ الرومُ في السياسة والحكم ، أن كان من العدل في مُثُلٍ تأخرت ، ولو جملةً لَا تَنْفَكُّ تطلب البيان الناقد الذي لا تَغُرُّهُ سطوة الغالب ، فإن العدل في اقتسام باطل على قاعدة : لَذَّةٍ هي الغاية وَقُوَّةٍ هي الوسيلة فَرْدَانِيَّةً تَنْتَحِلُ من الحرية ما أُطْلِقَ ، ذلك ما يُفْضِي بَعْدًا إلى الظلم بما تقدم من غلبة الأقوى التي قضت بها الطبيعة إذ تَنْتَخِبُ ، فيكون من التَّصَارُعِ ما يأرز إلى معيارِ حِسٍّ لا يجاوز ، فلا مرجع من خارج يأطر هذا الطغيان الذاتي الذي يتحكم في حَدِّ الحسن والقبح وما يكون من شرعةِ أمرٍ ونهيٍ .... إلخ ، وليس يسلم من الأهواء والحظوظ مع نقص قد استقر في الجبلة جهلا وحاجة وفقرا إلى أسباب من خارج فلا تؤمن حكومة تلك بواعثها ، ولو تَحَرَّتْ مِنَ العدلِ مَا تَحَرَّتْ ، فإذا كانت الذات هي المعيار فلكلٍّ ذَاتٌ تَشْتَهِي وَتَرْغَبُ ، ولكلٍّ عَقْلٌ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وليس يستقيم من الحرية أن يَدَعَ كلٌّ الإنكارَ على الآخر ، بل ذلك ما يخالف عن الطبع لا سيما والأثرة والشح هو الباعث ، وَالْفَرْدَانِيَّةُ تَتَأَوَّلُ ذلك بما تقدم من لَذَّةٍ هي الغاية وقوة هي الذريعة ، فيكون التدافع حتما لَا على قاعدة عدل ينصح ، بل ثم انتخاب للأقوى فوحده من يفوز باللذة ، وإن ظَلَمَ الأضعف بل وأتى عليه بالإفناء والقتل والسلب .... إلخ ، ومنه الربا آنف الذكر فهو أَدَاةُ الأقوى أَنْ يَنْتَهِبَ الأضعف وَيَسْتَنْزِفَ ولا يجد في ذلك غضاضة بل ذلك حكم الطبيعة العادل أَنَّ القوي الغني سيد غالب ومن دونه فَخَدَمٌ وَعَبِيدٌ ، فلا يجد غضاضة وقد منحه المذهب حجة ، بل قد صيره صاحب فضيلة تُحْمَدُ أَنْ كَانَ منه حملانٌ لِعِبْءِ الأدنى أَنْ يَرْقَى به ، ولو أَفْنَاهُ وَاسْتَلَبَ حَقَّهُ وَاتَّخَذَهُ أداةَ خدمةٍ وَلَذَّةٍ ! ، فَثَمَّ من المعيار الأخلاقي المحدَث ما يُبَرِّرُ هذه الجرائم العظمى التي اقْتُرِفَتْ باسم الحرية وليست كما تقدم إلا الفردانية التي لا تُقَبِّحُ العدوان ، عدوان الأقوى على الأضعف إن كان في ذلك لذة ومصلحة تحصل ، ولو خالفت عن معيار أخلاقي محكَمٍ ، لا جرم تَنَاَوَل هذا المذهبُ الأخلاقَ بالإبطالِ أَنْ صَيَّرَهَا نِسْبِيَّةً تَتَفَاوَتُ ، ذَاتِيَّةً تَتَصَارَعُ فلا مرجع لها من خارج يجاوز .
وشرائع الوضع المحدث ، لو تدبر الناظر ، لا تقيم وزنا لعدوان إلا العدوان المحسوس الذي يَنَالُ مِنَ الأبدانِ كَمَا القتل أو الاعتداء بالضرب أو الهتك ...... إلخ ، وإلا فالتراضي على الفواحش والمنكرات ، وتعاطي الخبائث والمسكرات ، وتداول الربا في المعاملات ، ذلك ما يصيرها مشروعة بما تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الذَّوَاتُ فَلَهَا سيادة الشعب ، وهو المجموع من أَفْرَادٍ تختَلِف مشاربُهم وَتَتَعَارَضُ مصالحهم لا جرم كان من القوة حَكَمٌ فَصْلً إذ ليس ثم مرجع يجاوز من وحي ، فالأقوى يحكم وحكمه هو الحق ، وَلَوْ ظَلَمَ ، إذ القوة هي الحق المحكم في أيِّ مثالٍ من السياسة محدَث ، فيكون من المثال الذَّرِيِّ ما يضطرب ، فالأقوى في أي جمع : قليل قد احتكر أسباب القوة ، وبها يُبَدِّلُ ما استقر من الميثاق ، ويسن آخر يواطئ هواه وذوقه إذ له من القوة ما يسوغ ، ولو قَهَرَ غيره وَأَكْرَهَ باسم الحرية ! ، وهو ما تَنَاوَلَهُ من له اشتغال بالسياسة في هذا الجيل وإن لم يكن لها أهلا إذ ظلم وَتَجَبَّرَ ، واغتر أن آوى إلى ركن قُوَّةٍ في المركز تعظم وليست إلا قوة الحس التي اغتر صاحبها فكان له في هذا الجيل ما كان لآخر قد تبجَّح أن : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فاقترح في مهد النبوات في الشرق ، اقترح حكمَ الأقلية التي تستبد فإن الغالب لو حكم فليس إلا عنوان الوحي ، وإن كان ذلك في نفسه ما لا يُسَلَّمُ مطلقا ، وإن تُنُزِّلَ به في الجدال مع الخصم ، فَإِنَّ حكم النبوات ليس لقليل أو كثير ، وإنما هو لآي التنزيل وخبره فهو المرجع المجاوز ، قَلَّ الجمع أو كَثُرَ ، وإنما كان من سُوِء ما قال أولئك أنهم اقترحوا حكومة الوضع المحدث ، وهي ، مع ذلك ، حكم قليل في بلاد الشرق إذ النبوة فيها أظهر ، ولو المعنى الأعم الذي يفتقر إلى بَيَانٍ وتحرير ، فكان من مقالهم حشف وسوء كيلةٍ ، فقول باطل وهو ، مع ذلك ، قليل خامل ! ، فليست ، كَمَا تَقَدَّمَ ، إلا الفردانية التي لا يمكنها أن تحكم إلا أن تَطْغَى وَتَظْلِمَ إذ تخالف بمصالحها الصغرى مصالح الجمع العظمى ، وذلك خلاف القياس والحكمة ، فيأبى الجمع الانقياد ، فيكون من إكراهِ قَلِيلٍ لِكَثِيرٍ أن يحمله على ما يريد ، وإن كان من المكر في جِيلٍ تال أن صار الفرد يقهر الجمع بأسباب تَلْطُفُ فلا يكون من الإكراه ما يظهر ، بل ثم آخر يُزَيِّفُ الوعي بما احتكر من مصادر المعرفة وأدوات الدعاية التي تزخرف الباطل ، كما زُخْرُفُ الرِّبَا مثالا فهو البيع والمضاربة وهو المعيار المحكم في تداول المال وإن دولة بين الأغنياء وحدهم ! ، فَيَغْتَرَّ به الناظر إن لم يكن ثم مرجع من وحي يجاوز فهو يأطره على الجادة الناصحة ، وَيَقْضِي في شُبُهَاتِهِ بما أُحْكِمَ من آيه وأخباره ، فإن لم يكن المرجع المجاوز من خارج فالفرد لا يجد عناء أن يمكر بالجمع بما يزيف من الوعي إذ احتكر أسباب المعرفة والدعاية ، إن في مثال يحكم باسم الشعب سَيِّدًا قَدْ أُطْلِقَ ، وإن تَوَهَّمَ فَلَا يَصْدُقُ ، ولو في دعواه المحدثة ، فقد خَدَعَ الأفراد باسم الحرية وأطلق منها ما احتج به أن يحكم ويستبد إذ المرَدُّ ، كما تقدم ، اللذةُ غايةً والقوةُ وسيلةً ، وقد امتلك منها الخشن والناعم فَرَاحَ يأطر الجمع على ما يُوَاطِئُ مصالحه ، وإن كَسَاهَا لحاءَ المصلحة الفردية التي تُعَظِّمُ الحرية ! ، وقد يمكر أخرى فيكون ذلك باسم الأمة ، فينتحل المصلحة العامة ، ولو صدقت فكان الحكم للأكثر فإنه لا يسلم كما حكم الفرد ، إذ كلٌّ يصدر عن بواعث من الحس ، نقصا وفقرا وحاجة وجهلا وآفة وَعَدَمًا هو السابق وَفَنَاءً هو اللاحق ، لا جرم كان من الإجماع ما لا يطلق ، وإن حكى إرادة الجمع صدقا ، فلا ينفك ذلك يحتمل ، فاشترط في الإجماع المعتبر في الشرع أن يكون ثم مستند من الوحي ، على تفصيل في ذلك تناوله أهل الأصول ، فالمرَدُّ إلى الوحي فهو من أخبر خَبَرَ الصدق بعصمة الإجماع ، فذلك الخبر الأعم ، وكان منه مستند