ومما اطرد من مناهج النظر والاستدلال في شَرِيعَةِ الوحي المنزل ما اصطلح أنه الاستقراء ، وهو مما استعمله الفقهاء في سَبْرِ الفروعِ العملية في الأحكام ، وذلك منهاج في النظر يَسْتَنْبِطُ من آحاد المسائل كلياتٍ جامعة ، فَثَمَّ قدر مشترك بَيْنَهَا هو الجنس العام المطلق الذي تندرج تحته آحاد مقيدة ، فَكُلُّ فَرْدٍ من أفرادِ العام له ماهية مخصوصة تُفَارِقُ غَيْرَهَا وإن كان ثَمَّ اشتراك في معنى ، فحصل الاتفاق في معنى هو الكلي الجامع ، وَحَصَلَ الافتراق فِي آخرَ وهو الجزئي الذي يقتصر على المسألة الواحدة أو الفصل الواحد أو الباب الواحد أو الكتاب الواحد ... إلخ من التقسيمات الاصطلاحية في العلوم والفنون كافة ، العقلية والتجريبية ، فلا تعارض إذ الجهة قد انفكت ، فجهة الاشتراك هي المعنى العام الذي يَأْطِرُ العلمَ أو الْفَنَّ عَلَى مَقَاصِدَ وغايات جامعة ، فهي ، كما يقول بعض المحققين ، كَالْبَوَاعِثِ الأخلاقية الَّتِي تسبق أَيَّ تَأْسِيسٍ ، فلا أمة إلا وَلَهَا من الشرعة والمنهاج ما يخص ، وتلك حكاية الاختصاص في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، مع ما اطرد من عنوان قياسي في الباب : أَنْ قُدِّمَ الظرف "لكلٍّ" وحقه التأخير حكايةَ الحصر والتوكيد ، ولا شرعة إلا ولها من بواعث التصور الأول ما يفتقر إلى مرجع ، فحصل من ذلك افتراق آخر ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ إجماع أول على جملةِ يَقِينِيَّاتٍ قَدِ اسْتَوَى في دَرَكِهَا الخلقُ كَافَّةً ، فلا يَنْفَكُّ أمرها يجمل فهي تفتقر إلى مرجع يبين في مواضع التفصيل أن تُرَدَّ الجزئيات إلى الأصول إِنِ الأصولَ الأخلاقية الباعثة ، أو أخرى شرعية حاكمة ، فهي نصوص تَتَأَوَّلُ روح الشريعة أَنْ تَسْرِيَ في الخارج فتصير حاكمة بالفعل بعد أن كانت حاكمة بالقوة ، فَالْفِعْلُ تَأْوِيلُ القوةِ النظرية ، إذ الحكم فرع عن التصور ، فثم بِنًى من القيم والأخلاق ، وثم مقاصد وغايات في الأحكام ، وثم نصوص جزئية تخرج هذه الروح الجامعة من النظر إلى الحكم ، من القوة إلى الفعل ، ومنها نصوص يُعْقَلُ معناها وهو مناطُ قياسٍ ينصح إذ يُبِينُ عن حكم الشرع في الفرع كما قد أبان عنه أولا فِي الأصل ، وهو مَا حُدَّ موجزا يعجز في المبنى والمعنى كافة ، كما الآي المنزل ، أو المعنى كما الأخبار ، فكان مِنْهَا ، كما في نصوص الربا مثالا وهي مما قد عَمَّتْ به البلوى في الأعصار المتأخرة ، كان منها آحاد من الأموال ذكرت في الخبر مُثُلًا تُبِينُ عن أجناس عليا فهي تستغرق الأقوات والأثمان التي بها الأعيان تُقَيَّمُ ، فكان من النص أَنِ : "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبى الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ" ، فاشترط فيه التماثل والقبض قبل التَّفَرُّقِ ، وكان من العلة المستنبطة وبها اطرد القياس في الباب ، كَانَ مِنْهَا ضَابِطٌ يحكم آحاد المسائل فِي الباب ، إذ لا يجوز بيع الربوي بمثله إلا متماثلا مع اشتراط القبض الناجز ، ولا يجوز بيعه بما يشاطره العلة ، العلة الربوية وإن لم يكن مثلا كذهب بفضة أو تمر بشعير ، لا يجوز من ذلك إلا الناجز في القبض وإن حصل الاختلاف في القدر ، فالذهب والفضة قد اشتركا في العلة المستنبطة وهي مما اجتهد النظار في تخريجه سبرا