الصفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
اعرض النتائج 21 من 23 إلى 23

الموضوع: أجناس الربا

  1. #21
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان المبدأ في الخبر بعد استفهام يستعلم ، فـ : "ما هُنَّ؟" ، إذ كان من المبدإِ تشويق يجمل في الدلالة أَنِ : "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ" ، وهو ، أبدا ، التكليف العام المستغرق بما كان من دلالة تغليب تطرد ، وخطابه يؤسس في حق الكافر فيكون اجتنابه الشرك ، وهو أول موبقة ، يكون ذلك تأسيسا في حقه إذ يخلي المحل من عارض يفسد ما استقر أولا من فطرة وجدان يبطن ، ولا يحصل بذلك إيمان يجزئ إلا أن يشفع بإثباتٍ يُحَلِّي المحل ، فنفي العارض المفسد من الشرك ، وإثبات آخر يصلح من التوحيد ، فالنهي عن الشرك يستلزم ضرورةً الأمر بِضِدٍّ من التوحيد ، وذلك أول في دين جزئ في حصول اسم في الباب ينفع ، فكان منه التأسيس في حق الكافر ، وكان منه توكيد واحتراز في حق من آمن أولا ، فَلَا يُقَارِفُ نَاقِضًا لِمَا حَصَلَ أولا من إيمان ، وهو ما عَمَّ نَاقِضَ الأصل الجامع وآخر لكمال واجب ، فكان من ذلك خطاب توكيد في حِقِّ مَنْ آمن مع احترازٍ مِنْ ضِدٍّ ، وخطاب تأسيس في حق من كفر وجحد ، سواء أكان ذلك مبدأ أمره أم كفر بعد إيمان ، فيتوجه إليه التكليف أن يرجع إلى فطرة أولى كان ينتحلها قوةً وفعلًا ، كما يتوجه التكليف إلى الجاحد أن يرجع إلى فطرة أولى قد ثَبَتَتْ قوةً وإن لم يشفعها بالفعل الذي يَتَأَوَّلُهَا في الاعتقاد والقول والعمل ، شرعةً تستغرق المحال كافة وبها السيادة الدينية تنصح ، فلا تكون إلا لواحد هو الأول : أولية الإطلاق كمالا قد عم فاستغرق الذات والاسم والوصف والفعل والحكم جميعا ، فذلك ما جاوز الاعتقاد إلى الاحتكام ، فكان من التزام الشرعة في القول والعمل ما يصدق آخر في الجنان يثبت من اعتقاد وتصديق ينصح ، فتوحيد الاعتقاد أول ، وهو توحيد العلم المحكم ، وذلك ما تناول الأسماء والصفات والأفعال ، توحيدا في الإلهيات وآخر في أفعال الربوبية ، وأصله أول قد أُجْمِلَ في الوجدان ، فلا ينفك يطلب بيان التفصيل بما تَتَابَعَ من نجوم التنزيل ، وتوحيد الامتثال تال بعد الاعتقاد ، ومنه ما تقدم من حكم الربا فهو يجاوز الحكم العملي ، إذ ثم أول من اعتقاد يجزئ إنِ الاعتقادَ العام الذي يصدق الشرائع كافة ، أو آخر أخص يَتَنَاوَلُ أحكام الربا والبيع ، وثم تال من الامتثال فهو يتأول اعتقاد التحريم أن يترك الملف ما عنه قد نُهِيَ ، فَتَوْحِيدُ الامتثال لازمٌ لتوحيد الاعتقاد ، من وجه ، وهو قسيمه من آخر ، وبهما جميعا يحصل الدين المجزئ ، فتوحيد العمل والطلب يصدق توحيد العلم والخبر ، وكلاهما حتم لازم في حصول الاسم الديني النافع ، وإن اختلف الخطاب على التفصيل آنف الذكر ، فَثَمَّ ، خطاب التوكيد في حق المؤمن ، وثم خطاب التأسيس في حق الكافر ، فكان من انفكاك الجهة ما يَنْفِي التَّعَارُضَ ، بل ثم تكامل في المعنى ، وتعاضد في الفحوى ، وهو ، من وجه ، شاهد به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، فهذه واوُ جمعٍ مذكَّرٍ وهي واحدة ، قد اختلفت مدلولاتها في الخارج ، فكان منها تغليب يجاوز المذكر إلى المؤنث ، إذ كل بخطاب الوحي يُكَلّفُ ، وكان منها خطاب حاضر وآخر قد غاب فلم يشهد المجلس ، وإنما امْتَثَلَ الشاهد أن يُبَلِّغَ ، وكان منها خطاب موجود فهو المخاطَب فعلا ، وآخر لَمَّا يوجدُ بعد ، فهو المخاطَب قوةً ، وكان منها خطاب المؤمن توكيدا وخطاب الكافر تأسيسا ، وكل أولئك ما دل عليه مبنىً واحد ، بل هو حرف في النطق والكتب ، وإن كان في الدلالة الاسمَ ، فهو ضمير ذو دلالة أخص قد تناولت جمع الذكور ابتداء ، ثم كان من الدلالات ما تقدم ، فكل أولئك مما يثري السياق وَيَزِيدُ ، وبه ، كما تقدم ، الاستئناس في عموم اللفظ المشترك .

    فكان النهي عن اجتناب الموبقات وكان من المبدإ في ذكرها شِرْكٌ هو الأفحش ، فَهُوَ لِمَا تَلَا مِنَ القولِ والعملِ يَنْقُضُ ، ومنه شرك السيادة وذلك ما قَدْ عمت به البلوى في كلِّ جيلٍ ، فكانت منه الخصومة المستحكمة بَيْنَ النُّبُوَّاتِ وَأَقْوَامِهَا المنكِرَةِ ، وهي ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، وإن تَنَاوَلَتِ الشِّرْكَ في الحكم والشرع إلا أن ثم الأول في التصور الذي يحصل في الذِّهْنِ ، ومنه ما يكون من ملزوم أَوَّلَ ربوبيةً تجاوز ما يَتَبَادَرُ من الخلق الذي أثبته الجيل المشرك أولا ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فَثَمَّ من الربوبية تاثير وتدبير به سنن الآفاق والأنفس تجري ، فيكون منها شاهد أن الوحي حق ، كما جاء في محكَمِ الذِّكْرِ أَنْ : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ، وهو ما عُجِّلَ بِالسِّينِ مَئِنَّةَ التَّقْرِيبِ فذلك مما يَتَنَاوَلُ تقريبَ زَمَنٍ يتَعَاقَبُ فَلَا يَنْفَكُّ فِي كُلِّ جِيلٍ يَتَبَادَرُ ، وتقريبَ آيٍ إلى الذهن بما يكون من تجريب وبحث ، فلم يكن أولا من الآلة ما يُدْرِكُ ، وكان من الغيب ما قد أُجْمِلَ ، فَلَمْ يكن العدم حتى اكْتُشِفَ ، بل له وجود أول وإن لم يُدْرَكْ فِي جِيلٍ تَقَدَّمَ ، فلم يكن من عدمِ وجدانِه بالحسِّ والبحثِ : دَلِيلٌ أنه غير موجود فذلك التحكم المجافِي عن المنقولِ والمعقولِ كَافَّةً إِذْ يَغْلُو فِي الحسِّ حتى يُصَيِّرَهُ مَنَاطَ الإثباتِ والنفيِ حَصْرًا ، وَيَحُدَّ به العلم فلا يجاوزه نصا ! ، فالعلمُ مَا يُدْرَكُ بالتجريب والحس ، وَالْتِزَامُ ذَلِكَ مما يَنْحَطُّ بالناظر إلى دَرَكَةِ الحيوانِ الأعجم ، وهو لأشرف خاصة في المكلف يُهْدِرُ ، خاصة العقل الذي يؤمن بالغيب ، وهو ما يجاوز الدماغ الثابت في الحس ، وخاصة الروح اللطيف وهو ما يجاوز الجسد الكثيف ، فَلَيْسَ إلا أَدَاةَ التّنْفِيذِ لما يكون من وَعْيٍ وَمَشَاعِرَ محلُّها الجنان الناصح ، فلا يُحَدُّ العلم بما تقدم من المدركات المحسوسة ، فذلك مما يجافي عن المعيار المحكم في حد العلمِ الذي به المعلوم يُدْرَكُ فإنه يجاوز الحس إذ ثم من أدلة العلم : الخبر من خارج فيما غَابَ عَنِ المدارِكِ ، فلا تُرَجِّحُ وليس ثم مرجِّح من خارج ، فالوحي ، وهو المرجع المجاوز من خارج ، الوحي في الباب عمدة إِنْ في مَاضٍ تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ الخلقِ ، أَوْ تَالٍ يجاوز الحس إلى مُغَيَّبٍ لَمَّا يَأْتِ تَأْوِيلُهُ بَعْدُ ، أو تَالٍ يُجَاوِزُ إِلَى بَرْزَخٍ هو الفارق ، وَنَشْرٍ وَحَشْرٍ فَحِسَابٍ فَجَزَاءٍ فمستقَرٍّ في جنة أو نار ، فكل أولئك مما يجري مجرى الجائز ، بادي الرأي ، فَلَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى مرجِّح من خارج العقل والحس إذ لا يتناولانه في المبدإ ، وإن كان يجوِّزانه في الجملة ، بل العقل يُوجِبُ مِنْ بَعْضٍ وإن إيجابا آخر قد أُجْمِلَ ، كما إيجابه أن لهذا الخلق خالقا في المبدإ ، وكما آخر أن ثَمَّ دَارًا تجاوز دَارَ الحسِّ ، وَفِيهَا يُقْضَى بالعدلِ ، فذلك معنى لم يحصل في كلِّ خصومة في الأولى فكان من ذلك ما استوجب تاليا يَسْتَدْرِكُ وبه القصاص المحكم ، فكل أولئك مما جَازَ أَوْ وَجَبَ في الحكم ، والعقل والحس ، مع ذلك ، لا يرجح إن في إثبات يُرَجِّحُ طَرَفًا من الجائز دون آخر أو بيان لما أُجْمِلَ من واجب ، فلا يكون ذلك إلا بالوحي الذي يخبر بما جاوز مدارك الحس ، فكان من ذلك ما استوجب البحث أولا في دلائل الوحي فإذا سَلِمَتْ للناظر فَمَا تَلَا أيسر ، إذ مناط الإثبات أو النفي أَنْ يَصِحَّ النَّقْلُ إلى الأصل ، فإذا صَحَّ الحديث فهو المذهب ، وإن كان قَالَ الوحيُ فَقَدْ صدق كما فِقْهُ الصديق الأعظم ، رضي الله عنه ، فكان في الباب الأولَّ ، إذ قاس قياس الأولى ، فمن صدق أن الخبرَ ينزل من السماء فكيف لا يصدق بمعراج إليها يثبت ؟! ، فاستدل بالأصل على الفرع ، فقد ثَبَتَ له أولا صدقُ الدَّعْوَى الرسالية فَلَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا تَلَا من الخبر والحكم ، فَمَسْلَكُ نوعٍ يَتَنَاوَلُ ، كما ذكر من حقق ، جنسَ الدعوى ، ومسلك شخص يتناول عين الدعوى ، ثم أدلة تفصل إن في الخبر أو في الحكم فكلاهما من الوحي المصدَّق .
    ومنه محلِّ شاهدٍ تَقَدَّمَ مِنْ آيٍ كانت غَيْبًا فِي جيلٍ ثم شُهِدَ في آخر بما كان من بحث وتجريب ، فكان منه كشف لا إنشاء كما يزعم من تَبَجَّحَ فغلا في دلالة الحس أنه وحده دليل الإثبات والنفي ، بل هو دليل يكشف في مواضع ما كان موجودا في المبدإ وإنما غاب عن الحس والمدرك ، ثم كان منه آي تشهد أَنَّ الوحيَ حَقٌّ ، وذلك العام الذي استغرق حَقَّ الخبر صدقا وحق الحكم عدلا ، فثم من دلالة "أل" في "الحق" : دلالة بيان أول لجنس المدخول وهو الثابت في نفس الأمر ، ودلالة عموم قد استغرق وجوه المعنى ، فهو الحق المطلق ، إن اسم الله ، جل وعلا ، فهو الحق وما يدعون من دونه الباطل ، أو الوحي فهو الحق وما سواه من المحدَث من دين أو مذهب فهو الباطل ، فكان من ذلك عموم قد استغرق ، كما تقدم ، فحق في كلمات التكوين النافذ ، وآخر في كلمات التشريع الحاكم ، مع توكيد بالناسخ "إِنَّ" في قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُّ) ، واسمية جملة تحكي الثبوت والديمومة ، وقصر بتعريف الجزأين ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : هو الحق ، وهو ما يحمل على المبالغة على تأويل هو الحق لا حق غيره ، وذلك ما يحتمل الحقيقة بالنظر في الخصيصة ، خصيصةِ الخبرِ والإنشاءِ في نصوص تكليف فلا تُتَلَقَّى إلا من مشكاةِ التَّنْزِيلِ ، وهو ما حَسُنَ معه إسناد العامل في "سَنُرِيهِمْ" إلى ضمير الجمع الفاعل حكاية التعظيم مع إضافة الآيات إلى الضمير المجموع تعظيما آخر يواطئ في "آيَاتِنَا"، فكان من النظم ما يَتَمَاثَلُ ، فإسناد إلى ضمير الجمع في "سَنُرِيهِمْ" ، ثم إضافة إليه في "آيَاتِنَا"، ولا تنفك تحكي العموم المستغرق ، وهو ما أُجْمِلَ ثُمَّ أُبِينَ عن أنواعه في الآفاق وفي الأنفس ، وتحت كلٍّ من الآحاد ما يَكْثُرُ ، وفي كلٍّ دليلٌ أن الوحي هو الحق المحكم ، فذلك معنى به تأويل ينصح لمعنى يزيد من تدبير محكم ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يجاوز تدبير الكون المحدث ، فثم تدبير الوحي المحكم بما تَنَزَّلَ من كلمات الخبر والحكم ، فالتدبير معنى أخص يجاوز ما كان أولا من الخلق ، وإن كان في الخلق آي يعظم وحجة تنصح ، فذلك الملزوم الأول في الاستدلال ، ولا ينفك يدل على لازم في الخارج ، فيكون الاقتران بين الملزوم واللازم ، مع أخرى تحكي قسمة أجزاء تَسْتَغْرِقُ مَا به المعنى الديني المجزئ يَثْبُتُ ، توحيدا في العلم والخبر و آخر في العمل والطلب ، فلا ينفك آي التكوين يحكي سيادة في التدبير والتأثير كما آخر في الحكم والتشريع .

    فلا يسلم الأمر إن في الكون أو في الشرع إلا أن تكون السيادة لواحد هو الخالق الحاكم ، جل وعلا ، وتلك السيادة المطلقة التي استغرقت التكوين والتشريع كَافَّةً ، كما دلالة "أل" في "السَّيِّد" في قول صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "السَّيِّدُ اللهُ" ، فهي تحكي الماهية ، من وجه ، ماهية المدخول وهو معدن السيادة التي لا يَصْلُحُ أمرٌ إلا أن تكون لواحد ، فالسيادة ، كما تقدم في مواضع ، لا تكون إلا لواحد ، إِنْ فِي الدين أو في الدنيا ، إن في الشرع أو في السياسة ، فَلَهَا ، كما يقول أهل الشأن ، لها خاصة التفرد ، فالإقليم الواحد في اصطلاح السياسة المحدَث ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، الإقليم الواحد لا يستقر إلا أن يكون الحكم لواحد له في عمومِ الأقليمِ كلمةٌ تَنْفُذُ ، وإليه الأمر يرجع ، وإلا فسدت الحال بما كان من تَعَدُّدِ السلاطين والملوك ، فلكلٍّ من الأمر ما يخالف عن آخر ، ولكلٍّ هوى وحظ غالب ، ولكلٍّ من التأويل ، نَصَحَ أَوْ غَشَّ ، لكلٍّ من تأويل الكليات الأخلاقية والسياسية المجملة ما يواطئ الحظ الذي لا يسلم منه خلق لما قد جُبِلُوا عليه من النقص والفقر والجهل مع ما يَعْرِضُ له من آفة وما كان من مبدإِ العدمِ ومنتهى الفناء بعد وجود ليس يكمل فهو الجائز الذي افتقر إلى مرجح من خارج ، كلم تكوينٍ ينفذ من واجب وجود هو الأول أولية الإطلاق بما اتصف به أزلا وأبدا من الكمال المطلق وبه امتاز من المخلوق المحدَث فلا يخلو ، كما تقدم من نقصٍ ، وهو ما نال الفرد والجمع ، فسيادة الأفراد أو الشعب وهم آحاد تَتَفَاوَتُ أحوالهم في العقل والفكر مع آخر في الهوى والحظ ، ومعيار الحسن والقبح والأخلاق الذاتي الذي لا يجاوز فليس ثم حكم يَأْطِرُ من خارجٍ فَيَحُدُّ الأخلاق حدا جامعا مانعا به الاحتراز من تأويلات تَبْطُنُ قد اجتهدت أَنْ تُخَرِّجَ أخلاقَ الأثرةِ والشحِّ على جادَّةِ عَدْلٍ وَنُصْحٍ ! ، فَثَمَّ من المعيار الذاتي الذي لا يجاوز ، ثَمَّ منه ما اضطرب فَلَمْ يَنْضَبِطْ ، ولكلٍّ منه ما يُوَاطِئُ ، فيكون من الشرائع كَثِيرٌ يَتَعَدَّدُ فَهُوَ يضاهي عدد الأفراد في الخارج ، أو الشريعةُ ، كما تقول بعض المدونات السياسية المحدثة ، الشريعة مُجَزَّأَةٌ على آحاد في الخارج ، ولكلٍّ منها حظ ، وهو في نفسه حاكمٌ يُشَرِّعُ ، وَإِنْ قَلِيلًا يُخَالِفُ هواه وحظه عن كثير ، وينالهم بالأذى ، ولو تَذَرَّعَ بالحرية المطلقة ، وتلك مادة تضاهي الفرض المحض الذي يجرده الذهن ، فَهِيَ المحال الذاتي ، فَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا ولها شرعٌ يَأْطِرُ ، ولو حَدًّا أدنى ، بل قد صار من العجب في جيل قد تأخر ، أَنِ اسْتَبَدَّ مَنْ يَنْتَحِلُ الحرِّيَّةَ أَنْ يَفْرِضَهَا على الخلق كَرْهًا ، فهو يفرض تأويله الذي استحسن ، وإلا فَالْكُلِّيَّةُ المطلَقَةُ ، كُلِّيَّةُ الحريةِ ، تلك مما حَسُنَ بَدَاهَةً في النَّقْلِ وَالْعَقْلِ والفطرةِ والحسِّ وكلِّ معيارٍ يَنْصَحُ في الاستدلال ، وإنما الخلاف في حَدِّ هذا المعنى ، معنى الحرية ، مع ما يكون من تأويلٍ له في الخارج قد عُظِّمَ فيه الفرد وإن نَالَ من الجمع ، فآل الأمر إلى فَرْدَانِيَّةٍ لا حرية ، والفردانية معدن أَثَرَةٍ وأنانيَّةٍ تروم التحكم ، ولو استبدت وَقَيَّدَتْ حُرِّيَّاتِ غيرٍ انتصارا لأخرى هي حرية الذات إذ تَطْغَى وتجاوز الحد ، فتأويلها ، كما يذكر بعض النقاد ، تأويلها حكم الأقلية التي تصدر عن هوى وذوق غايته لذة تدرك بالحس وأداته قُوَّةٌ تَأْطِرُ وَأَرْزَاقٌ تُحْتَكَرُ في مثالٍ ، رأسُ المالِ فيه هو الحاكم ، فمن جمع واكتنز ، وصادر واحتكر ، مع ما يحتكر من أخرى : قوى الحس وبها يباشر القتل والضرب والحبس ..... إلخ ، وله من معيار التشريع ما يسلك به جادة التأويل ، ولو الباطني ، أَنْ يُؤَطِّرَ هذه الجنايات على قاعدة حق وعدل ، بل وأخرى من الوحي والشرع ، وهو ما تعظم به البلوى أن تنسب الجناية إلى الشريعة العليا ، جناية الاستبداد الذي يَتَأَوَّلُهُ واحد يَرُومُ التأله أَنْ يَقْضِيَ في الخلق بالهوى والحظ ، وتلك الفردانية التي لا يمكن لها أن تحكم إلا أن تَظْلِمَ وَتُقَيِّدَ ، وإن تذرعت بحرية الفرد الذي يصير الجمع أَمْثَالَ الذَّرِّ الذي يتدافع ، فلكلٍّ مرجعه الذي يَتَنَاوَلُ ، ولكلٍّ معياره الذي إليه يتحاكم ، فذاتية المرجع تُفْضِي إلى إبطال أي معيار من خارج يحكم ، ولو الكليَّاتِ العامة التي أجمع عليها العقلاء كافة ، فلكلٍّ تأويله في باب الحسن والقبح ، فهو سيد في نفسه ! ، فما استحسن فهو الحق لا عن معيار من خارج يحكم قد سلم مما لم يسلم منه المحل المحدَث ، فَيَنْتَثِرُ الجمع إلى آحاد لا ينتظمهم سلك ، فلكلٍّ سلكه الذي يروم نظم الجمع فيه بما يواطئ أهواءه وأذواقه ! ، ولا قليلَ يحكم في كَثِيرٍ طَوْعًا ، فلا يكون ذلك إلا أَنْ تَعْظُمَ شبهةُ الْفَرْدَانِيَّةِ ، فَيُغْرِي الفرد المستبِدُّ الجمعَ أن يصير على آحاد تستبد ! ، فكلٌّ يستبد بما يهوى ويجد ، فيصير المجتمع ذَرَّاتٍ يَأْطِرُهَا قانون الصراع والانتخاب كما اقترح فرض التطور ، فكان من المكر في المبدإِ أن انحط بالإنسان إلى دَرَكَةِ الحيوانِ الأعجم بل أخرى دونها ، فَلَيْسَ المخلوقَ المكرَّم الذي سواه الخالق ، جل وعلا ، بِيَدِهِ ، بل هو خَبْطُ عشواءٍ قد خُلِقَ من غير شيء ، فلا خالق هو الأول ! ، وذلك ما يجافي ، كما تقدم في مواضع ، مَا يُجَافِي مُسَلَّمَاتِ العقل والفطرة بل والحس الذي صيره التطور معيار الإثبات المحكم ، فإن التجريب والبحث ، وما يكون من استقراءٍ ورصدٍ ، كل أولئك ما يدل ضرورة أَنَّ هذا الإتقان والإحكام لا بد له من أول ليس الأول المجرد من الوصف عِلَّةً فاعلة بالطبع ، بل هو أول له مِنْ كَمَالِ العلمِ تَقْدِيرٌ بِهِ أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ ، وكمال قدرة بها أَنْفَذَ وَأَوْجَدَ ، ولا تقوم هذه الصفات بداهة إلا بِحَيٍّ له من الحياة أصلٌ لكلِّ وصفٍ تال يقوم بالذات ، فالحياة ، كما يقول أهل الشأن ، أصلُ كُلِّ وصفٍ ، إِنْ وصفَ الذات أو آخر من الفعل ، مع كمال مطلق قد انفرد به الخالق الأول بما كان من استقراء ورصد لآي في الكون والنفس ، فإن العاقل لا يجحد المعلوم الضروري لدى كل عاقلٍ أن الأسباب جميعا لا بد أَنْ تَرْجِعَ إلى سبب أول لا سبب قبله وإلا لَزِمَ التسلسلُ فلا يكون ثَمَّ خَلْقٌ إذ لن يكون أبدا أَمْرٌ تَامٌّ ، فكل أمرٍ بتكوين أو تدبير يطلب أولا عنه يصدر ، فمتى يصدر إن لم يكن ثم أول مطلق لا أول قبله ؟! ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، هو ما المثال له يضرب بما كان من سلطان في الأرض ، فإن الأمر إذا لم يُرَدَّ إلى الملِكِ وله من قوة السلطان ما ينفذ وليس يرجع إلى آخر قبله وإلا ما كان الْمَلِكَ ذا الحكم النافذ ، ولو نظام شورى يَحُدُّ إن كان المرجع فيه وحيا أو آخر على ضد فالمرجع فيه وضع محدث يَنْتَحِلُ سيادة الأمة المجموعة أو أخرى من سيادة الشعب ذي أَفْرَادٍ كما الذَّرَاتِ إذ تَتَنَافَرُ بما يكون لكلٍّ من الخصائص ، فلا بد من مَلِكٍ إليه يُرَدُّ الأمر ، وَإِنْ فِي شُورَى ، فهو يَسْتَشِيرُ سواء أُلْزِمَ أو لم يُلْزَمْ ، فلا بد من واحد يَنْتَهِي إليه الأمر ، وإلا فسد الأمر ، فمع الشورى مُلْزِمَةً أَوْ مُعْلِمَةً ، ناصحة أو غاشة ، رسالية أو حداثية ، فمع الشورى لا بد من واحد يحكم وإليه الأمر يرجع وإلا اختل نظام الملك فصار لكلٍّ مرجع سيادة وحكم ، وصار الخلق على أحزاب تَتَنَافَرُ ، فَلَيْسَتْ لشورى تَنْصَحُ ، وإنما كُلٌّ لِحَظِّهِ يَتَأَوَّلُ وإن عن هوى يتكلف من المعنى ما بَعُدَ أو بَطُنَ ، فلا يَصْلُحُ الأمر إلا أن يَرْجِعَ إلى واحد قد انْفَرَدَ ، وإن كان حَدُّهُ في الخلق أن يَتَوَاضَعَ فلا يزعم العلم المطلق فليس ذلك إلا لواحد هو الخالق الذي خلق بالعلم والحكمة ، فَعَلِمَ من ذلك ما به استحق المرجع في الأمر والنهي ، في الخلق والشرع ، وتلك المتلازمة الضرورية في الاعتقاد والتصور ، ولها أثر في الشريعة والنسك ، فإن العلم أول والعمل المصدِّق ثان ، وثم من الخلق فعلُ ربوبية تنفذ ، وثم من الشرع حكمُ ألوهية تحكم ، وبهما حد جامع لما يجزئ من دين ناصح ، فلا يسلم لصاحبه إلا بأول من الخبر يصدق ، ومنه خبر الخلق ، فذلك مما انفرد به الرب المدبر ، جل وعلا ، ومنه حكم الشرع ، فذلك مما انفرد به الحاكم المشرع ، تبارك وتعالى ، وذلك التلازم الضروري في النقل والعقل والفطرة والحس كافة ، ولا تكون حال تستقيم إلا أن يكون ثم أول من التوحيد ، توحيد الأمر ، فإن الْمُلْكَ في الدنيا إن تَعَدَّدَت مُلُوكُهُ فَسَدَ ، فلا يستقيم إلا أن يرد إلى واحد ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فلا يكون المخلوق على حد الخالق ، جل وعلا ، في هذا الباب ، باب الملك ، فإنه لا يُطْلَقُ وَصْفًا إلا لذي الحمد والمجد ، جل وعلا ، وأما ملك المخلوق فهو مما يحد ، وَإِنْ بَلَغَ ما بَلَغَ من السعة والغنى ، فهو الممنوح بعد عدم ، المسلوب بعد زمن ، فيؤتيه ، جل وعلا ، من شاء من خلقه وينزعه ممن شاء ، فيكون ذل بعد عز ، وفقر بعد غنى ، أحوالا تتعاقب وهي في المحل الواحد تتغاير ، وبها ، أيضا ، حد فارق يميز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فشتان ملك الخالق ، جل وعلا ، في حد ، وملك المخلوق في آخر ، وإن كان ثم اشتراك في وصف الْمُلْكِ واسمِ الْمَلِكِ ، فهو الاشتراك في المعنى المجرَّد في الذهن دون آخر في الخارجِ فهو المقيد بالموصوف الذي به يوصف معنى يقوم بالذات فهو فرع عنها ، فكان من ذلك للخالق ، جل وعلا ، ما يليق : الملك المطلق وهو القديم الأول وله من الآخرية آخر يَتَأَبَّدُ ، وكان للمخلوق ، في المقابل ، ملك يقيد فهو الحادث بعد عدم ، المقيد فلا يطلق ، الذاهب إلى فَنَاءٍ بعد الوجود والكمال فليس بعده إلا النقص ثم الفناء ، فثم القدر الفارق بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، وهو ما تناول الذات وما يقوم بها من الاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان ثم ، ما تقدم ، من الاشتراك في المعنى المطلق الذي يجردع الذهن ، ومنه وصف الملك آنف الذكر ، فَقَدْ صَحَّ فِي الباب : الأصل المطلق في الذهن ، صح في حَقِّ كُلٍّ ، فلا يستقيم الملك ، ولو المحدَث في الأرض ، إلا أن يكون الْمَلِكُ واحدا ، وإلا فَسَدَ الأمر إذا اسْتَكْثَرَ الخلقُ من الأمراءِ والسلاطينِ ، وشاهد الماضي والحاضر بِذَا يَشْهَدُ ، فَلَمَّا انشطرت العصبة الجامعة في السياسة والحرب في بلاد أندلس مُؤَرِّقَةِ الفكرِ ، فانحل نظام بني أمية وقد كان سلكا يجمع أهل الجزيرة ، ولهم منه الذخيرة ، فَزَالَ وقامت على أطلاله ممالك صغرى وصفها الجامع : التشرذم والتفرق ، وحصول مُلْكٍ لدى كلٍّ ، وإن حَقِيرًا لا يُؤْبَهُ ، فليس له من وصف الملك إلا يسير أو هو عنه عَارٍ فلا يَصْدُقُ فيه اسم الملك إلا دعوى لا دليل عليها يشهد ، بل شاهد الحال لها ينقض ، مع ما أُغْرِيَ بَيْنَهُمْ من عداوة وبغضاء إذ نسوا بعض ما ذكروا به ، وذلك تصديق ما كان أولا ممن قال إنه من النصارى ، فـ : (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، وذلك سَنَنٌ يَطَّرِدُ ، إذ حكاية ما كان من المتقدم : عِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَخَّرَ ، من وجه ، ومثال لعام قد استغرق كُلَّ نَاسٍ لِحَظٍّ مما ذُكِّرَ به من الوحي المحكم ، فذكره في هذا السياق لا يخصص العام ، وإنما يبين عن معناه الذي يطرد فهو يستغرقُ كُلَّ أحدٍ حصل له الوصف : نِسْيَانًا لِلذِّكْرِ ، فيكون من العقاب المعَجَّل : إغراء عداوة وبغضاء تَعْظُمُ ، وهو ما استفيد من إسناد العامل إلى ضمير الجمع في "فَأَغْرَيْنَا" ، حكاية التعظيم في الوصف وهو مما يحسن في مقام الجلال والوعيد أَلَّا يُقَارِفَ المكلَّف هذا الفعل الذميم ، ولو تَرْكًا ، فَالتَّرْكُ فِعْلٌ كَمَا قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، مع عنوان عداوة وبغضاء قد دخلت عليه الأداة "أل" فَزَادَتْهُ الاستغراق لوجوه المعنى ، وذلك في الخطب أفدح ، مع ما كان بَعْدًا من الإنباء يوم الحساب والجزاء ، فـ : (سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، ولا يخلو السياق من التفات من المتكلم إلى الغائب ، إهمالا لهم في مقام التكلم أن ينبئهم الله ، جل وعلا ، فَعَدَلَ عن مَقَامِ التَّكَلُّمِ على تقدير : وسوف نُنَبِّئُهُمْ ، إلى مقام الغيبة ، فسوف يُنَبِّئُهُمُ الله ، إهمالا لهم وَتَرْكًا أَنْ يُوَاجَهُوا في مقام التكلم إذ يخاطبهم الله ، جل وعلا ، وذلك في الوعيد أعظم ، وهو ما استوجب النهي عن النسيان ، وليس ذلك نسيان السهو فلا يأثم من كان منه ، إذ قَدْ كان من الرخصة أن رُفِعَ عنه قلم التكليف وما يكون بَعْدًا من الإحصاء والتسجيل إلا أن يكثر ذلك فيصير العادة فلا يَنْفَكُّ يحكي تقصيرا إذ لا يَتَحَرَّى صاحبه لأمر دينه ما يَتَحَرَّى من آخر لدنياه ، فليس ذلك ، في الجملة ، نسيان السهو فلا يأثم من كان منه ، وإنما هو نسيان قد تَعَمَّدَ صاحبه الفعل ، فَكَذَّبَ بِأَخْبَارٍ وَعَطَّلَ مِنْ أحكامٍ ما به النقصان بعد التمام ، فكان النهي عن النسيان والترك فذلك سبب في حصول العداوة والهجر ، وما يكون بعدا من الحرب والقتل واستباحة ما حُرِّمَ ، فَأَوَّلُ التَّفَرُّقِ بالأبدان : تَفَرُّقٌ في المذاهب والأديان ، إذ الظاهر أبدا فرع عن الباطن ، ومبدأ التفرق باطن في الفكرة ومنتهاه ظاهر في الحركة ، ولا ينفك مَنْ خَالَفَ عن الجادة وفارق الجماعة ، لا ينفك يوصم بالجهل والغلو والتعصب ، وتلك مادةُ كُلِّ شَرٍّ يُفَرِّقُ وَيُشَتِّتُ ، وهو سبب لِمَا تلا يوم الحساب والجزاء ، فتلك الساعة وهي أدهى وَأَمَرُّ ، ولا ينفك النهي عن النسيان والترك يستلزم أمرا بِضِدٍّ من الاستمساك والأخذ فلا يأخذ بعضا وَيَنْسَى بعضا ، وإنما يأخذ الكتاب كله بقوة ، فذلك سبب في حصول الاجتماع والألفة مع وعد بالخير يوم البعث والحشر ، فاطرد السياق وانعكس ، إن في الخبر أو لازمه من الإنشاء ، ومناطه أبدا أن يكون ثم اعتصام لا افتراق ، وهو ما قد نص عليه الوحي أمرا بالاعتصام بالكتاب والحبل وعطفا لِنَهْيٍ عن ضد ، فهو يلازمه في الدلالة والفكر ، كما آي آل عمران المحكم إذ تأمر أولا ثم تنهى ، فـ : (اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) .
    فلم يكن لملوك الطوائف في الأندلس من ذلك حظ ، وإنما وكلوا إلى أنفسهم فالقوي يأكل الضعيف ، وَبَيْنَهُمْ من الدس والمكر ما به التربص والقتل كما في واقعة قد اشتهرت إذ أَوْقَعَ ابن عباد صاحبُ إشبيليةَ بخصومه من البربر ، بعد أن منحهم أَمَانًا وضيافة ، وذلك في الخيانة أعظم ، فأنضجهم بالحطب إذ دخلوا الحمام تَرَفُّهًا ، وكان من ذلك ما به يعجب ويفخر أنه من يقتل أعداءه ويحفظ رؤوسهم في حائط تَتَدَلَّى ، فَيُدْخِلَ الرعب على من خالف أمره وهو مع ذلك ضعيف لا يصمد لِمَا كان من سطوة النصارى وقد امتد سلطانهم بعد انحلال الملك الجامع وصاروا أسياد الجزيرة ، بعد سقوط طليطلة ، حاضرة القوط قبل الفتح ، وإليهم تدفع الجزية من ابن عباد وغيره ، فالقوي منهم ضعيف وإنما قوته على أبناء جلدته طَمَعًا في سعة ملك ، ولو تابعا لأعداء الديانة والوحي ، فذلك ما أفسد الملك إذ آل إلى ممالك صغرى ، وأفسد الحال إذ صار في الخارج ملوك تكثر لا مَلِكٌ واحد عنه الأمر يصدر ، وكان من سخرية وتهكم أن اتخذوا ألقابا تفخم وليس لواحد منهم عليها دليل يشهد ، بل حاله لِضِدِّ ما تَلَقَّبَ تُصَدِّقُ ، وتلك حال الملك إذا انحل بعد عقد ، وتفرق بعد جمع ، واتخذ منه ملوك كالأشباح لا يحصل بهم الغناء لا في دين ولا في دنيا .