أخص إليه يأرز الإجماع في واقعة مخصوصة فكلُّ دليلٍ قد خالف عن الوحي نصا أو مقصدا فهو فاسد الاعتبار ، وهو ما لا يتصور في أمة بها الختم وَحُجَّتُهَا قائمة على الخلق ، فإجماعها المعتبر يُعْصَمُ وإلا بطلت شهادتها على سائر الأمم ، فلم يكن من سيادتِها سيادةُ الأمَّةِ ، وإنما سيادة الوحي والنبوة ، فالأمة تَتَأَوَّلُهَا سلطانا به تقيم الشرعة ، فليس ثم سيادة فيها إلا للوحي المنزَّل من الرب المهيمِن ، جل وعلا ، فتلك السيادة المطلقة التي استغرقت وجوه المعنى وآحاد المسائل كافة ، فـ : "السَّيِّدُ اللهُ" ، وهو ما عُرِّفَ منه الطرفان ، فكان منه قصر إضافي إذ السيد قد يطلق في حق البشر ، كما أطلق في حَقِّ خَيْرِ البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من القصر الإضافي ما تَنَاوَلَ عهدا أخص لا تجوز فيه الشركة وإن جازت في مطلق المعنى ، معنى السيادة ، فلا تجوز في أخرى هي العظمى ، سيادة قد استجمعت وجوه المعنى وآحاد المسائل ، كما تقدم ، فذلك عهد أخص لا يكون إلا لِذِي الجلالِ والعِزِّ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَثَمَّ من ذلك ما لا يستقيم به الأمر في دنيا الناس إلا أن يُرَدَّ إلى ملك واحد له سيادة في الجمع تطلق ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، وله من السيادة ما اسْتَقْرَأَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ وَصْفَهَا فَهِيَ : المطلقة فلا يدخل ، جل وعلا ، في حدها بداهة إذ قد تناولت أحوال الخلق ، وهو من خلقهم ، فَثَمَّ من الحد ما يميزه من ذواتهم وما وُصِفَتْ به من نَقْصِ جِبِلَّةٍ وما يطرأ من تغير وآفة ..... إلخ ، فَثَمَّ من الحد ما يميز ، فالخالق ، جل وعلا ، واجب الوجود لذاته فلا يُقْضَى في حقه بشرعةٍ تَقْضِي في جائز الوجود من الخلق المحدَث ، فشتان الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان ثم اشتراك في المعاني الكلية المجردة في الذهن فلا يلزم منه آخر في الخارج ، بل لكلٍّ من الوصف ما يُوَاطِئُ كَمَالًا أَوْ نَقْصًا ، فَلَهُ ، جل وعلا ، مثال الكمال المطلق فلا يشركه فيه غيره ، ولها ، أي السيادة المطلقة التي اختص بها الوحي ، لها سمو فلا تعلوها إرادة خلق ، ولها التفرد ، كما تقدم من حكم إقليم في السياسة المحدثة فإن لم يكن ثم سلطان واحد فالأمر ينشعب ويفسد ، فكيف بهذا الكون المحكم ؟! ، فلا يكون انتظام أمره إلا وثم سيد واحد يحكم فيه من خارج إن في الخلق أو في الشرع ، فذلك عموم اسمه "السيد" ، وسيادته ، أيضا ، أصل فلا أول عليه يَتَقَدَّمُ ، ولا أعلى منه يَقْهَرُ كما سيادة البشر فمن علا في الدرجة قَهَرَ من تحتَه فكان من ذلك مثال تَسَلْسُلٍ يَتَدَرَّجُ في القهر من رأس أضيق إلى قاعدة من الخلق أوسع ، مثال الهرم الذي يحكي طغيان الحكم المحدَث ، ولها ، أي سيادة الخالق الأعلى ، لها خاصة انْفِرَادٍ في الوصف والتَّمَلُّكِ فلا تُغْتَصَبُ ، وَإِنْ عَطَّلَهَا الخلق وَنَازَعُوا فيها وهو ما عمت به بلوى في جيل قد تَأَخَّرَ ، أَنْ نَازَعُوا في الخلق كما الشرع ، تأويل ما تقدم من تغيير الخلق ، فَفَاقَتْ جنايتهم جناية الجيل الأول من