وتقسيما يحرر المعنى المؤثر في حصول المعنى طردا وعكسا بما يجاوز المنصوص فهو معنى يَتَعَدَّى إِلَى فروعٍ في الخارج على قول من يجعل الربا عنوانا يجاوز المنصوصات في الخبر ، فَذِكْرُهَا ، من هذا الوجه ، ذكر المثالِ المبين عن العام فلا يخصصه وإنما يبين عنه بما يحد من الوصف إذ خَرَجَ بِهِ المثال من القوة إلى الفعل فصار مُشَخَّصًا في الخارج في واحد معين فهو حكاية تصدق المعنى إذ تجاوز به الذهن مجردا إلى الخارج مقيدا بالعين المخصوصة التي تدرك بالحس فهو يجتهد في تحرير العلة التي لم ينص عليها الخبر وإنما ذكر مُثُلًا بها تظهر ، وإن لم يقطع النظر بها نصا لا يحتمل ، وإلا ما ساغ الخلاف في تحريرها ، فالعلة المنصوص عَلَيْهَا لا يجاوزها الناظر إذ لا اجتهاد مع نص ، كما يقول أهل الشأن ، فتلك أيسر المسالك في القياس : القياس على مَنْصُوصِ الحكمِ والعلةِ جميعا ، فلا يجاوز الاجتهاد في هذا الموضع ، لا يجاوز تحقيق المناط المنصوص في فرع غير منصوص ، وأدق منه أن يكون المعنى المؤثر في ثُبُوتِ الحكمِ طردا وعكسا ، أن يكون منصوصا عليه لا عَلَى حَدِّ الانفراد ، وإنما في جملة معان وأوصاف منها الطردي الذي لا يؤثر ، ومنها المؤثر الذي يسبر بمعيار عقلي ناصح إذ يستقرئ المحال إذا وُجِدَ المعنى طَرْدًا وإذا عُدِمَ عكسا ، فإذا دار معه الحكم وجودا وعدما فَهُوَ العلة التي اجتهد العقل في تحريرها وإن كانت من المذكور فليست من المنصوص على حد التعيين إذ وردت في سياق جامع لأوصاف منها المؤثر ومنها غير المؤثر ، فالعقل يجتهد في تَنْقِيحِ المؤثر واحدا أو أكثر ، إذ العلة قد تكون مفردة وقد تكون مركبة ، وأدق ، من ذلك ، وهو محل الشاهد في الربا ، ألا يذكر المعنى المؤثر ، وإنما تذكر آحاد فِيهَا يَتَحَقَّقُ ، فعمل العقل في هذه الحال أشق إذ يجتهد في استخراج المعنى الذي لأجله الحكم قد ورد ، فينظر في الآحاد التي ذكرت في حديث الربا مِثَالًا ، ويجتهد في استخراج المعنى الذي يواطئ مقاصد الشرع في تحريم الربا ، فَثَمَّ الظلم بأكل الزيادة بِغَيْرِ حَقٍّ ، وذلك عنوان أعم يجاوز الربا في الاصطلاح الفقهي الأخص إلى آخر أعم هو إلى الجنس الأخلاقي أقرب ، عنوان المقصد العام الذي يحرم الظلم ، فذلك ما استوجب إيجابا لِضِدٍّ وهو العدل ، فالشرع يأمر به وهو ما يستوجب ، ولو لزوما ، تحريم الربا إذ الزيادة فيه بلا عوض ، فهي ظلم يخالف عن معيار القياس والأخلاق والأحكام كافة ، فكان من العنوان العام ، مقصد التشريع الجامع ، الأمر بالعدل والنهي عن الظلم ، والعدل لا يستوجب ، في المقابل ، التسوية المطلقة ، وَإِلَّا مَا جَازَ بيع جنس بآخر متفاضلا إذا لم يشتركا في عِلَّةِ الرِّبَا ، فذلك تفاضل وعدم تسوية وهو مع ذلك صحيح ناجز ، بل العدل به قاض في مواضع إذ احتياج الناس إلى الأشياء يختلف فِي مِثَالِ العرضِ والطلبِ الذي يَتَفَاوَتُ من مصر إلى آخر ، ومن عصر إلى تال ، فيكون من الوفرة أو الندرة ما يُؤَثِّرُ في ثمن السلعة ، ومنه عارض كوني غير مقدور ، كما المجاعة التي يَقِلُّ فيها المعروض ، أو يكون من الغلاء ، غلاء المادة الأولى التي تُصْنَعُ منها السلعة ، أو ما يكون من مدخلات تُبَاشِرُ أو أخرى تُسَاعِدُ ، فَثَمَّ من ذلك ما يُقَلِّلُ المعروض تارة ، أو يكون منه ما يَتَوَافَرُ ولكن ثمنه يزيد زيادةً