    ولما وليت بوران بنت كسرى أبرويز الملكَ ، مثالا آخر من فارس ، فالسنة تَطَّرِدُ في العرب والعجم كافة ، لما وليت الأمر كان من رجالات الحرب مَنْ تَحَزَّبَ ، وصار لكلٍّ من الجمع ما ينصر ، فاختل نظام الملك أَنِ انْشَعَبَتْ عُصْبَتُهُ وانحلت قوته وصار على أنحاءٍ تَتَدَافَعُ ، ولكلٍّ رأس هو الفرد الذي ضَاقَ تأويلُه فلا يجاوز عُصْبَتَهُ ، وتلك فَرْدَانِيَّةٌ ، وإن كان ثم جمع ، فقد صار إلى رأي واحد يخالف عن جمع كَاثِرٍ ، ولكلٍّ من المرجع ما يحكي الذات وَإِنْ تَذَرَّعَ أَنَّهُ يَرُومُ مَصَالِحَ الجمعِ ، بل قد صِيغَ له بَعْدًا من مذهب الحرية والفردانية ما يُصَرِّحُ ولا يُكَنِّي فَيَتَذَرَّعُ بمصلحة الجمع وهو يُبْطِنُ مصلحة الفرد ، فالفرد فوق الجمع تذرعا بالحرية التي أُطْلِقَتْ ، وإن كانت من المحال الذاتي ، وذلك الحكم العقلي الضروري الذي تشهد له الحال المحدَثة ، فكان من دعوى الحرية ما يَقْهَرُ الخلق باسمها أن يكفوا أيديهم فلا تَتَنَاوَلَ غَيْرًا بالإنكار والتأديب ، وَلَوِ الابنَ الصغيرَ ، فبطلت قوامة بها يُؤْطَرُ الطفل على جَادَّةٍ من الأخلاق والسلوك ، وَصَارَ من المثال الحداثي ما يَرُومُ له معيارا قد وَضَعَهُ ، وليس وراءَه إلا خلق محدَث ، قد ناله ما نال غَيْرًا من جَهْلٍ وَنَقْصٍ وَفَقْرٍ وآفة وعدمٍ أول وفناء تال وَنُزُوعٍ إلى الطغيان والظلم إذ تَوَهَّمَ الغنى بِمَا جَمَعَ مِنْ سَبَبٍ ، هو ، كما تقدم مرارا ، آية افتقاره التي تشهد بِضِدٍّ مِنْ دَعْوَى الكمالِ المطلقِ ، وَبِهَا يَتَذَرَّعُ أَنَّهُ الأعلم والأحكم والأعدل والأفصح ! ، وكان من فساد الأخلاق أَنْ تَذِيعَ الفاحشة في الخلق فلا يكون ثم زجر يَقِي الجمع شؤم الفحش إذا استعلن به صاحبه ، بل وَتَعَدَّى بَعْدًا بما يؤول إليه الأمر حتما أن يَقْهَرَ غَيْرًا عليه ، ولو لم يشاركه الفعل ، وإنما يُرَبَّى عليه النَّشْأُ تذرعا بالحرية التي نالت من الأديان والأخلاق بل والأبدان ، فَيَسْخَطُ الفطرةَ الأولى تَوْحِيدًا وَعِفَّةً ، بل وَنَوْعًا أول في الخلق الذي لا تكليف فيه إذ ليس محل اختيار يلام صاحبه أن كان نوعه هذا أو ذَاكَ ، فليس محل تكليف ولا اختيار ، وإنما تلك أداة بها المكلَّف يَتَأَوَّلُ ما بِهِ قد كُلِّفَ من التصديق والامتثال ، وذلك ، كما تقدم في موضع ، تأويل القسم في آي الذكر إذ يحكي الخبر ، خَبَرَ الشيطانِ الْمَرِيدِ إذ : (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ، فكان من لعن الله ، جل وعلا ، خَبَرٌ يَحْكِي الإنشاءَ ، مع دلالة أولى تَثْبُتُ ، فذلك لَعْنٌ قَدْ كَانَ بل وثبت فلا تخلو الماضوية من دلالة توكيد وجزم ، مع أخرى تَطْلُبُ دعاءً أَنْ يُلْعَنَ ، فذلك ما يَعْدِلُ جُرْمَهُ ، وإن لم يكن من ذلك عادة تطرد ، فَسُدَّتِ الذرائع أَنْ يَعْتَادَ اللِّسَانُ اللَّعْنَ ، ولو لَعْنَ مَنِ استحق اللعن والطرد ، فذلك الخبر الذي يحكي الإنشاء دعاءً يَطْلُبُ ، وَثَمَّ من قول الشيطان ، فـ : (قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فليس الضمير في "قَالَ" بداهة يرجع إلى أقرب مذكور ، وهو اسم الله ، جل وعلا ، بل يرجع إلى أَبْعَدَ من ضمير قد اتصل بالعامل ، عامل اللعن "لَعَنَهُ" ، فكان من تقديمه وهو المفعول ، كان من تقديمه حُكْمٌ واجب كما قَرَّرَ أهل الشأن من نُحَاةِ النطقِ ، فتقديم المفعول على الفاعل واجب إذا اتصل الأول بالعامل ، فقال إذ لُعِنَ : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) ، وكان من ذلك دعوى تؤكد بالقسم المقدر إذ قد دلت عليه لام الجواب المتأخرة في "لَأَتَّخِذَنَّ" ، فدل المتأخر من لام الجواب على المتقدم من القسم ، وَكَانَ مِنْ تَوْكِيدٍ تَالٍ نُونُ تَوْكِيدٍ مُثَقَّلَةٍ ، وكان من الإجمالِ في الاتخاذِ لِنَصِيبٍ مفروضٍ ، كان من ذلك ما أُتْبِعَ البيان أَنْ : (لَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) ، فكان من تَغْيِيرِ الخلق ما قد عَمَّ إذ أضيف إلى اسم الله ، جل وعلا ، الخالق الحاكم ، فكان من تبديل الخلق : تبديل فطرة التوحيد الأولى ، وما كان من دينٍ محدَث في قطع آذان ..... إلخ ، فَذِكْرُ الْقَطْعِ آنِفِ الذكر يجري مجرى المثال لَعَامٍّ قد استغرق الآحاد كَافَّةً ، آحادَ ما أَحْدَثَ الخلقُ دِينًا لا أصل له في مَحَالِّ تَوْقِيفٍ من قرابين ونذور فذلك ما لا يثبت إلا بدليل من خارج ، فليس يجتهد العقل في حَدِّهِ إذ قد جاوز مدارك حسه ، فلا يَنْفَكُّ يفتقر إلى مرجع تشريع يجاوز ، فالعقل لا يستقل أن يُنْشِئَ الأمر والنهي ، وإن كان من قوة بها يميز الْحُسْنَ مِنَ الْقُبْحِ ، ولكنها ، كما تقدم في مواضع ، لا تجزئ في تشريع أخص يَأْمُرُ وَيَنْهَى في أعيان المحكومات في الخارج ، فغايته في المحالِّ التَّوْقِيفِيَّةِ أَنْ يُجَوِّزَ الحكم ، وهو ما يفتقر إلى مرجح من خارج يزيد الإثبات ، فَلَيْسَتْ دَعْوَى الجوازِ العقليِّ تجزئ وحدها في إيجابٍ أو تَحْرِيمٍ ، في إِثْبَاتٍ أو نَفْيٍ ، فلا تَنْفَكُّ تطلب مرجعا من الوحي وإلا كان الإحداث بالرأي وهو ما ذكر له المثال آنف الذكر ، مثالُ القطعِ لآذانِ الأنعامِ قُرْبَى ما جاءت بها شرعة ، ولكنه رأي أحدثه محدِث إذ رَاقَ له هوى أو ذوقا ، وَتَحَكَّمَ بَعْدًا أَنْ صَيَّرَهُ دِينًا يَلْزَمُ ، فكان منه دعوى من الدليل مجردة وهي مع ذلك المفروضة المتحكَّمة ، ولو التَّحَكُّمَ آنف الذكر ، ترجيحا بلا مرجح في باب من الجائز لا ينفك يفتقر إلى مرجِّح من خارج ، وإلا كانت الدعوى المفتقِرَة إلى دليل أخص مِنْ خَارِجِهَا ، فكيف صارت دليلا يُرَجِّحُ ومقدمةً في الاستدلال ضروريةً تَنْصَحُ فلا تفتقر إلى نظر أول ، بل هي مَبْدَأُ النَّظَرِ الْمُتَرَاكِبِ فلا بد له من مقدمات ومبادئ يحصل باجتماعها وهي العلوم الضرورية ، يحصل بذلك علوم أخرى هي العلوم النظرية التي تفتقر إلى مقدماتٍ في الاستدلال ضرورية ، فكان من دعوى الاستحسان بالهوى والذوق ما صَيَّرَهَا المرجع المحكَّم في الدينِ والشَرْعِ ، وهي الدعوى المجردة التي تفتقر إلى مقدمات أولى ضرورية ، فَأَجْزَأَ في رَدِّهَا أخرى تُضَاهِي : دعوَى مجرَّدة تَنْفِي ما أَثْبَتَتِ الأولى ، فَدَعْوَى تُنَاجِزُ أخرى ، وقد اسْتَوَيَا في القدرِ واختلفا في الوجه فكان التساقط ، وهو ما لم يسلم إذ كان من الشيطان ما وَسْوَسَ ، وَإِنْ حَمَلَ النَّاظِرَ أَنْ يَتَحَكَّمَ ، فيرجِّح بلا مرجح من خارج إلا أن يكون الوسواس هو المرجِّح بما يُزَيِّنُ وَيُخَيِّلُ ، كما وسواسه لمن حاد عن الجادة ، فكان من الإفك والإثم ما أفسد المحل وصيره قابلا لما بَطَلَ من الفكر والحكم ، إذ شَغَرَ من الحق فَتَنَاوَلَهُ آخر من باطل يشغل ، وهو ما الْتَبَسَ في مواضع حتى صار يخيل لصاحبه أنه نبي يكلم ، وليس إلا شَيْطَانًا يوسوس ، كما الفلاسفة قد حدوا النبوة أنها قوة علم وذكاء ، وأخرى من التخييل الذي يتأول الفكرة الحاصلة في العقل فهو المرجع فلا مرجع يجاوز من وحي ، بل ثم عقل نَابِهٌ لصاحبه من الرياضة والزهد حظ وافر وإن خالف عن الأعراف والعوائد فَتَكَلَّفَ من الجوع والسهر .... إلخ ما به يروم الانخلاع من البشرية والدخول في أخرى علوية يباشر بها الحقائق الباطنة وإن خالف بها عن الشرائع الظاهرة ، بل وخالف عن الظواهر كافة بما انتحل من تَأْوِيلٍ بَاطِنٍ يتلاعب به المتأَول بما استقر من الضروري المحكم من مقدمات هي الأولى في أَيِّ استدلال ينصح ، وتأويلات المستبيِحِ لِمَا حَرُمَ ضرورة في النقل والعقل والفطرة والحس من الربا وهو المثال الذي أجله سيق الكلام ، وهو القبيح في الشرع والقياس إذ فيه من الظلم ما عظم زيادة بلا عوض ، فَبِأَيِّ حق تُسْتَبَاحُ الزيادة وهي السحت وإن رَضِيَ المظلوم ، فرضاه بالظلم لا يُحِلُّه ، وليست يده يَدَ الواهب ، بادي الرأي ، لِيُقَالَ إِنَّهُ راض ، بل ذلك العقد الملزم الذي يستبيح من المحرم ما قد علم ضرورة لا جرم كان إيذانا بحرب من الشَّارِعِ ، جل وعلا ، الذي حَرَّمَ ، فإن المرابي لحده قد تجاوز وفي حماه قد وقع ، فتأويلات المرابي وما اقترح من صُوَرٍ من البيع تُبَاحُ قد استحل بها ما حرم من مأكل الربا ، فتلك التأويلات شُعْبَةٌ مِنْ تَأْوِيلٍ أعم ، هو في الباب ، باب القدح في ظواهر النصوص الصريحة بما كان من تأويلات قبيحة لا تنفك في أحيان تضاهي تأويلات الباطن التي تذرع بِهَا صَاحِبُهَا أَنْ يَقْدَحَ في الظواهر ، كما تَقَدَّمَ من تأويلات الفلاسفة التي صدرت عن عقل قد طَغَىَ فجاوز الحد ، وإن كان له من الذكاء حظ فلم يكن ثم زَكَاءٌ يشفع فهو الأول يأطر ، بل قَدْ طَغَى الذَّكَاءُ حَتَّى استجاز المخالفة عن وحي السماء بِمَا ضَاهَى من تَأْوِيلَاتٍ بَاطِنِيَّةٍ ، فكان من تلك المخالفة ما به نُبِّئَ الحكيمُ ! ، وَإِنْ وَحْيًا في العقل يحدث فلا مرجع مِنْ وَحْيٍ يَنْزِلُ إلا أن يكون الشيطان الموسوِسَ ! ، وثم من قوة تخييل في الخارج آخر يَتَمَثَّلُ صورةَ الملَك فهو يوحي إلى العقل بما خرج منه ! ، فليس ثم ، كما تقدم ، مرجع وحي من خارج يَنْصَحُ ، ثم يكون من قوة التأثير في الخلق أَنْ يَتَّبِعُوهُ بما يُحْسِنُ من نَظْمِ الكلام ولو تأويلا باطنا يخالف عن البدائه أو ما يقترح لهم من خَارِقَةٍ قد صارت الدليل وإن خالف صاحبها عن محكمِ التَّنْزِيلِ ، لا جرم كان الوحي أبدا هو المرجع المحكم في المسائل كافة ، كما تقدم من سيادة الشعب أَفْرَادًا قد تَنَاجَزَتْ ، وصار لكل شُعْبَةُ يَسْلُكُهَا ، وإن خالف بها عن النقل والعقل والفطرة والحس ، فيكون من مثال الذَّرِّ آنف الذكر ما به الأفراد يَتَصَارَعُونَ على قاعدة مَادَّةٍ تَنْفِي الغيب المجاوز من خارج ، وتنحط بالمدارك ألا تجاوز الْغَرَائِزَ ، فَتُفَتِّشَ لها عن أصلٍ وقصةِ خلقٍ تَنْقُضُ ما جاء به الوحي من تكريم في المبدإ تسوية ونفخا لروح تلطف وهي معدن الوعي والإرادة فليس البدن إلا آلة ، ولو شَرُفَتْ في تَسْوِيَتِهَا وأعجزت في وصفها بما كان من آي محكمٍ قد تناولها الحس بالاستقراءِ والرَّصْدِ ، وما كان من تجريب وبحث لم يَزِدِ الوحي إلا نصحا به تُقَامُ الحجة على الخلق كافة ، فليس من البدن إلا جند ، وليس من الجنان وهو المحل الأشرف من روح في ماهيتها تلطف ، ليس من الجنان إلا مَلِكٌ يأمر والجند عن أمره تصدر ، ولا يكتمل هذا الوصف الأشرف إلا أن يكون إيمانٌ بِغَيْبٍ يَنْزِلُ ، فتلك خاصة العقل المكلَّف الذي يجاوز مدارك الحس المحدث ، فلا تكون مرجعا في التشريع هو المحَدَث فوصفه من وصف المدارك المحدثة التي غلا فيها الجيل المتأخر فصيرها حصرا ما به العلم يثبت ، وكان التحكم الذي يخالف عن مسلَّمات الضرورة العقلية ، وأخرى ناصحة من الفطرة ، وثالثة تخبر بالشرعة مرجعا يجاوز من خارج قد نصح المحل بما صدق من الخبر ، ومنه خبر الغيب الذي امتاز به المكلَّف من أنواع أخرى لا تعقل إلا عقل الغريزة والحس ، لا جرم كانت عناية الحداثة التي تُنْكِرُ المرجع المجاوز من خارج ، كانت عنايتها أَنْ تُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا في الأصل فلا امتياز لهذا الخلق المكرَّم من نَوْعٍ إِنْسَانِيٍّ يُكَلِّفُ فَلَيْسَ إِلَّا حَيَوَانًا قَدْ جُمِعَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وعظمٍ وعصبٍ وليس يدرك إلا ما يَسْتَثِيرُ الْغَرَائِزَ من إفرازٍ يُرْصَدُ ونبضات تُنْقَلُ ، فليس ثم حقيقة تجاوز هذا البدن المحدَث ، وهو ما يُفْضِي إِلَى تَالٍ من فَرْدَانِيَّةٍ ذَرَّاتُهَا تَتَصَارَعُ على قاعدة الانتخاب الذي فرضته الطبيعة التي خَلَقَتْ ! ، كما فرضت سَيِّدَيْنِ تَبَجَّحَ بها حكيمُ لَذَّةٍ في جيل قد تأخر ، فصير اللذة والألم هما السيدان الحاكمان في هذا الإنسان المكرم ، فلم يجاوز به حد الحيوان الذي تحركه الغرائز ، وهو ما يُفْضِي ، كما تقدم ، إلى تصارع يأرز إلى طبائعِ شُحٍّ وَأَثَرَةٍ وَفَرْدَانِيَّةٍ تذرعت بالحرية المطلقة ، إلا أن يكون من الدين أو المذهب مخالِفٌ فلا حرية له أن يخالف ! ، وليس إلا أن يُنَاجَزَ وَيُدَافَعَ على قاعدة الانتخاب آنفة الذكر ، والغاية فيها لذة ، والذريعة فيها قوة ، فلا يصمد في هذا الانتخاب إلا الأقوى ، وليس للضعيف حق بل قد حَسَّنَ المذهبُ إِفْنَاءَهُ إذ لا نَفْعَ منه يُرْجَى ، بل هو عبءٌ بلا جدوى ! ، فتلك الفردانية التي تَتَذَرَّعُ بالحرية ، وسيادتها سيادة الشعب ! ، فتلك ذريعة إلى أخرى بها السيادة تُسْلَبُ مِنَ الخالقِ الأعلى ، وَتُرَدُّ إلى أَفْرَادٍ في مِثَالٍ ذَرِّيٍّ مُتَنَافِرٍ لا معيار له يجمع ، وَإِنِ الكلِّيَّاتِ الأخلاقية المجملة ، وذلك مثال ، لو تدبره الناظر ، يُفْضِي إلى اضمحلال الجمع ، كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فلا أمة ولا جمع يصمد إلا أن يكون ثم إجماع ، ولو عَلَى كُلِّيَّاتٍ لا يخالف عنها إلا الجاحد أو المسفسِط ، فلا بد مِنَ الْتِزَامِ الأفرادِ ، ولو حَدًّا أدنى به يستقيم الجمع بما يكون من حكومة عدلٍ ، ولو في اقتسامِ بَاطِلٍ ! ، وهو ما به مُدِحَ الرومُ في السياسة والحكم ، أن كان من العدل في مُثُلٍ تأخرت ، ولو جملةً لَا تَنْفَكُّ تطلب البيان الناقد الذي لا تَغُرُّهُ سطوة الغالب ، فإن العدل في اقتسام باطل على قاعدة : لَذَّةٍ هي الغاية وَقُوَّةٍ هي الوسيلة فَرْدَانِيَّةً تَنْتَحِلُ من الحرية ما أُطْلِقَ ، ذلك ما يُفْضِي بَعْدًا إلى الظلم بما تقدم من غلبة الأقوى التي قضت بها الطبيعة إذ تَنْتَخِبُ ، فيكون من التَّصَارُعِ ما يأرز إلى معيارِ حِسٍّ لا يجاوز ، فلا مرجع من خارج يأطر هذا الطغيان الذاتي الذي يتحكم في حَدِّ الحسن والقبح وما يكون من شرعةِ أمرٍ ونهيٍ .... إلخ ، وليس يسلم من الأهواء والحظوظ مع نقص قد استقر في الجبلة جهلا وحاجة وفقرا إلى أسباب من خارج فلا تؤمن حكومة تلك بواعثها ، ولو تَحَرَّتْ مِنَ العدلِ مَا تَحَرَّتْ ، فإذا كانت الذات هي المعيار فلكلٍّ ذَاتٌ تَشْتَهِي وَتَرْغَبُ ، ولكلٍّ عَقْلٌ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ ، وليس يستقيم من الحرية أن يَدَعَ كلٌّ الإنكارَ على الآخر ، بل ذلك ما يخالف عن الطبع لا سيما والأثرة والشح هو الباعث ، وَالْفَرْدَانِيَّةُ تَتَأَوَّلُ ذلك بما تقدم من لَذَّةٍ هي الغاية وقوة هي الذريعة ، فيكون التدافع حتما لَا على قاعدة عدل ينصح ، بل ثم انتخاب للأقوى فوحده من يفوز باللذة ، وإن ظَلَمَ الأضعف بل وأتى عليه بالإفناء والقتل والسلب .... إلخ ، ومنه الربا آنف الذكر فهو أَدَاةُ الأقوى أَنْ يَنْتَهِبَ الأضعف وَيَسْتَنْزِفَ ولا يجد في ذلك غضاضة بل ذلك حكم الطبيعة العادل أَنَّ القوي الغني سيد غالب ومن دونه فَخَدَمٌ وَعَبِيدٌ ، فلا يجد غضاضة وقد منحه المذهب حجة ، بل قد صيره صاحب فضيلة تُحْمَدُ أَنْ كَانَ منه حملانٌ لِعِبْءِ الأدنى أَنْ يَرْقَى به ، ولو أَفْنَاهُ وَاسْتَلَبَ حَقَّهُ وَاتَّخَذَهُ أداةَ خدمةٍ وَلَذَّةٍ ! ، فَثَمَّ من المعيار الأخلاقي المحدَث ما يُبَرِّرُ هذه الجرائم العظمى التي اقْتُرِفَتْ باسم الحرية وليست كما تقدم إلا الفردانية التي لا تُقَبِّحُ العدوان ، عدوان الأقوى على الأضعف إن كان في ذلك لذة ومصلحة تحصل ، ولو خالفت عن معيار أخلاقي محكَمٍ ، لا جرم تَنَاَوَل هذا المذهبُ الأخلاقَ بالإبطالِ أَنْ صَيَّرَهَا نِسْبِيَّةً تَتَفَاوَتُ ، ذَاتِيَّةً تَتَصَارَعُ فلا مرجع لها من خارج يجاوز .

    وشرائع الوضع المحدث ، لو تدبر الناظر ، لا تقيم وزنا لعدوان إلا العدوان المحسوس الذي يَنَالُ مِنَ الأبدانِ كَمَا القتل أو الاعتداء بالضرب أو الهتك ...... إلخ ، وإلا فالتراضي على الفواحش والمنكرات ، وتعاطي الخبائث والمسكرات ، وتداول الربا في المعاملات ، ذلك ما يصيرها مشروعة بما تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ الذَّوَاتُ فَلَهَا سيادة الشعب ، وهو المجموع من أَفْرَادٍ تختَلِف مشاربُهم وَتَتَعَارَضُ مصالحهم لا جرم كان من القوة حَكَمٌ فَصْلً إذ ليس ثم مرجع يجاوز من وحي ، فالأقوى يحكم وحكمه هو الحق ، وَلَوْ ظَلَمَ ، إذ القوة هي الحق المحكم في أيِّ مثالٍ من السياسة محدَث ، فيكون من المثال الذَّرِيِّ ما يضطرب ، فالأقوى في أي جمع : قليل قد احتكر أسباب القوة ، وبها يُبَدِّلُ ما استقر من الميثاق ، ويسن آخر يواطئ هواه وذوقه إذ له من القوة ما يسوغ ، ولو قَهَرَ غيره وَأَكْرَهَ باسم الحرية ! ، وهو ما تَنَاوَلَهُ من له اشتغال بالسياسة في هذا الجيل وإن لم يكن لها أهلا إذ ظلم وَتَجَبَّرَ ، واغتر أن آوى إلى ركن قُوَّةٍ في المركز تعظم وليست إلا قوة الحس التي اغتر صاحبها فكان له في هذا الجيل ما كان لآخر قد تبجَّح أن : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) ، فاقترح في مهد النبوات في الشرق ، اقترح حكمَ الأقلية التي تستبد فإن الغالب لو حكم فليس إلا عنوان الوحي ، وإن كان ذلك في نفسه ما لا يُسَلَّمُ مطلقا ، وإن تُنُزِّلَ به في الجدال مع الخصم ، فَإِنَّ حكم النبوات ليس لقليل أو كثير ، وإنما هو لآي التنزيل وخبره فهو المرجع المجاوز ، قَلَّ الجمع أو كَثُرَ ، وإنما كان من سُوِء ما قال أولئك أنهم اقترحوا حكومة الوضع المحدث ، وهي ، مع ذلك ، حكم قليل في بلاد الشرق إذ النبوة فيها أظهر ، ولو المعنى الأعم الذي يفتقر إلى بَيَانٍ وتحرير ، فكان من مقالهم حشف وسوء كيلةٍ ، فقول باطل وهو ، مع ذلك ، قليل خامل ! ، فليست ، كَمَا تَقَدَّمَ ، إلا الفردانية التي لا يمكنها أن تحكم إلا أن تَطْغَى وَتَظْلِمَ إذ تخالف بمصالحها الصغرى مصالح الجمع العظمى ، وذلك خلاف القياس والحكمة ، فيأبى الجمع الانقياد ، فيكون من إكراهِ قَلِيلٍ لِكَثِيرٍ أن يحمله على ما يريد ، وإن كان من المكر في جِيلٍ تال أن صار الفرد يقهر الجمع بأسباب تَلْطُفُ فلا يكون من الإكراه ما يظهر ، بل ثم آخر يُزَيِّفُ الوعي بما احتكر من مصادر المعرفة وأدوات الدعاية التي تزخرف الباطل ، كما زُخْرُفُ الرِّبَا مثالا فهو البيع والمضاربة وهو المعيار المحكم في تداول المال وإن دولة بين الأغنياء وحدهم ! ، فَيَغْتَرَّ به الناظر إن لم يكن ثم مرجع من وحي يجاوز فهو يأطره على الجادة الناصحة ، وَيَقْضِي في شُبُهَاتِهِ بما أُحْكِمَ من آيه وأخباره ، فإن لم يكن المرجع المجاوز من خارج فالفرد لا يجد عناء أن يمكر بالجمع بما يزيف من الوعي إذ احتكر أسباب المعرفة والدعاية ، إن في مثال يحكم باسم الشعب سَيِّدًا قَدْ أُطْلِقَ ، وإن تَوَهَّمَ فَلَا يَصْدُقُ ، ولو في دعواه المحدثة ، فقد خَدَعَ الأفراد باسم الحرية وأطلق منها ما احتج به أن يحكم ويستبد إذ المرَدُّ ، كما تقدم ، اللذةُ غايةً والقوةُ وسيلةً ، وقد امتلك منها الخشن والناعم فَرَاحَ يأطر الجمع على ما يُوَاطِئُ مصالحه ، وإن كَسَاهَا لحاءَ المصلحة الفردية التي تُعَظِّمُ الحرية ! ، وقد يمكر أخرى فيكون ذلك باسم الأمة ، فينتحل المصلحة العامة ، ولو صدقت فكان الحكم للأكثر فإنه لا يسلم كما حكم الفرد ، إذ كلٌّ يصدر عن بواعث من الحس ، نقصا وفقرا وحاجة وجهلا وآفة وَعَدَمًا هو السابق وَفَنَاءً هو اللاحق ، لا جرم كان من الإجماع ما لا يطلق ، وإن حكى إرادة الجمع صدقا ، فلا ينفك ذلك يحتمل ، فاشترط في الإجماع المعتبر في الشرع أن يكون ثم مستند من الوحي ، على تفصيل في ذلك تناوله أهل الأصول ، فالمرَدُّ إلى الوحي فهو من أخبر خَبَرَ الصدق بعصمة الإجماع ، فذلك الخبر الأعم ، وكان منه مستند أخص إليه يأرز الإجماع في واقعة مخصوصة فكلُّ دليلٍ قد خالف عن الوحي نصا أو مقصدا فهو فاسد الاعتبار ، وهو ما لا يتصور في أمة بها الختم وَحُجَّتُهَا قائمة على الخلق ، فإجماعها المعتبر يُعْصَمُ وإلا بطلت شهادتها على سائر الأمم ، فلم يكن من سيادتِها سيادةُ الأمَّةِ ، وإنما سيادة الوحي والنبوة ، فالأمة تَتَأَوَّلُهَا سلطانا به تقيم الشرعة ، فليس ثم سيادة فيها إلا للوحي المنزَّل من الرب المهيمِن ، جل وعلا ، فتلك السيادة المطلقة التي استغرقت وجوه المعنى وآحاد المسائل كافة ، فـ : "السَّيِّدُ اللهُ" ، وهو ما عُرِّفَ منه الطرفان ، فكان منه قصر إضافي إذ السيد قد يطلق في حق البشر ، كما أطلق في حَقِّ خَيْرِ البشر صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من القصر الإضافي ما تَنَاوَلَ عهدا أخص لا تجوز فيه الشركة وإن جازت في مطلق المعنى ، معنى السيادة ، فلا تجوز في أخرى هي العظمى ، سيادة قد استجمعت وجوه المعنى وآحاد المسائل ، كما تقدم ، فذلك عهد أخص لا يكون إلا لِذِي الجلالِ والعِزِّ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَثَمَّ من ذلك ما لا يستقيم به الأمر في دنيا الناس إلا أن يُرَدَّ إلى ملك واحد له سيادة في الجمع تطلق ، ولله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، وله من السيادة ما اسْتَقْرَأَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ وَصْفَهَا فَهِيَ : المطلقة فلا يدخل ، جل وعلا ، في حدها بداهة إذ قد تناولت أحوال الخلق ، وهو من خلقهم ، فَثَمَّ من الحد ما يميزه من ذواتهم وما وُصِفَتْ به من نَقْصِ جِبِلَّةٍ وما يطرأ من تغير وآفة ..... إلخ ، فَثَمَّ من الحد ما يميز ، فالخالق ، جل وعلا ، واجب الوجود لذاته فلا يُقْضَى في حقه بشرعةٍ تَقْضِي في جائز الوجود من الخلق المحدَث ، فشتان الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان ثم اشتراك في المعاني الكلية المجردة في الذهن فلا يلزم منه آخر في الخارج ، بل لكلٍّ من الوصف ما يُوَاطِئُ كَمَالًا أَوْ نَقْصًا ، فَلَهُ ، جل وعلا ، مثال الكمال المطلق فلا يشركه فيه غيره ، ولها ، أي السيادة المطلقة التي اختص بها الوحي ، لها سمو فلا تعلوها إرادة خلق ، ولها التفرد ، كما تقدم من حكم إقليم في السياسة المحدثة فإن لم يكن ثم سلطان واحد فالأمر ينشعب ويفسد ، فكيف بهذا الكون المحكم ؟! ، فلا يكون انتظام أمره إلا وثم سيد واحد يحكم فيه من خارج إن في الخلق أو في الشرع ، فذلك عموم اسمه "السيد" ، وسيادته ، أيضا ، أصل فلا أول عليه يَتَقَدَّمُ ، ولا أعلى منه يَقْهَرُ كما سيادة البشر فمن علا في الدرجة قَهَرَ من تحتَه فكان من ذلك مثال تَسَلْسُلٍ يَتَدَرَّجُ في القهر من رأس أضيق إلى قاعدة من الخلق أوسع ، مثال الهرم الذي يحكي طغيان الحكم المحدَث ، ولها ، أي سيادة الخالق الأعلى ، لها خاصة انْفِرَادٍ في الوصف والتَّمَلُّكِ فلا تُغْتَصَبُ ، وَإِنْ عَطَّلَهَا الخلق وَنَازَعُوا فيها وهو ما عمت به بلوى في جيل قد تَأَخَّرَ ، أَنْ نَازَعُوا في الخلق كما الشرع ، تأويل ما تقدم من تغيير الخلق ، فَفَاقَتْ جنايتهم جناية الجيل الأول من خصوم الوحي المنزل فقد سَلِمَ لهم من الفطرة إثباتُ الخالق الأول ، ولها ، أي السيادة الإلهية ، لها عصمة من الخطإ تُبْطِلُ ما انْتُحِلَ لِلْأُمَّة والشعبِ منها مع ما رُكِزَ فيهم جِبِلَّةِ نَقْصٍ وَفَقْرٍ .... إلخ ، على التفصيل آنف الذكر ، فحصل من ذلك ما يميز سيادة الشرع الرسالي الحاكم إذ حَرَّرَ الفرد من الطغيان حقيقةً لا دعوى ، فلم يكن من دعوى الحرية فيه ما يُفْسِدُ الفرد والجمع ويفضي إلى اضطراب الأمر إذ صار لكلٍّ من الحرية مُطْلَقٌ ما لم يَنَلْ من غيرٍ ، فلا حق له أن يستدرك إذ ليس ذلك من شأنه ، وإن قَارَفَ غيرٌ مَا يقبح ضَرُورَةً في النقل والعقل والفطرة والحس من فَوَاحِشَ تُفْسِدُ النفوس ، فلا يقتصر فَسَادُهَا على المقارِفِ فَلَا يَنْفَكُّ يعدو على غَيْرٍ لِيَنَالَ من لَذَّةٍ ما يوهم ، وإن كان التراضِي ، فالأمر في نفسه يهدم مثال الجمع ويهلك النسل والحرث وَيَسْتَجْلِبُ الوباء والسقم كما قد صح من الخبر ، فـ : "لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" ، وكما التجريب والبحث قد صدق من أدواء تَنَالُ من الأديان والأبدان كافة ، فالضرر يجاوز ، وإن كان ثم تَرَاضٍ ، وكذا يقال في مسكر يذهب بالعقول ، وهو أظهر ، فإنه ذريعة تُفْضِي إلى العدوان المحسوسِ إذ لا عقل يأطر إن لم يكن للجمع شرع مُنَزَّلُ من السماء ، فشرائع الأرض المحدَثة تسد الذرائع إلى جرائم ، لا جرم قَيَّدَتِ شرب المسكِرِ في مواضع كما الأشغال العامة أو السيرِ في الطرقات كَافَّةً ، وقيدته بمواقيت ، فَسَدَّتِ الذرائع في المشهودات التي لا تجاوز مدارك الحس ، فَلَيْسَتْ تَنْظُرُ إلى ما تَلَا من دار الجزاء والعدل إذ جحدت النبوة مرجعا يجاوز من خارج ، بل لم تحسن من القيد ما اقتصر على الحس الشاهد ، فإنها بما قيدت قد قَلَّلَتِ المفاسد ولم تحسم ، كما الوحي قد أَحْكَمَ ، وعليه تحمل حكومات من المعاملات كما الربا ، فَثَمَّ من تحريم الوحي ما جاوز الخلق ، وثم من حد المصالح والمفاسد ما يجاوز الأهواء المحدثة والمكاسب المعجلة التي تحكي الفردانية ، أيضا ، فَثَمَّ فَرْدٌ أو جَمْعٌ قَلِيلٌ يروم احتكار المال واكتنازه فيكون دولة بين نخبة تضيق آحادًا أو عَوَائِلَ تَطْغَى إذ تُقَدِّمُ في باب المصالح : الخاصةَ على العامَّةٍ مع كفرانها ، بادي الرأي ، بمرجع النبوة والوحي ، فأحكامه حق وهي في نفسها مناط ابتلاء ، وإن لم تعلم العلة أو الحكمة ، فكيف في معاملاتٍ قد عُقِلَتْ معانيها في الخارج ، وشهد الماضي والحاضر أنها تضر الجمع وإن نَفَعَتِ الفرد ، فالقياس المحكم ، ولو مسلمةَ ضرورةٍ في العقل المحدث ، القياس المحكم أن تَرْجُحَ المصلحةُ العامة المصلحةَ الخاصة ، فيقدم الجمع على الفرد ، ويكون من العدل في القسمة ما لا يستوجب التسوية وإنما حكمة بها يوضع الشيء في المحل الذي يواطئ ورحمة قد جاء بها الوحي إذ يرفق بالضعيف والعاجز عن الكسب وهو ما لا تقيم له الحداثة الوزنَ بل تَرَى أنه سبب الفقر فهو الحمل الزائد الذي يحسن التخفف منه ! ، حكاية الشح والأثرة ، فـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) .