خصوم الوحي المنزل فقد سَلِمَ لهم من الفطرة إثباتُ الخالق الأول ، ولها ، أي السيادة الإلهية ، لها عصمة من الخطإ تُبْطِلُ ما انْتُحِلَ لِلْأُمَّة والشعبِ منها مع ما رُكِزَ فيهم جِبِلَّةِ نَقْصٍ وَفَقْرٍ .... إلخ ، على التفصيل آنف الذكر ، فحصل من ذلك ما يميز سيادة الشرع الرسالي الحاكم إذ حَرَّرَ الفرد من الطغيان حقيقةً لا دعوى ، فلم يكن من دعوى الحرية فيه ما يُفْسِدُ الفرد والجمع ويفضي إلى اضطراب الأمر إذ صار لكلٍّ من الحرية مُطْلَقٌ ما لم يَنَلْ من غيرٍ ، فلا حق له أن يستدرك إذ ليس ذلك من شأنه ، وإن قَارَفَ غيرٌ مَا يقبح ضَرُورَةً في النقل والعقل والفطرة والحس من فَوَاحِشَ تُفْسِدُ النفوس ، فلا يقتصر فَسَادُهَا على المقارِفِ فَلَا يَنْفَكُّ يعدو على غَيْرٍ لِيَنَالَ من لَذَّةٍ ما يوهم ، وإن كان التراضِي ، فالأمر في نفسه يهدم مثال الجمع ويهلك النسل والحرث وَيَسْتَجْلِبُ الوباء والسقم كما قد صح من الخبر ، فـ : "لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" ، وكما التجريب والبحث قد صدق من أدواء تَنَالُ من الأديان والأبدان كافة ، فالضرر يجاوز ، وإن كان ثم تَرَاضٍ ، وكذا يقال في مسكر يذهب بالعقول ، وهو أظهر ، فإنه ذريعة تُفْضِي إلى العدوان المحسوسِ إذ لا عقل يأطر إن لم يكن للجمع شرع مُنَزَّلُ من السماء ، فشرائع الأرض المحدَثة تسد الذرائع إلى جرائم ، لا جرم قَيَّدَتِ شرب المسكِرِ في مواضع كما الأشغال العامة أو السيرِ في الطرقات كَافَّةً ، وقيدته بمواقيت ، فَسَدَّتِ الذرائع في المشهودات التي لا تجاوز مدارك الحس ، فَلَيْسَتْ تَنْظُرُ إلى ما تَلَا من دار الجزاء والعدل إذ جحدت النبوة مرجعا يجاوز من خارج ، بل لم تحسن من القيد ما اقتصر على الحس الشاهد ، فإنها بما قيدت قد قَلَّلَتِ المفاسد ولم تحسم ، كما الوحي قد أَحْكَمَ ، وعليه تحمل حكومات من المعاملات كما الربا ، فَثَمَّ من تحريم الوحي ما جاوز الخلق ، وثم من حد المصالح والمفاسد ما يجاوز الأهواء المحدثة والمكاسب المعجلة التي تحكي الفردانية ، أيضا ، فَثَمَّ فَرْدٌ أو جَمْعٌ قَلِيلٌ يروم احتكار المال واكتنازه فيكون دولة بين نخبة تضيق آحادًا أو عَوَائِلَ تَطْغَى إذ تُقَدِّمُ في باب المصالح : الخاصةَ على العامَّةٍ مع كفرانها ، بادي الرأي ، بمرجع النبوة والوحي ، فأحكامه حق وهي في نفسها مناط ابتلاء ، وإن لم تعلم العلة أو الحكمة ، فكيف في معاملاتٍ قد عُقِلَتْ معانيها في الخارج ، وشهد الماضي والحاضر أنها تضر الجمع وإن نَفَعَتِ الفرد ، فالقياس المحكم ، ولو مسلمةَ ضرورةٍ في العقل المحدث ، القياس المحكم أن تَرْجُحَ المصلحةُ العامة المصلحةَ الخاصة ، فيقدم الجمع على الفرد ، ويكون من العدل في القسمة ما لا يستوجب التسوية وإنما حكمة بها يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ورحمة قد جاء بها الوحي إذ يرفق بالضعيف والعاجز عن الكسب وهو ما لا تقيم له الحداثة الوزنَ بل تَرَى أنه سبب الفقر فهو الحمل الزائد الذي يحسن التخفف منه ! ، حكاية الشح والأثرة ، فـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) .
والله أعلى وأعلم .