فاحشة تجاوز الحد فلا يُطِيقُهَا عامة الناس ، فلا يَنْتَفِعُ بها إلا آحاد هم نوادر لا يقاس عليها في وصف ظاهرةٍ : رخاءً أو شدةً ، فلا توصف الظاهرة بسلوك آحاد هم قليل أو نادر ، وإنما توصف الظاهرة بسلوك كثير غالب ، فإن تَوَافَرَتِ السلعة والخدمة ولم يطق ثمنها إلا قليل فهي في حكم العديم ، إذ العبرة بالانتفاع بها لا بوجودها المحض فإنها لم تُوجَدْ لِذَاتِهَا أَنْ تَكُونَ في نَفْسِهَا غَرَضًا وَقَصْدًا ، كما المال الذي تُقَوَّمُ به السِّلَعُ ، فإنه ليس في نَفْسِهِ غَرَضًا يُرَادُ لذاته جمعا واكتنازا أو اتجارا كما الربا الذي يخالف عن وظيفة المال في الحياة فهو وسيط في التجارة والكسب وهو معيار تقييم للأشياء ، فَخُلِقَ لِيُبْذَلَ ثمنا لا لِيُدَّخَرَ كَنْزًا مُعَطَّلًا لا أَثَرَ له في الحياة بما يكون من حركة وتداول ، فكان من الوعيد ما يحض العاقل فَضْلًا عن المؤمن الناصح أن يبذل المال سمحا ، فإن ذلك مما يعود عليه نَفْعًا ، فالتاجر وإن محتكرا أو معظما لرأس المال فهو مركز فكرته وباعث حركته ! ، التاجر لا يربح إلا إذا وُجِدَ المشتري ذو القدرة الذي يملك من المال وَفْرَةً ، ولا يكون ذلك إلا أن يكون المال دولة بين الناس كافة ، لا بين نخبة أو طبقة من الأغنياء يتداولون المال بينهم فلا يجاوز الانتفاع به والترفه ، لا يجاوز قلة هي من يحتكر ويمتلك لا على قاعدة عدل ، ولو تملكها من حِلٍّ ، فالعدل قاض أن يُخْرِجَ الحق من المال ، وأن يكون من الأعمال وفرة تغني الخلق ، كما في الخبر : "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ" ، فقد أَرْشَدَهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يحتطب ويتجر فَيُحَوِّلُ الأولي من الشجر إلى حطب يُنْتَفَعُ بِهِ بأداة وَسِيطَةٍ ، فهي تزيد في قيمة الأولي بما يكون من المعالجة التي تضيف إليه ربحا يَنْتَفِعُ به صاحب الحرفة فَهُوَ يَشْتَرِي به ما يحتاج ، فَيُحَرِّكُ دَوَائِرَ أخرى في الأسواق ، فالناس لبعضهم خدم ، وكل يُرْبِحُ الآخر بما يشتري ويكتري ، فيكون رواج يَعُمُّ وهو ما يرجع إلى صاحب المال فَلَوْ فقه وجاوز نظره ما تحت قدمه ! ، لبادر وأنفق ، ولو عطيةً بلا مقابل ، فإن حصول المال في يد الخلق عماد تجارته وكسبه ، وهو ما اصطلح بَعْضٌ ممن صنف في الأموال والتجارات أَنَّهُ "التَّدَفُّقُ الْفَعَّالُ" ، فهو تدفق للمال أن يصير دولة بين الخلق كافة لا بين الأغنياء خاصة ! ، فذلك الوصف الفعال الذي يحرك الدوائر الراكدة بما يُضَخُّ فِيهَا من أموال سَائِلَةٍ ، فالراكد يفسد وإضافة كثير إليه يطهر كما ذكر أهل الشأن في أحكام الماء وما يُطَهِّرُ منه وما لا يُطَهِّرُ ، وهو ما يواطئ غَرَضَ الوحي ، كما يقول بعض ذوي الفضل ، أن يكون المال ذا أَثَرٍ في الخارج فهو يجاوز الأرقام المكتنزة في الخزائن والمصارف فتلك رءوس أموال من النقد لا من الصنع والزرع وهما ، كما يقول صاحب المقدمة رحمه الله ، هما أَصْلَا المال قَبْلًا وبهما الإنتاج يظهر ، فيتحول المال من قوة الادخار إلى فعل الإنتاج ، فيصير نافعا بالفعل لا بالقوة المركوزة فيه ، فهو ، كما تقدم ، وَسِيطٌ يبذل نظير سلعة أو خدمة تَنْفَعُ ، فَيُجَاوِزُ الفرضَ رَقَمًا يُدَّخَرُ في الخزائن والمصارف ، فذلك مما يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ وَيُنْقِصُ قِيمَتَهُ ، إن عددًا أو ثمنًا ، فَيَنْقُصُ عَدَدُهُ ، ولو بسببٍ يُشْرَعُ كما الزكاة ، لا جرم كان من الأمر في الخبر المحكم أَنِ : "اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ" ، وهو من بلاغات مالك ، رحمه الله ، عن عمر ، رضي الله عنها ، ولها من الاعتبار حظ لما كان من تحري مالك وإن احتج بالمرسل ، فَثَمَّ من سعة الرواية والإقامة في دار الهجرة وهي معدن النقل ومأرز العدالة والضبط ، ثم من ذلك ما جعل مرسل مالك في الموطإ أو ما قد بَلَغَهُ وهو ، كما تقدم ، ما اصطلح في علوم الرواية أَنَّهُ بَلَاغَاتُ مَالِك ، ثم من تلك القرائن المحتفة ما جعل لمرسله وبلاغاته حظا من النظر والاعتبار ، وقد صَنَّفَ فيها مَنْ صَنَّفَ أن تَتَبَّعَ طرقها ومخارجها فَوَصَلَهَا ، ومنها هذا الخبر ، وقد رواه في موضع آخر ، رواه الطبراني في المعجم الوسيط مرفوعا إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث أنس ، رضي الله عنه ، وإن كان غريبا كما اشترط الطبراني في معجمه الوسيط ، على تفصيل في ذلك ، فهو غريب في روايته إذ لم يرو إلا بهذا الإسناد ، والغرابة مظنة ضعف يوجب التحري إلا في مواضع قد اشتهرت من روايات قد تواترت في طبقات متأخرة فحصل من ذلك ما يضاهي الإجماع على صحتها في نفس الأمر ، وكذا ما يقع من غرائب في روايات حفاظ واسعي الرحلة والجمع كما المثل قد ضرب بابن شهاب الزهري ، رحمه الله ، فَثَمَّ الأمر أن : "اتَّجِرُوا" ، وَهُوَ مَا زِيدَ في حَدِّهِ فتلك مادة الافتعال في الاشتقاق ، وَهُوَ مَئِنَّةُ التكلف والقصد ، وهو ما أُطْلِقَ فَاسْتَغْرَقَ أجناسَ التجارات كافة ، وثم من الإطناب بَعْدًا ما يجري مجرى العلة فهو جواب سؤال قد دَلَّ عليه السياق اقتضاء ، فما علة الأمر بالاتجار في أموال اليتامى ؟! ، فكان الجواب : لا تأكلها الصدقة وإن واجبة تحمد في الشرع ، فَثَمَّ من تمام النصح لليتيم أن يُتَّجَرَ في ماله فيزيد وذلك عنوان يستغرق كل مال ، فذكر مال اليتيم ، من هذا الوجه ، يجري مجرى المثال لعام فلا يخصصه ، وإنما خص مال اليتيم عناية به إذ لا يُحْسِنُ ما يحسن البالغ الراشد ، وذلك ، بداهة ، ما قد خُصَّ بالعقل ، فَخَرَجَ ما حرم من التجارات ، ومنها الربا آنف الذكر ، فهو الاتجار بالنقد ، وهو ، كما تقدم ، خروج به عن الغاية والحد ، فما خُلِقَ المال إلا لِيُنْفَقَ في وجوه الخير فيكون ثمنا يبذل وصدقة تحمد لا سلعة يَتَّجِرُ بها أصحاب الأموال الربوية التي يعظم شؤمها ، فَلَيْتَهَا تَكُفُّ أَذَاهَا عن الخلق ، بل هي مما يستنزف جهدهم في الأعمال وكسبهم من الأموال ، إذ المال الربوي يَقْتَنِصُ زيادةً بلا عوض فلا يبذل ما يكافئ ربحه الذي يحصل بالإقراض الآمن ! فلا يضيف إلى الخارج أداة إنتاج تنفع من صناعةٍ تُحَوِّلُ الأولي إلى ثانوي ذي قيمة تضاف في النفع والكسب ، فهي تَنْفَعُ وهو مما الحاجة إليه تعظم فَيَشْتَرِيهِ صاحبُ الحاجة بِثَمَنٍ يزيد ، فيكون الربح بِعِوَضٍ يَنْفَعُ لا خاليا من العوض كما الربا المحرم الذي يمحق البركة ، بركة العمل أن يتحول المال من عدد يكتنز ، وهو عنوان في الخيال يجرده الذهن فلا يجاوز وصف القوة ، أن تَتَحَوَّلَ هذه القوة النظرية إلى أخرى فعلية لها وجود في الخارج يجاوز المقدر المجرد في الذهن ، فيتحول إلى أداة إنتاج تصنع وتزرع وأخرى بها الاتجار ينشط أن تكون هِيَ مِعْيَارَ التَّقْيِيمِ بَيْعًا وَشِرَاءً ، لا أن يكون النقد المعدود في نفسه سلعةً تُتَدَاوَلُ بما يكون من فَضْلٍ زائد بلا عوض يكافئ ، وذلك الظلم الذي نهى عنه الوحي المحكم ، فكان من نص الخبر القدسي ما يحرم أَنْ : "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا" ، فَثَمَّ من التوطئة بالسبب : "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا" بَيْنَ يدي المسبَّب من النهي المحرِّم أَنْ : "لَا تَظَالَمُوا" ، فكان من الكسب المحرم في الربا أن ظُلِمَ المدينُ إذ يَبْذُلُ زيادةً بلا عوض يكافئ ولو بَيْعَ نسيئة مع التماثل ، فإن النسأ ، كما يقول بعض من دَقَّقَ ، يسلب المال بعضا من القيمة بما يكون من ضعف وتراجع في قوة الشراء في مقابل ما يزيد من الأسعار ، وذلك ما يمحق بركة المال ، ولو في يد الدائن الذي يجمع المال من أكياس المقترضين إلى كيسه ! ، فَمَا يَنْتَفِعُ بمال قد فَقَدَ من القيمة ما يعدل أَثَرَ الربا إذ لا يُضَخُّ فِي مُثُلِ الإنتاج التي تحقق الوفرة في السلعة فيزيد المعروض منها فينخفض السعر وتزيد قوة النقد بما يكون من فائض يطلبه الخارج بعد حصول اكتفاء في الداخل وهو المطلوب الأول ، ولو فردا ، كما في الخبر : "«تَصَدَّقُوا» قَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ»" ، فكان من دوائر الاكتفاء ما تَوَالَى بما يواطئ القياس المحكم ، فيكون البدء بما هو أولى ، فالداخل يقدم ، بداهة ، على الخارج ، فخروج المال من ضيق الكيس إلى سعة التداول وأعظمه نَفْعًا أَنْ يُضَخَّ في آلةِ صُنْعٍ أو زَرْعٍ ذات قيمة تضاف في الكسب بما يكون من الربح الحلال مع ما يكون من فوائض يعاد استثمارها فيزيد الإنتاج وتحصل الوفرة التي بها السعر ينخفض أكثر ، وهو ما استوجب قوة تشتري هذا المعروض ، فيكون من توظيف العامل : الصانعِ والزارعِ والحاسبِ والحارسِ ..... إلخ ما يفرز هذه القوة التي تشتري بما يبذل لها من الأجر فهي تَقْتَنِي به ما تحتاج من المطعوم والمشروب ... إلخ ، وتبذله نظير الخدمة تعليما أو تطبيبا ..... إلخ ، فالمال يسلك دوائر تَتَّسِعُ ويصنع الثروة ويعدل في القسمة ، فيكون من ربح المال ما يعظم إن بُذِلَ سمحا حلالا في كسب يَنْفَعُ بِمَا انضاف من القيمة في الخارج ، فهو يكفي الخلق ما احتاجوا إذ يخرج من قوة الاكتناز والادخار إلى فعل الإنتاج والاتجار ، ويكون من عموم النفع ما يستغرق كثيرا من الخلق ، فَثَمَّ أجرة تبذل وصاحبها لها ينفق على نفسه وأهله وولده ومن جاور بما يكون من فضل زائد ، فَيَنْشَطُ المال بعد اكتسابه فلا تكون الغاية منه اكتنازه ، ويسلك جادة البذل وبها تعظم البركة إذ يكون رواج في السوق بما يزيد من الطلب على المعروض وهو ما يحمل الصانع والزارع أَنْ ينشط فلا يكسل ، فالسوق رَائِجٌ لا يكسد ، فهو يطلب أكثر ، فَثَمَّ من الرخاء ما قد عَمَّ فَزَادَ الطلب من الجمع كلِّه لا من طبقة أو نخبة وحدها من يملك ثمن السلعة ، فما جدوى حصولها ووفرتها في العرض وليس يملك ثمنها إلا قليل أو نادر فلا حكم له كما يقول أهل الفقه ! ، فلا يحكم بالرخاء بمحض الوفرة ، بل لا بد من قدرة أن يُشْتَرَى المعروض ، قدرة العموم من الخلق لا الخصوص من ذوي المال والكنز ، فإذا زاد الطلب ، وكان