    والله أعلى وأعلم .


  2. #22
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وكل أولئك مما يدخل في حد الشرك بالله ، جل وعلا ، فذلك المعنى العام الذي يجاوز فيستغرق كل غُلُوٍّ في المخلوق المحدَث فلا ينفك يقترن بِضِدٍّ أَنْ يجفو الناظر في حق الخالق الحاكم ، عَزَّ وَجَلَّ ، وهو ما فَشَا في الديانات القديمة ، فكانت نَزَعَاتٌ منها ما غلا في التعطيل والتجريد ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جفا في حق الخالق ، جل وعلا ، فكان من الشرك : شِرْكُ التَّشْبِيهِ إذ شَبَّهَهُ المشرِك بادي أمره بالموجودات المحسوسات إذ لم يطق إيمانا بغيب يجاوز من خارج ، فكان من شرك التَّشْبِيهِ قِيَاسٌ مع الفارق ، قد قِيسَ فيه الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق الحادث ، فقد تدخل الإله ليحل إشكالات في الأرض ، كما قد تدخل في النصرانية المبدلة ، فَثَمَّ دنس معصية أولى قد استغرق الخلق كافة ، وهو ما استوجب التطهير ، وليس ثم قُرْبَانٌ به التطهير يكمل ، إذ الدنس قد طال العالم المحدَث كافة ، فليس ثم منه معدنُ قُدْسٍ وَطُهْرٍ خالص ، والخالق الأول قد عجز أن يغفر مع أنه يريد ذلك فكان ثَمَّ التعارض ، فكيف يكون الغفران بلا قربان ! ، وتلك مادة دينية قديمة قد استعيرت من ميثرائية قديمة وهي ، كما تصفها بعض الموسوعات ، ديانة باطنية ذات أسرار منها سِرُّ الإله الذي وُلِدَ من صخرة ، وَذَبَحَ الثور وتشارك المأدبة مع إله الشمس ، فَالْقُرْبَانُ المذبوح مأكول على مائدة الآلهة ، وهو أمر قد اطرد في ديانات وثنية محدثة ، وهو ، من وجه آخر ، ما له في دين النبوات آخر ، ولكنه ، بداهة ، ليس القربان الذي يذبحه الإله لآخرَ فَيَطْعَمَاهُ على مأدبة واحدة ! ، وليس يحكي عجز الإله فقد أصابه العجز وَنَالَتْهُ الحيرة إذ يروم المغفرة ولا يقدر ، فالشرط : قربان مقدس ، فليس ثم سبوح قدوس قد سَلِمَ من العيب والنقص إلا واحد هو الرب أو الأب الذي اضطر أن يَتَجَسَّدَ في ناسوت بشري هو القربان المقدَّس ، فيصلب فداء لنوع إنساني قد احتبسته الخطيئة في جهنم فلا يكون فِكَاكٌ إلا أن يُذْبَحَ الفداءُ المقدَّسُ ! ، وهو الذي به الرب الأول قد تجسد ، وذلك ، أيضا ، مِمَّا سَرَى من أديانٍ قديمةٍ كما الهندوسية ، فكان تجسد الإله ، إِلَهِ المحبَّةِ الذي نَزَلَ إلى الأرض لِيَعُمَّ السلام ، فَنَزَلَ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ بَحَثَ ، نَزَلَ لِيُخَلِّصَ البشرَ ويهتم بالعالم ويساعد الإنسان ! ، أفلا يطيق ذلك دون تجسد في ناسوت ناقص يعتريه من أعراض المحدَثات ما يعتري ؟! ، فكان من جُمَلِ محالاتٍ ذاتية ما لا يكون إلا الفرض المجرد في الذهن ، بل قد زَادَ مَنْ زَادَ في حكاية التجسدات الإلهية في الأرض ، فكان منها صورة حيوان ، وأخرى هي صورة إنسان ، وثالثة هي الخليط ، كما الأساطير القديمة تُصَوِّرُ ، وذلك إمعان آخر في العيب بما هو المحال الذاتي ، بادي الرأي ، أي يحل الكامل الأول ، وكماله هو المطلق ، أن يحل في نَاقِصٍ نَقْصُهُ ، في المقابل ، النَّقْصُ المطلقُ ، وذلك ما يُفْضِي إلى غلو وجفاء ، فَثَمَّ الغلو في المخلوق فإنه إذ قد صار المحل الذي يحل فيه الكامل الأول ، فذلك مما يَرْفَعُهُ عن قدره ، فقد اكتسب من الكمال الأول بعضا بما حَلَّ فيه من الأول المطلق ، وكان تَالٍ يَقْرِنُ ضرورةً فِي القياس ، فَثَمَّ الجفاء في حق الأول ، جل وعلا ، سوء ظن يستغرق ، فَثَمَّ من ذلك ما جَاوَزَ سوء الظن في الذات والاسم والوصف إلى لازم من الفعل ، فإن من اعتقد أن الخالق الأول لَا يَنْهَضُ بهذا العالم المحدَث ، فهو يفتقر إلى من يعاون فيحتاج ظهيرا في الخلق أو التدبير كما قال من قال في شرك ربوبية قد فاق الجيل الأول ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، وإن وقع من المتقدمين ، أيضا ، جفاء في الربوبية فإنهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيت في الجاهلية طِيَرَةً بها يخرجون أو يقعدون ، وطلبَ سلامةٍ من الجن والهوام ..... إلخ ، وتلك ، وإن كانت عبادات يباشرها الداعي والطالب ، إلا أنها لا تنفك تقترن بالغلو في هذا المعبود ، في وصف الربوبية وَفِعْلِهَا ، فَلَمْ يسلم من شرك في الربوبية فإنها ليست المذكورة في الآية من الخلق والتسخير ، بل ثم من الضُّرِّ والنَّفْعِ ما هو أخص في الباب ، فذلك من وظائف الربوبية ، فكان من الغلو في المخلوقِ أَنَّهُ يشرك الرَّبَّ المهيمنَ ، جل وعلا ، في أوصاف من أخص أوصافه ، أوصاف الربوبية ، ومنها الرَّزْقُ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما نَازَعَ فيه الخلق بما تقدم من احتكار الرِّزْقِ ، فكان من ذلك ربا هُوَ المنهي عنه لذاته ، فَثَمَّ حكم شرعي وذلك يجزئ لَدَى من يؤمن بالنبوات أن يمتثل وإن لم يعلم العلة إذ قد كان من المبدإ علة أعم : إيمان بالوحي إذ قد اجتهد الناظر ، بادي الرأي ، أن يحرِّرَ الأصلَ ، أصلَ التوحيدِ والنبوةِ ، فكان من ذلك ما تناول المسالك النوعية وأخرى هي الشخصية ، فإذا فَقِهَ النَّاظِرُ النبوةَ وحاجة الخلق إليها واسطةً تُبَلِّغُهُمْ بالحق في التصور والحكم ، في الاعتقاد والقول والعمل ، فإذا فَقِهَ ذلك فما بعده أيسر ، وهو ما استوجب في الباب : حُسْنَ ظَنٍّ بالرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، أنه الغني فلا يفتقر فما يلجئه أَنْ يُشَرِّعَ من الحكومات ما يُكْسَى لحاءَ حقٍّ وباطنُه عَلَى ضِدٍّ من باطل لا يجاوز مصلحة الشارع المحدِث ، كما حكومات الخلقِ ، والنقصُ فيهم أصل ، والطغيان فيهم آخر ، وَثَمَّ من شح وأثرة ، ورغبة في احتكار الحكم وأسبابه ، ولو خالف الحاكم عن معيار الوحي بل وآخر من العدل وهو محل الإجماع لدى كلِّ ذِي عَقْلٍ ، فيكون من ذلك باطل لا ينفك يقترن بتأويل باطن يجتهد في كساء القبيح لحاءً يَحْسُنُ ، فيكون من ذلك محنة تعظم ، فصاحبه يُخَرِّجُ حظوظه على نصوص الحق ، وإن كانت عَلَى ضِدٍّ بَلْ وَنَقِيضٍ ! ، فيجتهد فِي احتكارِ الأسبابِ ، وآكدها القوة والمال ، والمال ، لو تدبر الناظر ، أول إذ به يُصْطَنَعُ الرجالُ فِي حَقٍّ أو باطلٍ ، فكان من ذلك ما اجتهد الطاغوت في كلِّ جيلٍ أن يستأثر به فهو عماد الملك ، وذلك ما جاوز الملك في الظاهر إلى آخر يخفى بما يكون من عُصَبٍ أو عَوَائِلَ تحكم ، فهي المركز الذي مَكَرَ بالجمع فَسَعَى في الاستئثار بالمال ، مع تزيين الاستهلاك والمتعة أَنْ تَصِيرَ الغاية هي اللذة ، وهو ما يزيد في النفقة ، فيكون من ذلك ما قد عمت به البلوى ، إن الفرد أو الجمع ، فالأفراد يقترضون بالربا ، والممالك تَصْنَعُ ذلك ، فهو أمر يطرد ، وقد يكون من ضَرُورَةٍ ما يلجئ وهي ما يُقَدَّرُ بِالْقَدَرِ فلا يجاوزه المقترِض ، وإنما كان التوسع في حد الضرورة أَنْ صَارَ الاقتراضُ لَأَدْنَى لَذَّةٍ يَرُومُ بها صاحبها المتعة لا أكثر ، إذ كان من دعاية المال المحتكِر الذي يصنع الرأي ، عَلَى مُكْثٍ ، بما يزيد في الكسب والربح ، وَإِنْ أَفْسَدَ الدِّينَ وَالْخُلُقَ ، فَيُزَيِّنُ من لَذَّاتِ الحسِّ ما يجاوز الحدَّ المشروعَ ، فإن النفس إن لم تُفْطَمْ فَلَا تَنْفَكُّ تَرُومُ أكثر ، وهو ما يجاوز المباح إلى فضولٍ تُكْرَهُ ، وهو ما يجاوز بَعْدًا إلى المحرم ، فتلك خطوات شيطانٍ المبدأُ فِيهَا فضول يزيد ، ولو المباحَ ، فلا ينفك يُورِثُ صاحبه ثقلا وقعودا وَتَعَلُّقًا بِمَتَاعٍ يَزُولُ ، وهو ما ينحط بالهمة ألا تجاوز دَرَكَ اللَّذَّةِ ، فيكون من ذلك باعث في الطلب أدنى وهو ما يستدرج صاحبه إلى المكروهِ فالمحرَّمِ ، فَيَقْتَرِضُ صاحب اللذة أَنْ يُشْبِعَ لَذَّتَهُ ، ولو رِبًا له يَتَأَوَّلُ النصوصَ ، ولو آمن بالتحريم ، فهو يجتهد في التَّوَسُّعِ في الضرورة ، وذلك مما اتَّخَذَ اسم المصلحة الراجحة ، ولا يخلو مِنِ اعْتَبَارٍ في الشريعة النازلة ، ولكن التوسع فيه قد جَاوَزَ الحد حتى اسْتُجِيزَ به نَقْضُ حكمٍ منصوص ، ولو من الفروع ، فإن النص أصل في نفسه فلا يسأل عنه لِمَ ؟! ، وإنما الغاية أن يثبت صحيحا في نَقْلِهِ مع صراحة في عقلِه فَاحْتِيجَ فِيهِ إلى قدر يزيد من دلالات اللسان المحكم ، فلا يسأل عن الأصل لِمَ ؟ ، وإنما يُرَدُّ إليه الفرع من المصلحة والرأي ، فلا تكون ثم مصلحة قد خَالَفَتْ عن نَصٍّ أول ، وذلك ، أيضا ، من سوء ظن بالوحي المنزل ، أنه لم يَسْتَوْفِ حاجات البشر ، بل قد خالف عن الناصح المعتبر منها فَحَجَّرَ الواسعَ بما كان من تحريم ناجز فهو يُكَدِّرُ وَيُنَغِّصُ ، فكان من ذلك ما استوجب نسخه بما يكون من الحكم المحدَث ، سواء أصرح الناسخ فهو يجحد أصل الوحي النازل ، فإطلاق النسخ عليه ، من هذا الوجه ، لا يخلو مِنْ تَجَوُّزٍ ، فإن النسخ يكون بِنَصٍّ لا بالهوى والذوق ، بل ذلك التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فكان من النسخ دعوى ، فَلَا تُقْبَلُ إلا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ ، وإلا فهي على أصل أول فَلَا يَنْتَقِلُ عنه الناظر إذ قد اسْتَصْحَبَ أولا من الحكم النازل ، وهو ما به الذمة تُشْغَلُ فَلَا تَبْرَأُ إلا أن يأتي به المكلَّف ، فهو ، من وجه آخر ، إذ قد ثبت بالدليل الناصح ، هو مما به اشْتَغَلَتْ ذِمَّةُ المكلَّف بعد بَرَاءَةٍ أولى تُسْتَصْحَبُ ، فَيُسْتَصْحَبُ منها عدم أول حتى يَرِدَ دليل شاغل لِذِمَّةِ المكلَّف ، فهو ناقل عن أصل البراءة ، وهي ما اصطلح في مواضع أنه الإباحة العقلية إذ لا نَصَّ من الشريعة الرسالية لِيُقَالَ إِنَّ ثَمَّ المشروعَ الأوَّلَ ثُمَّ كان بَعْدًا من النص ما يَنْسَخُ ، فهو خطابٌ رافع لآخر قد ثبت في المبدإ ، فكان من النسخ شرع يَرْفَعُ آخَرَ مِثْلَهُ ، وهو ما تَرَاخَى عنه في الورود والعمل ، فَعُمِلَ بالمنسوخ أولا ثم كان من النسخ تال قد رَفَعَ ، إِنْ كُلًّا أو جُزْءًا ، فالنسخ كالتخصيص من هذا الوجه ، فَقَدْ يَتَنَاوَلُ الأصل فلا يكون ثم فَرْدٌ في الخارج على أول من الحكم النازل ، وقد يَتَنَاوَلُ جزءا دون آخر ، فَثَمَّ من النسخ ما يرفع في الشَّرْعِ عامة : حكمًا قد ثبت أولا بالنص ، وما يرفع في الإباحة خاصة : إباحة شرعية قد جاء الدليل بها نصا في المحل ، فليست مما اسْتُصْحِبَ أولا من إباحة عقلية قبل ورود الشريعة السماوية ، فتلك إباحة تَرْفَعُ فلا تنسخ إذ لم تثبت في المبدإ بِنَصٍّ من الوحي المنزل ، وإنما كانت مما تَعَاطَاهُ الخلق عادة حتى جاء الناقل عنها فهو يحظر أو يقيد ، فكان من ذلك رفع لا نسخ ، إذ لا يتناول النسخ ما لم يثبت بادي الرأي بدليل من الوحي ينصح ، فإذا شغلت الذمة بالحكم فتلك زيادة قد ثبتت بالدليل فليس ثم التحكم ترجيحا بلا مرجح ، بل ثم المرجح المعتبر في باب الأصل فيه التوقيف ، فلا يكون إلا بدليل ، فشغلت الذمة بدليل أخص ، فلا ينتقل عنه الناظر بالهوى والحظ ، وإن تَأَوَّلَ له المصلحة فلا اعتبار بها إذا خالفت عن أصلها ، أصل النقل المحكم فهو في الباب أول ، بل ما كان لمصلحة في الأصول أَنْ تَثْبُتَ إلا أن استأنس لها من وضعها أصلا من أصول التشريع ، إلا أن استأنس لها بِجُمَلٍ من الأدلة عمدتها ما كان أولا من النص المحكم ، فكيف تعارضه المصلحة ، ولو في فرع ؟! ، وهو الذي شهد لها بالاعتبار ، فذلك من إبطال الأصل بالفرع ، أن يجتهد صاحبه في استنباط علة بها يأتي على الأصل بالإبطال ، وهو ما يأتي على الفرع نفسه بالإبطال ! ، فقد زال أصله بما كان من معارضةٍ تُتَوَهَّمُ ، كما يَقُولُ بَعْضٌ فِي بَابِ الرِّبَا إِنَّ ذلك مما صار ضرورةً في العمل إذ المال في العالم قد سلك هذه الجادة ، وإن قَبِيحَةً تُهْلِكُ ، فهي للدين والدنيا تُفْسِدُ ! ، فصار الربا ضرورة لا غنى عنها ، بل بها مصلحة في رِبْحٍ ، ولو سُحْتًا بلا حق ، وهو ما يُفْضِي إلى زيادة في الفقر ، إما بمحق بَرَكَةٍ هي الأولى ، أو ما كان بَعْدًا من تَضَخُّمٍ وزيادةٍ في السعر ، وإن زَعَمَ مَنْ يُرَابِي في هذا الجيل أنه يحد من الغلاء بما يكون من جمع المال من أيدي الخلق ، فَيُغْرَوُا بقسط ربا يكثر في العدد وإن قَلَّ في القيمة ! ، فإذا كَثُرَ المال فَثَمَّ ، عند أولئك ، شِرَاءٌ يَكْثُرُ وهو ما يزيد في الطلب فلا يعدله العرض فتكون زيادة في السعر ، فلا مناص من تقليل المال المعروض في السوق ، فَيُحَسِّنُ أولئك خفض الدخول وتقليل الإنفاق العام ، وهو ما يُفْضِي إلى التضخم ، ولو من طريق أخرى تلطف ، فإن قدرة الخلق في باب الشراء إن ضعفت ، فلا يكون ثم استهلاك يُحَفِّزُ الصانع أَنْ يَصْنَعَ ، مع ما زِيدَ له في رِبَا القرضِ إِنِ اقْتَرَضَ لِيُدَشِّنَ المصنع أو المعمل ، مع شؤمِ رِبًا هو أبدا المستصحب ، فكيف وقد زيد في رِبَاهُ وهو ما يُفْضِي ، أيضا ، إلى التضخم ، فلا مناص أَنْ يَرْفَعَ السعر إذ ثم من قسط الربا ما فَحُشَ ، فيكون من زيادة في الثمن ما به يَسُدُّ قِسْطَ الربا مع زيادة في الربح ، ولو يسيرةً ، بها يسد نَفَقَاتِ العمل فماذا يَبْقَى له بَعْدًا إلا قليل لا يُغْنِي ؟! ، وهو ما يُغْرِيهِ أن يترك العمل وَيَتَّجِرَ بالربا مع المصارفِ التي تمنحه زيادة تجاوز ربح الصناعة والزراعة والتجارة ، فهو الحلال الذي يَسْتَبْدِلُ بِهِ المرابي المحرَّم من الزيادة ، فيكون من الحرام في الصورة ما هو أكثر وأيسر ، ويكون من الحلال ، وإن شَقَّ ، ما البركة فيه تعظم .
    والتضخم ، من وجه آخر ، يحدث إذا تَرَكَ الصانعُ الصنعةَ وَاتَّجَرَ بِالرِّبَا ، فَيَقِلُّ المعروض في السوق إذ غادره صُنَّاعٌ كُثُر ، فَيَزِيدُ الثمن ، وكذا لو استولى رأس المال المرابي على أموال الخلق بما يُزَيِّنُ من قسطِ رِبًا يفحش ، فإذا استولى رأسُ المالِ المرابي ، فلا يكون ثَمَّ قُدْرَةُ شراءٍ لدى الخلق فَيَقِلُّ الطلب وهو ما قد يُخَفِّضُ السعرَ بَعْضًا ، ولكن الحال لا تَزَالُ تَتَكَرَّرُ إذ ليس من قُدْرَةِ شِرَاءٍ ما يغري الصانع أن يصنع ، فهو يترك العمل ويضع المدَّخر طلبا لقسط ربا أكبر ، فيقل المعروض أخرى إذ لا إنتاج يعوض الفاقد بما يكون من استهلاكِ الجمعِ ، فيقل المعروض ويرتفع السعر أخرى ، فالحل قياسا أن يُزَادَ في الإنتاج ، وبه يُعْضَدُ النقد المحلي ، وهو الاعتضاد جذرا لا تسكينا لآلام تبرح ، وإن انخفضت قيمة النقد فإن الإنتاج يعوض الفاقد ، بل إن التخفيض في هذه الحال أمر ينفع لما يكون بِهِ من رَوَاجِ إنتاجٍ يُصَدَّرُ ، فَيُقْبِلُ الخارج إذ ثم في الداخل سعر يلائم ، بل هو المنافِس إذ التكلفة قليلة والجودة معتبرة قياسا بالسعر اليسير ، فيكون من زيادة الثروة حقا لا ورقا ، فَثَمَّ قواعدُ إِنْتَاجٍ للثروةِ تَتَّسِمُ بالديمومة والاستمرار لا الريع الذي يَنْقَطِعُ يوما ، ولو طال الأمد مع مخاطر تحتف به بما يكون من تقلبات السوق وتبدل الرَّغَائِبِ ، رغائب الخلق فهم يطلبون الشيء يوما وإذا وجدوا ما هو أفضل بسعر أقل أو يضاهي مع جودة أعلى ومخاطر أقل في الاستهلاك .... إلخ من محددات الطلب ، فيكون من قواعد إنتاج الثروة ما يتسم بالديمومة والاستمرار ، لا الرِّيعِ أو التصرف في أصول الثروة بالبيع أو حق الانتفاع طويل الأجل الذي يمهد لِبَيْعٍ ، بل هو أقرب إليه ، ولو تَلَطَّفَ في القول ! ، فإذا زَادَ الإنتاج فإن النقد المحلي يَقْوَى ولو بما يستجلب من آخر هو معيار النقد الأممي ، فيزيد المخزون منه ، ويكثر المعروض فينحط السعر إذ ثم وفرة مرجعها حقيقي لا مجازي ! ، فليس بما يكون من منح وقروض وودائع تستنزف الثروة العامة بأقساط ربا ، وأدنى أحوالها أن تكون أداة التملك التي تسلب المقترِض الإرادة ، فيكون في رقِّ دَيْنِهِ حَتَّى يَقْضِي ، وهو ما يُفْضِي إلى مثال الرق المعاصر ، فكان المدين العاجز في شرائع تقدمت ، كان يدخل في رق الدائن إذا عجز أن يوفي دينه ، وليس القرض في نفسه مما ينتج الثروة ، وإن كان علاجا لأزمة تطرأ دون آخر هو الجذري الذي يحسم ، بل إِنَّ تَبعاته ، وهو الربوي ، أَنْ يَسْتَنْزِفَ الثروةَ العامة بأقساطِ رِبَاهُ المتأخرة ثم المتراكمة مع كلِّ عجزٍ عن الوفاء في أجل ، وهو ما يزيد في قسط الربا تِبَاعًا فينخفض الإنفاق العام الذي يستغرق الجمع بما الْتَزَمَ السلطانُ في عقدِ الحكم أَنْ يَقْبِضَ المالَ من حِلٍّ وأن يضعه في حِلٍّ وأن يقسم بالسوية بين الخلق ، فإذا به يستدين لِمَا يَقْتَصِرُ نَفْعُهُ عَلَى جَمْعٍ مخصوصٍ ، ثم يستقطع من النفقة العامة التي تدعم الجمع الذي يبذل المال طوعا أو كرها ! في مثال الجباية الذي يجاوز المشروع من الزَّكَوَاتِ والعشورِ ... إلخ ، فَثَمَّ جباية تَسْتَنْزِفُ الثروة العامة لسداد قروضٍ رَبَوِيَّةٍ تَسْتَنْزِفُ الثروةَ العامَّةَ ! ، وليت من يدفع يَجِدُ من الدعم ما يعضد ، بل إنه يُجْبَى لسدادِ دَيْنٍ لم يقترضه ! ، فهو دين النخبة المحتكرة للسلطة والثروة ، فإذا قَلَّ الإنفاق العام الذي يدعم الخلق فِي السِّلَعِ والخدماتِ ، فإن ضغطهم عَلَى سوق أخرى هي الخاص من متاجر ومشافي ..... إلخ ، فإن هذا الضغط يزيد ، لو وَجَدُوا المال الذي به يشترون بادي الرأي ! ، فيكون من ذلك ما يَزِيدُ في السعر وهو ما يَصُبُّ ، أيضا ، في قَنَاةِ التَّضَخُّمِ مَعَ كَسَادٍ في البيعِ ، فلا أحد يَشْتَرِي إِذِ الْفَقْرُ قَدْ عَمَّ ، والسعر لا ينخفض والقياس أن الكساد يُلْجِئُ التَّاجِرَ أَنْ يُخَفِّضَ السِّعْرَ ، ولكنه لا يطيق ذلك فإن مثال الربا الذي استغرقه بقرض يجب سداده ، مع زيادة تفحش في أسعار الأوليات وما يلزم الإنتاج من طاقة وعمالة ..... إلخ ، فكل أولئك في مثال الربا يُلْجِئُهُ أَنْ يَزِيدَ فِي السعر وإلا خسر ، فلا يطيق النزول عن سِعْرٍ بِعَيْنِهِ ، ولو كَفَافًا به يحفظ رأس المال بقدر يسير من الربح ، أو لعله لا يَرْبَحُ ، وإنما يجهد ليظل في السوق فلا يغلق ، فإن أَعْيَتْهُ الحيلة فهو يغلق ويتحول بماله إلى عبءٍ زائد على الثروة العامة إذ يودع ماله في المصرف الربوي ، وإذا تكرر المثال : إخفاق في الزراعة والصناعة والتجارة ، فالمال يتحول إلى ورق يكدس في المصارف فلا قوة له حقا في إنتاج ، وقوة الشراء فيه تضعف فهي أبدا تهبط ، وهو ما يُذْكِي التضخم محل الشاهد مع التزام الجهة المقترِضَةِ وهي المصرف الذي يأخذ المال بقسط ربا يعظم ، مع التزامه بالسداد وليس ثم مَوَارِدُ نَقْدٍ فلا إنتاج ولا استثمار يُوَلِّدُ الثروة ، فلا يجد بُدًّا من طباعة النقد وَرَقًا فيزيد التضخم إذ يزيد المعروض من نَقْدٍ بلا قيمة تعدل ، فَعَجَبًا أن يقول قائل : إن علاج التضخم هو زيادة قسط الربا ليجذب المال فلا يكثر في السوق فيزيد منه المعروض مع ضَغْطِ المشترين إذ المال في أيديهم ، فيكون العلاج الناجع إفقارهم باستلاب ثرواتهم بزينة وزخرف ، زِيَادَةً في رقم لا تعدل ما يكون من انهيار في قِيمَةِ النَّقْدِ حَقًّا ، فثم زيادة في السعر تقتص من ربا المصارف قسطا أكبر ، وما بَقِيَ فَلَيْتَهُ يظل على حاله ، بل ثم انهيار مُتَتَابِعٌ في قِيمَةِ النَّقْدِ ، فَلَئِنْ قَبَضَهُ صاحبُه بَعْدًا بزيادة في رقمه فقد محقت بركته تصديقا لآي الوحي المنزل إذ : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، فكان من المضارعة في الآية ما به استحضار المعنى ، من وجه ، وثم آخر به ديمومة واستمرار فذلك أصل يطرد بما كان من السنن الرباني المحكم ، وهو ما يواطئ بحث الاقتصاد المحدث ، فإن زيادة القسط أبدا تُفْضِي إلى محق البركة إما المعنى الألطف في الغيب ، بل ومن الشهادة ما يُصَدِّقُ ، فإذا زاد قسط الربا قَلَّتْ قِيمَةُ النقد بما يكون من غلو السعر ، فكان من كَثْرَةٍ في العدد مع محق في البركة ، فَالرِّبَا إذا قارفه السلطان فاقترض فَلَيْسَ ثم من يسدد إلا العامة بما يُسْتَنْزَفُ من ثرواتهم ، إما المباشرَ بما يكون من جباية تُفْرَضُ ، أو آخر يلطف بما يستقطع من النفقة العامة فأكثرها يذهب في قسط الربا ، فيقصر السلطان أن يستوفي حاجات الرعية إذ لا نفقة به تَبْلُغُ القدر الواجب ، فقد قصرت به عن تكليف الولاية العامة ، فَابْتَغَى الْخَلْقُ ما يسد الحاجة بما لهم من فضلِ مالٍ يبذلونه في سلعة أو خدمة ، فَاسْتُنْزِفَتِ الثروة العامة تارة أخرى ، فهي أولا تستنزف بما يكون من جباية تَزِيدُ لسداد ربا يَسْتَقْطِعُ شَطْرًا مِنَ النَّفَقَةِ العامة يَعْظُمُ ، فلا يجد الخلق من السلطان رعايةً تجزئ مع ما يبذلون من جباية تَفْحُشُ ، فلا تنفق في مصالح عامة ، وإنما تنفق في سداد قرض مع توسع في النفقة الخاصة للسلطان وحاشيته إما تَرَفًا أو آخر به يَسْتَبْقِي ولاءَ مَنْ ينصر ، وإن ظلم وأفحش ، فالسلطان يخشى سخطه فيجتهد في إرضائِهِ ، ولو من نفقة العامة ! ، فلا يرضيهم من مال أبيه أو كَدِّهِ ! ، والعامة مع ذلك يبذلون ثانيا عوضا من سلعة وخدمة قد قصر السلطان أن يمنحها مع ما جمع من المال ومع أول هو عنوان الاستحقاق الذي نال به الولاية أَنْ يَقُومَ بأمرِ العامة لا أن تقوم العامة بأمره وأمرِ حاشيته ! ، فيبذلون عوضا مما قصر السلطان فِي استيفائِهِ ! ، وهو ما يزيد في الفقر بما مُحِقَ من بَرَكَةٍ إن بالظلم أو بالربا فلا يخلو من الظلم زيادةً بلا عوض ، وذلك سحت قد استحله المقرِض بل وله تقصد في الفعل أَنْ يَحْتَكِرَ الثروة فيكون من ذلك طغيان يطرد إذ قد خالف المثال عن وحي السماء ، فاستباح من الربا ما به يطغى ، مع ما تقدم من محق البركة ، فكان من ذلك المضارع الذي اطرد في كل رِبًا ، وشاهد الحال بِذَا يَشْهَدُ كما في أحيان تكثر بل وتطرد فيكون من شهوة الكسب المحرم جمعا لعدد يكثر ، يكون منه ما يُنَاطُ به عقاب بِضِدٍّ أن استعجل صاحبه الكسب ، ولو محظورا فعوقب بضد من الخسران وإن كثر العدد فقوة الشراء قد انخفضت ، فكان من المال في المبدإ ما هو خير ، فجاء الربا فمحق منه جزءا وهو ما يتكرر في أحيان فَيَعْجَبُ الناظر من حالِ صاحبِه إذ يُقَادُ فِي كلِّ مَرَّةٍ إلى حتف ، فيخدع أولى وثانية وثالثة ..... إلخ ، ولا يوعظ بما كان أولا ، فَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يُمْنَحُ قسط ربا أعلى ، ثم يكون من انهيار النقد ما يفجع ، فيكون كثير بلا قيمة ، فَهُوَ قليل في الوصف وإن كَثُرَ في القدر ، وذلك ، كما تقدم ، من مَحْقِ بَرَكَةٍ عاجلٍ ، مع ما يكون بَعْدًا من عقاب يؤجل ، وهو أدهى وأمر لمن اعتبر وكان ذا لُبٍّ ، فكان من ذلك مضارعة تقدمت ، فهي تحكي ديمومة واستمرار ، وهو ما يكون في الحال والاستقبال ، فاستغرق أجزاء الزمان كافة ، وإن قَدُمَ نَوْعُ الفعلِ ، فعل المحقِ وهو من جلال به عقاب ناجز ، فلئن قدم الفعل فَثَمَّ من الآحاد ما يحدث ، وهو لأصل أول يصدق ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مَا اطَّرَدَ فِي كُلِّ فِعْلٍ من أفعال الخالق ، جل وعلا ، فهو قديم النوع حادث الآحاد في الخارج إذ تُنَاطُ الآحادُ بالمشيئة النافذة إذ تُرَجِّحُ فِي بابٍ الأصل فيه الجواز ، فالجائز من فعل المحق إذا حصل سببه من أكل المحرم عامة والربا خاصة ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، من الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فَذَكَرَ الربا وَأَرَادَ الجنسَ الأعم وهو المحرم فالبركة فيه تمحق ، فيمحق الله ، جل وعلا ، الربا إذ يذهب بركته ، وهو ، أيضا ، مما عَمَّ بدلالة "أل" في "الرِّبَا" ، فاستغرق النسيئة والفضل ، المعهودَ زمنَ التَّنَزُّلِ وما كان بَعْدًا من صور تحدث هي من الحيلِ التي مهر الخلق فيها استباحةً لِمَا حَرُمَ ومضاهاةً ليهود إذ استحلوا المحرمات بأدنى الحيل ! ، فكان من الخبر شطر أول إذ : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) ، وعنوان الألوهية ، لو تدبر الناظر ، عنوان تشريع ، ولو سِيقَ خبرا في المبنى ، فإن اسم الإله : اسم التشريع ، فالإله هو الشارع الحاكم ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، وهو مناط تشريع في بابِ مُعَامَلَةٍ ، حَسُنَ أن يسند الفعل إلى اسم الله ، جَلَّ وَعَلَا ، وإن كان الفعل مِنْ أَفْعَالِ الربوبية بما يكون من القدرِ النافذِ عقوبةً ناجزةً ، فلا ينفك الفعل وهو وصف يُذَمُّ ، وَبِهِ وعيدُ المحق والخسران ، لا ينفك يدل على إنشاءٍ يَنْهَى عَنْ أكلِ الرِّبَا ، وكان منه شطر ثان ، وهو وعد به اسْتِيفَاءُ القسمة ، فـ : (يُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، فيكون من زيادة تَنْصَحُ وهي مما به آثار البركة تظهر ، فذلك الربا المباح إذ يكون من الرب الغني الحميد ، جل وعلا ، فَغِنَاهُ ذَاتِيٌّ لَا يُعَلَّلُ ، وله من الحكم ، بداهة ، ما يغاير حكم المخلوق ، فلا يدخل في شرعة تأطر المخلوق ووصفه أبدا الفقر الذاتي فلا يكون من شرعته ما يلزم الغني الغنى المطلق ، فَهُوَ ، جل وعلا ، مَنْ وَضَعَ هذا الشرع المحكم فكيف يدخل في حَدِّهِ وقد وُضِعَ لِخَلْقٍ لهم من الوصف ما يُغَايِرُ بداهة عن وصف الخالق ، جل وعلا ، فلا يقاس الخالق على المخلوق الحادث لا في ذات ولا في اسم ولا في وصف ولا في فعل ولا في حكم ، فذلك أصل يطرد ويستغرق ، وقياس الحكمة ، كما يذكر أهل الشأن ، تَفْرِيقٌ بين المختلفات فلا يدخل الخالق ، جل وعلا ، فيما تدخل فيه المخلوقات من الشرعة والتكليف ، فكان من فعل الربا في حق الله ، جل وعلا ، ما يجوز ، بل به المدح والثناء ، مدح الله ، جل وعلا ، بالغنى المطلق ، ومدح المخلوق المتصدِّق فَلَهُ من وعد ما يَنْصَحُ أن يزيد الله ، جل وعلا ، في صدقته ، وهو مما أُجْمِلَ في هذا الموضع وأبين عنه في آخر ، فـ : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ، وذلك من تَشْبِيهِ التَّمْثِيلِ إذ كان من المشَبَّهِ من المال المنفق في سبيل الله ، جل وعلا ، ما رُدَّ إلى مُشَبَّهٍ به وهو الصورة المركبة من الحبة التي أَنْبَتَتْ سنابل وفي كُلِّ سنبلةٍ حبات تَتَضَاعَفُ ، وذلك مما لا حد له إذ المرجع إلى غَنِيٍّ الغنى المطلق ، فلا يضره العطاء ، ولو بلا حَدٍّ ، فكان من العطف ما حُدَّ ، أيضا ، حد المضارعة من فِعْلِ المضاعفة ، فـ : (اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، وبه استحضارُ صُورَةٍ فِي سياقِ الوعد ، وهو مما يجمل في الحض ، حَضِّ المتصدِّق أن يتصدَّق ، فيكون من ذلك ما به يُحْسِنُ إِلَى الخلق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يَعُمُّ نفعه ، فإن في الصدقة عدلا في القسمة ، فينال كلٌّ حقَّه ، ويكون من ذلك حافز يبعث حركةَ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ فلا تركد ، إذ يستعين الفقير بما ينال من حق الصدقة ، يستعين به في معاشه فيشتري ما يصلحه وهو ما يروج به السوق وَيَنْتَفِعُ به أهله بما يُشْتَرَى من سِلَعِهم ، ففي الزكاة والصدقة رواج التجارة ، بل ولعله يزيد في النفع فيصير الفقير تاجرا بما يستجمع من مال الصدقة فإن كان ذا تدبير فهو يجاوز به حد النفقة إلى الاتجار والكسب ، وذلك مذهب في الاقتصاد المحدَث قد حمل اسم التدفق الفعال إذ يكثر المال في يَدِ الخلق كافة بما تقدم من قسمة تَعْدِلُ ، فيكون من ذلك شراء به رواج السوق ، وهو ما استوجب العدل في النفقة ، فلا تكون كثرة المال في المقابل ذريعة استهلاك لا ينفع ، فباعثه الترف والتنعم ، فذلك مما يزيد في الطلب زيادة تنفع أصحاب الصناعات ، ولكنها لا تنفك ، أيضا ، تزيد في السعر بما يكون من طلب يجاوز الحد ، فيكون من التضخم ما يضر الأدنى من طبقات الخلق ، فمن له مال فإنه ، وذلك الواجب في الشرع والجميل في العرف ، فإنه يَرْعَى حَقَّ غَيْرٍ فيه إن بالعطاء الواجب أو المندوب ، بل وباقتصاد في الشراء لئلا يُضَيِّقَ على الخلق معاشهم ، فيصير إلى احتكار ، ولو احتكار المشتري لا البائع فكلاهما يضر الفقير بما يكون من غلاء في السعر ، فَثَمَّ العدل أن يحصل المال في يَدِ الخلق فلا يكون البخل والتقتير أو الظلم بما يكون من احتكار المال دولةً بين الأغنياء وحدهم ، ولا يكون من زيادةٍ في المال مع سَفَهٍ في الإنفاق ، لا يكون من ذلك مَا الطلب به يزيد لا عن حاجة تُلْجِئُ ، فهي عامة ، وإنما فضول معاش يحتكره الخاصة بما لهم من فضل مال ، فلم يُبْذَلْ فِيمَا يَنْفَعُ من اتجار في مباح أو تَوْسِعَةٍ على الخلق من نَفَقَةٍ على الأهل والولد والخادم والجار ومن له في المال حق واجب من صدقة تجب أو أخرى تُنْدَبُ ، فلا يكون نقص يجفو ولا تكون زيادة تغلو ، وإنما العدل جادة وسطى بين طرفين كلاهما يذم إذ خالف عن معيار الحق .

    وبه يصدق في الإنفاق في سبيل الله ، جل وعلا ، به يصدق عموم يجاوز الصدقة ، وإن كانت هي المتبادر ، فيكون من ذلك ما عَمَّ فاستغرق مصارفَ الخيرِ كَافَّةً ، ولو قَرْضًا يحسن لذي عسرة تفدح ، أو معونة بشركة أو قِرَاضٍ ، فينتفع المانح والممنوح كَافَّةً ، وكل أولئك مما يدخل في عموم السبيل ، سبيلِ الله جل وعلا ، وآخر يستغرق الأموال كافة ، الصامت والناطق ، الخفي والظاهر ، فحصل من ذلك عموم يستغرق وإن كان منه ما تَبَادَرَ إلى الصدقة ، فذكرها في باب التفسير ، من هذا الوجه ، ذكرها في باب التفسير يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عام ، وثم من المضاعفة ما حُدَّ ، كما تقدم ، مجرى المضارعة كما الإنفاق صدر الآية ، فالمضارعة قد اطردت في السياق حُسْنَ مُلَاءَمَةٍ في المبنى والمعنى إذ بكلٍّ الصورة تستحضر ، والمضاعفة مما زِيدَ في دلالته ، فَثَمَّ زيادة بالتكرار ، تكرار الإسناد في قوله تعالى : (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، فَثَمَّ التوكيد بالاسمية وهي مئنة الثبوت والاستمرار ، مع آخر هو تكرار الإسناد ، فاسم الله ، جل وعلا ، هو المبتدأ في المبنى ، الفاعل في المعنى ، مع فاعل آخر قد استكن في العامل "يضاعف" ، ومرجعه أول قد تقدم في لفظ الله ، جل وعلا ، صدر الجملة ، فحصل التكرار من هذا الوجه مع عموم قد استغرق ومناطه مَشِيئَةٌ تَنْفُذُ ، ولا تخلو من حكمة فلا يكون ذلك ، بداهة ، إلا لمن نصح في القصد وشفع ذلك بالبذل ، بذلِ المالِ نفقةً في سبيل الله ، جل وعلا ، وهو دليل السعة في العطاء مع علم يحيط ، فيعلم ، جل وعلا ، باعث المنفق ، ويعلم القصد والنية وما بُذِلَ من العطية ، فحسن ، من هذا الوجه ، الختام بأسماء الواسع والعليم ، فـ : (اللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ، وَقَدْ حُدَّ ، أيضا ، اسمية تحكي الثبوت مع إطناب في الخبر ، فَثَمَّ خبر أول سعةً وثان علمًا ، ولا يخلو السياق ، لو تدبر الناظر ، من تكرار آخر يلطف ، فإن الأسماء المشتقة من السعة والعلم لا تنفك تحتمل الضمير العائد على المبتدإ ، اسم الله ، جل وعلا ، فحصل من ذلك ، أيضا ، تكرار الإسناد ، وإن كان ذلك أضعف من تحمل الفعل فهو أقوى في العمل ، وأقوى في تحمل الضمير المستكن ، ولا يخلو الخبر وعدا ، لا يخلو من دلالة إنشاء تُلَازِمُ حَضًّا على الصدقة رجاءَ حصول الوعد من مضاعفة الله ، جل وعلا ، الأجر المؤجل مع بركة في الأولى تعظم .

    فيربي الله ، جل وعلا ، الصدقات ، وهو ما حد ، أيضا ، حد المضارعة في قوله تعالى : (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، فَثَمَّ المضارعةُ استحضارًا لصورة الفعل مع ديمومة في الوصف واتصال في زَمَنِ الفعلِ ، فإذا حصلت الصدقة حصلت البركة وكان الزيادة رِبًا ينصح لا آخر يمحق الله ، جل وعلا ، بركته بما يكون من ربا الخلق في التجارات والكسب لا آخر في الصدقات وعمومها في الآية قد استغرق الواجب والمندوب ، وإن كانت من جمع القلةِ ، الجمع المزيد بالألف والتاء ، فَثَمَّ من الأداة "أل" ما رَفَدَ جمع القلة فبلغ به حد الكثرة التي تستغرق ما تبادر من الصدقات الواجبة والمندوبة ، بل ثم من صدقات النفقة معنى أعم ، كما في الخبر : "إنَّكَ لن تُنْفِقَ نفقةً تبتَغي بها وجهَ اللهِ عزَّ وجلَّ إلَّا أُجِرْتَ بها حتَّى ما تجعلُ في فَمِ امرأتِكَ" ، وذلك الوعد الباعث على تكليف يحض إن الإيجاب في صدقات تجب أو الندب في أخرى تستحب ، وثم من المقابلة ما استوفى أجزاء القسمة في الخارج ، ومن ثم كان الختام بالخبر إذ : (اللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، فالاسمية تحكي الثبوت والديمومة ، مع إطناب بِتِكْرَارٍ ، تِكْرَارِ الإسناد فلا يخلو من دلالة توكيد تَرْفِدُ الاسمية ، وثم من النفي ما قد عَمَّ فاستغرق إذ تَسَلَّطَ النفي على المصدر الكامن في الفعل ، وثم آخر هو نص في الباب بما كان من دخول النفي على النكرات في قول الرب جل وعلا : (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) ، وهو ، أيضا ، ما دل على إنشاء ينهى عن الكفر والإثم ، ومنه ما يكون من أكل الربا الذي يذهب البركة ، فهو أكثر في رقمه وأضعف في قوته ، ويكون علاج العجز أن يُخَفَّضَ الدخل وَيُسَرَّحَ الجمع بلا ترتيب خفضا لنفقات السلطان الذي يجتهد في استقطاع المال من الخلق لِيُسَدِّدَ مَا عَلَيْهِ من قَرْضٍ ! ، مع رفعِ الدعم ذي البعد الاجتماعي والأخلاقي دون عوض من زيادة في الدخل واستقرار في السعر ، فيكون من ذلك خبط آخر لا ترتيب فيه ولا حكمة ، فليس إلا التعجل والقسوة دون نظر في حالَ ضَعِيفٍ لا يقدر ، فإن من قانون التطور ذي المرجعية الأخلاقية النسبية فلا قيم تثبت ولا فضائل تطرد ، وإنما كل شيء يتطور ، فكذا الأديان والأخلاق ، فإن من هذا القانون فَضِيلَةٌ بِهَا يُسْحَقُ الضعيف فهو عبء يزيد ، وليس ثم لدى السلطان العاجز ، إن الخائن أو الفاسد أو هما معا ! ، ليس ثم لديه ما يُسَكِّنُ به الألم إلا أن يقترض من داخل بأقساط ربا قد زاد فِيهَا لِيُزَيِّنَ الكبيرة وَيُجَمِّلَ ، فَيَجِدُ من المال ما يقترض ، فإذا عجز أن يسد فهو يطبع النقد ! ، فيكون الانهيار في قوته والتضخم آنف الذكر ، فهو يجتهد في جمع الأقساط من ثروة الجمع جبايةً تُقْهَرُ ، فيكون من ذلك استتار كُلٍّ بماله ، فلا يُقْبِلُ على استثمار أو تجارة ، فمآل ما يَرْبَحُ أَنْ يَبْذُلَهُ جبايةً تَقْبُحُ في الدين والدنيا كافة ، فعلام يجهد في كسب لا ينتفع به ولا يكاد يعدل قليلا من قسط الربا الذي تمنحه المصارف لمن يُودِعُ وإن كان من ذلك أن يخرج من سوق التجارة والعمل فيصير العاطل البطال وإن طوعا فهو يطلب زيادة بلا جهد ، فالجهد لا يمنحه قسط الربا ، ولو رَقَمًا ، فإن من بَرَكَةِ الحلال ، وَإِنْ قَلَّ ، ما يعظم وإنما أُلْجِئَ الخلقُ أن يعدلوا عنه إلى ربا محرم بل هو كبيرة تفجع ولبركة المال تمحق ، فتقل جباية السلطان الجائر فقد استتر كلٌّ بماله ، فما فرض من زيادة في الجباية قد أفضت إلى قل أو عدم ، فلا يجد من المال ما يجبي ، وإن وَجَدَ منه ما يقترض بما يمنح من قسط ربا يُجْهِدُ الإنفاق العام إذ يستقطع مه أكثر لسداد ربا يَعْظُمُ مع ما تقدم من طباعة نقد به القوة تَضْعُفُ والتضحم يَفْحُشُ ، وهو ما يزيد في الفقر إذ تعطلت الصنائع والمعايش كَافَّةً ! ، وإذا تَرَكَ عامة الخلق الصنائع النافعة فالمعروض منها يقل وسعرها يزيد إذ الطلب عليها أكبر من العرض ، وذلك قانون يطرد في الصنائع كافة ، فليس الحل أَنْ يَقِلَّ المال في أيدي الخلق وَأَنْ يُرْفَعَ قِسْطُ الرِّبَا في المصرفِ ، وإنما الحل أن يكون التَّوَازُنُ في العرض والطلب مع قدرةِ شراءٍ تَعْدِلُ بما يكون من تَدَفُّقِ النَّقْدِ في أيدي الخلق فهو يزيد في الطلب فيكون من ذلك نشاط لِمَا كَسَدَ ، وَأَنْ يَقِلَّ قِسْطُ الرِّبَا بل ويصير العدم ، فلا تمنح أي زيادةٍ لمالٍ مودَعٍ ، فَتُسْتَخْرَجُ الأموالُ وَتُضَخُّ في الصنائع والتجارات ولو كرها ! إذ بقاؤها في مصرف لا يمنح زيادة ربا ، بقاؤها على هذه الحال خسران إذ تَقِلُّ القيمة بطول المكث ، فليس إلا ضَخُّهَا في سوق التجارة طلبا للكسب ، وهو المشروع بما يكون من الجهد ، فَيَزِيدُ الإنتاج ويقل السعر بما يكون من عرض يزيد مع قوة شراء تعدله بما يكون من تدفق نقد فعال ، كما اصطلح بعض رجالات الاقتصاد المحدثين ، في مثالٍ ذي باعث اجتماعي وأخلاقي يُحْمَدُ ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما سبق إليه الوحي بما كان من مثال تجارة يجمع ، فهو يعطي الفرد حرية الاتجار لا مطلقا وإنما يكون من قيد الحلال والحرام أول ، وله ، لو تدبر الناظر ، غايات تحمد بما استقر من معيار الوصف والحكم وما كان من آثار في الخارج تصدق ، وإن لم يكن درك العلة الأخص شرطا في الإيمان بالوحي ، بل الاشتغال ، كما تقدم مرارا ، الاشتغال بتحرير أدلة الأصل ، أصل التوحيد والنبوة والوحي ، ذلك الاشتغال خَيْرُ ما ينفق فيه الجهد والوقت ، فإذا سلم الأصل بدليل ينصح فالمؤمن لما تلا من فرع يخضع ، فهو يصدق وَيَمْتَثِلُ لا تقليدا وإنما اجتهد في المبدإ فَكُفِيَ مُؤْنَةَ مَا أَتَى بَعْدًا ، فمقال الوحي يُعْطِي الفردَ حرية الاتجار وَإِنْ أَطَرَهَا بالحلالِ والحرامِ ، ويعطي السلطان من القيد أن يكبح جماح الفرد إذا طغى ، مع واجب من تكليف له من البعد الاجتماعي لطيف ، مع واجبٍ أَنْ يَجْمَعَ الزَّكَوَاتِ والعشور وما حَلَّ من الجبايات ، وأن يجري منها الجرايات التي تكفي الضعيف والفقير المؤنة ، بل هي حق عام لكلٍّ وإن قُدِّمَ الضعيف والفقير لمكان الدين وَالْخُلُقِ ، رحمةً قَدْ جُبِلَتْ عليها النفس إلا إذا عدلت بها طبائع الشح والأثرة فخالفت عن مقتضى الشرعة والمبدإ .
    فيكون من ذلك تَوَازُنٌ لا يجنح إلى استبداد الفرد في مِثَالٍ أو استبداد السلطان في آخر بما ينتحل زورا من اسم الجمع وليس منه في شيء ، وإن كان في مثال القسمة أعدل ، ولو في ظاهرٍ يخدع ، فإن ثم من استبداد الفرد ما يخفى إذ اتَّخَذَ اسْمًا به يَسْتُرُ ما قَبُحَ من وصفه أنه الراعي أو الأب الذي ينفق على أطفاله فَلَهُ وصاية في الفكر والسياسة والحرب بما ينفق على الطفل ! ، وإن كان المال ابتداء مالَ الطفلِ ، تَجَوُّزًا أن يُوصَفَ الجمعُ أنه طفل لا يرشد ، فليس السلطان إلا الوصي أن يعدل ولا يأكل إلا بالمعروف إن كان فقيرا ، وإن كان غنيا فالاستعفاف أولى ، لا الاستئثار بكلِّ طَيِّبٍ وإلقاء ما دونه لجمع تحته قد ابْتُلِيَ بسلطانه الجائر وإن زَعَمَ أنه الأب الناصح .

    وكل أولئك مما يبين عن معدن إشكال في حَدِّ المال في الأرض ، فقد أخرجه الربا عن وظيفته في الأرض أن يكون وسيلة بها تَبَادُلُ الأعيان والمنافع ، فصار في نفسه غايةً أَنْ يُبَاعَ وَيُشْتَرَى بزيادة تخلو من العوضِ ، وهو ما يضيق معايش الخلق أن صار المال الذي به يسدون حاجاتهم في الخارج ، أن صار محل التداول في سوقِ صرفٍ يَتَلَاعَبُ بها كبار المحتكرون كما سَائِرُ السِّلَعِ ، فيضارب من يضارب بما يضر الخلق ، وإن كان الاتجار في النقد ، بادي الرأي ، ما احتمل إباحة وصحةً ، أن يكون يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وأن يكون بسعر يومه كما استيفاء القرض بآخر يغاير من النقد ، فتلك صفقة أخرى إذ بِيعَ دينٌ في الذمة بِنَاجِزٍ من نَقْدٍ ، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، في استيفاء دين قد اقترضه صاحبه أو استدانه في صفقة قد قَبَضَ فيها السلعة معجلةً وكان من ثمنها ما أُجِّلَ ، وقد قُدِّرَ بِنَقْدٍ بِعَيْنِهِ من جنسِ مالٍ مخصوصٍ كالدنانير ، ثم حل الأجل فلم يكن ثم دينار يعدل ، فجاز له أن يَرُدَّ الدَّيْنَ دَرَاهِمَ بِسِعْرِ وَقْتِهَا ، وهي من جنس آخر بالنظر في أعيانها ، وإن كان من عِلَّةِ الرِّبَا الأخص ما جَمَعَ الاثنين وهو مطلق الثمنية ، لا جوهرها ، فالمطلق أعم قد استغرق كلَّ مَا اصْطُلِحَ أنه المال ، ذهبا أو وَرِقًا أو وَرَقًا كما الجيل المحدث ، بل ورقما في نظام صرف محدَث ، فلا يملك صاحبه من المال محسوسا ، وإنما صار رقما لا عَيْنَ له في الخارج كما الذهب والفضة وأوراق النقد ، فكان من شفرةٍ مَا اسْتُحْدِثَ ، وهو ما رَامَ به الخلق ، من وجه آخر ، الخروج عن طغيان الْحُكْمِ المحدَث ، أن يسلكوا جادة عنه بمعزل ، فلا ينفك الحكم المهيمن الذي طغى وجاوز الحد ، فلا ينفك يحدث آخر يضاهي من شفرات بها التداول ، وهو محل الصراع المحتدم في الجيل المتأخر ، إذ ثم من يروم كسر القيد ، قيد الحكم المحدث الذي نَالَ من الجمع ، وَصَيَّرَهُ الْأَفْرَادَ أو الذَّرَّاتِ التي تَتَدَافَعُ عَلَى قَاعِدَةِ فَرْدَانِيَّةٍ لا تُقِيمُ وَزْنًا لمصلحة الجمع ، فَغَايَتُهَا أَنْ تحكم سيطرة على مِثَالِ : جزء يحكم كُلًّا ، فالجزء يحكم في مصر أو قُطْرٍ بما احتكر من أسباب القوة باسم السلطان والدولة ، فَقَدْ صَيَّرَ الجمع تحته وإن زعم أنه عنه يصدر ، بما اصطلح في آداب السياسة المحدثة أنه سيادة الأمة ، فهي أفراد قد اجتمعت إراداتهم وصارت هي الاسم الذي يصدر عنه الشرع مرجعا لا يجاوز من الأرض ، فليس ثم مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما به عُطِّلَ الوحي النازل ، فلم يعد ثَمَّ من الأمة فاعل بما نَزَلَ من الوحي فهو يأطرها على جادة حق يميزها من غَيْرٍ ، فَثَمَّ الكليات التي تصوغ المثال الأعم : مثال الهوية والذات التي تحمل عنوان الثقافة والحضارة فَلِكُلِّ أُمَّةٍ منها منهاج لا ينفك يطلب أولا من الشرعة به امتازت الأمم في المرجع ، فَصَارَ الحكم في مثال الأمة آنف الذكر ، صَارَ لجمع يكثر ، وحكمه ، مع ذلك ، لا يسلم من الخطإ ، إذ لا مرجع له يَعْصِمُ من الهوى والذوق ، وهو ما اجتهد رأس المال المرابي الذي يروم التحكم في الخلق بما يحدث من دعاية تُصَيِّرُ الأفرادَ عَبِيدَ لَذَّةٍ فتضعف منهم القوة أن صار الحس هو الغاية فانحطت بهم الدعاية إلى دركة الحيوان الأعجم ، بل كان من مذهب في الفكر ما يُسَوِّغُ إذ تَقَحَّمَ الغيبَ حتى بلغ أصل الخلق فليس الخلقَ المكرَّم الذي نص عليه الوحي المنزل ، بل الأصل مادة قد خبطت عشواء فهي العبث ! ، مع باعثِ غَرِيزَةٍ دنيا قد عَبَّدً الإنسان لشهوة سُفْلَى ، وأصلٍ في الجمع يصيره القطيع الذي يساق فيذوب الواحد في القطيع ، ويؤول الأمر إلى من يُوَجِّهُ هذا القطيع بما احتكر من أدوات التأثير ، مع مثال الصراع الذي ينتحل الانتخاب لقوي يغلب فلا ضعيف يسلم إذ المثال له يسحق ، وهو ما يحسن إذ يخفف العبء ، فَأَكْرِمْ بالوباءِ والمجاعة والحرب ، ولو استحدثت من عدم بما يذكي مادتها فهي تَنْفِي الخبث بما تقتل وتهلك من جوع وعطش وقتل ومرض ، فلا يسلم إلا القوي الذي يصمد ، فوحده من استحق أن يملك فهو السيد الذي لا يحسن في حَقِّهِ وصف الرحمة ، فذلك خور في الطبيعة ! ، كما أُثِرَ عن محمد بن عبد الملك الزيات ، وزير المتوكل العباسي ، فكان أن ابتلاه الله ، جل وعلا ، بالأخير ، ففعل به الأفاعيل تأولا لمذهبه فلم يرحمه كما لم يرحم ابْنُ الزَّيَّاتِ الخلقَ ، وما من ظالم إلا سَيُبْلَى بآخر ظلمُه أشد .
    فكان من المعيار إذ لم يكن ثم وحي يجاوز قد سلم مما لم يسلم منه البشر من العرض الحادث ، كان من هذا المعيار ما اضطرب في باب الأخلاق التي تأطر صاحبها على جادة تمنع ، فهي عن القوادح تحجز ، وهو ما استوجب معيارا محكما من خارج ، فكان من صناعة المثال على هوى المالك الذي احتكر الثروة والقوة ، فصنع من المثال ما اضطرب إذ لكلِّ جيلٍ منه ما يواطئ المصلحة ، ولو كانت عامة معتبرة ما صَحَّ في الباب أن تكون هي المبدأ فإنها إن لم تؤطر على معيار من خارج يحكم فلكلٍّ منها ما يواطئ الهوى والذوق المحدث ، فكيف وهي ، بادي أمرها ، مصلحة أفراد قد زَيَّنُوا لجمع أنها تعم وتستغرق ، وليست تجاوز رَأْيَهُمُ المحدثَ الذي يختلف تَبَعًا لاختلاف الأهواء والأذواق ، وهي مما يَتَبَدَّلُ ، إِنِ الجمعَ أو الفردَ ، فلا تسلم من الاضطراب إلا أن تُرَدَّ إلى معيار من خارج يجاوز ، فكان من الاحتيال على المرجع المجاوز من خارج ، وهو الوحي النازل ، أَنْ قَصَرَهُ الناظر على جِيلِهِ الذي فيه كان ، فإذا ذَهَبَ فَقَدْ ذهب الوحي ، وإن كان من المبنى ما يُتْلَى فذلك لا يجاوز بالقارئ حَدَّ التَّبَرُّكِ ، فالمعنى قد نُسِخَ إذ انْقَرَضَ جيلُه الذي شهد ! ، وكان من تال ما استوجب مثالا آخر يحدث فهو ينسخ الأول إذ صار تاريخا يُؤْثَرُ ، فكان من تال قد استقبل فهو الناسخ تاريخانيةً تهدر المعنى والدلالة وحكم الإلزام في الديانة وإن عَظَّمَتِ المبنى دعوى يُكَذِّبُهَا الفعلُ ، فقد أفرغته من المدلول ، وصيرته دليلا شاغرا يطلب شاغلا من خارج ، وإن خالف عن الأول الذي دل عليه معجم اللسان المفرد وما استقر من دلالة السياق المركب ، فكان من تال ما نسخ وَإِنِ المتشابهَ الذي لا يسلم لصاحبه فقد نقض الأصل الدلالي الأول ، فَنَسَخَ مَا أُحْكِمَ منه بما تَشَابَهَ من الهوى والذوق ، وصار الوحي مثال التاريخ الذي لا يجاوز جيله فإذا انقضى فَقَدِ انْقَضَى أَثَرُهُ ، وصار من جديد ما يعتبر ، وبه يستقبل الجمع شرعا جديدا يَنْسَخُ ، وإن تَلَا المبنى أَمَانِيَّ فَلَا يَفْقَهُ ، وكان من التأويل الباطن ما يسوغ ، ولا يخلو من تحكم في الاستدلال ، ولو دعوى مجرَّدَةً من الدليل وترجيحا بلا مرجِّح يعتبر من دليلٍ أو سياقٍ أو بساطِ حالٍ ، فيكون من ذلك ما يخالف القياسَ المحكم ، فإن الترجيح لا يعتبر إلا أن يكون ثَمَّ مرجِّح من خارج يعتمد ، فلا ينفك الباب يفتقر إلى مرجع من خارج العقول ، فهو يجاوز الفهوم التي لا تفقه إلا ما تدرك بالحس ، وليس وحده مرجع الإثبات في الخبر والحكم ، بل لا ينفك يطلب رائدا من خارج يصدق فلا يَكْذِبُهُ ، فالرائد لا يكذب أهله ، فكذا الوحي وهو الأصدق ، فكان من معياره في الأخلاق ما استقر ، فهو المجاوز من خارج الذات .