من العدل أن حَصَلَ لكلِّ أحد بما أطاق فليس من شرط العدل التسوية المطلقة ، بل يجزئ في حصولها أن يطيق كلٌّ من حاجته ما يواطئ حاله فلا يحتاج ولا يسأل ، وإن كان من تفاوت الخلق في الغنى والفقر ما لا ينكر ، فذلك عنوان القدرة في باب الربوبية خلقا للأغيار والأضداد ، وهو آخر في التكليف بما يكون من الابتلاء ، فـ : (جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) ، فذلك من جعل التكوين النافذ الذي يحكي الجلال والجمال كافة ، جلال القدرة في خلق الأضداد وجمال الحكمة في تدبيرها ، وجمال الشرعة التي تأمر وتنهى بما به الحال تنصح ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، أن يُسْنَدَ إلى ضمير الجمع مئنة التعظيم للذات والتكثير للوصف الذي يقوم بها إن جلالا أو جمالا ، وبهما ، كما تقدم مرارا ، الكمال يَثْبُتُ ، فكان من الاستفهام ما آل في دلالته إلى الأمر أن : اصْبِرُوا ، وهو عنوان عموم قد استفيد إذ أطلق العامل مع ما كان من دلالة الواو ، فهي مئنة الجمع المستغرق للآحاد ، فَيَصْبِرُ الغني أَنْ يَبْذُلَ حَقَّ الفقير سمحا ، ويصبر الفقير فلا يظلم حسدا ، ويكون من العدل في قسمة المال العام ، وآخر في فرص بها الكسب والمعاش ، فإذا حصل الطلب العادل أَنْ أَطَاقَ كلٌّ منه ما يحتاج على تَفَاوُتٍ في احتياج الخلق ، فإذا حصل ذلك فهو مما يزيد في حركة المال إذ يحضه أن يَتَوَسَّعَ في اتخاذ الآلة التي تصنع وتزرع لينتج أكثر فيزيد المعروض وينخفض السعر أكثر ، فيكون من رواج المعروض ما به الربح يعظم ، مع ما يكون من فائض يشتريه الخارج بعد حصول اكتفاء يجزئ في الداخل ، فذلك كسب المال المعتبر في النقل والعقل كافة فهو كسب حقيقة لا مجاز كما كسب العدد زيادة في المال الربوي مع ما يكون من محق البركة ، وإن بمعيار الحس الذي يعظمه من لا يرجو للوحي وقارا أن يؤمن بالغيب ويعظم الأمر والنهي ، فإن زيادة العدد دون إنتاج ينفع وهو ما لقوة النقد يدعم ، فإن زيادة العدد مع تَرَاجُعِ القوة في الشراء لا ينفع صاحبه إلا أن يستكثر من الورق أو المعدن مع انخفاض القيمة تِبَاعًا إذ لم يحقق المالُ الغاية التي لأجلها قد خلق ، ولم يكن من دوائر الكسب والعمل ما اتسع ، فكان من مراد الوحي ألا يَتَرَكَّزُ المال في طبقة أو نخبة ، فـ : (لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) ، فوظيفة المال أن يكون وسيطَ تجارةٍ لا سلعة يُتَّجَرُ بها ، فَوَفْرَةُ السلع والخدمات مع ضعف القدرة ، قدرة الشراء وَالانْتِفَاعِ ، تلك الوفرة مع ضعف القدرة يُصَيِّرُهَا كَلَا شيء فهي والعدم سواء ، فلا وجود لها إذ العبرة بالانتفاع لا بالوجود المطلق في الخارج ، فيشبه ذلك الفرض المحض الذي لا يجاوز عتبة الذهن ! .
والشاهد أن من الطارئ في الباب : ما يكون بِقَدَرٍ يَنْفُذُ ، كما المجاعة أو الحرب ..... إلخ ، ومنه آخر من فعل البشر بما يكون من إغراق أو احتكار ، وقد يكون من الإغراق تارة ما ينفع وإن أضر بالمحتكر أن نَقص السعر الذي اجتهد في زيادته بما احتكر من السلعة صناعة أو زراعة أو تجارة ، وهو ما يَرُدُّ عجز كلام إلى صدره ، فذلك ما اصطلح بعض المحققين ، أنه المنظومة الأخلاقية الباعثة التي يَتَحَرَّكُ النَّاسُ في نِطَاقِهَا ، فمنظومة الوحي تجاوز بالمال حد الكسب المحض ، وترده إلى جادة رشد