    فالتأويل الباطن قد صَنَعَ مِثَالَ الفكرة التي زُيِّنَتْ لجمع يكثر أن يدخل طوعا في قَيْدِ أَفْرَادٍ قد اتخذوا حرية الفرد ذَرِيعَةً أَنْ يَسْتَلِبُوهَا ! ، كَمَا أُوهِمَ جمعٌ يكثر أنه سيد يحكم الحكم المطلق ! ، فكان من سيادته ما أُطِرَ على سيادة قليلٍ يَصْنَعُ لكثيرٍ من الفكرة ما يخدع ، فقليل يحكم بذريعة كثير قد أُوهِمَ أنه من يحكم ، وكلٌّ قد رام الطغيان ومجاوزة الحد مع ما لم يبرأ منه الخلق من نقص ، فجهل وفقر وَأَثَرَةٌ وَشُحٌّ ، فكيف يكون من ذلك مثال عدل في التصور والحكم ؟! ، وإن اجتهد ما اجتهد أَنْ يَنْهَضَ بِمِثَالِ العدل في السياسة والحرب ، فلا يسلم من هوى أو حظ ، ولو لَطُفَ ، فيكون من عدل الْمُلْكِ الأرضيِّ المحدَث ما لا يجحد ، ولكنه ، أبدا ، لَا يُطْلَقُ ، فلا يكون ذلك إلا أن يسلم المرجع من الهوى والحظ ، وليس ذلك إلا المرجع المجاوز من خارج ، فيكون من الوحي حاكم من خارج ينصح فهو يقضي في متشابهات الهوى والذوق بما يكون من محكم الأمر والنهي ، فكان من سيادة الأمة مثال به استعبدت الأمة إذ اسْتَرَقَّتْهَا النخبة ، وهي النخبة المالكة للثروة الصانعة للفكرة ، فيكون من استبدادها ما يلطف ، وإن اتخذت من القوة ما يصلب إذا لم يكن ثَمَّ مَنَاصٌ ، فالقوة تحرس مصالح النخبة التي تحكم الجمع باسم الجمع ! ، فليس إلا حكم الفرد أو الجمع القليل ، وإن لم يصرح ، كما آخر يتخذ مثال الحرية لفردٍ باعث التصور والحكم ، فَثَمَّ سيادة الأفراد وهي مثال ذَرِّيٌّ يصير كلَّ أحدٍ إلها يحكم ، وله من البواعث والحظوظ ما يغاير آخر ، فيكون التدافع بين هذه الذرات لا عن قانون حاكم به المدافعة تَنْصَحُ بل خبط عشواء يضاهي ما انتحل أولئك من خبط عشواء في الخلق الأول ، فكيف يكون منه هذا الخلق المحكم ، وكذا يُقَالُ في خبط عشواء بين الرغبات والحظوظ ، فكيف يكون من ذلك مثالُ مُدَافَعَةٍ يَنْصَحُ ، بل ذلك مما به الاضطراب والفساد يحدث ، فلا تكون مدافعة تنفع إلا أن تكون عن معيار وحي يحكم ، فَثَمَّ من طغيان العقل في باب التوحيد ما أفضى به إلى التعطيل والتمثيل كافة ، فكان من ذلك شرك في المبدإ ، وهما مما تلازم في الوجود ، فإن المعطل الجافي لا ينفك يقع في التمثيل الغالي ابتدءا إذ لم يفقه من نصوص الوحي المحكمة إلا ما يجد بمدارك الحس الظاهر من ماهيات المخلوق الناقص ، فهو المحدَث الذي يفتقر إلى محدِث من خارج ، ووجوده ، مع ذلك ، لم يخل من النقص ، فالجبلة قد صارت على ماهية لا تسلم من نَقْصٍ في المبدأ هو الضرورة التي لا تعلل فهي أصل الخلقة الأولى ، وإن كان من حُسْنِ تقويمِها ما يثبت ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، حجة من الحس تدمغ من يقول بالخبط والصدفة في الخلق ، فكيف يكون هذا الإتقان والإحكام وليس ثم أول قد أُتْقِنَ وَأُحْكِمَ وكان له من قدرة تكوين تَنْفُذُ أَنْ يَتَأَوَّلَ المقدور الأول بموجود تال في الشهادة يصدق ، فَهُوَ بِكَمَالِهِ دَالٌّ على الخالق الأول الذي أتقن وأحكم ، وهو بِنَقْصِهِ شاهدٌ على افتقار ذاتي لا يُعَلَّلُ ، إِنِ النَّقْصَ الذي جُبِلَ عليه بما يكون من الحاجة إلى السبب ، سبب الإيجاد وآخر به الحفظ ، أو آخر بما يعرض من آفة وضعف وهرم ثم فَنَاءٍ ، فَتِلْكَ صفاتٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى ضِدٍّ ، أن يكون الخالق ، جل وعلا ، على آخر من كمال مطلق فهو الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فَغِنًى ذاتي لا يُعَلَّلُ ، وهو ما تَعَدَّى بوصف الفعل إغناءً لِفَقِيرٍ ، فَثَمَّ مِنْ ذَلِكَ الترجيحُ ، إِنْ فِي أصلِ الوجودِ ، فإن وجودَ المخلوقِ المحدَث في المبدإ هو الجائز فلا يجب لذاته إذ لو كان ذلك لكان هو الأول المطلق ولكان له من الغنى ما يَنْفِي افتقاره إلى السبب الموجِد أولا الحافِظ ثانيا المدبِّر ثالثا ..... إلخ من أسباب بها يحصل الوجود في الخارج فلا يكون في المبدإ إذ هو العدم وإن جائزا لا يمتنع ، وهو مَا المثل له يضرب بوصف العلم وهو أصل في التقدير والخلق ، فإن منه الأصل المجرد في الذهن وهو المشترك المعنوي المطلق ، وقد ثَبَتَ منه واحد في حق الخالق ، جل وعلا ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ، وثبت آخر في حق المخلوق الحادث كما بشرت الملائكة الخليل بالذبيح ، عليهما السلام ، فـ : (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ) ، فكان من الاشتراك ما تَنَاوَلَ أصل المعنى ، وكان من الافتراق ما تناول الحقائق المقيدة في الخارج ، فثم علم الخالق ، جل وعلا ، وهو الأول المحيط الذي استغرق المقدورات كافة بل والمعلومات عامة ، ولو المحالات الذاتية فرضا به التَّنَزُّلُ في الجدال مع الخصم ، وهو ، أي علم الخالق جل وعلا ، الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا يكون بالتعليم ولا يكون بالتجريب ، بل إن الفعل في الخارج آثارٌ تحكي كماله ، فكمال الفعل الرباني دليل به تأويل العلم الأول المحيط الذي استغرق المقدورات كافة ، فتأويلها في الخارج ما يكون من الفعل الحادث آحادا ، وإن كان من نوعه ما قَدُمَ ، وثم في المقابل علم المخلوق الحادث ، فهو مما تَقَدَّمَهُ الجهل ، فـ : (اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، فيحصل بالاكتساب ، إذ ثَمَّ من الجوارح ظاهر يسمع ويبصر ، وباطن من فؤاد هو معدن الفكرة إذ تَنْتَظِمُ المقدمات الضرورية في الخارج والتي حصلت بالسمع والبصر ، فيكون من عمل الفؤاد أَنْ يَنْتَظِمَهَا في استدلال محكم يُفْضِي إلى نَتَائِجَ من النظر تَنْصَحُ ، فيكون العلم الحادث بعد أن لم يكن ، ويكون من الكمال ما ثَبَتَ بعد عدم ، وَكَمُلَ بَعْدَ نَقْصٍ بما يكون من تكرار في التجريب والدرس ، وهو ، بداهة ، ما لا يكون في حق الخالق ، جل وعلا ، إذ له من الكمال أول مطلق ، فله من العلم المحيط ما استغرق ، وهو الذاتي الذي لا يعلل ، وهو ما تأويله في الخارج يصدق بآحاد من الفعل تحدث ، فهي آثار الكمال لا كما المخلوق المفتقر إلى سبب من خارج ، فيكون العلم بالتعلم ، فليس الذاتي الأول ، بل الجهل هو الأصل ، وما يكون من كمال في علم يحدث فهو آثار فعل يُجَرِّبُ وَيَرْصُدُ ، وهو يصيب ويخطئ ، ولا يشترط في العلم الحاصل به أن يكون الجازم بل منه ظن غالب ، بل ثم منه ما يظهر فيه الخطأ بعدا وإن كان في زمانه الأصل المحكم ، فذلك مما يحكي نقص المخلوق المحدَث وبه كمال الخالق الأول ، جل وعلا ، يظهر ، إذ بضدها الأشياء تَتَمَايَزُ ، وهو ما استغرق الأوصاف كافة مما يصح فيه الاشتراك المعنوي في الأصل الدلالي المجرد ، فيكون للخالق ، جل وعلا ، منه الكمال المطلق كما العلم آنف الذكر وكما الغنى ، فهما ، من هذا الوجه ، مثال لعام في الخارج يستغرق ، فذكرهما له يُبَيِّنُ فَرْدًا من أفراد عام ، فذكره لا يخصِّص وإنما لجنسه الأعلى يُبَيِّنُ ، ويكون للمخلوق ، في المقابل ، كمال مقيد بما يكتسب من السبب المحدث ، فالأصل جهل وفقر بل وعدم فلم يكن شيئا مذكورا ثم كان ، فلا ينفك وصف الفقر يلازمه إن في أصل الوجود أو ما كان بَعْدًا في الحفظ والرزق والتدبير والسلامة من الآفة ...... إلخ ، فذلك فقر ذاتي يلازم ولا ينكره إلا المسفسط أو الجاحد ، إذ ثم من شاهد الحس ، وهو ما يلزم مُنْكِرَ الغيب ، غيب الخلق الأول وما كان من تقدير في المبدإ وما تلا من إيجاد يصدق وتدبير يفصل بكلمات لا تنفك تَتَنَزَّلُ بأسبابِ رزقٍ ونفع وأخرى بها الضر لا المطلق ، وإنما لحكمة بالغة ترجح ، ولو أن يكون من القدر الفارق ما يميز المخلوق من الخالق ، جل وعلا ، مع ما يكون من نفع أرجح لأجله يُحْتَمَلُ ضُرٌّ هو المرجوح ، فيكون من معيار الحكمة ما ينصح في الترجيح بين المصالح والمفاسد فتلك حكمة يحمد بها المخلوق مطلقا إذ لا تحتمل النقص من وجه ، فالخالق ، جل وعلا ، بها أولى في القياس ، قياس الأولى ، إذ كان من معياره المحكم أَنَّ كُلَّ كمالٍ مطلق قد ثَبَتَ لمخلوق فلا يحتمل النقص من الوجوه كافة ، أَنَّ كل كمال ذا حده قد وُصِفَ به المخلوق فالخالق ، جل وعلا ، به أولى ، ومن ذلك ما تقدم من ترجيح في باب القدر ، فليس الشر إلى رب البشر ، جل وعلا ، فليس له فعلا وإن كان له خلقا لحكمة ترجح بما يكون من خير أعظم في المآل فلأجله يحتمل ما كان من شَرٍّ في الحال ، أو تَعَارُضٍ بين شر وآخر ، فيحتمل الأدنى دفعا لأعلى ..... إلخ ، فكل أولئك من الحكمة ولها حظ من الوحي والشرعة ، بل ثم منها أصل محكم في الأصول ، فثم المصلحة التي أطرها أهل الشأن على معيار حاكم يدق ، وهو ما نَزَلَ من عند الله ، جل وعلا ، شرعا ينصح ، وفيه من وصف الحمد ما يطلق ، لا جرم كان الخالق ، جل وعلا ، بذا أولى ، فكان من اسمه الحكيم ، وهو ما دل لزوما على أسماء العليم والخبير ، وذلك جمال في الوصف لا يكمل إلا أَنْ يُشْفَعَ بآخر من الجلال فهو القدير القهار ، وله من المشيئة ما يَنْفُذُ ، وله من كلم التكوين ما ينزل ، فيكون من تأويله في الخارج ما يصدق أولا من كلمات علم في الأزل يحيط ، فلم ينصح لمشرك في هذا الباب أصل عنه يصدر ، أن يكون من النبوة ما يخبر صدقا ما واطأ قياس العقل المحكم الذي يحكي مسلَّمَاتِ ضرورةٍ تُلْجِئُ ، ومنها المقدمة الأولى في باب الحدوث من العدم ، إذ المحدَث في الخارج لا بد له من محدِث أول ، وهو ما يَتَسَلْسَلُ حتى يفضي ضرورة إلى أول في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، فهو المرجح من خارج بالمشيئة والكلمة ، وهو الموجِب بما نصح من الاسمِ ذِي الدلالة الفاعلة ، ووصف الفعل الذي يصدق بآحاد تحدث ما كان من نوع أول يقدم ، وذلك أصل يطرد في الإلهيات كَافَّةً ، فكان من النبوة ما رَفَدَ هذا الأصل الواجب في العقلِ ، ما رَفَدَهُ بِبَيَانٍ يُفَصِّلُ ، إذ أخبر بالخلق الأول وما كان في المبدإ ، فذلك من الغيب الذي لا يدرك بالحس ، وليس المحال الذاتي الذي يمتنع في العقل ، بل هو الجائز المحتمل الذي يستوجب خبرا من خارج يرجح ، وذلك المرجع الرسالي في الأخبار كما آخر في الأحكام ، فمن قدر وخلق وَصَوَّرَ وَدَبّرَ فهو ، بداهة ، من شرع وحكم فأخبر بوحي هو الصادق وحكم بآخر هو العادل كلمات قد استجمعت وصف الكمال المطلق فَتَمَّتْ إذ قد أخبر الوحي المحكم ، فـ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا) ، فذلك الخبر الذي حُدَّ ماضيا دليل الإحكام والثبوت في نفس الأمر ، وهو ما استوجب أولا من الإتمام ، فالكلمات قد تمت إذ المتكلم بها ، جل وعلا ، قد أتمها ، فكان من التمام في الكلمات والإتمام من المتكلم ، وذلك الوصف الذاتي الذي لا يعلل لما كان أولا من وصف الكمال المطلق ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، فرقان يميز في الأخبار والأحكام كافة ، ومنها الربا ، فإنه إذ حرم في حق البشر فَلِمَا جُبِلُوا عليه من النقص الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ وما كان من وصف الشح والأثرة ، فالفقير يخشى فوات الحظ ، ولو فضولا يجاوز الحاجة ، فتلك خاصة بني آدم ولو صار لهم واد من ذهب ، فيطلبون ثانيا بما زُيِّنَ من حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وهو ما يحمل النفس إن لم يكن لها من الوحي رائد ينصح إذ يلجم نوازع الطغيان في النفس ، فَثَمَّ من التزيين ، وهو من فعل الرب الحميد المجيد ، جل وعلا ، بالنظر في معنى القدر الأعم لا الشرع الأخص ، فالله ، جل وعلا ، يشاء من ذلك ما ينفذ ، وإن لم يحبه فليس يُشْرَعُ ، فَثَمَّ الجهة التي انفكت ، فجهة الخلق الكوني تستغرق الخير والشر ، وجهة الأمر الشرعي تقتصر على الخير ، وإن كان من الشريعة نهي بالنظر في قسمة اصطلاحية أخص ، فإن النهي عن الشر خيرٌ ، ولو بالنظر في لازم ، إذ النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده ، فكان من التزيين ما هو في المبدإ شر ، وإن كان النسبي لا المطلق إذ به يكون خير أعظم ، ولو الآجلَ ، بما ينصح من سنة التدافع ، فذلك شر في جزء يُفْضِي إلى خيرٍ أعظمَ في كلٍّ ، فَزَيَّنَ الخالق ، جل وعلا ، خلقا ، وَزَيَّنَ الشيطان فعلا فهو من باشر الفعل ، وَزَيَّنَتِ النَّفْسُ إذا خالفت عن جادة الوحي ، فَثَمَّ اختلاف في الإسناد ، وليس ثم تعارض ولا تناقض إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، فكان من ذلك التزيين وهو ما عم مذكورات في الآية ، فـ : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) ، ومحل الشاهد منها ، تزيين القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهما مثال المال الذي يجاوز ، فيستغرق كل ما تعارف الناس أنه معيار تُقَوَّمُ به الأشياء ، فكان من ذلك التزيين ما يحمل النفس أن تشح وتبخل وتظلم وتطغى ، ومن ذلك ما تُقَارِفُ من جناية في المال بالسرقة أو الغصب أو الربا ، وهو محل الشاهد ، وبه تحتكر الثروة ، وهو ما يحكي الفرقان المبين بين ربا المخلوق وباعثه فقر ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فلا ينفك صاحبه يظلم لِيَسْتَجْلِبَ من السبب ما به يكمل ، ولو الكمال الحادث بعد نقص ، وهو ما لا يطلق ، فلا يحصل له من ذلك ذاتي لا يُعَلَّلُ ، بل لا ينفك كلما اجتهد في تحصيل السبب ، لا ينفك يُثْبِتُ ضِدًّا من الفقر ، كمن يشرب الماء المالح فلا يَزْدَادُ إلا ضدا من عطش ، فكلما اجتهد في جمع المال من حِلٍّ أو حَرَامٍ وَصَيَّرَ ذلك غاية عظمى ، كلما كان ذلك كان من الفقر ما يزيد ويعظم ، وآثاره في الطبائع تفضح بما يكون من بخل وشح ، وإن مَلَكَ مَا مَلَكَ مِنَ المال الناطق والصامت ، فكان من ذلك فرقان مبين في الباب بَيْنَ رِبَا المخلوق وباعثه الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ وآثاره إساءةً إلى الخلق بما يكون من احتكار الثروة وظلم العامة بما يستنزف من ثرواتهم في مثال ربا مركب لا يكاد يسلم منه أحد ، ولو آثار شؤم تَنَالُهُ بِمَا يكون من التضخم والغلاء ...... إلخ ، فكان من ذلك فرقان مبين بين ربا المخلوق آنف الذكر ، وربا الخالق ، جل وعلا ، فهو على ضد ، إذ يكون ممن انفرد وحده بوصف الغنى الذاتي الذي لا يعلل ، فَرِبَاهُ إحسان منه إلى خلقه إذ لا يفتقر ، بداهة ، إلى ما بين أيديهم ، فهو من وهب ابتداء ، ثم هو يقترض ما وهب ويرده أضعافا مضاعفة ، فذلك وصف كريم لا يخشى فاقة ، إذ الكمال ذاتي لا يعلل بل له من ذلك وصف الأول المطلق ، ومنه مُتَعَدٍّ إلى الخلق ينفع ، فحصل من ذلك فرقان يميز وصف الخالق ، جل وعلا ، من وصف المخلوق الحادث .

    وذلك ، أيضا ، الخبر الذي حُدَّ ماضيا دليل الإحكام والثبوت في نفس الأمر كما في الآي آنف الذكر أَنْ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فكان من ذلك أول في الأزل علما قد أحاط وما سطر بعدا في لوح تقدير محكم وما كان من مشيئة بها ترجيح أول وعنها كلم يَنْفُذُ ، إِنْ كَلِمَ تكوينٍ يَنْفُذُ أو آخر من التشريع يحكم ، فَكُلٌّ قد استجمع الكمال صدقا في الخبريات وعدلا في الحكميات ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، من الخبر ذِي الدلالة الإنشائية أَنْ : صَدِّقُوا الكلماتِ الخبرية وَامْتَثِلُوا الكلمات الإنشائية ، فذلك إيجاب ، وثم سلب ألا تُبَدِّلُوا الكلماتِ ، وذلك لازم في القياس الناصح إذ الأمر بالشيء يستوجب النهي عن ضد ، ومنها كلمات الربا ، محل الشاهد ، فلا تُبَدِّلُوهَا إِنْ بالتعطيل المصرِّح أو بآخر من التأويل يُكَنِّي حَتَّى يُجَاوِزَ في مواضع ، فَيَلْتَزِمَ لأجل ذلك المحالَ الذاتي الذي لا يُحْكَى إِلَّا الفرض المحض تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ، فكان من الأمر ما اقترن بالخبر اقتران تلازم آخر ، وهو ما رَفَدَهُ السياق بِالنَّفْيِ ، فـ : (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) ، وهو الخبر الذي احتمل الأصل فإن الكلمات الكونية النافذة مما لا رَادَّ له ولا مُبَدِّلَ ، وإن كان من الدعاء سبب يشرع ، فذلك مما به سبب يُؤَثِّرُ وله العبد يُيَسَّرُ بِمَا يكون من تقدير أول وتهيئةِ أسبابٍ ، فمن قَدَّرَ أولا فقد قَدَّرَ من السبب ما يدفع بعض المقدور فلا يكون إذ باشر المكلف السببَ ، فَقُدِّرَ له في الأزل أن يباشر فيكون من ذلك تأويل في الخارج ، إذ خَلَقَ له من المحل ذِي القوى أن يختار بإرادة هي مناط الابتلاء ، فلا جبر ، وهي ، مع ذلك ، لا تخرج عن أول من التقدير ، فَثَمَّ خالق أول وَثَمَّ فاعل من الخلق بإرادة هي السبب في حصول الأثر بما يكون من مرجِّح من خارج ، فإرادة الله ، جل وعلا ، تخلق ، وإرادة العبد ، في المقابل ، تفعل ، وليس ثم تعارض إذ الجهة ، كما تقدم في مواضع ، قد انفكت ، وهو ما استوجب أبدا الاستعانة في المبدإ : مبدإ أي عمل من دين أو دنيا ، فلا يكون بإرادة العبد إذ لا تخلق ، فهي سبب لا ينفك يطلب الأول المتقدم مع استيفاء شرط وانتفاء مانع ، فيكون من المجموع المركب ما مَرَدُّهُ إلى أول هو كلم تكوين ينفذ ، فالدعاء سبب في رد القدر ، كما في الخبر ، ولا يخرج في نفسه أن يكون من القدر ، فَيُسْتَدْفَعُ القدر بآخر مثله ، ولا يخرج العبد في كلٍّ عن إرادة الله ، جل وعلا ، وثم من تخريج آخر أخص أَنَّ الدعاء يَرُدُّ القضاء المعلق في صحف الملَكِ لا القضاء المبرم في لوح التقدير الأول ، فكان من الخبر آنف الذكر أن : (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) ، كان منه ما حُمِلَ على الأصل فهو خبر محض إذ حملت الكلمات على الجنس الكوني النافذ ، وكان آخر يحكي الإنشاء نهيا فلا تبدلوا الكلمات ، وهو ، بداهة ، ما ينصرف إلى الشرعيات إن الخبريات فلا تكذبوها ولا تتأولوها تأويلا يخرج بها عن الأصل إلى معنى يبعد أو آخر أفحش ، وهو ما بَطَنَ من الأهواء والأذواق فكان منه التلاعب بأصول الدلالات ، فانصرفت الكلمات في هذا الوجه إلى الشرعيات إن الخبريات فلا تكذبوها ولا تتأولوها ، أو الحكميات فلا تعطلوها ، ومنها كلمات التحريمِ لِرِبًا قد بلغت حد التواتر نقلا وعقلا ، فهي من محكمات تحكي الضرورة العلمية الملجئة ، ولو في أصل التحريم ، وإن وقع الخلاف في بعض فروع ، ومنه ما لا يعتبر إذ قد خالف عن الأصل ، فكان منه الاجتهاد بالرأي في مقابل ما نَزَلَ من النص ، وفساده قد ثبت ، فهو فساد الاعتبار إذ قد خالف عن النص أو الإجماع ، فكان من ذلك إنشاء يَنْهَى عن تبديل الكلمات بما يكون من التعطيل إِنْ لِخَبَرِيَّاتٍ أَشْرَفُهَا الإلهيات في باب التوحيد اسما ووصفا ، أو شرعيات قد أُهْدِرَ فِيهَا الأمر والنهي إِنْ صَرَاحَةً يَتَبَجَّحُ صاحبها إذ الوحي قديم يُؤْثَرُ ، فلا يصح دليلا لجديد يحدث ، بل قد قُصِرَ على جيله وَتُلِيَ أَمَانِيَّ تُقَامُ حروفها وتهدر حدودها ، فذلك تعطيل تال يجاوز التعطيل في الإلهيات ، ولا يخلو كلٌّ من سوءِ ظِنٍّ بالله ، جل وعلا ، أن كان من وصفه ما نَقُصَ ، أو من حكمه ما قَصُرَ فلا ينصح في حكومة عدل في جيل قد تلا جيل النبوة والوحي ، فَثَمَّ النهي عن التعطيل كافة ، وهو ما حُدَّ ، كما تقدم ، خبرا ، وثم من الخبر ختاما ما يلائم ، فهو يثبت من الوصف ما يلابس ، وصف السمع والعلم ، إذ بالعلم قدر الكون وأنزل الشرع ، وبالسمع كان الاحتراز فلا يخلو من دلالة وعيد لمن خالف عن محكم التتزيل بما تقدم من تعطيل أو تأويل ، فحصل من ذلك حسن تلاؤم في الاستدلال ، وهو ما حد ، من وجه آخر ، حد القصر بِتَعْرِيفِ الجزأين في قوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، مع دلالة استغراق لوجوه المعنى وآحاد المسموعات والمعلومات كافة ، وهو مَا رَفَدَ "أل" في كلٍّ فَهِيَ تحكي الكمال المطلق وَهُوَ مَا يُرَجِّحُ العهدَ الخاص إذ لا يكون ذلك إلا لواحد في الخارج هو الرب المهيمن الخالق ، جل وعلا ، وثم من الإطناب في الخبر ، وهو ، من وجه آخر ، ما يجري مجرى السبب ، فإن من السمع سببا في حصول العلم دركا لمسموعات وهو ما يقصره على علم الإحصاء ، وإن كان المصدِّق لما كان من علم أول يقدر ، ولا يخلو الخبر في باب الاسم والوصف ، لا يخلو ، أيضا ، من دلالة إنشاء أَنْ أَثْبِتُوا من ذلك ما أَثْبَتَهُ الله ، جل وعلا ، لنفسه من كمال مطلق بلا شبهة تعطيل أو تمثيل تبطل ، فهي من سوء ظن يُنْهَى عنه في حق الخالق ، جل وعلا ، أن يظن ظان في اسمه ووصفه ما يوجب الاشتراك في الحقيقة والكيف في الخارج مع مخلوق وصفه هو الحادث ، فيكون من آخر التزام ما لا يلزم من تشبيه باطل ، فيجاوز الحد في ضد فيقع في التعطيل ولا يخلو ، أيضا ، من تشبيه ، وإن تشبيه الخالق ، جل وعلا ، بالعدم ، بما يكون من الغلو في التجريد ، والسلامة في الباب وسط بينهما إن في الأخبار أو في الأحكام أن يكون الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل ، فيسلم الناظر من سوء الظن بالخالق ، جل وعلا ، إِنْ غُلُوًّا في التمثيل أو جفاءً في التعطيل ، وبينهما من التلازم ما تقدم ، فكل مُمَثِّلٍ فهو ابتداء مُعَطِّلٌ إذ قد عَطَّلَ الرب ، جل وعلا ، فلم يُثْبِتْ لَهُ انْفِرَادًا بكمالٍ في الوصف هو المطلق فلا يشركه فيه المخلوق المحدَث ، وإن شاركه أصل الدلالة المجردة في الذهن ، وكل معطِّلٍ فهو ابتداء ممثِّل ، إذ ما كان من زيادة في نَفْيِهِ إِلَّا أَنْ مَثَّلَ أولا فلم يفقه من نصوص الخبر إلا ما يباشر بالحس في الخارج ! ، وهو ، من وجه آخر ، ممثل يشبه الله ، جل وعلا ، بالعدم ، وكل أولئك مما يدحضه الخبر الذي قَصَّ في هذا الآي من مسائل الباب السمع والعلم ، فكان الإطناب في الخبر في سياق المدح بما تم من كلمات الخلق والشرع ، وذكرهما ، أي السمع والعلم ، ذكرهما من هذا الوجه يجري مجرى خاص يُرَادُ به عام ، فهو يجاوز جمال السمع والعلم إلى آخر يستغرق ، وهو يشاطر قَسِيمًا له في الأصل ، فَثَمَّ من الجلال ما قَاسَمَ الجمال ، فجلال القدرة والقهر يقاسم ما تقدم من جمال السمع والعلم وبهما جميعا يثبت الكمال المطلق للرب المهيمن جل وعلا .

    والله أعلى وأعلم .


  3. #23
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وذلك ، لو تدبر الناظر ، باب لَا يُتَلَقَّى إلا من مشكاة الوحي ، فهو من غيب شريف يَنْصَحُ العقل بما لا يطيق ، بادي الرأي ، وإن كان يُجَوِّزُ ، في المبدإ ، فإن النقل المصدق لم يأت بما يُكْرِهُ العقلَ الناصحَ أَنْ يُصَدِّقَ بالمحال الذاتي ، فيصير في حرج يَعْظُمُ ، فإما أن يذم باسم ديني في الأسماء والأحكام يفجع ، إِذْ يُوصَمُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَا يُصَدِّقُ ، بل هو على ضد من الكفر والتكذيب ، فصار الإيمان في بعض الملل والنحل هو التصديق بمحال ذاتي لا يجاوز في الحد أن يكون الفرض المحض الذي يُقَالُ فِي سِيَاقِ التَّنَزُّلِ في جدالِ الخصمِ ، فَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ هذا الذم الذي يُرْهِبُ أَنْ لم يُسَلِّمِ التسليمَ المطلق دون نظر أدق يضيع بين الإفراط والتفريط في الباب ، فيكون من الإفراط في استعمال القوة العقلية أن يجاوز بها المستدل ما لأجله قد رُكِزَتْ في الوجدان ، فَهِيَ تَنْظُرُ وَتَعْتَبِرُ ، وهي تسبر دلائل النبوة طلبا لمرجع من خارج يسلم من المعارض إذ حَرَّرَ العقلُ أدلته المصححة ، فحصل من ذلك نقل مصدَّق في باب لا يَنَالُهُ العقل ، بادي الرأي ، وإن لم يخالف عن مقدمات الضرورة العلمية ، فالوحي يرفد العقل بما ينصح من غيوب لا يستقل بِدَرَكِهَا ، دركَ الماهية في الخارج فليست من المشهود الذي يُنَالُ بالحس ، وإنما العقل يجوزها التجويز المحض ، فهي الجائز المحتمل فَلَهَ طرفان فد استويا فلا ينفك يطلب المرجِّح من خارج ، فكان منه آي وخبر ينصح ، فإذا صَحَّ فهو المذهب في العلم والعمل ، في التصور والحكم ، وذلك ما استوجب في تحرير الأدلة : أدلة الصحة ، مَا اسْتَوْجَبَ الدليلَ الكلِّيَّ الذي يشهد بصحة الأصل ، أصل الدعوى الرسالية ، واستوجب آخر في الأدلة الجزئية فما تواتر فقد جاوز القنطرة إذ يفيد العلم الضروري الذي يَحْدُثُ لكلِّ أحدٍ بلا سابقِ نَظَرٍ ، وما كان آحادا فَثَمَّ من معيار التصحيح ما أُحْكِمَ مَعَ مَا احْتَفَّ بِقَرَائِنَ تَشْهَدُ ، إن بالصحة التي تظهر إذا كان ثم استيفاء لشروط تَنْصَحُ ، أو بِضِدٍّ إذا كان ثم من العلة القادحة ما يخفى .

    فيكون من الإفراط في استعمال القوة العقلية ما به يعارض المستدل ما نصح من الوحي ، فلا يستدل بِهَا في إثبات الدعوى والنظر في حال المدعي ، فتلك قرينة تشهد من جُمْلَةِ قَرَائِنَ ، فَثَمَّ دليل أول أَنَّ الدعوى في نفسها جائزة لا تمتنع ، وثم من تال نظر في حال المدعي ، وثم ثالث في آحاد ما جاء به من الأخبار والأحكام ، فلا يخبر بالمحال الذاتي ولا يأمر بالفحشاء أو ما قد عُلِمَ ضرورةً قُبْحُهُ الذَّاتِيُّ ، وثم رابع بالنظر فيما اتصل من أخبار النبوات إذ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ يَشْهَدُ ، والسابق منها باللاحق يُبَشِّرُ ، مع ما كان من أحوال التابع فهو دليل على دين المتبوع ، فحصل من علم السيرة النبوية وما تلا من خلافةِ رُشْدٍ قد نص عليها الوحي ، كان من ذلك ، لو تدبر الناظر ، تأويل يصدق دعوى النبوة ، فَإِنَّهَا عِلْمٌ ، والسيرةُ والخلافة عمل يصدِّق ، وما كان من غلبة ونصر ، ولو بعد ابتلاء يمحص ، وما تواتر في الخارج من آثار المكذبين فهي شاهدة بالحق ، إذ بِهَا الطَّرْدُ والعكسُ ، فمن كذب فَلَهُ من ذلك الجنس ، جنسُ العذابِ ، وإن كان من اتصال التاريخ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ما به سنة المدافعة أصل في الأمة الخاتمة ، فلا عذابَ استئصالٍ فِيهَا ، وإن كان من آيه ما به اعتبار بجزء لا بكل ، ومن صدق فهو على ضِدٍّ يَنْصَحُ أَنْ يَنْجُوَ ، وإن كان من القتل شَيْءٌ فَبِهِ اتُّخِذَ شَاهِدَ عدلٍ على صحة الوحي ، فـ : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) ، وكذا ما كان من علوم محكمة ، هي ، كما يقول بعض من حقق ، دليل صدق يشهد ، فهي الحكمة المحفوظة ، وشاهدها من النبوة الخاتمة أَسْفَارٌ منقولة قد دَوَّنَهَا العلماء بما تحملوا من إرث النبوات ، فكان صنيعُهم آيةً تَحْفَظُ ما نَزَلَ من الوحي المحكم ، المبنى والمعنى ، الأصوات والكلمات والنحو الذي ينظم الكلمات في سلكه ، والبيان الذي يفصح عما أحكم من دلالاته ، وَلَطُفَ من إشاراته ، لا التأويل الباطن الذي يأتي على الأصل بالإبطال ، وإنما آخر يستنبط وليس في الدليل يَقْدَحُ ، فكل أولئك مما به العقل ينصح في الباب .

    فلا يكون الإفراط في تَنَاوُلِ الأدلة العقلية ، ولا يكون آخر هو التفريط الذي يهدر دلالة العلم ، فيخالف عن صرائح المعقول التي تحكي الضرورة العلمية الملجئة في المقدمات الاستدلالية ، كما تقدم في مواضع ، من مُقَدِّمَةٍ أولى في الخلق أن المحدَث لا بد له من محدِث ، وَأَنَّ ثَمَّ مَادَّةَ تَسَلْسُلٍ لَا تَنْفَكُّ تطلب الحسم وإلا ما كان وجود ولا خلق ، وكما في مُسَلَّمَاتٍ في باب الاتجار والصفق ، ومنها الربا ، محل الشاهد ، فَإِنَّهُ ابْتِدَاءً من المحرَّم في أدلة الوحي المحكم ، وهو ما يجزئ المؤمن الذي بَحَثَ بَحْثَ التحقيق في أصلِ النبوات الأول ، أصل العصمة الرسالية ، فَقَدْ كُفِيَ مؤنةَ ما تلا ، فدخل في حد التسليم لا عن تقليد وإن أجزأ في اسم ديني ينفع ، ولو الأدنَى ، فكان من المؤمن الذي اشتغل بالأمر فهو مناط السعادة والنجاة ، وهو أشرف ما تناوله العاقل إذ لا غاية أشرف من غاية تستغرق الأولى والآخرة ، فكان من هذا المؤمن المسدد تحقيق لا تقليد ، فدخل في حد الآي المحكم ، فـ : (مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ، وذلك قضاء يجاوز المتبادِر من قضاء في الخصومات ، فَثَمَّ قضاء بالخبر الصادق كما الحكم العادل ، وثم قضاء في خصومة أولى في أصل التوحيد والتشريع ، فتلك خصومة الرسالة مع الحداثة ، فَثَمَّ مرجع الوحي من أعلى ، وثم آخر من الوضع هو الأدنى إذ صدر عن عقل لا يخلو من هوى وذوق إن لم يكن ثم مرجع من خارج يعصم ، فما الربا ، من هذا الوجه ، إلا فرع عن أصل ، فمن حَرَّرَ الأصل فقد كفي المؤنة ، مع بحث تال يطلب الحكمة والعلة لا جدالا يَتَلَمَّسُ شبهاتٍ في أدلة ، أو احتيالا يستبيح المحرمات ، وإنما طلب نَظَرٍ يَنْفَعُ وبه التعليل يَنْصَحُ طردا وعكسا ، فهو مما عُقِلَ معناه ، وإن وقع فيه الخلاف السائغ ، في تخريج المناط ، فبحثه بحث المؤمن ، فإن بحث فمن باب : (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، فيطمئن القلب بما يكون من آي الصدق والعدل ، مع ما ينتفع بَعْدًا بما حَرَّرَ من العلة التي يقيس بها الحادث من الفرع على الثابت من الأصل لِعِلَّةٍ تَجْمَعُ ، وهي معنًى العقلُ له يدرك الدَّرَكَ الأخص الذي يجاوز حكمة أعم لا تنضبط في أحيان تكثر .

    ومرد الأمر ، لو تدبر الناظر ، الإيمان بالغيب ، وهو خاصة العقل الناصح الذي يجاوز مدارك الحس التي استوى فيها الإنسان والحيوان مَعًا ، وذلك مما يَعْجَبُ الناظر فِيهِ بما عم من بَلْوَى في الجيل المتأخر ، أن صار إنكار الغيب فضيلة وهو ما يقصر صاحبه على مدارك الحس التي اشترك فيه الإنسان وَسَائِرُ الأنواعِ الحيوانِيَّةِ ذات العقل الأدنى الذي لا يدرك من القياس إلا القياس على محسوس قد اخْتُزِنَ في العقل بما يكون من وجدان الحس لَذَّةً أَوْ أَلَمًا فتلك بَوَاعِثُ الحركةِ الحيوانيَّةِ ذات الطبائع الشهوانية فلا تجاوز مَدَارِكَ الْبَدَنِ ، ومعيار الكسب والخسارة فلا يجاوز المعجَّل ، كما الربا محل الشاهد ، فإن باعث الشح والأثرة يفسد التصور أن يكون من المصلحة خاص يضيق فَلَا يَرُومُ إلا ما يصلح الفرد ، وإن أضر بالجمع ! ، فمنه زيادة تحرم ، وإن كان ثم من عوض ما يخالف عن حد الربا الأخص في آي الوحي وخبره ، فإن من الزيادة غبن يَفْحُشُ في الْبُيُوعِ ، وهو ما حده أهل الشأن بما اسْتَقَرَّ من العرف ألا يكون ثم ما يخالف عن العادة الجارية في السوق ، فيكون من الزيادة ما لا عوض له يضاهي في عين السلعة أو جودتها ، فتلك زيادة تخلو من العوض فتدخل في حد الربا الأعم ، من هذا الوجه ، وكذا ما يكون من صنيع بَعْضِ مَنِ اتَّجَرِ أَنْ يُوقِعَ الضرر بغيره ، فيكون من سعره ما ينقص لا رحمة بالخلق وإنما إضرارا بغير مع ما يكون بَعْدُ من احتكار إذ يخرج عامة التجار من سوق تخسر أن ليس ثَمَّ إلا تاجر أوحد ، لا عن دراية ونصح ، وإنما جشع من لا يطيق غيرا في منافسة تُشْرَعُ ، فذلك مما يقبح فِي بيع وشراء من غِشٍّ أو احتكارٍ إذا ضاقت الأرزاق أو نَزَلَتِ النَّوَازِلُ فَصَيَّرَهَا بَعْضٌ مَتْجَرًا لا ينظر فيه إلا نظر الجمع والمنع ، فليس إلا الكنز الذي يستعجل به الْكَانِزُ حَظَّهُ في الأولى ، فهو يمهر أن يربح المال ، ولا يجاوز إلى آخر معياره الحسنات والسيئات ، فذلك ما افْتَقَرَ أولا إلى مرجع من خارج يجاوز ، وله في حد الأشياء معيار آخر يجاوز معيار الحس ، فَيُجَاوِزُ أخلاق التجارة والكسب المجردة فلا شريعةَ من وحي محكمة إلا جملا من الكليات المجملة التي تَرْفِدُ الدنيا بما يزيد فيها ، فهي الغاية وإن كان من الدين شيء فهو حافز يَبْعَثُ لا أصل عنه الدنيا تصدر ، فليس الغاية في التصور والحكم بل ما خالف منه عن الحظ والهوى فهو هدر في الدراية وإن عُظِّمَ في الرواية ، فيكون من تلاوته أماني لا تُفْقَهُ إذ ليس ثم انقياد واستسلام ينصح المحلَّ بمادة الإخلاص في القول والفعل فيكون الوحي هو المرجع في الحكومات كافة ، لا في بَعْضٍ دون آخر تحكما يُفَرِّقُ بين المتماثلات من الأخبار والأحكام .

    فثم من الأخلاق : أخلاق المنفعة ، وهي مجموع مركب لدى من نظر في تاريخ المذاهب في دين المسيح ، عليه السلام ، بعد طروء التبديل والتحريف ، فكان من المذهب ما قد تَأَخَّرَ فظهر في عصر وسيط مظلم ، وكان من تجديد فيه قد نَفَعَ بَعْضًا ، وإن لم يكن منه رجوع إلى دين النبوات الأول ، دين التوحيد المحكم ، فكان من ذلك المذهب المحدث أَنْ خَفَّفَ من غلواء الكهنة ، ولو بعضا ، وَنَاجَزَ بَعْضًا مِنْ مَظَاهِرِ الوثنية التي دخلت في دين المسيح ، عليه السلام ، بما كان من أَثَرَ أديان من الأرض قد خرجت فلا نسبة لها إلى السماء تَنْصَحُ ، وما كان من ذلك فهو من بَقَايَا فطرة أولى ، فأدخل من أدخل في دين المسيح ما لم يَشْرَعِ الوحي المنزل ، كما أدخل بَعْدًا عمرو بن لحي الخزاعي ما أدخل من عبادة الوثن على دين الخليل ، عليه السلام ، وهو الدين الْمُتَّبَعُ إذ نَصَحَ توحيدا هو مِلَّةُ النبوات كافة فما أشرك أصحابها بالله ، جل وعلا ، شيئا ، إذ كان من دين الاعتقاد ما اتَّفَقَ ، وإن كان من شرائع الأحكام ما افْتَرَقَ ، فكان من ذلك المذهب ما خَفَّفَ غلواء الكهنة ، ولكنه لم يرد الأمر إلى مرجع الوحي المجاوز ، بل كان من ركون إلى العقل ، وذلك مما يحمد تَبَعًا لا أصلا ، فيكون من الوحي رائد ينصح في القول والعمل كافة ، لا أن يكون العقل هو الأصل ، مع ما جُبِلَ عليه من النقص والجهل وما يطرأ له من آفة وخلط ، فكان من إخراج الدنيا من الدين ، ولو مَبْدَأَ مذهبٍ قد عمت به البلوى بَعْدًا ، وكان من تعظيم السعي والكسب بالتجارة والصفق ، كان من ذلك ، أيضا ، ما يحمد في الجملة ، وإنما زِيدَ فيه أن جاوز بالكسب فَصَيَّرَهُ مبدأً آخر جعل رأس المال أصلا قد افْتَقَرَ إلى تأصيل في الأخلاق ، فكان من الأخلاق التي تحصل بها الكثرة ، كثرة المال ، ولو من طرق لا تُشْرَعُ ، كما الربا ، إذ صار في الجيل المتأخر ذريعة بها التراكم الذي يفضي إلى الاحتكار ، فكان من رأس المال ما فَحُشَ ، فصار كَنْزُهُ فضيلةً ، وصار الاشتغال بتثميره غاية ، وهو ، كما تقدم ، مما افتقر إلى معيار من الأخلاق ينصح إذ يرفد المذهب بذرائع تحمد ، وقد يحصل لصاحبها ورع وزهد ، ويكون منه أمانة وصدق ، ولكنه لا يشفع ذلك بمعنى أخص من النية والقصد ، فذلك قدر يزيد ، وإن تماثلت الصور في الورع والزهد ، فَثَمَّ من يزهد وغايته لا تجاوز الكسب المعجل ، وإن أحسن إلى غَيْرٍ ، وذلك من فطرة أولى تنصح ، فذلك عمل حال التجريد يحمد ، ولكنه لَا يَنْفَكُّ يحمل من القيد ما يميز ، وهو ما اسْتَوْجَبَ نَظَرًا أول في المرجع والمصدر ، مرجع الفكرة والحركة ، فَثَمَّ من لا يجاوز المعجَّل مِنَ النَّفْعِ ، وَإِنْ عَمَلًا في الخير فإن آثاره ، بداهة ، مما يُعَجَّلُ في الحالِ ، فذلك ما استوى فيه طالب الدنيا وطالب الآخرة ، إذ صورة العمل في الخارج واحدة ، وَإِنِ اختلفت الحقيقة الأخص في الخارج ، فَيَجْرِي ذلك مجرى الجنس العام الذي تَنْدَرِجُ فِيهِ آحاد ، فَثَمَّ مَنْ قَيَّدَهُ بتوحيدٍ في القول وإخلاص في الفعل ، فاستجمع من الصحة أَوَّلًا لَا يُقْبَلُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلا به ، وَتَالِيًا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ إِذْ شُفِعَ التَّصَوُّرُ بالحكمِ ، فَلَمْ يكن عطاؤه إلا وَقَدْ تَصَوَّرَ جزاءَه الأوفي في دار الحساب والجزاء ، وتلك تجارة تنصح لم يخرج صاحبها عن معيار الكسب ، فلا عاقل يَبْذُلُ شَيْئًا في الخارج إلا وهو يَرُومُ أكثر ، إن تجارةً مع غني الغنى المطلق ، فـ : "اللهُ أكثَرُ" ، فإذا أكثر الخلق من العمل الصالح ، فالله ، جل وعلا ، أكثر في الجزاء الناصح ، فَهُوَ الكريم الذي يمنح ، وهو الشكور الذي يشكر قَلِيلًا فَيُصَيِّرُهُ كَثِيرًا ، فإن تجارةً مع غني الغنى المطلق ، وليس ذلك إلا الرَّبَّ المهيمن جل وعلا ، أو آخر مع الخلق رَغْبَةً فِي ثَنَاءٍ أو مدحٍ ، أو رغبة في خَيْرٍ تُصَدِّقُ ما رًكِزَ في الوجدان من معيار الحسن والقبح ، فإن مِنْ فِعَلِ العطاءِ ما به النفس تَسْعَدُ ، وإن لم يكن لها من الوحي أول يصحح ، فَثَمَّ مَنْ يَفْعَلُ الخير طبعا لا قَصْدًا أشرفَ يجاوز الأولى إلى آخرة تَفْضَحُ ، إذ يستبين كُلٌّ أبكى أم تَبَاكَى ، وثم من يفعل الخير رجاء محمدة تعجل ، وثم من يفعله رجاء سلامة في البدن والمال والذرية ، وَإِنْ نَصَحَ فِي القصدِ فما جاوز الحس ، وهو ، كما يقول بعض من حقق ، مناط من الشرك يدق ويخفى ، فهو أخفى من الرياء المصرَّح ، فلا يخلو من إخلاص ، ولكنه لا يجاوز الحال فلا يطلب ما تلا في المآل ، وهو ما أصابه المسدَّد إذ كان من الغاية والقصد أول ، أَنْ حَرَّرَ مادة التوحيد المصحِّح لما تلا ، وكان من نظر آجل ما به يُتَاجِرُ ، فيطلب من الربح أكثر ، وإن نسيئةً غَيْرَ معجَّلٍ ، وثم من صرح فلم يُكَنِّ ، فلا يطلب إلا الكسب المجرد ، ربا يزيد بلا عوض ، وذلك الربا في الاصطلاح الأخص ، وثم آخر أعم فيكون من الزيادة غرر وغش ..... إلخ ، ومنه ما يحتكر به الكَانِزُ ، فيظهر نصحا في ثَمَنٍ أقل ، وهو يروم إضرارا بغير ، فَلَهُ من خاصة السلطان ما به يُدَاهَنُ ، طَوْعًا أو كَرْهًا ! ، مع ما يضع من شريعة جور بها يميز نفسه من غير ، فلا يَكْلَفُ ما كَلَفَ الثاني ، فَيَهُون عليه البيع بثمن بخس ، فهو كالسارق ، فإذا باع المسروق ، ولو بِعُشْرِ ثمنه ، فقد ربح ! ، فكذا الأول فهو سارقٌ لجهدِ غيرِه بما يُسَخِّرُ ، وهو سارقٌ لحَقِّ العامة في أثمانِ خَامَةٍ أولى يَنَالُهَا أرخص لا عن سبب يُشْرَعُ ، وإنما يميز نفسه في مُدْخَلَاتٍ وأدواتٍ ووقودٍ ....... إلخ ، فَيَضُرُّ غيرا بما يكون من سعر أدنى ، ويضطره أن يخسر إذ يَنْزِلُ بالسعر ، فَيَخْتَزِلُ من ربحِه شطرا ، وَيُضَيِّقُ من صناعته أو تجارته فلا يَتَوَسَّعُ ، ويكون من عُمَّالِهِ وَصُنَّاعِهِ مَا يُنْقِصُ تَوْفِيرًا فلا يزيد فينفع غيرا بما يكون من أجر يبذل في عمل ذي عائد يعتبر ، فمن ذا يبذل أجرا في سلعة يعلم أنها تخسر ؟! ، لا أنها فاسدة أو كاسدة ، وإنما غاب العدل في السوق بما كان من احتكار يضر الجمع كافة ، وإن كان ظاهره رحمة بالخلق أن يَنْزِلَ بالسعر ! .

    والشيء بالشيء يُذْكَرُ ، فلا ينفك كلُّ أولئك يحمل من روح التأويل ما به تُكْسَى الحقائقُ الباطلة لحاءً من الحق يحسن ، وله في معيار الحداثة مسالك تدق ، ومنها ما اصطلح لدى جيل تأخر أنه البنيوية التي تعالج الحقائق دون نظر يجاوز ظَرْفَهَا الراهن ، وله فِي الربا ، محل الشاهد ، له من التأويلات ما يخرج به عن وضعه الأول في اصطلاح الوحي المنزل ، وهو المرجع في التشريع والحكم ، فلا يفسر لفظ بمعزل عن سِيَاقٍ يُفْهِمُ ، وهو ما اسْتَوْجَبَ قَرَائِنَ من خارج بما يكون من نظم مركب ودلائل من البيان تَلْطُفُ ، وثم ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، ثم آخر من سياق التاريخ الذي يَكْسِرُ النُّظُمَ المغلقة لدى مناهج من التأويل محدثة إذ تَرُومُ بَتَّ الصلةِ بَيْنَ الألفاظِ وسياقها الدلالي الأول ، فَيُقْصَرُ معجمُ الكلام في كُلِّ جيلٍ على عُرْفِهِ في النُّطْقِ فَلَا يجاوز وإن كان النَّصُّ من جيل آخر ذِي عُرْفٍ يُغَايِرُ عن عُرْفِهِ ، وهو ما يُفْضِي إلى إبطالِ الدلالة المجاوزة لجيل النطق الأول ، فقد انتهى مدلوله بانقراضِ جِيلِه ، وتلك ذريعةٌ بها تَوَسَّلَ مَنْ تَوَسَّلَ أَنْ يُبْطِلَ دلالات الوحي المحكمة ، وبل وأخرى من اللِّسَانِ مفهِمَة ، فكان من التَّارِيخَانِيَّةِ اصطلاح آخر قد أُحْدِثَ ، وبه بُتَّتِ الصلة فلا يجاوز المتأَوِّلُ بمدلولات الوحي الاصطلاحية الأخص كَمَا تَنَاوَلَتْهَا دواوين الاعتقاد والفقه ، لا يجاوز بها الجيل الأول ، وإن استصحبَ الألفاظَ وهي الأدلة لِئَلَّا يُقَالُ إنه لألفاظ الرسالة لا يُوَقِّرُ ! ، بل هو يؤمن بِهَا ، ويستصحب نُطْقَهَا ، مع قيد به يحترز أن يُلْزَمَ بأي قَيْدٍ في الاستدلال ، فكان من ذلك ما اصطلح أنه الْبُنْيَوِيَّةُ ذات النظام المغلق الذي لا يجاوز في التأويل جيل المتأَوِّل بما حدث بَعْدًا من الاصطلاح والعرف فصيره حاكما في ألفاظ قد نَزَلَتْ على اصطلاح آخر تَقَدَّمَ ، فَيَتَحَكَّمُ الناظر في الإطلاق وَالتَّقْيِيدِ بما يواطئ محدَث التأويل فلا يُلْزِمُ نَفْسَهُ أن يُفَتِّشَ في تاريخ الألفاظ وما طَرَأَ من الاصطلاح المحدَث فَلَيْسَ حكما على أول قد تَقَدَّمَ ، فالكلام ، كما يقول بعض من حقق ، لا يفسر إلا بِعُرْفِ جِيلِهِ الذي به قد تَكَلَّمَ ، وتلك ، كما يقول بعض من صَنَّفَ ، تلك آفة قد عظمت بها البلوى في كل بحث ، وقد ضرب له المثل بِالْوَقْفِ ، فَثَمَّ مَنْ تَنَاوَلَهُ التَّنَاوُلَ البنيَوِيَّ آنف الذكر ، إذ قصره على ظرف تاريخ واجتماع لا يجاوز فَلَئِنْ كان يَنْفَعُ فَفِيَ زمن قد تقدم ، لا آخر محدث قد استبدلت فيه الحداثة مثالها في السياسة والحكم بآخر قد جاء به الوحي ، فَاسْتُبْدِلَتْ دولةُ الحداثة بحكم الرسالة ، وكان للأولى من الإذن ما يسبق ، فهي المرجع المجاوز ، وما يكون من شرائع فلا اعتبار بها ما لم تواطئ معيار الحكم المحدَث ، كما أن العقل قد أبى الانقياد لمرجع من خارج يجاوز ، فذلك أصل أول في الخصومة ، أصل الإذن ، عمن يصدر ، وهو ما أبان عنه الوحي في محكم آي منه تَسْتَنْكِرُ وَتُبْطِلُ : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وهو ما تناوله التوكيد قياسا في لسان العرب أن قُدِّمَ الظرف "لهم" وحقه التأخير ، وهو أصل يُسْتَصْحَبُ في الباب إذ تقديم ما حقه التأخير مئنة من الحصر والتوكيد ، مع دلالة اللام على الاختصاص وذلك آكد في النفي إذ ورد فِي سِيَاقِ الإنكار ، ولا يخلو من تسجيل الجناية أن عدلوا عن أحكام الديانة المنزلة إلى أخرى من الوضع محدَثة ، وَثَمَّ من اسم الشريك "شُرَكَاءُ" ما أَبَانَ عَنْ قُبْحِ الْفِعْلِ إِذْ كَانَ من محدَث الشريعة ما أشرك به المحدِث فَضَاهَى به الوحي المنزل ، فكان من اسم الشركاء ما أُطْلِقَ ، فهو يستغرق شركاء في التكوين بما يكون من شرك التأثير بما كان من اعتقادِ ضُرٍّ أو نَفْعٍ في كائن محدَث لا يستقل بالفعل ، وَإِنْ كَانَ ذَا تَأْثِيرٍ بما له من وصف ، سواء أَرُكِزَ فِيهِ كما الأسباب الفاعلة في الكون ، فَإِنَّ النار ذَاتُ أَثَرٍ يُدْرَكُ بالحسِّ ضرورةً لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسط ، فَثَمَّ أَثَرُ الحرق بما رُكِزَ فِيهَا طَبْعًا من قوة الإحراق ، وإن لم تكن ذات علم أو اختيار ، فهي تفعل بالطبع لا بالإرادة ، وهي تُؤَثِّرُ في أيِّ محل يقبل آثارها ، فلا تميز حَسَنًا من قَبِيحٍ إذ لم تخاطب بالتكليف ، وإنما خوطب به من يحرق بها ، إذ له عَقْلٌ واختيارٌ ، وله تكليف فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي التَّرْكِ ، ولا يكون ذَلِكَ إلا في محل يَعْلَمُ وَيُرِيدُ ، وهو ما يجاوز العلم بِالسُّنَنِ الكونية إلى آخر من سنن الشرع ، وبه يميز الخبيث من الطيب ، فكان من الوحي ما وَاطَأَ القياس المصرَّح والطبائع الناصحة من الكدر فطرةً لم تُبَدَّلْ فهي ترغب في الطيب وَتَرْغَبُ عن الخبيث ، ومناط أولئك : عَقْلُ تَكْلِيفٍ أول ، فهو يجاوز عقل الطبع بما رُكِزَ في الأعيان من غَرَائِزِ الْحِسِّ ، فذلك مما يستوي فيه عامة الخلق ، وإن كان للإنسان المكلَّف منه وصف أكمل وَقِوًى في الخارج تَنْصَحُ ، فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ ما يجاوز الحيوان الأعجم ، تأويل التكريم والتفضيل في قول الرب الحميد المجيد تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ، فكان للإنسان منه فضل أول في الأعيان مع ثَانٍ أَشْرَفَ وبه التكليف بالأديان خبرا وحكما ، فذلك وحي قد تَنَزَّلَ فَوَاطَأ في النفوس فطرة تنصح ، بما كان من معيار الحسن والقبح ، فهو أول في الوجدان قد رُكِزَ ، فلا ينفك يطلب التفصيل من خارج شرعة حاكمة تأمر وَتَنْهَى ، وعنها يصدر في الأفعال كافة ، كما فعل الإحراق بالنار ، فالمحرِق يخاطب بالتكليف أمرا أو نهيا ، أن يحرق بها ما يجوز بل ويجب في مواضع ، وإن كان الأصل في هذا الفعل خاصة المنع ، فلا يعذب بها إلا من خلقها ، جل وعلا ، إلا أن يكون القصاص فَمَنْ حَرَّقَ حُرِّقَ ، وَأَلَّا يَحْرِقَ بِهَا في مواضع النهي كما التعذيب والإيلام بلا وجه حق ، وكما حرق المتاع وما هو مُقَوَّمٌ في الشرع ، وإن جاز ذلك ، أيضا ، في القصاص ، وَإِنْ كَانَ ذلك مما يُضَمَّنُ ، فهو مما يستدرك فمن حَرَّقَ المتاع أُلْزِمَ بالمثلِ أولا ، فإن لم يكن له مِثْلٌ يَنْضَبِطُ ، ضُمِّنَ قِيمَتَهُ ، وكذا منه ما يجري مجرى المصلحة المرسلة كما يضرب أهل الشأن المثل بإحراق غَنِيمَةٍ لا يطاق حملانُها ألا يَنْتَفِعَ بها عدو يَتَرَبَّصُ .
    فَثَمَّ التكليف في باب الإحراق بِالنَّارِ ، وهو ما يُجَاوِزُ طَبْعَ الحرق الذي رُكِزَ في النار ، فهي فاعلة بالطبع اضطرارًا فلا اختيار ، إذ لا يكون منه إلا ما يقوم بمحل يَعْقِلُ ، وله من التصور ما يسبق ، فيكون من ذلك علم وإرادة ، وهما خاصة العاقل المكلَّفِ فكان من ذلك تفضيل المحل ، إِنْ نَظَرًا في ركز العقل ، وهو مناط التكليف الذي يجاوز الدماغ المدرَك بالحس ، فثم من خاصة الروح ما لَطُفَ ، روحا تعقل ، فكان من ذلك مناط تكليف محكم ، وهو المكتمِل في الماهية إذ له خَاصَّةُ نَظَرٍ وَاسْتِنْبَاطٍ يجاوز العلم الضروري الذي يدرك بالحس ، فذلك مما استوى فيه عامة الخلق ، فما امتاز الإنسان إلا بعقل يزيد فهو غريزة لا كغرائز الحس ، بل له من قوة النظر ما يجاوز ، إذ ينظم مقدمات الضرورة في سِلْكِ اسْتِنْبَاطٍ لعلوم نظرية أخص ، فلا تُنَالُ إلا بِعَمَلٍ يَزِيدُ فِي العقلِ ، وبها اخْتُصَّ الإنسان المكلَّف ، وذلك مناط التشريع المنزَّل خَبَرًا وَحُكْمًا ، فاستغرق أفعال الاختيار كَافَّةً ، ولو المباحَ الذي يستوي فيه الفعل وَالتَّرْكُ لِذَاتِهِ ، فلا ينفك يطلب حكما من الشرع في غَايَةٍ وَقَصْدٍ ، ولو فِعْلَ جِبِلَّةٍ ، كما الأكل والشرب والمباضعة ، أو آخر يَتَنَاوَلُ أسبابا من خارج ، كما النار مثالا تقدم ، فالإنسان إذ يَحْرِقُ بها ، وذلك فعل اختيار لا طبع ، كما فعل النار فلا إرادة لها ولا علم ، فالإنسان إذ يحرق بها فهو يُكَلَّفُ أَنْ يَضَعَهَا في المحل الذي يُوَاطِئُ فيكون من الغرض ما يشرع ، وهو أصل يطرد في الأسباب كافة ، كما السكين أو العصا ..... إلخ ، فكل أولئك مِمَّا لا يوصف بالفعل إلا فعل الاضطرار والطبع ، فَمِنْ عَجَبٍ ، كما تقدم في مواضع ، أَنْ سلكتِ الحكمة الأولى هذه الجادة في تَعْلِيلِ الخلق الأول ، فَصَيَّرَتِ الخالق الأول علة فاعلة بالطبع مجردة من الوصف فهي تفعل اضطرارا كَمَا سَبَبُ الإحراقِ من نار ، فهو لا يَعْقِلُ ما يحرق ! وهو ، مع ذلك ، لا ينفك يَفْتَقِرُ إلى مجموع مركب ، فلا يستقل بالتاثير الأول ، إذ لا بد من مجموع مركب من قُوَّةٍ قد رُكِزَتْ أولا في السبب ، وَتَالٍ من المحل إذ يَقْبَلُ ، مع شَرْطٍ يُسْتَوْفَى ومانع يُنْفَى ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، مما يستوجب أولا لا أول قبله ، فليس له شركاء وإن زَعَمَ مَنْ زَعَمَ ممن أشرك في باب الربوبية ، إِنِ الخلقَ الأول ، ولا يكاد يكون من ذلك ما يُتَصَوَّرُ ، وإن كان من جِيلٍ محدَث ما غلا فَسَفْسَطَ حَتَّى رَدَّ هذا الخلق المتقن المحكم إلى العدم أو سُنَّةٍ تجري بلا مُجْرٍ ، فهي تستقل بالتأثير ، مع افتقارها إلى أول يجريها فيكون من آثارها تأويل لما أُحْكِمَ مِنْ سَنِّهَا ، فَلَا يَنْفَكُّ يحكي ضرورةً حكمةَ مَنْ سَنَّهَا ، أوليَّةً قد أُطْلِقَتْ فِي الحكمةِ والقدرةِ ، فكان الجمال والجلال كمالا قد اسْتَغْرَقَ ، وليس ثم منه الجنس المطلق إلا لواحد فَعَنْهُ الأسباب كَافَّةً تَصْدُرُ ، وهي ، من وجه آخر ، تأويلٌ في الخارج يُصَدِّقُ ما كان من الكما الذاتي الأول ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج ، بل منه ما يَتَعَدَّى إلى غيرٍ بالأسباب : أسباب التكوين إذ تَنْفُذُ ، وأسباب التشريع إذ تحكم ، فَلَيْسَ إلا الخالق المدبِّر في الكون ، الإله المهيمِنَ في الشرع ، وتلك حكايةُ تَوْحِيدٍ يَنْصَحُ قد جاءت به النبوات كافة ، فاستغرق الخبر والحكم ، الاعتقاد والشرع ، فكان من فعله أول بكلمة تكوين وبها انقطاع التسلسل في المؤثرين أزلا ، فهو الأول في الخلق فلا أول قبله ولا شريك له ، وَإِنْ زَعَمَ مَنْ زَعَمَ في باب التكوين والتدبير ، فكان له شركاء ، وإن كان من حالهم نقص وعجز ، فلا يملكون الضر أو النفع ، وإن كان لهم من ذلك شيء فهم كالنار آنفة الذكر ، فلا يكون ضر أو نَفْعٌ إلا بِقَدَرٍ أول قد أحاط ، فَيُرْسِلُ منهم أسبابَ عذابٍ وذلك العدل بما كسبت أيدي العباد كما أمراء الجور في كلِّ عصرٍ ، فهم من أسباب الكون التي بها يَتَذَكَّرُ الخلق ، ولو من باب : (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، فيؤخذ الغافل بالسنين نَقْصًا ، وَيُؤْخَذُ بحكم الملوك جبرا ، فيكون من ذلك هلاكُ من ظلم فلم يعتبر بما أُرْسِلَ من الآي والنذر ، ويكون من آخر قد سُدِّدَ : اجتهادٌ في التوبة والذكر مع سَبَبٍ يُبْذَلُ لِدَفْعِ مَنْ يَبْغِي ويظلم ، فيكون من سبب التوبة أول في النفس ، ويكون من المدافعة تال لغير ، فإذا شاء الله ، جل وعلا ، رَفَعَ المحنة بهم فضلا ، واستبدل بهم خيرا إن بَدَّلَ الخلق من الحال مَا يَقْبُحُ ، فاستبدلوا به حسنا يَجْمُلُ ، وتلك سنة تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ ، إن في الخير فضلا أو في الشر عدلا ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ، وإلا كان من سنن الاستبدال ما فِيهِم يجري ، كما خلق أول لم ينصح الوحي بالتصديق والامتثال ، فاستبدل به آخر ، سُنَّةً في الخلقِ قد اطردت ، فلا رَادَّ لها ولا مبدِّل .
    فكل أولئك ، وهو محل شاهد تَقَدَّمَ ، كل أولئك من أسباب في الكون تؤثر ، ولكنها لا تستقل في ذلك بضر أو نفع ، لا كما زعم الغلاة في الأنبياء والصالحين ، فَضْلًا عن آخرين لا حظ لهم من تَقْوَى ، وَإِنِ اتُّخِذُوا أَئِمَّةً ، فليس لهم من الإمامة إلا الهداية في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) ، وهو مما يجري ، من وجه ، مجرى التهكم إذ تَبَادَرَ من لقب الإمام أنه إمام هدى ، فكان من ضِدٍّ ما يَفْجَعُ ، فَيُشْبِهُ من وجه ، إخراج الذم مخرج المدح إمعانا في النكاية ، وقد يُقَالُ ، من آخر ، بل لقب الإمام جِنْسٌ عام يَسْتَغْرِقُ ، فلا يظهر منه وجه ، وإنما يجري مجرى المشترك في الدلالة ، فَلَهُ مَعْنًى يجرده الذهن وهو من يَقْدُمُ القوم مطلقا ، إن في الخير أو في الشر ، كما فرعون إِذْ : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) ، فيكون لكلٍّ من القرينة ما يشهد ، فَثَمَّ من قرينة الخير : إمامة النبوة في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) ، وَثَمَّ من قرينة الشر ما تقدم في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) ، فهو ، من هذا الوجه ، يجري مجرى المجمل الذي يَفْتَقِرُ إلى مُبَيِّنٍ من خارج بل هو من الأضداد وهو في الباب أعوص ، واقتفاره إلى القرينة آكد ، فيكون من السياق قرينة تُرَجِّحُ هذا أو ذاك ، فَرَجَّحَتْ في هذا السياق إمامة الضلال والشر ، فكان من ذلك قسمة في الآية قد عَظُمَتْ بها النكاية أن جعلهم الله ، جل علا ، بإرادة تكوين تَنْفُذُ ، أَنْ جَعَلَهُمْ أئمة ضلال ، وهو ما حَسُنَ معه إسناد العامل إلى ضمير الفاعلين في "جَعَلْنَاهُمْ" مَئِنَّةَ تَعْظِيمٍ في سياق تَنْفِيرِ ، مع بَيَانِ قدرة عامة قد استغرقت فمنها خلق الخير فضلا ، ومها آخر من خلق الشر عَدْلًا ، ولا يظلم ربك ، جل وعلا ، أحدا ، فكان من ذلك شطر في الأولى مع ثان في الآخرة وبه قد خُتِمَتِ الآية ، فـ : (يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) ، ولا يخلو السياق من عُمُومٍ يستغرق إذ تسلط النفي على المصدر الكامن في العامل "يُنْصَرُونَ" ، فَلَا يُنْصَرُونَ أَيَّ نَصْرٍ ، مع إسناد الفعل إلى ما لم يُسَمَّ فيه الفاعل فلا يأتيهم أَيُّ نَصْرٍ من أي أحد ، فَحُذِفَ الفاعل إرادةَ عمومٍ آخر به النكاية تَعْظُمُ ، وذلك الخبر الذي يحكي الدلالة الإنشائية إذ تأمر بالتحري في اختيارِ الإمام الذي يُتَّبَعُ ، فلا يكون من تَقْلِيدِ أئمة الضلال ما يقبح ، فَثَمَّ آخر من الإنشاء يَنْهَى عن اتباع أئمة الضلال ، وهو ما دل تَلَازُمًا على ضد يأمر باتباع أئمة الهدى ، فكان من المقابلة في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ) ، كان منه ما استغرق أجزاء القسمة في الخارج ، وذلك آكد في الذم والمساءة ، فضلال في الأولى وهلاك في الآخرة ، فأي وعيد أعظم من ذلك ؟! .