أن يكون أداة بها عمارة الكون وبها إِنْفَاذُ الشرع ، فمنه ما يُنْفَقُ النفقة الواجبة ومنه آخر يندب ، وثم ثالث يُبَاحُ ، ولكلٍّ من دوائر الانتفاع ما يستغرق ، فلا يكون في نفسه غاية تُطْلَبُ فَيَتَّجِرَ فيها الخلق بما يزيد من أعباء الدين ربا يمحق البركة ، فأكله مما استوجب العقاب الناجز في الأولى ، ومنه المنصوص ، كما قد حرمت جُمَلٌ من الطيبات على الذين هادوا ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، ومنه المعقول بما يكون من محق البركة كما قد نص الآي المحكم أَنْ : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، فَثَمَّ من المقابلة ما استغرق شطري القسمة ، وثم من طباق إيجاب بين الألفاظ ، وإن الطباق غير التام ، فإن الربا وهو الزيادة يطابق في لفظه العدل في البيع فلا يكون ثم زيادة بلا عوض ، ولا يخلو السياق من مأخذ يَلْطُفُ أن عومل المرابي طالبُ الزيادة ، أَنْ عُومِلَ بِنَقِيضِ قصده ، فكان من محق البركة ما ينقص ، وإن كان ظاهر العدد أنه يكثر ، وكان من ضد ناله المتصدق ، فلم ينله المرابي الذي طلب الربا والزيادة بلا حق ، وثم من المضارعة في "يَمْحَقُ" و "يُرْبِي" ، ثم منها استحصار للصورة ، من وجه ، مع ديمومة في الوصف والفعل فذلك مما به التكليف ينصح فهو قانون عام يستغرق ، مع ما قد رُدَّ إِلَيْهِ في باب الاسم والوصف في الإلهيات ، فذلك من وصف الفعل قديمِ النوع فقد ثَبَتَ أزلا وله من الآحاد في الخارج تأويل بما يكون من حدوثها بالمشيئة النافذة .
فكان لطالب الصدقة من الرِّبَا ما قد حَلَّ وَحَسُنَ ! فعظمت بركته أن زاده الله ، جل وعلا ، وهو الخالق الذي يضاعف لمن يشاء ويعطي من الفضل ما شاء لمن شاء كيف شاء فلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ ، ولا يخلو فِعْلُهُ أَنْ يُوَاطِئَ عنوان الكمال المطلق ، فلا يُسْأَلُ لكمال القدرة والحكمة ، جلالا به الخلق وجمالا به المنح : أَنْ مَنَحَ المتصدِّق ما زاد وربى فأربى صدقته وهي قليل وضاعفها حتى صارت كالجبل العظيم ، كما في الخبر : "«مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا طَّيِّبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»" ، فكان من الآية خبر يبين عن محق الربا من وجه ، وربا الصدقة من آخر ، وهو ما استجلب في الدلالة نهيا وأمرا بهما قسمة أخرى تستكمل ، قسمة التكليف إذ يَنْهَى عن الربا الممحوق ، فذلك وصف مذموم يرجح فيه التحريم وهو مدلول النهي في التكليف ، ويأمر بضد من الصدقة وبها الزيادة والبركة ، فكان من ذلك عنوان يبين عن باعث الأخلاق في سن الأحكام أمرا ونهيا ، فحفظ المال من المقاصد الرسالية الناصحة ، أن يحفظ حقيقة لا دعوى ، فلا يكون حفظه بما ضاهت به المثل الرأسمالية نظيرتها الرسالية ، فجعلت حفظه زيادته في العدد ولو ربا يحرم بما به الاحتكار يعظم فيصير المال دولة بين الأغنياء وبه يَسْتَرِقُّونَ الخلق أن يَسُنُّوا لهم من المنهاج في الأخلاق والأعمال والمتاجر ما يصب في قناة المالك ، فهو القوي الغالب أَنِ احتكر أسباب الثروة فصنع بها الفكرة والشرعة وسن بها مثال الكسب لا قِيَمًا تضاف بما ينفع الخلق من سعة في الأرزاق والمعايش وإحسانا به تأويل آخر لمعاني التواصي بالحق والتكافل بين الخلق ، فصار الربح في نفسه غاية ، ولو ربا يحرم ، وذلك ، كما تقدم ، مما يبين عن معنى أدق ، معنى الباعث من الفكرة فهو أول يتقدم أي حركة ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما يقول النظار ، فَثَمَّ ، بادي الرأي ، معيار الحسن والقبح في وصف الأفعال ومنها ما يكون في الأموال فما يحسن فيها أن تكون أداة بها النفع يعم أو الحسن فيها أن يزيد عددها وإن محقت بركته بل وعظمت جنايته أن صار عبئا يثقل كاهل الخلق بما يكون من شؤم الربا وضلع الدين ، فكان من المقابلة في هذا الموضع : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، وكان آخر به الطباق يتم إذ يكافئ الربا البيعُ ، كما في آي تقدم في سباق أول ، فـ : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، وتلك مقابلة أخرى في باب التشريع إباحة وحظرا ، وبها دحض الشبهة التي بالغ صاحبها فجعل التشبيه قَلْبًا ، أن صَيَّرَ الأصل فرعا والفرع أصلا في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ، فكان من ذلك إمعان في استباحة المحرم ، فكأنه الأصل المحقق ، وذلك مما أجمل عنوانه في الآي ، وكان من جوامع الكلم الخبرية ما أبان عن الأجناس الربوية وهي الأصول التي تُرَدُّ إليها الفروع ، فتلك القاعدة الجامعة ، ولا تخلو ، كما يقول بعض من حقق ، لا تخلو من عنوان حكمة أن تَنَاوَلَتْ مثلا بها البلوى تعم فهي تحكي معايش الخلق الضرورية وإن اختلفت من مصر إلى آخر ، ومن عصر إلى تال ، فَثَمَّ من المعنى ما يلطف ، وهو ما اجتهد النظار في حده ، فكان من العلة المركبة في المذكورات طعما : "الْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ" ، كان منها الطعم والكيل ، كما رجح الشافعية رحمهم الله ، كان منها الطعم والكيل علة مركبة يقاس عليها غيرها ، فالاعتبار أن يكون من الطعم الذي تعم به البلوى فحصول الربا فيه يضيق على الخلق معاشهم ، وثم ، وهم المالكية رحمهم الله ، ثَمَّ من جعل العلة مركبة من الكيل والادخار ، ومعنى الادخار مما ينفع إذ يدخر الخلق من مطعومهم ما يكفي ويجزئ ، وكان من علة في الذهب والفضة ما اصطلح أنه مطلق الثمنية لا جوهرها الذي يقتصر على أعيان الذهب والفضة بل العبرة بما قد اتُّخِذَ نَقْدًا به البيع والشراء ، فحصول الربا فيه يضيق المعايش إذ يُفْضِي ، كما تقدم ، إلى احتكار المرابين له فيصير من الحرج ألا يحصل من النقد في أيدي الناس كافة ما به الحوائج تُقْضَى ، فكان من حكمة تلطف : أن ذكرت تلك المثل لا نصا على أعيانها فلا يجاوز ، كما قال الظاهرية رحمهم الله إذ اقتصروا في التحريم على أعيان المنصوصات فَزَادَ مَنْ حقق استنباطا لمعنى يدركه العقل وبه غايات الوحي تحفظ ، وذلك نظر أدق في الباب يصير المذكورات مثلا تحكي عمومات تستغرق فذكرها من هذا الوجه لا يخصص وإنما يبين عَنْهَا بَيَانَ المثالِ ، وذكرها في الخبر مما يدل بداهة على الأمر إنشاءً به التكليف يثبت : الأمر المساواة فلا تفاضل ، والأمر بالتقابض الحالِّ فلا نسيئة ، ويدل على آخر ينهى عن ضد من الربا المحرم ، فوصف من خالف أنه يُرَابِي ، ذلك مما يدل على النهي بداهة ، فذلك ، أيضا ، من الخبر ذي الدلالة الإنشائية ، فاستعير لما شرع من حكومةِ أَمْرٍ بالتسوية ونهيٍ عن ضد من المفاضلة أو الزيادة بلا عوض كما قد حُدَّ الربا في اصطلاح بعض من حَقَّقَ .
والله أعلى وأعلم .