    فَكَانَ مِنَ الغلو في الشُّرَكَاءِ ما يصدق فِيهِ شِرْكُ الربوبية لا أَنَّ الشركاء قد خَلَقُوا ، وَإِنَّمَا كَانَ لهم من التدبير حَظٌّ بِمَا اعتقد الغلاة من الضر والنفع ، وكذا محل الشاهد مِمَّا به الخصومة في كل جيل تُتَأَوَّلُ بين الوحي المنزل في حد ، والوضع المحدَث في آخر ، ومنه محل الشاهد بما كان من استباحة الربا ، ولو كالخمرِ إذ تُسَمَّى بِغَيْرِ اسمها ، فكان من الشركاء في الشرع ، وهو ما قَدْ دَلَّ عليه السياق بالقيد ، قيد : (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) ، فَقَصَرَ المادة في هذه الآية على شِرْكِ التشريع ، وإن كان من العموم ما تَنَاوَلَ آخرَ في التكوين ، على التفصيل آنف الذكر ، فذكر الشرك في التشريع فِي هذا السياق خَاصَّةً لا يَقْصرُ المادة المذمومة المستنكرة عليه ، وإنما يجري ، من وجه ، مجرى الخاص الذي يدل على عام ، فهو فَرْدٌ من أَفْرَادِ الحقيقة ، أو جُزْءٌ من أَجْزَائِهَا في الخارج ، إذ الشرك منه ما يكون في الربوبية ومنه آخر في الألوهية ، فَذِكْرُ أحدهما في موضع لا يخصص السياق ، وإنما يَجْرِي ، كما تقدم ، مجرى المثال المبيِّن وَإِنْ لم يستغرق أجزاء الحقيقة في الخارج ، مع دلالة أخرى هي التلازم ، فَثَمَّ تلازم بين الجنسين : شرك التكوين وشرك التشريع ، وإن كان في باب الربوبية إِقْرَارٌ مجمَلٌ من جيل قد أشرك ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ، فذلك إقرار مجرد بخلق وتدبير أول لا يجاوز الأعيان ، فَثَمَّ آخر به تدبير الأديان بما يَتَنَزَّلُ مِنَ الأخبار والأحكام ، وتلك مادة التأله فلا يكون إلا بِشَرْعٍ يَنْهَى وَيَأْمُرُ ، فكان من القيد في هذه الآية إِذْ : (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) ، فهو يبطل شركاءهم إذ شرعوا لهم دينا محدثا لم يأذن به الله ، جل وعلا ، إذنَ التشريع الحاكم ، وإن شاء وقوعه فَبِإِذْنِ التكوين النافذ ، والجهة ، كما تقدم في مواضع ، قد انْفَكَّتْ ، فجهة الخلق تُغَايِرُ عن أخرى من الشرع ، فهو شرع كَلَا شَرْعٍ ، إذ وصفه الباطل المحض ، ومن ثم كان الإمهال بكلمة الفصل ، فـ : (لَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، مع ختام يبين عن مآل تال بعد إمهال أول ، فـ : (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وهو ما تَنَاوَلَهُ التوكيد في موضعِ وَعِيدٍ يزجر ، فهو وعيد عن الفعل يحجز ، ولا يخلو من عنوان الجلال ، وهو الأليق بالوعيد ، وإن تَضَمَّنَ الوعد بمفهوم يخالف إذ يُنَاطُ المآل المؤلم بما كان من ظلم قد اشتقت منه الصلة في "الظَّالِمِينَ" ، فذلك منطوق أول ، وهو مادة جلال يُرْهِبُ ، فلا ينفك يَدُلُّ بما تقدم من مفهوم يخالف أَنَّ من آمن وعدل فَلَهُ من المآل ما حَسُنَ ، وتلك مادة جمال تشاطر الجلال قسمةَ الكمالِ المطلق ، وهو أصل يُسْتَصْحَبُ في نصوص الوحي كافة ، ومنها الوعيد والوعد ، كما في هذا الموضع من آي الذكر ، فَحَسُنَ التوكيد ، من هذا الوجه ، وهو ما تناول مادة لفظ بما كان من الناسخ ، وهو أم الباب وأصله ، فلا ينفك يُقَدَّمُ أَبَدًا في بابه ، مع تال من الاسمية وهي حكاية الثبوت والاستمرار ، وثالث من إطناب ، الإطناب في الخبر "لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ، فقد حد اسمية ، مع قصر يؤكد بتقديم ما حقه أن يتأخر من الظرف "لَهُمْ" ، واللام فيه تحكي آخر من الاستحقاق والاختصاص إمعانا في المساءة من وجه ، ولا تخلو من حكمة في التقدير ، إذ اخْتُصُّوا بها لما كان من الوصف الذميم ، وذلك العدل فلا ظلم ، وثم من اسم العذاب ما يراد لذاته ، من وجه ، وهو ، من آخر ، يوطئ لما تلا من وصف يؤلم ، فَحُدَّ حَدَّ "فعيل" من "فاعل" مِثَالَ مبالغة يزيد في الوعيد ، ولا يخلو ، من هذا الوجه ، أن يَرْفِدَ الظلم في الآية بعهد أخص ، وهو الظلم الأكبر الذي ينقض أصل الدين الجامع ، فالأليم ، كما قال بعض من حَقَّقَ ، لا يكون إلا العذاب المؤبد ولا يكون إلا لمن أشرك الشرك الأكبر فَنَقَضَ من الدين الأصلَ الأول ، وثم من يُجْرِي ذلك مجرى عموم يجاوز ، فهو يستغرق أجناس الظلم كافة : الأكبرَ الناقض لأصل الدين الجامع ، والأصغرَ الناقض لكماله الواجب ، ولكلٍّ من العذاب الأليم ما يواطئ ، فيكون من ذلك ما به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك وبه إِثْرَاءُ السياق بما نَصَحَ من المعاني الصحيحة ، فدلالة "أل" في "الظَّالِمِينَ" ، من هذا الوجه ، تَتَنَاوَلُ : بيان الجنس الأول الذي يصدق في الظلم الأكبر وقسيمه الأصغر ، فإذا زِيدَ فيها العموم المستغرق فذلك ما يُفْرِدُ الدلالة إذ يصيرها عهدا أخص في ظلم أكبر يَنْقُضُ الأصلَ ، ولا ينفك السياق وفيه إِنْشَاءٌ يَسْتَفْهِمُ صَدْرَ الآية إذ يَسْتَنْكِرُ وَيُبْطِلُ ، فدلالته خبرية تَنْفِي ، مع وعيدٍ ختامَ الآية ، لا ينفك كل أولئك وله المدلول الخبري ، لا ينفك يحكي آخر من الإنشاء نهيا عن اتخاذ الشركاء وهو الأخص ، ونهيا عن الظلم فهو الأعم لئلا ينال صاحبه العذاب الأليم ، فيجري ذلك ، من وجه ، مجرى العطف بعام قد استغرق أجناس الظلم كافة بعد خاص قد أُفْرِدَ منه اتخاذ الشركاء في التشريع ، وثم من الدلالة الإنشائية ما اطرد وانعكس ، إذ النهي عن اتخاذ الشركاء يَسْتَلْزِمُ الأمر بضد من التوحيد إِنْ في التكوين أو في التشريع ، كما النهي عن الظلم يَسْتَلْزِمُ الأمر بِضِدٍّ من العدل وأعلى آحاده التوحيد فَلَا يَتَّخِذُ صاحبُه الشركاءَ ، ولا يكون منه شرك يقدح في الدين وهو ما يجاوز الحكم إلى التصور ، فَلَوْلَا فَسَادُ التصور أن ثَمَّ من قياس العقل ما يُجَاوِزُ الحد ، فَلَهُ مدارك لا تطلق فلا يكون منها دَرَكُ غَيْبٍ يخفى فليس ذلك إلا من مشكاة وحي يَتَنَزَّلُ ، وكذا يقال في حكومات التعبد غَيْرِ الْمُعَلَّلَةِ فإنها مما لا يجري فيه قياس العقل وإنما غايته أن يَتَدَبَّرَ فِي حكمة أعم دون تكلف يجاوز الحد ، فَيَقْتَرِحَ مِنْهَا خَرْصًا بلا نظر معتبر ويكون منه ما يفدح في تأويل الآي والخبر : تأويلا باطنا يَقْبُحُ ! ، وكذا يقال في الحكومات كافة ، وَإِنْ معقولةَ المعنى كما الربا محل الشاهد فإن ثَمَّ ، ولو عُقِلَ المعنى الأخص الذي يناط به الحكم إن في الطرد أو في العكس ، فإن ثَمَّ أول من الوحي يَنْصَحُ فهو رائد الصدق في الخبر والحكم كافة ، وله أول في الرتبة ، فالعقل آتٍ بَعْدَهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ التدبُّرَ الأعم في نصوص لا يدرك العقل مناطها الأخص ، وَيَقِيسَ القياس الأخص في معقول المعنى مما قد جاء به الوحي الأعلى ، فَلَا يُقَدَّمُ عليه العقل ، وإلا كانت المخالفة لما يزعم صاحب العقل من قياس محكم ، إذ قد قَدَّمَ الأدنى من القياس على الأعلى من الوحي ، فذلك ، كما تقدم ، مِمَّا يقدح في قِيَاسِه الذي يَزْعُمُ ، إذ قد عُلِمَ ، بداهة ، أَنَّ النَّقْصَ فِيهِ وصف ذات لا يُفَارِقُ ، فلا تؤمن حكومته ، وإن تَحَرَّى من العدل ما تَحَرَّى ، فَثَمَّ بواعث الشح والأثرة فلا تخلو منها نفس ، فتلك جبلة أولى في الخلق ، إذ : (أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، وهو مما يجري ، من وجه ، مجرى الإيجاز بالحذف إذ الأصل : وَأَحْضَرَ اللهُ ، جل وعلا ، الأنفسَ الشُّحَّ ، فكأن الشح قد تَمَثَّلَ شخصا وَأُحْضِرَ الأنفسَ ، فَهُوَ لَهَا يُلَازِمُ ، فَيَجْرِي ذلك ، من وجه ، مجرى الاستعارة المكنية إذ شَبَّهَ الشح بشخص ذي حقيقة في الخارج وَحَذَفَ المشبَّه بِهِ وَكَنَّى عنه بِلَازِمٍ من لوازمه وهو الحضور أو إحضارِه الأنفسَ ، كما يُحْضَرُ شخصٌ آخرَ فَيَقِفُ بين يديه أو هو له يلازم ، فكان من المجاز حَذْفٌ ، إذ حُذِفَ الفاعل فقد علم ، بداهة ، فَمَنْ خَلَقَ الأنفس وجبلها على أخلاق وطبائع ، ذلكم هو الرَّبُّ الخالق ، جَلَّ وَعَلَا ، ومن على خُلْفٍ في الباب ، بَابِ المجازِ ، فهو يَرُدُّ ذَلِكَ إِلَى المشهورِ المتداولِ من لسان العرب إذ قد اطَّرَدَ فِيهِ حذف المعلوم ضرورة ، حتى عد بعض العرب ذكر اسم الله ، جل وعلا ، في قولك : خلق الله الإنسان ، عَدَّهُ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، عَدَّهُ من رعاية حال المخاطب الذي يجحد المعلوم الضروري ، فَذُكِّرَ بما قد جَحَدَ وَأَنْكَرَ ، ولم يخل ذلك من إزراء به أَنِ اضطُّرَّ المخاطَب أَنْ يذكر له المعلومَ ضرورة فَيُطْنِبَ والموضع إيجاز لدى من يعقل عقلَ الضرورة أَنَّ هذا الكون المحدَث لا بد له من محدِث أول ، وأنه لا خَلْقَ إلا بخالقٍ ، مع ما يرصد البحث والتجريب من إِتْقَانِ الخلقةِ وإحكامِ السنة ، مع افْتِقَارِهَا إلى مَنْ يَسُنَّ ، فإنها لا تصدر عن قوى تَسْتَقِلُّ ، بل ثم من خلق أولا ، فَقَدَّرَ في العلم الأول المحيط ، ثم أوجد فَرَجَّحَ في الجائز المحتمل فَصَارَ الواجبَ لغير بما كان من مرجِّح من خارج ، وهو ما يَعْرِضُ له التسلسل فلا بد من أول له يحسم إذ إِلَيْهِ تَنْتَهِي الأسباب كافة ، فيكون من تأويل لِمَا تَقَدَّمَ في العلم المحيط الأول ، يكون منه سَطْرٌ فِي لوحِ تقديرٍ محكم ، ثُمَّ ثالث هو المشيئة التي تَنْفُذُ ، ثُمَّ رَابِعٌ هو كلمة تكوين تصدر ، وعنها الموجود بالقوة في العلم الأول ، يصير الموجود بالفعل في شاهد من خارجٍ يُصَدِّقُ ، فكان من السُّنَّةِ مَا يَجْرِي عَلَى معيارِ حكمةٍ ، وهو ، أبدا ، يَفْتَقِرُ إلى أول ذي قدرة إذ قَدَّرَهُ بالعلمِ ، وأوجدَه بالقدرة ، وأجرَاه بالحكمة أَنْ رَكَزَ فيه قوة التأثير ، وَرَكَزَ في المحل ما يَقْبَلُ آثَارَ التكوينِ ، ولا يكون هذا المجموع المركب إلا المفتقر إلى شرطٍ يُسْتَوْفَى ومانعٍ يُنْفَى ، وهو ما استوجب آخر من سَبَبٍ يَتَقَدَّمُ حتى تأرز الأسباب كافة إلى سبب أول لا سبب قبله ، وهو الكلمة فَبِهَا الإيجاد وِبِهَا آخر من التدبيرِ ، فلا يُقَالُ إِنَّ السنة تجري بمعزل إذ خُلِقَتْ وَعَمِلَتْ بما ركز فيها من قوة وانتهى الأمر ، فلا مدبر من خارج ، وإنما اقتصر أولئك على الخالق ، مع ما كان من جَفَاءٍ في الوصف وتعطيلٍ في الفعل ، وهو ما يُضَاهِي مقالَ الحكمة الأولى إذ لم يكن من الأول فيها إلا الفاعل بالطبع المجرد من الوصف ، فلا علم ولا إرادة ، فلا تصور ولا حكم ، وإنما فعل الاضطرار جَبْرًا بما كان من قُوَّةٍ في العلة قد ركزت فهي تؤثر بلا رَائِدٍ يُجْرِي مِنْهَا بَعْضًا ويمنع آخر بما اقتضته الحكمة والعلم ، مع قُدْرَةٍ بها تأويل اسم الرب ، جل وعلا ، فهو الذي يخلق الأضداد فَيُجْرِي السنن تَارَةً ويمنعها أخرى ، ويكون من تَدَافُعٍ بَيْنَهَا ما يدل ضرورة لا ينكرها إلا جاحد أو مسفسِط أَنَّ ثم مدبِّرًا من خَارِجِهَا فليست تجري مطلقًا على سنن يطرد بما ركز فيها من قوى تُؤَثِّرُ دون أول إليه تُرَدُّ الأسباب كافة ، فَعَنْهُ يكون هذا الكون المحكم ، فلا يكون الخبط والعبث ، كما اقترح بَعْضٌ من محال ذاتي لا يُتَصَوَّرُ ، أن يكون هذا الكون المتقن المحكم أَثَرَ خبطٍ لا يعقل ، فكان من الفرض ، كما يقول بعض من حقق ، كان الفرض أي شيء إلا أَنْ يُقَالَ إِنَّ ثم خالقا أول قد قَدَّرَ وأوجد ، ورزق ودبر ، فَلَهُ من الربوبية أول قد ثَبَتَ ضَرُورَةً لَدَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ ، وإن حار في الحقيقة والكيف ، وجهل الخبر الذي يرفد الفطرة الأولى بما يبين عن مجمل فيها قد رُكِزَ ، فَثَمَّ من مسلَّمات العقل ضرورةٌ أولى قد رُكِزَتْ ، وثم أخرى من الفطرة ، وثم ثالث بما ركز في الحس من قوى الرصد والتجريب ، فكل أولئك مصادر معرفة تَنْصَحُ ، ولكنها ، لا تنفك ، أبدا ، تطلب رائدا من خارج ، وهو الخبر الذي يَصْدُقُهَا الريادةَ فِيمَا غاب عنها فلا تُدْرِكُ ، وإن لم تُحِلْ فهو الجائز الممكن ، بل ثم منه واجب وجود أول قد دل عليه الوجدان دفعةً ، فهو ضرورة قد اسْتَقَرَّتْ في النفوس ، أن هذا الخلق لا بد له من خالق ، وأن هذا الإتقان في الخلق لا بد له من متقِن ، وأن هذا الإحكام في السُّنَنِ الكونية لا بد له من محكِم ، فكل أولئك مما يرفد مادة الإلهيات الخبرية والربوبيات الفعلية ، مما يرفدها بأول من الوجدان قد رُكِزَ ، ولكنه لا ينفك إلى مرجع من خارجٍ ، فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ ، وهو الوحي المحكم الذي رفد المحال كافة ، العقل والفطرة والحس ، رفدها بمادة صدق وعدل ، فكان من رائد أول ، إذ يبين عما في الوجدان قد أجمل ، وهو ، مع ذلك ، لَا يخالف عَنِ العلم الضروري الأول ، وَإِنْ حَارَ العقل في الحقيقة والكيف فلا يحيل ذلك ، فهو ، كما تقدم ، بين الواجب والجائز ، وذلك أول في توحيدٍ يَنْصَحُ ، توحيد العلم والخبر ، وهو يدل لزوما لا يَنْفَكُّ طَرَفَاهُ ، يدل على آخر من توحيد العمل والحكم ، فذلك توحيد الإله الشارع كما أول لِلرَّبِّ الخالق ، جل وعلا ، فحصل من ذلك عنوان ينصح ، إن في الخبر إذ يصدق ، أو الحكم إذ يعدل ، فكان من ذلك مادة في الباب تجزئ في حصول اسم من الدين يَنْفَعُ ، وهو ما استوجب من الشرع مرجعا يجاوز من خارج ، فقد سلم مما لم تَسْلَمُ مِنْهُ العقول أهواءً ، والنفوس أذواقًا ، فَسَلِمَ من الشح ، آنف الذكر ، الذي أُحْضِرَتْهُ الأنفسُ ، فتلك خاصة تحكي منها النقص ، مع ما كان أولا من الجهل ، وما جبلت عليه من الفقر ، إذ المحل له من ذلك وصف ذات لا يُعَلَّلُ فلا ينفك يفتقر إلى سبب من خارج ، وكل أولئك مما يقدح في الحكم ، ولو احتمالا ، وإن تحرى صاحبه ما تحرى من العدل ، فَثَمَّ جهل ونقص ، وثم عارض يطرأ وبه محل النظر يَتَغَيَّرُ أو يفسد ، فكل أولئك مما استوجب ضرورة شارعا هو الأول ، قد سَلِمَ من أوصاف النقص ، وله من أول ضِدٌّ ، فوصفه : الغنى المطلق ، وصفَ ذاتٍ لا يُعَلَّلُ ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج كما المخلوق الحادث ، فحصل من ذلك قدر فارق يميز وهو ما يجاوز الذات إلى الاسم والوصف والفعل والحكم ، فيكون من ذلك سبب به انفرد الرَّبُّ ، جل وعلا ، بوصف المشرِّع ، كما هو الخالق المدبر ، فَثَمَّ من ذلك اسم قد استغرق ، اسمُ المهيمن ، فَلَهُ من ذلك ما قد عَمَّ التكوين والتشريع كافة ، فَهُوَ المهيمن بكلمات تكوين تنفذ ، وهو المهيمن بكلمات تشريع تحكم ، فله من ذلك وصف قد عَمَّ فاستغرق ، وهو ما يواطئ القياس المحكم : دلالةَ التلازم بين فعل الربوبية تَكْوِينًا ، وآخر من الألوهية تشريعا ، وذلك أصل أول في أي ماهيةٍ من الدين تَنْصَحُ ، وهي فحوى النبوات كافة ، وبها ناجزت الخصم إذ أنكر في مواضع ، وجود الرب الخالق ، جل وعلا ، وذلك مما سَلِمَ منه جيل أول قد أشرك فلم يكن ثم من فساد التصور ما يعظم كما كان لآخر منه سَلَفٌ من حكمة أولى قد قالت بالتعطيل ، كما تقدم من مقال الفاعل بالطبع المجرد من الوصف ، فهو ما جردته الحكمة في الحد ، فَخَلَا من كُلِّ قيد ، وكان منه ما تناولته مقالات أخرى تبطن ، فثم من الغلو في التعطيل ما يفجع كل ذي عقل ينصح ، ولو ضرورة من وجدان أول ، فإن المبالغة في التجريد الذهني تُفْضِي إلى التعطيل إذ ليس ثم له في الخارج وجود يُصَدِّقُ ، فمنه سلف من الحكمة الأولى إذ قالت بالعلة الفاعلة بالطبع المجردة من الوصف ، فذلك التصور الساذج في باب الإلهيات وهو ما جَفَا في باب الربوبية وما يلزم منها أُلُوهِيَّةً في التعبد فكيف يَتَعَبَّدُ العاقل لِعَدَمٍ إلا الاعتقاد المجرد من العمل ، اعتقاد خالق أول قد خَلَقَ الخلقَ المجرَّد من الحكمة والقدرة ، فَثَمَّ إثباٌت رُبُوبِيٍّ ساذج أَنَّ ثَمَّ الخالق وَكَفَى دون زيادة من علم بأوصاف هذا الخالق ، بل ثم ضد أَنْ جُرِّدَ من الوصف ، ودون آخر يعظمه ، ولازمه التصديق والامتثال ، فلا يكون ذلك إلا بوحي يُخْبِرُ وَيَحْكُمُ ، وأي وحي يَتَنَزَّلُ من عدم لا وصف له ؟! ، وهو ما به الغلو في ضِدٍّ أن يكون العقل المحدَث هو الحكم ، بل وله من التصور ما به خاض في الغيب بلا رائد من خبر يصدق ، فخاض في قصة الخلق الأولى خوض المحال الذاتي الذي يمتنع ، إذ كان من ذلك عدم لا وصف له قد صدر عنه هذا الوجود المحكم ! ، عَلَى تَفْصِيلٍ في لَوَازِمِهِ قَدْ تَقَدَّمَ في مواضع ، مع آخر في الشرع يُبِيحُ ويحظر استنادا إلى هوى وذوق فهو معيار الحسن والقبح المحدَث في حد المصالح فيعتبر منها ما يواطئ معياره وَيُلْغِي غيرا ، وهو مما يَتَفَاوَتُ من عقل إلى آخر فيكون من ذلك الاضطراب الحادث الذي لا يفصل فيه إلا الحكم المجاوز من خارج ، فـ : (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، فلم يكن من الحكم المجاوز من خارج شيء في مقال الحكمة الأولى بما انتحلت من التعطيل العام في الباب فَلَيْسَ ثم خارج الخلق إلا العلة الفاعلة التي تضاهي العدم أو تماثل ! ، فأي حكومة منها تفصل في خصومة تحدث ؟! ، إن في علم أو في عمل ، كما حكومات المال ومنها الربا محل الشاهد ! ، وهو ما يحفو في آخر من التشريع المحكَّم فلا يكون ثم من رب هذا وصفه من العدم لا يكون مه شرع يأمر أو يَنْهَى .
    فذلك سلف من الحكمة الأولى ، ومنه خَلَفٌ محدَث في الجيل المتأخر قد جاوز الحد فَاقْتَرَحَ من الأول الخبطَ والعبثَ ، ولم يجب عن سؤالات ضرورة إذ مَنْ خلق الماهية الأولى التي تناولها العبث حتى كان هذا الخلق المحكم ؟! ، وهو مما يجري مجرى التَّنَزُّلِ في جدال الخصم ، فإن مادة العالم لا تَقْدُمُ الْقِدَمَ المطلق ، ولو لدى الحكمة الأولى إذ قالت به فخالفت عن المعلوم الضروري في العقل والحس ، وهو ما يحكيه التجريب والبحث ، فالعلة أبدا تكون أولا وعنها المعلول يصدر ، فقال أولئك بِقَدَمِ أَوَّلٍ يستغرق العلة والمعلول كافة إذ يقترنان ، ولم يخل المقال مع ذلك ! ، من قِدَمٍ ، ولو في الرتبة ، رُتْبَةِ الْعِلَّةِ ، فلا بد لها من أولية ، ولو فِي الرتبة ! ، ومع فساد المقال في التفصيل والجملة ، فهو ، مع ذلك ! ، قَدْ أَقَرَّ بِأَوَّلِيَّةٍ ، ولو وَصْفَ العلة الأولى أن يكون لها تقدم في الرتبة ، فكيف بمن خالف عن المعلوم الضروري في كل وجه ، فكان الخلف الأسوأَ من الحداثة لِسَلَفٍ من الحكمة الأولى وصفه السَّيِّئُ ! ، فَلَمْ يُثْبِتِ الخلفُ أولا له من التأثير في التكوين ، ولو فعلَ الاضطرار بلا علم ولا اختيار ، بل كان من ذلك خبط وعشواء في مادة أولى تقدم ، ولو صح أن من العبث حكمة لكان ، كما اقترح بعض أهل الفكرة ، لكان من ذلك تجريب في الحس يستخرج من العبث ما أُحْكِمَ ، كما قد استخرج من المادة القديمة هذا الكون المحكم ، فلا يكون من ذلك دليل واحد من التجريب يشهد ، وهو عمدة لدى الحداثة ، فلا تُسَلِّمُ إِلَّا لما يبحث في المعمل وله نَتَائِجُ تُضْبَطُ بالرصد والجمع ، فإن قول الخبط ينقضه معيارُ قائلِه في الإثبات والنفي إذ لا يسلم إلا بالمدرك بالحس ، وهو ، أبدا ، ينكر أي مرجع يجاوز من خارج فيرفد المحل بالخبر ، فما شهد ما اقترح من العبث ، ولم يكن ثم بحث به يَتَكَرَّرُ ، ولم يكن ثم خبر من خارج يصدق في حكاية غيب لم يُشْهَدْ ، وَهُوَ مَا تُنْكِرُ الحداثة وتجحد ، فلم يكن لها من الدليل إلا الظن والتخرص ! ، ولو اقترحت في ذَلِكَ المحال الذاتي الذي لا يُتَصَوَّرُ ، فذلك أهون عندها ! أَنْ تُسَلِّمَ بِخَبَرِ الوحي مرجعًا يجاوز من خارج فهو يحكي ما كان أولا من فعل الخالق ، وما أُتْقِنَ وما أُحْكِمَ ، وما كان من غاية في التكليف ، وهي ما به الحداثة تضيق فلم يكن لها إلا أن تَرُدَّهُ لئلا تُكَلَّفَ بما يشق ويخالف عن الهوى والذوق ! ، وإن انتحلت لأجله المحال الذاتي الذي يخالف عن بدائه العقل ضرورة ! ، بل وخالفت به ما انتحلت من الحس والتجريب مرجعا في الإثبات هو الأوحد ، فليس يَسْلَمُ لها من أدلتها واحد يَنْصَحُ ، فلم يكن إلا الفرض المجرد فرارا من مرجع وحي يلزم بالأمر والنهي ، وهو ما يثقل إلا أن يكون ثم سداد وعزم يمضي ، فهو يجتهد في تحرير الأدلة فيكون منه نظر محكم في أخبار النبوات ، فَيَسْتَقْرِئً وَيَسْبِرُ مسالكَ النَّوْعِ ، نَوْعِ الدعوى التي ينتحلها النبي الصادق أو المتنبئ الكذاب وهي ، كما تقدم في مواضع ، أعظم دعوى يَنْتَحِلُهَا بَشَرٌ ولها من الوصف اثنان فلا تحتمل ، فالقسم لا تجاوز : أصدق صادق أو آخر يقابل فهو أكذب كاذب ! وإن رَاجَ مِنْ دعواه في المبدإ ما يُخَيِّلُ به ويسحر من خوارق يزعم أنها الدلائل المحكمة فلا تجزئ منفردة في الحكم بصدق الدعوى ، إذ الخوارق جنس عام يَسْتَغْرِقُ النبي والولي والزنديق الْغَوِيَّ ! ، فليست في نفسها دليلا يَنْفَرِدُ بل لا بد من رَدِّهَا إلى أول ينصح فيكون من نظر أول في جنس الدعوى وما يكون من مادتها في الخبر والحكم ، مع آخر يتناول الشخص ، فذلك مسلك ثان يرفد الأول فيكون ثَمَّ مِنْ نَظَرٍ في حال المدعي ، يكون ثم من ذلك ما يسبر ، وهو ما لا يخفى ، وإن اجتهد صاحبه أن يكتم ، فَيَسْتَبِينُ الناظر بما يعالج من المسالك والأدلة المعتبرة مع سؤال أول أن يُهْدَى وَيُسَدَّدَ ، ويكون ثم تال أَنْ يُلْهَمَ وَيُوَفَّقَ فَيَمِيزَ الصادق من الكاذب ، فذلك اشتغال العاقل في الباب أن يفتش عن أدلة النبوات فهي المرجع المجاوز من خارج بما أخبرت به من غيب وحكمت به في شهادة ، فكان من ذلك أصل أول إن في التصور أو في الحكم ، كما تقدم من اسم الوقف ، فهو يحكي في التصور ما يجاوز الدار الأولى إلى دار الحساب والجزاء ، وتلك دار تجحدها ، بداهة ، الحداثة ، وإن كان لها من المثال ما يُضَاهِي في أَثَرِ الوقف في دنيا الناس ، فلا تجاوز به حد النفع المعجَّل ، ولو فعلَ خيرٍ يحمد ، فلا يكون من الباعث ما يجاوز الحس ، مع ما يكون من حافز في الخارج ، كما يقول بَعْضُ من صَنَّفَ في الباب فأوفى ، فَثَمَّ الحافز : إعفاءً من ضريبة ومكس لمن يسارع في عمل الخير فَيُوقِفُ من ماله بَعْضًا في أمر يعم نفعه ، فذلك الجزاء المعجل في معيار الحداثة ، فلا تجاوز في الوعد والجزاء ما يجد الفاعل آثاره في الدنيا إذ هي المنتهى ! ، فلا دار تجاوزها ، وكل ما غاب عن الحس فعدم وخرافة ، ولو أخبر به الوحي ، فذلك خصم الحداثة الناجز ! ، ولا يخلو تاريخ الخصومة من فعل كَهَنَةٍ قد رَاجَتْ بهم شبهة تَقْبُحُ إذ خالفت عن العقل المصرَّح بما اطرد من العدل أن ينظر المنصِف طالبُ الحق ، أَنْ يَنْظُرَ في القول لا القائل ، ويحرر من القول ما نصح فلا يَلْتَفِتَ إلى ما زاد المبطِل فَأَلْحَقَ بالحق من الباطل ما يُوَاطِئُ الهوى والذوق ، فلا ينفك يطلب معيارا من خارج وبه يحرر الأصل ويميز الحق من الباطل ، فإذا حَرَّرَ المادة الرسالية فَقَدْ مَازَ المادة المحكمة من أخرى متشابهة مما زَادَ المبطل إن جهلا بما أحدث ، وإن صدق في القصد ، أو عمدا فقد استحسن ما يواطئ هواه وذوقه ويحفظ رِيَاسَتَهُ في الخلق ، ولو أَبْطَلَ مَا أَبْطَلَ من النبوات فَزَادَ فيها بعضا وَكَتَمَ آخر ، وهي مناط الخصومة بين أوليائها وأعدائها ، وإن كان من عدوها ما ابْتُلِيَتْ به أَيَّمَا بَلْوَى إذ تحمل اسمها ! ، فكان منه ما انْتَسَبَ إليها زورا فَعَظُمَ بِبَاطِلِهِ الشرُّ ، وكان من البلوى ما عم إذ تَلَقَّفَهَا خصم يجهر بخصومتها فأذاع ما كان من باطل الأول أنه قول الرسالة الذي به قد نَزَلَتْ لا قول من زَادَ فيها وأحدث ، فلو صدق النصح لعامة الخلق لأسند الجناية إلى الجاني من الكهنة لا إلى أول من الوحي قد نَصَحَ في الخبر والحكم ، فكان منه ما صحح العلوم والأعمال كافة ، فَثَمَّ مِنْ عِظَمِ البلوى ما ائْتَلَفَ ، فخصم رسالة بها يتربص ، وآخر إليها يُنْسَبُ ، والبلوى به ، لو تدبر الناظر ، أعظم ، إذ نَفَّرَ الخلق من الحق بما زاد من باطل في الخبر والحكم ، فَعَظُمَتِ البلوى بالأحبار والكهنة بما كان من شؤم طغيانهم الذي زَهَّدَ الناظر في الحق النَّازِلِ الذي انتحلوا اسمه زورا ، وبه قضوا في العلم والعمل بما خالف عن النقل والعقل والفطرة والحس ، وكل مرجعٍ في الخارج يَنْصَحُ ، فخاصموا الحق ، وفجروا في خصومة من يعقل ، وكان من رِيَائِهِم زُهْدٌ وورع قد افْتُضِحَ بما اشتهر من فُحْشٍ وَفُجْرٍ في دَيَّارَاتِهِم حتى صار منها مأوى لمن يَتَبَذَّلُ فَيَرُومُ من اللذة ما يحرم ، وهو أمر لا زال تأويله في الجيل المتأخر يصدق ، فَفُجُورُ الكهنةِ لا زال يَتَكَرَّرُ ، وبه تطير الحداثة فَرَحًا أن وجدت من حَقٍّ ما أرادت به باطلا أعظم ، ففجور الكهنة حق وهو ما استوجب القدح والذم مع ما قد خالفوا به عن صريح العقل وصحيح الحس في علوم تجريب قد قالوا فِيهَا تَخَرُّصًا وَظَنًّا ، أَنْ كَانَ من الطغيان والعجب بالرأي ما عَظُمَ ، فَلَيْسَ يقول الحق إلا الكهنة ، ولهم بكل علمٍ وفنٍّ درايةٌ ! ، فهم أهل الفلك إذ يرصد ، وهو أهل الطب إذ يداوي ، وهم أهل التشريع إذ يحل ويحرم ...... إلخ ، وليس لهم من ذلك إلا محدَث قد افْتَرَوْهُ ثم أسندوه زورا إلى الوحي ، وهو منه ومنهم بَرَاءٌ ، فكان من تال ما اجتهد في نَقْضِ مقالهم ، وقد انشعب على أنحاء ، فمنه من رَامَ الإصلاح ، وَلَوْ بَعْضًا ، فَاسْتَنْكَرَ ما دخل الدين الصحيح من وَثَنِيَّةِ الصورِ والتماثيلِ ، وهو ما تقدمه خلاف قد احتدم ، فكان منه حرب تحملت اسم الأيقونات ، فهي حرب الأيقونات في بِيزَنْطَةَ ، إذ كان من مثال الدين ما يحكي طغيان الكهنة ، فكان من مثال الهرم في قَدَاسَةٍ تُنَالُ بَرَكَاتُها من ثالوث أول هو المقدس ، وذلك الشرك الذي دخل دين التوحيد الذي جاء به المسيح ، عليه السلام ، فكان من الصور ذريعة إلى غلو في التعظيم قد خالف عن أصل التوحيد كما كان من قوم نوح في المبدإ ، فَلَا زَالَ الشرك يَتَكَرَّرُ ، ولم يسلم منه الجيل المحدث مع ما يزعم مِنْ نُضْجِ العقلِ وَتَقَدُّمِ البحث ، ومنه مذاهب تأرز إلى حلول واتحاد تقدم ، فهو مقال من الأرض محدَث وإن دخل النبوات فأفسد أصلها المحكم إذ كان من اعتقاد بَعْضٍ أن الصورة في الأرض قد حَلَّ فيها الإله الذي في السماء ، فهي تحكي ما غاب منه ! ، ولو صُورَةً دُنْيَا قَدْ تَنَزَّهَ عَنْهَا عَامَّةُ الخلق فكيف بالخالق الأول ، جل وعلا ، فصار لكلِّ أُمَّةٍ أشركت ، صار لها من الصورة ما حل فيه إِلَهُهَا ، فتعددت الصور ، وكان الشرك ، وإن كان منه مبدأ يحمد أن يكون التأسي بمن عَبَدَ وَتَنَسَّكَ ، فـ : (قَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) ، وهو ما كان بعدا في دين المسيح ، عليه السلام ، إذ كان منه حلول أخص ، حلول الوصف الذي فارق الأب الأول ، ففارق منه وصف الحياة وصار روح القدس فهو أقنوم به تجسد وصف الخالق الأول ، وهو ما لا يُسَلِّمُ بِهِ من له أدنى مسكةٍ من عقلٍ يَنْصَحُ ، إذ لا يكون ذلك في الخارج ، أَنْ يُثْبِتَ من الوصف المطلق وهو المعنى الذي يَلْطُفُ فلا يكون في الخارج إلا المقيَّدَ بذات يقوم بها وهي به توصف ، فالمعان المجردة لا تكون المطلقة بشرط الإطلاق إلا في الذهن ، فذلك تصور أول لا وجود له في الخارج يُصَدِّقُ إلا أن يكون المقيَّد بذات توصف بالمعنى ، فلا يوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج ، كما تقدم من مواضع قد غلا فيها من غلا من الباطنية حتى قالوا بِالْمُحَالِ الذي لا يُعْقَلُ ، وكان من ذلك غلو آخر في الخلق لم يخالفوا به عن مبدإ الشرك ، بل قد انحطوا فَعَظَّمُوا من الأئمة من لا يثبت له نسب يَنْصَحُ ، فخلعوا عليه من الاسم والوصف ما قد نَفَوْهُ عن خالق الخلق ، جل وعلا ، فكان من ذلك الغلو في صور أرضية ، ولو دنيا ! ، فمن بدل دين المسيح ، عليه السلام ، فهو ، من هذا الوجه ، خير منهم ! ، إذ غَلَا في مُعَظَّمٍ شريفٍ ، إِنْ أقنومَ الحياة وهو جبريل أو أقنوم الكلمة وهو المسيح ، وإن كان كلٌّ باطلا قد خالف عن النقل المصدق والعقل المحقق ، فإن المعاني ، كما تقدم ، لا تفارق الذوات وتستقل في الخارج مطلقةً بشرط الإطلاق ، فذلك ما لا يكون إلا في الذهن تجريدا فلا يكون في الخارج إلا تَقْيِيدًا بذات يقوم بها المعنى ، قيامَ الوصف بالموصوف ، فَلَوْ قِيلَ إن وصف الحياة قد فارق الخالق الأول ، فحصل في أقنوم في الخارج قد استقل ، فما بَقِيَ لموصوف أول إلا الموت ؟! ، فقد فارقته الحياة ، فكان من وصفه بالموت محال ذاتي لا يتصور ، وإنما غايته أن يفرض ، فلا يناط بقدرة ولا مشيئة إذ تَجْرِي في الجائزات لا في المحالات الذاتية التي لا تُتَصَوَّرُ ، كما وصف الخالق ، جل وعلا ، بالنقص المطلق ، وكذا يقال في أقنوم العلم أو الكلمة فإذا فارق فليس إلا الجهل والخرس ، ولو سُلِّمَ جَدَلًا أن الوصف يفارق ويحل في ذات محدثة لها وجود في الخارج يستقل ، فذلك مما به النسبة إلى الذات الأولى تُنْفَى فلا تصير الحياة حياتها ولا الكلمة كَلِمَتَهَا ، وإنما تُنْسَبُ الصفة إلى الذات التي تجسدت فيها بَعْدًا ، مع حدوث لها بعد عدم ، وذلك في نفسه نقص ، مع تال بالنظر في أصل الخلق ، ولو شَرُفَتِ الذات ، كما ذَاتُ المسيحِ ، عليه السلام ، فلا ينفك يعرض له ما يعرض لعامة الخلق من نقص في الذات والوصف ، وَافْتِقَارٍ إلى السبب ...... إلخ ، وذلك ، بداهة ، مِمَّا قَدْ تَنَزَّهَ عنه وَصْفُ رَبِّ البشر ، جل وعلا ، إذ له من الكمال أول مطلق وذلك مَا قد عَمَّ فَاسْتَغْرَقَ الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، وَبِذَا توحيدُ ربوبيةٍ في الخلق وآخر من توحيد الألوهية في الشرع ، فما ذلك ، لو تدبر الناظر ، إلا تأويل يصدق ما كان من كمالٍ أول في المبدإ ، ومنه أخص في باب العلم ، العلم المحيط المستغرق في الأزل ، فذلك أول في التقدير لا أول قَبْلَهُ إِنْ في التكوين وتأويله كلمات الربوبية إيجادا وتدبيرا ، أو في التشريع وتأويله كلمات الألوهية إخبارا وإنشاء ، فَثَمَّ من الكمال أول قد استغرق وآثاره في كلمات التكوين وأخرى من التشريع تَظْهَرُ ، فكلٌّ عن كمال أول قد صَدَرَ ، فلا يكون منه نَقْصٌ في المبدإ فهو الأول فلا أَوَّلَ قَبْلَهُ ، فَثَمَّ من ذلك ما ثَبَتَ في الأزل ، وعنه الكلمات والأفعال تصدر ، وبه امتاز كماله المطلق من كمالِ غَيْرٍ من الموجودات فهو المقيَّد المحدَث بَعْدَ عدم ، فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج به يصير الواجب بعد أن كان في المبدإ الجائز المحتمل ، فلا يوجد إلا أن يُرَدَّ إلى علة أولى تَتِمُّ وبها حسم ما امتنع في الأزل ، فلا يكون ذلك إلا عن كلمة تامة بها الترجيح وعنها يكون التكوين لمحل المخلوق الجائز ، فقد صار الواجب بَعْدًا لِمَا كان من كلم تكوين أول يرجح ، وهو ما يواطئ قياس العقل المحكم ، وإلا كان التحكم ترجيحا بلا مرجح ، فحصل له الوجود بعد عدم ، وحصل له الكمال بَعْدًا بما اكتسب ، إن بالتلقين أو بالتجريب ، فعلمه حادث بعد أن لم يكن ، وكماله طارئ ، وهو ، مع ذلك ، لا يصير المطلق الكامل ، وَإِنْ بَلَغَ مَا بَلَغَ من الأسباب ، بل معالجته الأسبابَ حكاية الافتقار الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فلا ينفك يطلب أولا كمالُه ، في المقابل ذاتي لا يُعَلَّلُ ، فهو الغني الغنى المطلق ، فلا يعرض له نقص أو فقر أو حاجة ، كما الخلق جميعا ، وَإِنْ شَرُفَتْ ذاته كَمَلَكٍ مقرَّب أو نبي مكلَّم ، فالملك لا ينفك يفتقر الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، ولو تَنَزَّهَ عن أسباب الحس ، فلا ينفك يفتقر إلى الموجِد الأول ، فإنه في المبدإ جائز يفتقر إلى المرجح من كلمة تكوين بها يوجد ، والأمر في ذوات الخلق أظهر إذ افتقارهم إلى الأسباب آكد ، فهم يفتقرون إلى الخالق الأول ، من باب أولى ، فكان من عَرَضِ النقص في كل مخلوق ما قد تَنَزَّهَ عنه ، بداهة ، الرب المعبود ، جل وعلا ، وبه بطلت مقالة الأقانيم إذ يلزم منه طروء النقص بما يكون من تجسد وَتَمَثُّلٍ في ذوات الخلق ، وَثَمَّ من جاوز في الباب فكان من ذلك المعنوي ، وهو ، كما يحكي بعض من حَقَّقَ ، ما قد صَارَ بَعْدًا عمدةً في مثالِ الطغيانِ في السياسة والحكم ، فقال من قال بالمطلق الأول ، فليس له ، أيضا ، وصف يَثْبُتُ ، وقال بالحلول والاتحاد بمثالِ السياسةِ والحكمِ ، وهو ما احتمل في الجيل المتأخِّر اسم الدولة بما لها من اصطلاح أخص في مقال الحداثة ، فهي إله يحكم بما كان من هَيْمَنَةٍ تَسْتَغْرِقُ ، وهو ما افْتَقَرَ إلى ذريعة تَنْصَحُ قد استعارت من الدين طرفا ! ، وإن المحدَث الذي ناجزته في الأصول والفروع ! ، فلا تنفك تطلب منه رافدا به صياغة المقال الذي يُعَظَّمُ في النفوس بما ركز فيها من فطرة التدين ، ولو بَقَايَا لا تجاوز العقد المجمل فَإِلَيْهِ تَأْرِزُ في مواطن النِّزَالِ إذ تخوض صراع الوجود مع الخصوم والأضداد ، فكان الحلول والاتحاد فيها بمثال السياسة الذي اكتسب القداسة والحق الذي مُنِحَ من المطلق الأول فكان الإله النائب عنه في الأرض إذ يحكم ، كما إمام الباطنية الأول إذ خُلِعَتْ عليه أوصاف الإله الذي نَزَلَ بها الكتاب ، فلما عُطِّلَ الإله الحق من أوصاف الكمال ، خُلِعَتْ على الإمام ، فصار صورة في الأرض قد تجسدت فيها أوصاف الخالق الأول ، كما الأقانيم قد تجسدت فيها أوصاف الحياة والعلم والكلمة ! ، فَكَذَا مثال السياسة والحكم في الحداثة فقد خلعت على مثال السياسة والحكم الصفاتِ نَفْسَهَا ، فكان من ذلك ما به هيمن المثال المحدَث بالحكم المطلق الذي استغرق المحال والأحوال كافة ، فذلك الحلول والاتحاد ، وَلَوْ مَعْنًى ، وهو من جنس ما قال الأول ، وإن كان مقاله حقيقةً تُصَرِّحُ .

    فكان من الغلو مادة قد اطردت ، وقد جاوزت المجاز إلى الحقيقة ! ، حَتَّى صَرَّحَ بَعْضٌ بالحلول والاتحاد فلم يُكَنِّ ، بل قد زَادَ من زَادَ فَعَمَّ بهذا المقال المحدَثات كافة ، ولو نجسة العين خبيثة الوصف ! ، مع آخر قد جاوز الأعيان ، فكان أن صَحَّحَ الأديان كافة ، وإن جَعَلَ اسم الخليل ، عليه السلام ، ذريعةً أولى تجمع رسالات السماء الثلاثة ، وهو ، عليه السلام ، من ذلك بَرَاءٌ ، فَبَرِئَ مما طَرَأَ من تبديل وتحريف لدين التوحيد الصحيح ، دين النبوات الأوحد ، فليس ثم ثان له يشفع ، بل توحيده توحيد من أنزله ، فهو الواحد في ذاته ، الأحد في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وذلك ، بداهة ، المحكم الذي لا ينسخ ، فلا يصير منه ما صار من قول محدَث قد أشرك فَنَقَضَ الأصل الجامع ، وَإِنْ تَكَلَّفَ لذلك ما تَكَلَّفَ من التأويل البارد ، فديم النبوات دين واحد ، وهو دين التوحيد الجامع ، وهو من أباطيل الأحبار والرهبان سالمٌ ، وإن تعددت الشرائع ، مع أصول منها تَنْصَحُ فهي ، أيضا ، من مُحْكَمٍ لا يُنْسَخُ ، ومنها محل الشاهد من رِبًا يَقْبُحُ ، فَقُبْحُهُ الذاتي قَدْ ثَبَتَ ضرورة لما كان من ظلم يَتَنَاوَلُ صاحبه زيادة بلا عوض ، وهو ما قد بَطَلَ في النقل والعقل كافة ، وإن تَكَلَّفَ له من تَكَلَّفَ من الحجج ، كما بعض يحتكر باسم التيسير حتى يضيق على الخلق مَعَاشَهُمْ بِقَاعِدَةٍ تَنَافُسٍ لا تعدل ، فيكون من الاحتكار ما يقبح ، مع اشتغال باستهلاك لا ينفع ، فلا يُسْتَثْمَرُ المال في صناعة أو زراعة تمس الحاحة إليها وتعظم بل قد تَبْلُغُ في أحيان حَدَّ الضرورةِ إذ بها حفظ مقاصد تشرف إن في الدين أو في الدنيا ، فهي محل إجماع لدى الخلق كافة ، وإن لم يؤمنوا بوحي ولا رسالة ! ومع آخر يشح بما يَرْبَحُ تأولا لما تقدم من خاصة النفس إن لم تَتَزَكَّ بالوحي إذ : (أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، فكان من الشح ما عَظُمَ شؤمه ، فالمال قد أُخِذَ غَصْبًا ، ولو بطرائق تلطف بما كان من إقطاع أو إرصادٍ ، كما يذكر بَعْضُ من بحث في حِيَلٍ بها استباح السلطان الجائر مَنْحَ من يحب من الخاصة والجند ما به يصطنع الولاء وإن تكلف له التأويل أنه كالوقفِ الذي يُرْصَدُ لمنفعة تَعُمُّ ، وإن خَصَّ بِثَمَرَتِهَا قَلِيلًا يحكم فهو يحتكر المال والسلطان كافة ، فلا يكون منه حق الرعيَة ، وإن كانوا مادته التي تُثَمِّرُ فهم العامل وهم المستهلك ، وقل مثله في حيل أخرى تَقْبُحُ أَنْ خُلِعَ على الربا في مواضع : اسمُ الدين المحكم في معاملات محدَثة تحمل اسم المرابحة أو الصك .... إلخ ، وليس إلا الربا فمآله أن يُتَّجَرَ به في سوق مال تمنح التاجر زيادة ربا بلا عوض ، كما البلوى قد عمت ، أيضا ، في جيل قد تَأَخَّرَ .

    فكان من أصول من التوحيد والتشريع ما أُحْكِمَ فهو محل إجناع لدى الرسالات كافة ، وكان من فُرُوعٍ ما اخْتُلِفَ فيه فتلك شرائع تُفَصِّلُ ، وقد جاء منها في كلِّ نُبُوَّةٍ ما لجيلها يصلح ، وهو ما نَسَخَتْهُ الرسالة الخاتمة المهيمنة التي استجمعت كمالات ما تَقَدَّمَ ، وأبانت عن أصول محكمة بَعْدَ أَنْ نَالَتْهَا الأيدي الآثمة ، أيدي الأحبار والرهبان إذ بَدَّلُوا المباني وحرفوا المعاني ، وهو ما قد جاوز فاستغرق الأخبار والأحكام جميعا .

    فكان من ذلك الجمع الباطل الذي نُسِبَ لدى المبدإ إلى الخليل ، عليه السلام ، وهو إمام من وَحَّدَ فَسَلِمَ ، بداهة ، مما أُحْدِثَ بَعْدًا من شرك يَنْقُضُ وما كان من أسماء دين لا تصح نسبتها إليه ، فـ : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فكان من المكر الكبار أن نُسِبَ هذا الباطل إلى أبي الأنبياء ، عليه السلام ، فتلك مقدمة بها يُسْتَدْرَجُ الناظر إلى ما هو أفحش أن يصحح الأديان كافة ، فليست الغاية إلا واحدة وإن اختلفت المسالك ، فكل يبلغ الغاية من طريق يستحسن دون حاجة إلى مرجع من خارج يخبر ويحكم ، فصار لكل من الهوى والذوق عِوَضٌ في التصور والحكم ! ، وَذَلِكَ ما ابتغت الحداثة في الجيل المتأخر أن تسلب الوحي خاصة الأمر والنهي ، فكان من الغلو آنف الذكر ، كان منه غلو في الأقانيم والصور ، وتلك خاصة التَّوْثِينَ ، أن تُتَّخَذَ المعبودات المشهودة في الخارج ، فتلك خاصة تنزع إليها النفوس إذا غلت في الحس فلم يكن لها ثم خاصة إيمان تَنْصَحُ ولا تكون إلا بِغَيْبٍ لَا يُدْرَكُ وإن كان من الجائز الذي يُعْقَلُ فلا يُحِيلُهُ النظر الصريح وإن حار في الحقيقة والكيف فذلك مما يجاوز مدارك الشهادة وبه الابتلاء الذي يميز ، وتلك مادة أولى قد جاءت بها النبوات ، فكان من مطلع الوصف ، وصف المتقين فهم من يؤمن بالغيب فكان من الكتاب أول لا ريب فيه فهو : (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، وبعده وصف الجمع المتقي فهم : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، وذلك التوحيد الأول وبعده امتثالٌ لحكومات من التشريع تَرْفِدُ من صلاة ونفقة ، فإن الشرائع تبع لما انعقد عليه القلب من العلوم فَصَدَّقَ بِهَا تصديق الجزم ، وجاوز العرفان المجرد الذي لا يَثْبُتُ به عقد ينصح ، فالغيب أول وتلك أخبار من النبوات تصدق ، وثم تَالٍ يرفد من حكومات تَعْدِلُ في خاصةِ النفس وعامة الشأن ، وما يكون من نفقة تجب فتلك الصدقة وأخرى تُبَاحُ من البيوع والتجارات ، فذلك الأصل فيها ما لم يكن ثم دليل تحريم ينصح ، وإن كان منها ما يجب ، ولو لِغَيْرٍ ، بما يكون من نَفَقَةٍ تجب وما يكون من تَعَفُّفٍ عن السؤال وما يكون من استقامة الأحوال وتوافر المعايش فتجري ، من هذا الوجه ، مجرى الكفايات التي لا ينصح الأمر إلا أن يقوم بها بعض ، وكل أولئك مما افتقر إلى العدل فلا يكون الغرر والجهالة ، ولا يكون الغبن ولا يكون الربا فهو في الباب عمدةٌ إذ الظلم فيه أظهر والوعيد فيه أعظم .

    وهو مما به البشر يستعبدون لغير الله ، جل وعلا ، بما يكون من سلب لأسباب الحياة وَعَصِبَهَا من مال يحتكره قَلِيلٌ يتخذه دولة ، فإذا فتحت الأسواق بلا معيار يعدل ، فهو يجتهد في توفير المعايش للخلق كافة ، فيكون من عدل السوق أَنْ يُمْنَحَ كُلٌّ سَبَبًا به يطلب رزقا يَنْصَحُ وبه كفاية تقيه ذل السؤال وهو الكاسب الذي يقدر والصانع الذي يمهر وإنما كان من الظلم أن يُضَيَّقَ عليه بما كان من محتكِرٍ يَبْغِي في الأرض بغير الحق ، فيكون من سعيه ، مَا يَصْدُقُ فيه آي الوحي المحكم ، شَرْطًا قَدْ حُدَّ كَثْرَةً ، وتلك دلالة "إذا" ، وهو آكد في الذم ، إذ صار له الدين والخلق ، فـ : (إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) ، فكان من السعي ما يفسد في الأرض ، وهو ما أطنب في حده بما يكون من إهلاك الحرث والنسل ، فَيُسْلَبُ الخلق سبب الكفاية ، فلا يجدون ما يطعمون من خَارِجِ الأرضِ وَنِتَاجِ الضرع ، ولا يكون ثم زرع ولا لحم ، فقد كسدت البذور ونفقت الرءوس ، وقل المعروض فذهب السعر يعلو ، وهو ما به البلوى تعظم إن كان من السلطان مثال جائر فهو حاكم وتاجر ، وهو ، مع ذلك ، ظالم لا يعدل ، قَاسٍ لا يرحم ، بل له من وصف النفس ما يقبح إذ يَتَقَصَّدُ إيذاء الخلق في أديانهم وأبدانهم ، فيجد سرورا في حزنهم ، وسعة من ضِيقِهم ، بما يحتكر من الأرزاق ، ولو مَلَكَ خزائن الأرض لأمسك بما جُبِلَ عليه من قتر وشح ، فـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) ، فَتِلْكَ قوة أولى قد ركزت في كُلِّ نَفْسٍ ، إلا أن يكون ثم لجام وَحَكَمَةٌ من وحي يجاوز النفوس فهو يأطرها على جادة الحق ، إن في التصور أو في الحكم ، فإذا لم يكن ثم قَيْدُ دينٍ وَوَرَعٍ ، فالمفسِد يَسْتَرْسِلُ فِي إفسادِه إذ يَتَأَوَّلُ رِكْزَ النَّفْسِ من الأثرة والشح ، فَيَصِيرَ من شحه ما يَتَعَدَّى بالفعل ، ويكون من طَرِيقَتِهِ مَا عَظُمَ فحشه بما يُضَيِّقُ على التجار والخلق ، فيزيد من السعر ما به يَنْقَطِعُ البيع ، ويكون من الكساد ما يضر التاجر ويكون من آخر بِهِ تضيق المعايش ، فيذهل الخلق بما يكون من كَدٍّ في الطلب مع شُحٍّ في الأقوات ، ولا يخلو من غفلة بها البلاء يَعْظُمُ فَتَقْسُوا القلوب وتضيق النفوس فَهِيَ في حَرَجٍ ، ويكون من الذاتية ما يَفْشُو إذ يصير الخلق على ذَرَّاتٍ تَتَنَافَرُ ، وَيَقِلَّ التَّكَافُلُ وَالتَّعَاوُنُ ، وهو ما يَحْسُنُ فِي أوقاتِ الرخاء فكيف بِشِدَّةٍ تُلْجِئُ ؟! ، وإن كان من ضيق اليد ما يحرج ، فكان من المثال ذرات تَتَنَافَرُ وإن زَعَمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تتدافع فيكون من ذلك ما به المثال ينصح ، ولو سلك جادة التطور ، فَانْتَخَبَ القوي وَضَيَّعَ الضعيفَ فصار الأمر على معيارِ حِسٍّ لا يجاوز ، فلا ينصح الوجدان بما جاوز الحس من دار أخرى لأجلها يبذل العاقل ما بِيَدِهِ ، فهو فَانٍ رَجَاءَ ما يَبْقَى ويخلد ، فمن لم يجاوز أمرُه ما يشهد من أسباب الحس فما يحمله أن يحسن إلى الخلق أو يَرْقُبَ في ضعيف أو فقير إِلًّا أو ذمة ، فلا يكون ذلك إلا مِمَّنْ آمن بالغيب وجاوز في الحسن والقبح معيار الحس المحدَث ، وكان له آخر من الوحي يرفد بما نصح من الخبر الصادق والحكم العادل الذي يأطر النفوس على جادة الحق والإحسان ، فيكون العدل في الحكم ، وذاك أدنى ما يطلب ، والفضل في البذل وهو تَالٍ يجاوز فَرُتْبَتُهُ أعلى ، وبذا تَنْصَحُ النَّفْسُ وَيُشْرَحُ الصَّدْرُ ، وتعظم البركة ، فيكون من صلاح الأولى والآخرة ما لا ينال إلا من نبوة حاكمة ، فليس سواها يجاوز النفوس بما جبلت عليه من الشح والأثرة ، فهي المعيار الحاكم من خارج وإلا رُدَّ الخلق إلى معيار ذات لا تنصح ، بل هي أبدا تطغى وتتجبر ، ولو ملكت من الأمر شيئا لشحت وأمسكت ، بل وطلبت من ذلك ما به تَتَأَلَّهُ فَتَسْتَعْبِد الخلق بما حصل لها من جاه وملك ، والربا في ذلك ذريعة إذ يحتكر أسباب المال والرزق ، ويكون من صاحبه فَرْدٌ لا ينظر في حال الجمع بما تقدم من مثال ذَرِّيٍّ يصدر عن تَشَاحٍّ وَتَصَارُعٍ لا يعدل في خصومة ولا ينصح في حكومة ، فقسمته جائرة إذ تصدر عن ذات من الأرض حادثة ، قد جُبِلَتْ على نَقَائِصَ لا تسلم منها إلا أن يكون من الوحي حكم من خارج يجاوز إن في الأخلاق أو في الشرائع ، فذلك معيار دين قد عم فاستغرق المحال والأحوال كافة ، وإلا رُدَّ كُلٌّ إلى هوى وذوق فكان من الاضطراب ما به فساد الحال والمآل كافة ، وذلك مثال محدَث يرفد النفوس بمادة شح تُفْسِدُ ، ويكون ثم واحد يستحسن ذلك وهو ما قَبُحَ لدى كلِّ ذي عقل ناصح أَنْ يكون من المعيار الذاتي ما لا يقيم وزنا إلا لمصلحة تعجل ، فهي المنفعة التي وضع لها المقال المحدث مذهبا يُسَوِّغُ ، بل والتمس لها بَعْضٌ أصلا في الوحي المنزل بما تقدم في مواضع من الغلو في المصلحة أن تكون هي الأصل ، وليس يقبل منها إلا ما وافق الوحي ولم يعارض خبره أو حكمه ، ولم يكن منه خاص يَرْفِدُ قليلا وإن أَضَرَّ بِكَثِيرٍ ، ويكون منه حاجة تلجئ ، فذلك ما اعتبر في الوحي إذ به صلاح الفرد والجمع ، وبه كفاية تَحْفَظُ المقاصد ، وتلك مادة لا تستقيم إلا أن يكون من المرجع الحاكم ما جاوز النفوس فهي تشح ، ولو سُئِلَتْ تُرَابًا لَمَلَّتْ وأمسكت بما جُبِلَتْ عليه من شُحٍّ وَأَثَرَةٍ ، فهي تسعى في التملك المطلق ، ولو أضرت بِغَيْرٍ فَلَمْ تَنْصَحْ ، فكان من سعيها أَنْ تَضِيقَ حاله وتكسد بضاعته بما يكون من الإغرَاقِ الَّذِي يحتكر به رأسُ المال الأكبر فلا يكون مِنْ صَغِيرٍ ما يصمد ، إذ لا يطيق أثمان ما يصنع ، فلا ينفك يغادر ، وهو ما يكون تَبَاعًا ، فيكون لرأس المال الأكبر جناية في الباب تَفْحُشُ ، وإن أَثْرَى وَتَوَسَّعَ في الكسب فقد أضر بغير ، فكان منه ضرار قد نفاه الخبر إذ : "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" ، ودلالته دلالة الإنشاء لمن اعتبر ، فيكون النهي الذي استغرق ، فلا يضر نفسَه ولا يوقع ضررا بغيره ، فذلك مما يقبح في معيار الشريعة الحاكمة ، ومعيار التجارة العادلة ، فلا يخلو الفاعل في حال كَتِلْكَ أن يكون له من اسم الربا حظ ، ولو المعنى الأعم : زيادةً بلا وجه حق ، إذ أضر بغير فَسَلَبَهُ سبب الكسب والعيش ، واحتكر حصص غيره من الأرزاق بما سعى من الإفساد في الأرض ، فإذا فسدت فذلك صلاحه ! إذ لم يجاوز ، كما تقدم ، معيار الكسب المعجل ، وهو ما يبين عن خلل يعظم في التصور إذ لا يقر إلا بما يجد آثاره العاجلة في الشهادة ، فصار الحس هو الحاكم في الحسن والقبح دون نظر يجاوز ، وبه الإنسان قد امتاز من البهائم التي لا رائد لها إلا لذة الغريزة دون نظر في شريعة أو طريقة فلا عقل لها ينظر فِيمَا جَاوَزَ أبدانها ! .

    والله أعلى وأعلم .


الصفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12

تعليمات المشاركة

  • لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
  • لا تستطيع إضافة رد
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •