الصفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
اعرض النتائج 1 من 20 إلى 23

الموضوع: أجناس الربا

  1. #1
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    أجناس الربا

    ومما اطرد من مناهج النظر والاستدلال في شَرِيعَةِ الوحي المنزل ما اصطلح أنه الاستقراء ، وهو مما استعمله الفقهاء في سَبْرِ الفروعِ العملية في الأحكام ، وذلك منهاج في النظر يَسْتَنْبِطُ من آحاد المسائل كلياتٍ جامعة ، فَثَمَّ قدر مشترك بَيْنَهَا هو الجنس العام المطلق الذي تندرج تحته آحاد مقيدة ، فَكُلُّ فَرْدٍ من أفرادِ العام له ماهية مخصوصة تُفَارِقُ غَيْرَهَا وإن كان ثَمَّ اشتراك في معنى ، فحصل الاتفاق في معنى هو الكلي الجامع ، وَحَصَلَ الافتراق فِي آخرَ وهو الجزئي الذي يقتصر على المسألة الواحدة أو الفصل الواحد أو الباب الواحد أو الكتاب الواحد ... إلخ من التقسيمات الاصطلاحية في العلوم والفنون كافة ، العقلية والتجريبية ، فلا تعارض إذ الجهة قد انفكت ، فجهة الاشتراك هي المعنى العام الذي يَأْطِرُ العلمَ أو الْفَنَّ عَلَى مَقَاصِدَ وغايات جامعة ، فهي ، كما يقول بعض المحققين ، كَالْبَوَاعِثِ الأخلاقية الَّتِي تسبق أَيَّ تَأْسِيسٍ ، فلا أمة إلا وَلَهَا من الشرعة والمنهاج ما يخص ، وتلك حكاية الاختصاص في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، مع ما اطرد من عنوان قياسي في الباب : أَنْ قُدِّمَ الظرف "لكلٍّ" وحقه التأخير حكايةَ الحصر والتوكيد ، ولا شرعة إلا ولها من بواعث التصور الأول ما يفتقر إلى مرجع ، فحصل من ذلك افتراق آخر ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ إجماع أول على جملةِ يَقِينِيَّاتٍ قَدِ اسْتَوَى في دَرَكِهَا الخلقُ كَافَّةً ، فلا يَنْفَكُّ أمرها يجمل فهي تفتقر إلى مرجع يبين في مواضع التفصيل أن تُرَدَّ الجزئيات إلى الأصول إِنِ الأصولَ الأخلاقية الباعثة ، أو أخرى شرعية حاكمة ، فهي نصوص تَتَأَوَّلُ روح الشريعة أَنْ تَسْرِيَ في الخارج فتصير حاكمة بالفعل بعد أن كانت حاكمة بالقوة ، فَالْفِعْلُ تَأْوِيلُ القوةِ النظرية ، إذ الحكم فرع عن التصور ، فثم بِنًى من القيم والأخلاق ، وثم مقاصد وغايات في الأحكام ، وثم نصوص جزئية تخرج هذه الروح الجامعة من النظر إلى الحكم ، من القوة إلى الفعل ، ومنها نصوص يُعْقَلُ معناها وهو مناطُ قياسٍ ينصح إذ يُبِينُ عن حكم الشرع في الفرع كما قد أبان عنه أولا فِي الأصل ، وهو مَا حُدَّ موجزا يعجز في المبنى والمعنى كافة ، كما الآي المنزل ، أو المعنى كما الأخبار ، فكان مِنْهَا ، كما في نصوص الربا مثالا وهي مما قد عَمَّتْ به البلوى في الأعصار المتأخرة ، كان منها آحاد من الأموال ذكرت في الخبر مُثُلًا تُبِينُ عن أجناس عليا فهي تستغرق الأقوات والأثمان التي بها الأعيان تُقَيَّمُ ، فكان من النص أَنِ : "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبى الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ" ، فاشترط فيه التماثل والقبض قبل التَّفَرُّقِ ، وكان من العلة المستنبطة وبها اطرد القياس في الباب ، كَانَ مِنْهَا ضَابِطٌ يحكم آحاد المسائل فِي الباب ، إذ لا يجوز بيع الربوي بمثله إلا متماثلا مع اشتراط القبض الناجز ، ولا يجوز بيعه بما يشاطره العلة ، العلة الربوية وإن لم يكن مثلا كذهب بفضة أو تمر بشعير ، لا يجوز من ذلك إلا الناجز في القبض وإن حصل الاختلاف في القدر ، فالذهب والفضة قد اشتركا في العلة المستنبطة وهي مما اجتهد النظار في تخريجه سبرا وتقسيما يحرر المعنى المؤثر في حصول المعنى طردا وعكسا بما يجاوز المنصوص فهو معنى يَتَعَدَّى إِلَى فروعٍ في الخارج على قول من يجعل الربا عنوانا يجاوز المنصوصات في الخبر ، فَذِكْرُهَا ، من هذا الوجه ، ذكر المثالِ المبين عن العام فلا يخصصه وإنما يبين عنه بما يحد من الوصف إذ خَرَجَ بِهِ المثال من القوة إلى الفعل فصار مُشَخَّصًا في الخارج في واحد معين فهو حكاية تصدق المعنى إذ تجاوز به الذهن مجردا إلى الخارج مقيدا بالعين المخصوصة التي تدرك بالحس فهو يجتهد في تحرير العلة التي لم ينص عليها الخبر وإنما ذكر مُثُلًا بها تظهر ، وإن لم يقطع النظر بها نصا لا يحتمل ، وإلا ما ساغ الخلاف في تحريرها ، فالعلة المنصوص عَلَيْهَا لا يجاوزها الناظر إذ لا اجتهاد مع نص ، كما يقول أهل الشأن ، فتلك أيسر المسالك في القياس : القياس على مَنْصُوصِ الحكمِ والعلةِ جميعا ، فلا يجاوز الاجتهاد في هذا الموضع ، لا يجاوز تحقيق المناط المنصوص في فرع غير منصوص ، وأدق منه أن يكون المعنى المؤثر في ثُبُوتِ الحكمِ طردا وعكسا ، أن يكون منصوصا عليه لا عَلَى حَدِّ الانفراد ، وإنما في جملة معان وأوصاف منها الطردي الذي لا يؤثر ، ومنها المؤثر الذي يسبر بمعيار عقلي ناصح إذ يستقرئ المحال إذا وُجِدَ المعنى طَرْدًا وإذا عُدِمَ عكسا ، فإذا دار معه الحكم وجودا وعدما فَهُوَ العلة التي اجتهد العقل في تحريرها وإن كانت من المذكور فليست من المنصوص على حد التعيين إذ وردت في سياق جامع لأوصاف منها المؤثر ومنها غير المؤثر ، فالعقل يجتهد في تَنْقِيحِ المؤثر واحدا أو أكثر ، إذ العلة قد تكون مفردة وقد تكون مركبة ، وأدق ، من ذلك ، وهو محل الشاهد في الربا ، ألا يذكر المعنى المؤثر ، وإنما تذكر آحاد فِيهَا يَتَحَقَّقُ ، فعمل العقل في هذه الحال أشق إذ يجتهد في استخراج المعنى الذي لأجله الحكم قد ورد ، فينظر في الآحاد التي ذكرت في حديث الربا مِثَالًا ، ويجتهد في استخراج المعنى الذي يواطئ مقاصد الشرع في تحريم الربا ، فَثَمَّ الظلم بأكل الزيادة بِغَيْرِ حَقٍّ ، وذلك عنوان أعم يجاوز الربا في الاصطلاح الفقهي الأخص إلى آخر أعم هو إلى الجنس الأخلاقي أقرب ، عنوان المقصد العام الذي يحرم الظلم ، فذلك ما استوجب إيجابا لِضِدٍّ وهو العدل ، فالشرع يأمر به وهو ما يستوجب ، ولو لزوما ، تحريم الربا إذ الزيادة فيه بلا عوض ، فهي ظلم يخالف عن معيار القياس والأخلاق والأحكام كافة ، فكان من العنوان العام ، مقصد التشريع الجامع ، الأمر بالعدل والنهي عن الظلم ، والعدل لا يستوجب ، في المقابل ، التسوية المطلقة ، وَإِلَّا مَا جَازَ بيع جنس بآخر متفاضلا إذا لم يشتركا في عِلَّةِ الرِّبَا ، فذلك تفاضل وعدم تسوية وهو مع ذلك صحيح ناجز ، بل العدل به قاض في مواضع إذ احتياج الناس إلى الأشياء يختلف فِي مِثَالِ العرضِ والطلبِ الذي يَتَفَاوَتُ من مصر إلى آخر ، ومن عصر إلى تال ، فيكون من الوفرة أو الندرة ما يُؤَثِّرُ في ثمن السلعة ، ومنه عارض كوني غير مقدور ، كما المجاعة التي يَقِلُّ فيها المعروض ، أو يكون من الغلاء ، غلاء المادة الأولى التي تُصْنَعُ منها السلعة ، أو ما يكون من مدخلات تُبَاشِرُ أو أخرى تُسَاعِدُ ، فَثَمَّ من ذلك ما يُقَلِّلُ المعروض تارة ، أو يكون منه ما يَتَوَافَرُ ولكن ثمنه يزيد زيادةً فاحشة تجاوز الحد فلا يُطِيقُهَا عامة الناس ، فلا يَنْتَفِعُ بها إلا آحاد هم نوادر لا يقاس عليها في وصف ظاهرةٍ : رخاءً أو شدةً ، فلا توصف الظاهرة بسلوك آحاد هم قليل أو نادر ، وإنما توصف الظاهرة بسلوك كثير غالب ، فإن تَوَافَرَتِ السلعة والخدمة ولم يطق ثمنها إلا قليل فهي في حكم العديم ، إذ العبرة بالانتفاع بها لا بوجودها المحض فإنها لم تُوجَدْ لِذَاتِهَا أَنْ تَكُونَ في نَفْسِهَا غَرَضًا وَقَصْدًا ، كما المال الذي تُقَوَّمُ به السِّلَعُ ، فإنه ليس في نَفْسِهِ غَرَضًا يُرَادُ لذاته جمعا واكتنازا أو اتجارا كما الربا الذي يخالف عن وظيفة المال في الحياة فهو وسيط في التجارة والكسب وهو معيار تقييم للأشياء ، فَخُلِقَ لِيُبْذَلَ ثمنا لا لِيُدَّخَرَ كَنْزًا مُعَطَّلًا لا أَثَرَ له في الحياة بما يكون من حركة وتداول ، فكان من الوعيد ما يحض العاقل فَضْلًا عن المؤمن الناصح أن يبذل المال سمحا ، فإن ذلك مما يعود عليه نَفْعًا ، فالتاجر وإن محتكرا أو معظما لرأس المال فهو مركز فكرته وباعث حركته ! ، التاجر لا يربح إلا إذا وُجِدَ المشتري ذو القدرة الذي يملك من المال وَفْرَةً ، ولا يكون ذلك إلا أن يكون المال دولة بين الناس كافة ، لا بين نخبة أو طبقة من الأغنياء يتداولون المال بينهم فلا يجاوز الانتفاع به والترفه ، لا يجاوز قلة هي من يحتكر ويمتلك لا على قاعدة عدل ، ولو تملكها من حِلٍّ ، فالعدل قاض أن يُخْرِجَ الحق من المال ، وأن يكون من الأعمال وفرة تغني الخلق ، كما في الخبر : "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ" ، فقد أَرْشَدَهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يحتطب ويتجر فَيُحَوِّلُ الأولي من الشجر إلى حطب يُنْتَفَعُ بِهِ بأداة وَسِيطَةٍ ، فهي تزيد في قيمة الأولي بما يكون من المعالجة التي تضيف إليه ربحا يَنْتَفِعُ به صاحب الحرفة فَهُوَ يَشْتَرِي به ما يحتاج ، فَيُحَرِّكُ دَوَائِرَ أخرى في الأسواق ، فالناس لبعضهم خدم ، وكل يُرْبِحُ الآخر بما يشتري ويكتري ، فيكون رواج يَعُمُّ وهو ما يرجع إلى صاحب المال فَلَوْ فقه وجاوز نظره ما تحت قدمه ! ، لبادر وأنفق ، ولو عطيةً بلا مقابل ، فإن حصول المال في يد الخلق عماد تجارته وكسبه ، وهو ما اصطلح بَعْضٌ ممن صنف في الأموال والتجارات أَنَّهُ "التَّدَفُّقُ الْفَعَّالُ" ، فهو تدفق للمال أن يصير دولة بين الخلق كافة لا بين الأغنياء خاصة ! ، فذلك الوصف الفعال الذي يحرك الدوائر الراكدة بما يُضَخُّ فِيهَا من أموال سَائِلَةٍ ، فالراكد يفسد وإضافة كثير إليه يطهر كما ذكر أهل الشأن في أحكام الماء وما يُطَهِّرُ منه وما لا يُطَهِّرُ ، وهو ما يواطئ غَرَضَ الوحي ، كما يقول بعض ذوي الفضل ، أن يكون المال ذا أَثَرٍ في الخارج فهو يجاوز الأرقام المكتنزة في الخزائن والمصارف فتلك رءوس أموال من النقد لا من الصنع والزرع وهما ، كما يقول صاحب المقدمة رحمه الله ، هما أَصْلَا المال قَبْلًا وبهما الإنتاج يظهر ، فيتحول المال من قوة الادخار إلى فعل الإنتاج ، فيصير نافعا بالفعل لا بالقوة المركوزة فيه ، فهو ، كما تقدم ، وَسِيطٌ يبذل نظير سلعة أو خدمة تَنْفَعُ ، فَيُجَاوِزُ الفرضَ رَقَمًا يُدَّخَرُ في الخزائن والمصارف ، فذلك مما يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ وَيُنْقِصُ قِيمَتَهُ ، إن عددًا أو ثمنًا ، فَيَنْقُصُ عَدَدُهُ ، ولو بسببٍ يُشْرَعُ كما الزكاة ، لا جرم كان من الأمر في الخبر المحكم أَنِ : "اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، لَا تَأْكُلْهَا الزَّكَاةُ" ، وهو من بلاغات مالك ، رحمه الله ، عن عمر ، رضي الله عنها ، ولها من الاعتبار حظ لما كان من تحري مالك وإن احتج بالمرسل ، فَثَمَّ من سعة الرواية والإقامة في دار الهجرة وهي معدن النقل ومأرز العدالة والضبط ، ثم من ذلك ما جعل مرسل مالك في الموطإ أو ما قد بَلَغَهُ وهو ، كما تقدم ، ما اصطلح في علوم الرواية أَنَّهُ بَلَاغَاتُ مَالِك ، ثم من تلك القرائن المحتفة ما جعل لمرسله وبلاغاته حظا من النظر والاعتبار ، وقد صَنَّفَ فيها مَنْ صَنَّفَ أن تَتَبَّعَ طرقها ومخارجها فَوَصَلَهَا ، ومنها هذا الخبر ، وقد رواه في موضع آخر ، رواه الطبراني في المعجم الوسيط مرفوعا إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث أنس ، رضي الله عنه ، وإن كان غريبا كما اشترط الطبراني في معجمه الوسيط ، على تفصيل في ذلك ، فهو غريب في روايته إذ لم يرو إلا بهذا الإسناد ، والغرابة مظنة ضعف يوجب التحري إلا في مواضع قد اشتهرت من روايات قد تواترت في طبقات متأخرة فحصل من ذلك ما يضاهي الإجماع على صحتها في نفس الأمر ، وكذا ما يقع من غرائب في روايات حفاظ واسعي الرحلة والجمع كما المثل قد ضرب بابن شهاب الزهري ، رحمه الله ، فَثَمَّ الأمر أن : "اتَّجِرُوا" ، وَهُوَ مَا زِيدَ في حَدِّهِ فتلك مادة الافتعال في الاشتقاق ، وَهُوَ مَئِنَّةُ التكلف والقصد ، وهو ما أُطْلِقَ فَاسْتَغْرَقَ أجناسَ التجارات كافة ، وثم من الإطناب بَعْدًا ما يجري مجرى العلة فهو جواب سؤال قد دَلَّ عليه السياق اقتضاء ، فما علة الأمر بالاتجار في أموال اليتامى ؟! ، فكان الجواب : لا تأكلها الصدقة وإن واجبة تحمد في الشرع ، فَثَمَّ من تمام النصح لليتيم أن يُتَّجَرَ في ماله فيزيد وذلك عنوان يستغرق كل مال ، فذكر مال اليتيم ، من هذا الوجه ، يجري مجرى المثال لعام فلا يخصصه ، وإنما خص مال اليتيم عناية به إذ لا يُحْسِنُ ما يحسن البالغ الراشد ، وذلك ، بداهة ، ما قد خُصَّ بالعقل ، فَخَرَجَ ما حرم من التجارات ، ومنها الربا آنف الذكر ، فهو الاتجار بالنقد ، وهو ، كما تقدم ، خروج به عن الغاية والحد ، فما خُلِقَ المال إلا لِيُنْفَقَ في وجوه الخير فيكون ثمنا يبذل وصدقة تحمد لا سلعة يَتَّجِرُ بها أصحاب الأموال الربوية التي يعظم شؤمها ، فَلَيْتَهَا تَكُفُّ أَذَاهَا عن الخلق ، بل هي مما يستنزف جهدهم في الأعمال وكسبهم من الأموال ، إذ المال الربوي يَقْتَنِصُ زيادةً بلا عوض فلا يبذل ما يكافئ ربحه الذي يحصل بالإقراض الآمن ! فلا يضيف إلى الخارج أداة إنتاج تنفع من صناعةٍ تُحَوِّلُ الأولي إلى ثانوي ذي قيمة تضاف في النفع والكسب ، فهي تَنْفَعُ وهو مما الحاجة إليه تعظم فَيَشْتَرِيهِ صاحبُ الحاجة بِثَمَنٍ يزيد ، فيكون الربح بِعِوَضٍ يَنْفَعُ لا خاليا من العوض كما الربا المحرم الذي يمحق البركة ، بركة العمل أن يتحول المال من عدد يكتنز ، وهو عنوان في الخيال يجرده الذهن فلا يجاوز وصف القوة ، أن تَتَحَوَّلَ هذه القوة النظرية إلى أخرى فعلية لها وجود في الخارج يجاوز المقدر المجرد في الذهن ، فيتحول إلى أداة إنتاج تصنع وتزرع وأخرى بها الاتجار ينشط أن تكون هِيَ مِعْيَارَ التَّقْيِيمِ بَيْعًا وَشِرَاءً ، لا أن يكون النقد المعدود في نفسه سلعةً تُتَدَاوَلُ بما يكون من فَضْلٍ زائد بلا عوض يكافئ ، وذلك الظلم الذي نهى عنه الوحي المحكم ، فكان من نص الخبر القدسي ما يحرم أَنْ : "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا" ، فَثَمَّ من التوطئة بالسبب : "إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا" بَيْنَ يدي المسبَّب من النهي المحرِّم أَنْ : "لَا تَظَالَمُوا" ، فكان من الكسب المحرم في الربا أن ظُلِمَ المدينُ إذ يَبْذُلُ زيادةً بلا عوض يكافئ ولو بَيْعَ نسيئة مع التماثل ، فإن النسأ ، كما يقول بعض من دَقَّقَ ، يسلب المال بعضا من القيمة بما يكون من ضعف وتراجع في قوة الشراء في مقابل ما يزيد من الأسعار ، وذلك ما يمحق بركة المال ، ولو في يد الدائن الذي يجمع المال من أكياس المقترضين إلى كيسه ! ، فَمَا يَنْتَفِعُ بمال قد فَقَدَ من القيمة ما يعدل أَثَرَ الربا إذ لا يُضَخُّ فِي مُثُلِ الإنتاج التي تحقق الوفرة في السلعة فيزيد المعروض منها فينخفض السعر وتزيد قوة النقد بما يكون من فائض يطلبه الخارج بعد حصول اكتفاء في الداخل وهو المطلوب الأول ، ولو فردا ، كما في الخبر : "«تَصَدَّقُوا» قَالَ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ» قَالَ: عِنْدِي دِينَارٌ آخَرُ. قَالَ: «أَنْتَ أَبْصَرُ»" ، فكان من دوائر الاكتفاء ما تَوَالَى بما يواطئ القياس المحكم ، فيكون البدء بما هو أولى ، فالداخل يقدم ، بداهة ، على الخارج ، فخروج المال من ضيق الكيس إلى سعة التداول وأعظمه نَفْعًا أَنْ يُضَخَّ في آلةِ صُنْعٍ أو زَرْعٍ ذات قيمة تضاف في الكسب بما يكون من الربح الحلال مع ما يكون من فوائض يعاد استثمارها فيزيد الإنتاج وتحصل الوفرة التي بها السعر ينخفض أكثر ، وهو ما استوجب قوة تشتري هذا المعروض ، فيكون من توظيف العامل : الصانعِ والزارعِ والحاسبِ والحارسِ ..... إلخ ما يفرز هذه القوة التي تشتري بما يبذل لها من الأجر فهي تَقْتَنِي به ما تحتاج من المطعوم والمشروب ... إلخ ، وتبذله نظير الخدمة تعليما أو تطبيبا ..... إلخ ، فالمال يسلك دوائر تَتَّسِعُ ويصنع الثروة ويعدل في القسمة ، فيكون من ربح المال ما يعظم إن بُذِلَ سمحا حلالا في كسب يَنْفَعُ بِمَا انضاف من القيمة في الخارج ، فهو يكفي الخلق ما احتاجوا إذ يخرج من قوة الاكتناز والادخار إلى فعل الإنتاج والاتجار ، ويكون من عموم النفع ما يستغرق كثيرا من الخلق ، فَثَمَّ أجرة تبذل وصاحبها لها ينفق على نفسه وأهله وولده ومن جاور بما يكون من فضل زائد ، فَيَنْشَطُ المال بعد اكتسابه فلا تكون الغاية منه اكتنازه ، ويسلك جادة البذل وبها تعظم البركة إذ يكون رواج في السوق بما يزيد من الطلب على المعروض وهو ما يحمل الصانع والزارع أَنْ ينشط فلا يكسل ، فالسوق رَائِجٌ لا يكسد ، فهو يطلب أكثر ، فَثَمَّ من الرخاء ما قد عَمَّ فَزَادَ الطلب من الجمع كلِّه لا من طبقة أو نخبة وحدها من يملك ثمن السلعة ، فما جدوى حصولها ووفرتها في العرض وليس يملك ثمنها إلا قليل أو نادر فلا حكم له كما يقول أهل الفقه ! ، فلا يحكم بالرخاء بمحض الوفرة ، بل لا بد من قدرة أن يُشْتَرَى المعروض ، قدرة العموم من الخلق لا الخصوص من ذوي المال والكنز ، فإذا زاد الطلب ، وكان من العدل أن حَصَلَ لكلِّ أحد بما أطاق فليس من شرط العدل التسوية المطلقة ، بل يجزئ في حصولها أن يطيق كلٌّ من حاجته ما يواطئ حاله فلا يحتاج ولا يسأل ، وإن كان من تفاوت الخلق في الغنى والفقر ما لا ينكر ، فذلك عنوان القدرة في باب الربوبية خلقا للأغيار والأضداد ، وهو آخر في التكليف بما يكون من الابتلاء ، فـ : (جَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) ، فذلك من جعل التكوين النافذ الذي يحكي الجلال والجمال كافة ، جلال القدرة في خلق الأضداد وجمال الحكمة في تدبيرها ، وجمال الشرعة التي تأمر وتنهى بما به الحال تنصح ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، أن يُسْنَدَ إلى ضمير الجمع مئنة التعظيم للذات والتكثير للوصف الذي يقوم بها إن جلالا أو جمالا ، وبهما ، كما تقدم مرارا ، الكمال يَثْبُتُ ، فكان من الاستفهام ما آل في دلالته إلى الأمر أن : اصْبِرُوا ، وهو عنوان عموم قد استفيد إذ أطلق العامل مع ما كان من دلالة الواو ، فهي مئنة الجمع المستغرق للآحاد ، فَيَصْبِرُ الغني أَنْ يَبْذُلَ حَقَّ الفقير سمحا ، ويصبر الفقير فلا يظلم حسدا ، ويكون من العدل في قسمة المال العام ، وآخر في فرص بها الكسب والمعاش ، فإذا حصل الطلب العادل أَنْ أَطَاقَ كلٌّ منه ما يحتاج على تَفَاوُتٍ في احتياج الخلق ، فإذا حصل ذلك فهو مما يزيد في حركة المال إذ يحضه أن يَتَوَسَّعَ في اتخاذ الآلة التي تصنع وتزرع لينتج أكثر فيزيد المعروض وينخفض السعر أكثر ، فيكون من رواج المعروض ما به الربح يعظم ، مع ما يكون من فائض يشتريه الخارج بعد حصول اكتفاء يجزئ في الداخل ، فذلك كسب المال المعتبر في النقل والعقل كافة فهو كسب حقيقة لا مجاز كما كسب العدد زيادة في المال الربوي مع ما يكون من محق البركة ، وإن بمعيار الحس الذي يعظمه من لا يرجو للوحي وقارا أن يؤمن بالغيب ويعظم الأمر والنهي ، فإن زيادة العدد دون إنتاج ينفع وهو ما لقوة النقد يدعم ، فإن زيادة العدد مع تَرَاجُعِ القوة في الشراء لا ينفع صاحبه إلا أن يستكثر من الورق أو المعدن مع انخفاض القيمة تِبَاعًا إذ لم يحقق المالُ الغاية التي لأجلها قد خلق ، ولم يكن من دوائر الكسب والعمل ما اتسع ، فكان من مراد الوحي ألا يَتَرَكَّزُ المال في طبقة أو نخبة ، فـ : (لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) ، فوظيفة المال أن يكون وسيطَ تجارةٍ لا سلعة يُتَّجَرُ بها ، فَوَفْرَةُ السلع والخدمات مع ضعف القدرة ، قدرة الشراء وَالانْتِفَاعِ ، تلك الوفرة مع ضعف القدرة يُصَيِّرُهَا كَلَا شيء فهي والعدم سواء ، فلا وجود لها إذ العبرة بالانتفاع لا بالوجود المطلق في الخارج ، فيشبه ذلك الفرض المحض الذي لا يجاوز عتبة الذهن ! .

    والشاهد أن من الطارئ في الباب : ما يكون بِقَدَرٍ يَنْفُذُ ، كما المجاعة أو الحرب ..... إلخ ، ومنه آخر من فعل البشر بما يكون من إغراق أو احتكار ، وقد يكون من الإغراق تارة ما ينفع وإن أضر بالمحتكر أن نَقص السعر الذي اجتهد في زيادته بما احتكر من السلعة صناعة أو زراعة أو تجارة ، وهو ما يَرُدُّ عجز كلام إلى صدره ، فذلك ما اصطلح بعض المحققين ، أنه المنظومة الأخلاقية الباعثة التي يَتَحَرَّكُ النَّاسُ في نِطَاقِهَا ، فمنظومة الوحي تجاوز بالمال حد الكسب المحض ، وترده إلى جادة رشد أن يكون أداة بها عمارة الكون وبها إِنْفَاذُ الشرع ، فمنه ما يُنْفَقُ النفقة الواجبة ومنه آخر يندب ، وثم ثالث يُبَاحُ ، ولكلٍّ من دوائر الانتفاع ما يستغرق ، فلا يكون في نفسه غاية تُطْلَبُ فَيَتَّجِرَ فيها الخلق بما يزيد من أعباء الدين ربا يمحق البركة ، فأكله مما استوجب العقاب الناجز في الأولى ، ومنه المنصوص ، كما قد حرمت جُمَلٌ من الطيبات على الذين هادوا ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، ومنه المعقول بما يكون من محق البركة كما قد نص الآي المحكم أَنْ : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، فَثَمَّ من المقابلة ما استغرق شطري القسمة ، وثم من طباق إيجاب بين الألفاظ ، وإن الطباق غير التام ، فإن الربا وهو الزيادة يطابق في لفظه العدل في البيع فلا يكون ثم زيادة بلا عوض ، ولا يخلو السياق من مأخذ يَلْطُفُ أن عومل المرابي طالبُ الزيادة ، أَنْ عُومِلَ بِنَقِيضِ قصده ، فكان من محق البركة ما ينقص ، وإن كان ظاهر العدد أنه يكثر ، وكان من ضد ناله المتصدق ، فلم ينله المرابي الذي طلب الربا والزيادة بلا حق ، وثم من المضارعة في "يَمْحَقُ" و "يُرْبِي" ، ثم منها استحصار للصورة ، من وجه ، مع ديمومة في الوصف والفعل فذلك مما به التكليف ينصح فهو قانون عام يستغرق ، مع ما قد رُدَّ إِلَيْهِ في باب الاسم والوصف في الإلهيات ، فذلك من وصف الفعل قديمِ النوع فقد ثَبَتَ أزلا وله من الآحاد في الخارج تأويل بما يكون من حدوثها بالمشيئة النافذة .

    فكان لطالب الصدقة من الرِّبَا ما قد حَلَّ وَحَسُنَ ! فعظمت بركته أن زاده الله ، جل وعلا ، وهو الخالق الذي يضاعف لمن يشاء ويعطي من الفضل ما شاء لمن شاء كيف شاء فلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ ، ولا يخلو فِعْلُهُ أَنْ يُوَاطِئَ عنوان الكمال المطلق ، فلا يُسْأَلُ لكمال القدرة والحكمة ، جلالا به الخلق وجمالا به المنح : أَنْ مَنَحَ المتصدِّق ما زاد وربى فأربى صدقته وهي قليل وضاعفها حتى صارت كالجبل العظيم ، كما في الخبر : "«مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا طَّيِّبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»" ، فكان من الآية خبر يبين عن محق الربا من وجه ، وربا الصدقة من آخر ، وهو ما استجلب في الدلالة نهيا وأمرا بهما قسمة أخرى تستكمل ، قسمة التكليف إذ يَنْهَى عن الربا الممحوق ، فذلك وصف مذموم يرجح فيه التحريم وهو مدلول النهي في التكليف ، ويأمر بضد من الصدقة وبها الزيادة والبركة ، فكان من ذلك عنوان يبين عن باعث الأخلاق في سن الأحكام أمرا ونهيا ، فحفظ المال من المقاصد الرسالية الناصحة ، أن يحفظ حقيقة لا دعوى ، فلا يكون حفظه بما ضاهت به المثل الرأسمالية نظيرتها الرسالية ، فجعلت حفظه زيادته في العدد ولو ربا يحرم بما به الاحتكار يعظم فيصير المال دولة بين الأغنياء وبه يَسْتَرِقُّونَ الخلق أن يَسُنُّوا لهم من المنهاج في الأخلاق والأعمال والمتاجر ما يصب في قناة المالك ، فهو القوي الغالب أَنِ احتكر أسباب الثروة فصنع بها الفكرة والشرعة وسن بها مثال الكسب لا قِيَمًا تضاف بما ينفع الخلق من سعة في الأرزاق والمعايش وإحسانا به تأويل آخر لمعاني التواصي بالحق والتكافل بين الخلق ، فصار الربح في نفسه غاية ، ولو ربا يحرم ، وذلك ، كما تقدم ، مما يبين عن معنى أدق ، معنى الباعث من الفكرة فهو أول يتقدم أي حركة ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما يقول النظار ، فَثَمَّ ، بادي الرأي ، معيار الحسن والقبح في وصف الأفعال ومنها ما يكون في الأموال فما يحسن فيها أن تكون أداة بها النفع يعم أو الحسن فيها أن يزيد عددها وإن محقت بركته بل وعظمت جنايته أن صار عبئا يثقل كاهل الخلق بما يكون من شؤم الربا وضلع الدين ، فكان من المقابلة في هذا الموضع : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، وكان آخر به الطباق يتم إذ يكافئ الربا البيعُ ، كما في آي تقدم في سباق أول ، فـ : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، وتلك مقابلة أخرى في باب التشريع إباحة وحظرا ، وبها دحض الشبهة التي بالغ صاحبها فجعل التشبيه قَلْبًا ، أن صَيَّرَ الأصل فرعا والفرع أصلا في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) ، فكان من ذلك إمعان في استباحة المحرم ، فكأنه الأصل المحقق ، وذلك مما أجمل عنوانه في الآي ، وكان من جوامع الكلم الخبرية ما أبان عن الأجناس الربوية وهي الأصول التي تُرَدُّ إليها الفروع ، فتلك القاعدة الجامعة ، ولا تخلو ، كما يقول بعض من حقق ، لا تخلو من عنوان حكمة أن تَنَاوَلَتْ مثلا بها البلوى تعم فهي تحكي معايش الخلق الضرورية وإن اختلفت من مصر إلى آخر ، ومن عصر إلى تال ، فَثَمَّ من المعنى ما يلطف ، وهو ما اجتهد النظار في حده ، فكان من العلة المركبة في المذكورات طعما : "الْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ" ، كان منها الطعم والكيل ، كما رجح الشافعية رحمهم الله ، كان منها الطعم والكيل علة مركبة يقاس عليها غيرها ، فالاعتبار أن يكون من الطعم الذي تعم به البلوى فحصول الربا فيه يضيق على الخلق معاشهم ، وثم ، وهم المالكية رحمهم الله ، ثَمَّ من جعل العلة مركبة من الكيل والادخار ، ومعنى الادخار مما ينفع إذ يدخر الخلق من مطعومهم ما يكفي ويجزئ ، وكان من علة في الذهب والفضة ما اصطلح أنه مطلق الثمنية لا جوهرها الذي يقتصر على أعيان الذهب والفضة بل العبرة بما قد اتُّخِذَ نَقْدًا به البيع والشراء ، فحصول الربا فيه يضيق المعايش إذ يُفْضِي ، كما تقدم ، إلى احتكار المرابين له فيصير من الحرج ألا يحصل من النقد في أيدي الناس كافة ما به الحوائج تُقْضَى ، فكان من حكمة تلطف : أن ذكرت تلك المثل لا نصا على أعيانها فلا يجاوز ، كما قال الظاهرية رحمهم الله إذ اقتصروا في التحريم على أعيان المنصوصات فَزَادَ مَنْ حقق استنباطا لمعنى يدركه العقل وبه غايات الوحي تحفظ ، وذلك نظر أدق في الباب يصير المذكورات مثلا تحكي عمومات تستغرق فذكرها من هذا الوجه لا يخصص وإنما يبين عَنْهَا بَيَانَ المثالِ ، وذكرها في الخبر مما يدل بداهة على الأمر إنشاءً به التكليف يثبت : الأمر المساواة فلا تفاضل ، والأمر بالتقابض الحالِّ فلا نسيئة ، ويدل على آخر ينهى عن ضد من الربا المحرم ، فوصف من خالف أنه يُرَابِي ، ذلك مما يدل على النهي بداهة ، فذلك ، أيضا ، من الخبر ذي الدلالة الإنشائية ، فاستعير لما شرع من حكومةِ أَمْرٍ بالتسوية ونهيٍ عن ضد من المفاضلة أو الزيادة بلا عوض كما قد حُدَّ الربا في اصطلاح بعض من حَقَّقَ .

    والله أعلى وأعلم .


  2. #2
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وثم من الحكمة الرسالية في تحريم الربا أنه يفضي إلى احتكار المال ، فهو ، كما يقول بعض مَنْ حَقَّقَ ، نظام حياة يَفْرِضُ من القيم والمبادئ في الاتجار والاستهلاك ما يجاوز حَدَّ النقد والكنز ، وهو ما تظهر آثاره ضرورة في الأديان والأخلاق ، فالربا يُعَزِّزُ في النفوس خَاصَّةَ الشحِّ والأثرة ، فالمرابي ينتهب الثروة العامة ويمتص بِلُغَةِ أَهْلِ الشأن ، يمتص فوائض المجتمع وأرباحه من أصول مثمرة تُنْتِجُ ، فَعِوَضًا أَنْ تُضَخَّ ثانية في استثمارٍ يَنْفَعُ ، فيزيد حجم الثروة لدى الأفراد وتعظم الطبقة الوسطى وهي حاضنة ما اصطلح في أدبيات الاجتماع والسياسة المعاصرة أنه الجماعة الوسيطة : الجماعة الخادمة بتمويل ذَاتِيٍّ وعمل طوعي غير مربحٍ وهي عماد المجتمع القوي الذي يمتلك أدوات القوة الذاتية وأعظمها المال الذي يمنحه الاستقلال المعتبر فلا تملك السلطة قهره إذ لا تحتكر المال فهو دولة بين الناس عامة لا بين الأغنياء خاصة من كبار المرابين لا سيما إن اتخذوا أسماء ذات سيادة ومنصب ، فَثَمَّ جماعة تحتل وتستبيح وإن زعمت أنها تصلح وتستعمر الخراب من الأرض والفضاء من العقل ! ، فهي تغزو من خارج بعنوان الفتح وذلك ما أجمل فَافْتَقَرَ إِلَى بَيَانٍ ينصح ، فذلك الجنس العام في الدلالة : جنس الفتح الذي يجرده الذهن فيصدق في أي غَازٍ من خارج ، فالدعوى أبدا : فتح يحرر الجمع من الاستبداد والقهر الذي يحول بين الناس والحق ، وتحته آحاد لا تنفك جميعا تنتحل هذا الأصل ، فثم فتح الرسالة فتلك جماعة غازية ، وثم فتح الحداثة فتلك أخرى تغزو ، فلا يفصل في الخصومة إذ الدعوى واحدة مع اختلاف قد بَلَغَ حد التناقض والتدافع ، لا يفصل فيها إلا نظر ينصف في الحكومة فيتدبر كُلًّا إن في أصل المرجع الذي يصدر عنه ، مرجع الرسالة السماوي من خارج ومرجع الحداثة وهو الأرضي فلا يجاوز سماء العقل ، مع ما أقام كل على مرجعه من بَيِّنَاتٍ تشهد ، والعنوان أبدا : التجرد من الأهواء والحظوظ وهو ما لا يسلم منه مخلوق وإن تحرى من العدل ما تحرى ، فوجب أولا إثبات أَصْلٍ أَنَّ هذه العقول المحدَثة في خلقِها المحدِثة في مقالها خبرا وحكما ، أنها لا تنفك تفتقر إلى مرجع من خارجها يجاوز قد سَلِمَ مَمَّا لم تسلم منه نَقْصًا هو جبلتها فلا تطيق أن تُفَارِقَ أو تُعَالِجَ وإن اكتسبت من أسباب الكمال ما اكتسبت بل إِنَّ سَعْيَهَا أنْ تكتسبَ أسباب الكمال ومنها المال إِنْ مِنْ حِلِّ البيعِ أو حرامِ الرِّبَا محل الشاهد ، فذلك السعي في نَفْسِهِ دليل النقص الذي يقضي في حكومتها بالنقض ، فوجب ضرورةً أن تحتكم إلى مرجع يجاوز من خارج يقضي في خصوماتها بالعدل ، فلا ينفك يوصف بالحكمة والعلم ، وذلك مما يستوجب نظرا أول في آي الآفاق والنفس وبها يَسْتَدِلُّ النظر المحقَّق على الخالق الأول الذي أحكم الخلقة بالعلم والقدرة ، فكان من ذلك أول عليم حكيم وهو ، مع ذلك ، رحيم بما كان من عنايةٍ تَأْوِيلُهَا مَا يَرَى الناظر ضرورةً في الخارج من أَرْزَاقٍ تَتَنَزَّلُ وأسباب بها الدنيا تَصْلُحُ ، فإذ استحق الْإِفْرَادَ بِفِعْلِ الربوبيةِ تَقْدِيرًا وَتَكْوِينًا وَتَدْبِيرًا فَلَا يَنْفَكُّ يستحق آخر تشريعًا يَفْصِلُ في الخصومات كافة ، مرجعا يجاوز العقول من خارج ، فهو العالمُ بما يُصْلِحُ ، القديرُ إذ قضاؤه يَنْفُذُ ، الرحيمُ إذ يَرْعَى الخلق وَيَتَعَاهَدُ بكلماتِ تكوينٍ نافذة وأخرى من التشريع حاكمة ، فكان من ذلك التَّلَازُمِ أول فِي التوحيد : توحيد المرسِل ، جل وعلا ، فالحكمة قاضية أَنَّ هَذَا القدير الحكيم ، اللطيفَ الرحيمَ ، أنه لا يدع خلقه حَيَارَى فلا يدلهم على ما يُصْلِحُ الحالَ والمآلَ ، فذلك فضل منه لا عن استحقاق من الخلق بل قد امْتَنَّ عليهم ، بادي الرأي ، فلا يدعهم حَيَارَى إِذْ أَنْزَلَ عليهم من الوحي آيًا وَخَبَرًا ، فكان من الرسالة واسطة البلاغ والبيان ، فذلك مرجع الرسالة في مقابل آخر للحداثة ، ولكلٍّ من الوصف ما يخالف وإن اتَّحَدَتْ دَعْوَى الفتحِ ، فكان من نَظَرٍ يُنْصِفُ في كلٍّ إذ يَتَدَبَّرُ روحَ التشريع الجامعة وما يصدر عنها من أوامر حاكمة ، وما يكون من شاهدِ تاريخٍ تال فهو يقص الدليل المحكم على صدقِ هذا وَكَذِبِ ذاك ، أو ضِدٍّ منه فالأول صادق والثاني كاذب ، فـ : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، فَوَجَبَ النظر الذي يبين عن حقائق الدعاوى بما اكْتَنَفَهَا مِنْ بَيِّنَاتٍ تشهد ، وبها امتازت الجماعة الغازية فتحا بِرِسَالَةٍ تَنْصَحُ ، وأخرى غَزَتْ فَتْحًا بحداثةٍ غَشَّتِ الجمعَ إِذِ انْتَهَبَتِ الثروة بَشَرًا وَزَرْعًا وَحَجَرًا ، فَصَيَّرَتِ الأطرافَ رَوَافِدَ تَصُبُّ في قناتها كما أَقَرَّ بَعْضُ كُبَرَائِهَا في لحظاتِ صدقٍ تَنْدُرُ ، فلولا الأطراف ما امتلأت أكياسنا بالمال ، وكان من تلك الجماعة الحداثية الغازية مَا اسْتَنْبَتَ في الجمع أخرى اصْطُلِحَ أنها الوظيفية النائبة فهي تابعة تستكمل ما اسْتَأْنَفَ المحتلُّ من جناية ! ، ولا بد لها من عقد في الذهن ، ولو مجرَّدًا ، قد اصْطُلِحَ أنه المتخيل ، فتلك الجماعة المتخيلة فلا وجود لها في الخارج يصدق بل شاهد التاريخ والأرض لها يكذِّب ، وهي عقد وافد محدَث لا عن روح من الفكرةِ أصيل يَصْدُرُ فلا يجد في صدور الخلق فُسْحَةً أَنْ تُرْضَى حكومته طوعا عن اعتقاد أول أن ذلك هو الدين حقا ، دين الجمع الذي يجاوز الاعتقاد والشرع إلى دين الأخلاق والمسالك ، ولو في دقيقٍ من المسائل ، فهو روح لا تَنْفَكُّ تسري في الجسد كله ، فتجد آثارها في الفروع كما الأصول ، وتجد من روحها حكمةً تَرْفِدُ العلة في حكومات الفقه المخرَّجة على قواعد من الاستنباط محكمة ، فَتَجِدُ من حكمة التشريع حكاية ألطف تجاوز التعليل بعنوانه القياسِيِّ الصارم ، فَثَمَّ من حكمة تجاوز بها يستبين الناظر روح الشريعة التي تحكم وغايتها التي تقصد ، فتلك روح الشريعة التي تحكم ترضى ، فلا يكون من ضدها إذ يَسْتَبِدُّ كَرْهًا ، لا يكون من ضدها إلا جَبْرٌ كما الخبر الصادق عن ملك في الأمة الخاتمة هو الجبر الذي جمع الإكراه والإلجاء ، والتعطيل للأخبار والحكومات كافة ، ولا ينهض به إلا جماعة وظيفية نائبة عن وافد لا روح له من الخبر والحكم به يَنَالُ ثقة الجمع فلا تُمْنَحُ إلا لمن تجرد فجعل التوحيد له غاية ، وتلك ، لو تدبر الناظر ، أعظم مسائل الوجدان وهي باعث أول في الاعتقاد والشرع ، وما يكون من غزو وفتح .... إلخ ، فالجماعة النائبة عن غاز محتل لا تطيق الخروج عنه في أمر أو نهي ، وهي الوسيلة إلى إبطال الروح الأصيل في الوجدان ، ولا بد لها من آخر تَنْتَحِلُ ، ولو متخيلًا يَأْرِزُ إلى قيم محدَثة ، كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر ، فكان من مادة في الوجدان تحكي العصبية الجاهلية التي ضَيَّقَتْ مناطَ الولاء فأخرجت منه الأخ في الاعتقاد والفكر ، وفي مقابل أولئك جماعة وَسِيطَةٌ هي الباعث لما استكن في وجدان الجمع من مرجع التصور والفكر ، وما تلا من تشريع وحكم ، فتلك الجماعة التي اجتهد المحتل الغازي أَنْ يَقْمَعَ ، ولها قد اصطنع أخرى وظيفية فهي ، كما تَقَدَّمَ ، وكيل عن أصيل أول فلا تَتَصَرَّفُ إلا بأمر الأصيل أو إِجَازَتِهِ ! ، فكان من مَكْرِهَا آنفِ الذِّكْرِ أن تحتكر الثروة والسلطان وتسلب الجمع الأصيل أسباب الفكرة والحركة وما يستوجبانه من أسباب القوة حسا ومعنى ، ومنها المال ، فكان مِنَ الرِّبَا ما أَفْحَشَ أربابُه وَمَكَرُوا ، فالربا ذو النسبة العالية يُغْرِي الخلق أَنْ يُضَارِبُوا المضاربةَ المحرَّمَةَ ، وذلك أول الوهن إذ لم يلجئهم أحد وإنما وَسْوَسَ شيطانُ الجن والإنس ، فَزَيَّنَ لهم كسبا سريعا بلا جهد ، وهو مأمون فلا يخاطرُ صاحب المال ، وإن كان كَسْبًا مُتَوَهَّمًا بما يكون من قِلَّةِ إنتاجٍ إذ لم يُضَخَّ المالُ المكتنزُ في أصولِ إِنْتَاجٍ تَنْفَعُ ، فَيَزِيدُ المعروض من السِّلَعِ وتحصل الوفرة التي يَرُوجُ بها السوق إذ السعر يَنْخَفِضُ فَيَزِيدُ الإقبال وهو ما يلجئ المنتِجَ أَنْ يَتَوَسَّعَ في أصولِه المنتِجَةِ لِيُلَبِّيَ احتياجَ السوق المتزايد فَيَسْتَزِيدَ من العمالة الَّتِي تكتسب الخبرات مع ما تستثمر من أوقات وجهد نظير ما تَتَلَقَّى من الأجر ، فيحصل لها من قدرةِ الشراء ما يَصُبُّ أيضا في قَنَاةِ الإنتاج لِمَا تَعُمُّ به البلوى من الحاجات الضرورية ، فكلُّ دَائِرَةٍ تعضد الأخرى بما يكون من رواج يَعُمُّ ، وهو ما يُقَلِّلُ السعر فلا يغلو ويزيد بلا ضابط ، وإنما وفرة المعروض تخفِّضُهُ ، مع رواجٍ يستغرق الدوائرَ كَافَّةً ، دائرةَ المشتريِ الذي يجد السلعة بسعر يلائم ، ودائرةَ المنتِج الذي يضخ فوائضه في أصول أخرى تَزِيدُ من الإنتاج إِذْ الطلبُ ى ينفك يَزِيدُ ، ودائرةَ العامل الذي يجد من فُرَصِ التوظيف ما يزيد بِزِيَادَةِ الأصولِ المنتجة فلا تكون الفوائض في هذه الحال حملا يُثْقِلُ كواهلَ المجتمعِ إذ يستثمر في المثال الربوي أن يمتص هذه الفوائض لصالح قِلَّةٍ محتكِرَةٍ تملك رءوس الأموال الكبيرة التي تشكل مركز الربا في المصارفِ المستحدَثة ، فَتُزَيِّنُ لأصحاب الأموال أن يودعوا فوائضهم في نظام ربوي يمنحهم الربح بلا جهد ولا تدشينِ أصولٍ وتوظيف عمالة ...... إلخ ، والذريعة هي نفس الذريعة التي احتج بها الأول في ضَخِّ فوائض الثروة في أصول منتجة ليزيد الإنتاج فينخفض السعر ويقل التضخم ، فحجة النظام الربوي إذ يَرْفَعُ نسبةَ الرِّبَا أنه يَرُومُ تَقْلِيلَ التضخم إذ يمتص فوائض الثروة من أيدي السفهاء ! فلا يسارعون بالشراء الذي يزيد الطلب على السلع فَيُؤَدِّيَ إلى أزمةٍ بَاعِثُهَا الرخاءُ ! ، فَثَمَّ زيادة في المال وَتَرَفٌ في الاستهلاك فَلْتُؤْخَذْ منهم الأموال ، ولو احتيالًا ، بما يكون من نسبة ربا متوهمة تُزَيِّنُ لصاحب المال أنه يربح وهو لو تدبر بمعيار الدنيا إن لم يكن ذَا دِينٍ يَزْجُرُ ، هو بأي معيار كان ! يَخْسَرُ إذ زيادة التضخم تجاوز ما يُطْبَعُ له من نَقْدٍ تَقِلُّ قِيمَتُهُ بِزِيَادَةِ المعروضِ منه في نظامٍ اتخذ المال سلعة لا أداة بها الأشياء تُثَمِّنُ ، فَصَارَتْ أَدَاةُ التَّثْمِينِ فِي نَفْسِهَا مُثَمَّنًا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِزِيَادَةٍ بِلَا عوضٍ هي الجزء المنتهَب من الثروة العامة إذ لا عوض يضاهيها ، فَتَقِلُّ قِيمَةُ النقد المطبوع إذ يَزِيدُ على المطلوب لأداء المستحق من الديون ! ، وَيَقِلُّ الإنتاج إذ فوائض الثروة تُضَخُّ في شَرَايِينِ المثال الرِّبَوِيِّ ، فلا تُضَخُّ فِي أصولِ إنتاجٍ ، وإذا قَلَّ الإنتاج قَلَّ المعروض فَزَادَ السعرُ خلافا لما تَذَرَّعَ به النظام الرَّبَوِيُّ أنه لا يؤتي السفهاء أموالهم فيمتصها بوعد كاذب يُوهِمُ صاحب المال أنه يَرْبَحُ الزيادة ، ولو زيادةَ وَرَقٍ يُطْبَعُ بلا قِيمَةٍ تُجْزِئُ ، فيتكدس المال في مركز الربا وتصير الأموال كلها في يَدِ النخبة المالكة الحاكمة التي تَغْتَذِي كَمَا الكائنُ الطُّفَيْلِيُّ ، فهي تمتص ثَرْوَةَ الخلقِ فتأخذها وهي ذات قيمة وَتَرُدُّهَا إِنْ رَدَّتْهَا بقيمة دونها وإن كان الْعَدَدُ أَكْثَرَ ، فقوة الشراء أضعف ، وذلك من شؤم الربا أَكْلًا للأموالِ بالباطل ، فَثَمَّ أكل القيمة الصادقة التي تحكي قوة الشراء فِعْلًا ، فَالرِّبَا يأكل ثروات الخلق وأموالهم بالباطلِ ، وهو ، من هذا الوجه ، يدخل في عموم النهي في قوله تعالى : (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) ، فَثَمَّ مِنَ النَّهْيِ مَا يَحْكِي التحريم أصلا إلا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ من القرينة ما يَصْرِفُ ، ولا قَرِينَةَ هُنَا تُرَجِّحُ خلافَ الراجحِ المتبادرِ من التحريم ، بل السياق له يشهد إذ المنهِيُّ عنه مما قد عُلِمَ تحريمه ضرورةً في النقل والعقل كَافَّةً ، وثم من العموم ما استغرق من وجوه ، فالنهي إذ تَسَلَّطَ عَلَى المصدرِ الكامنِ في الفعل "تَأْكُلُوا" فهو يحكي العموم ، فَثَمَّ نَهْيٌ عن وجوهِ الأكلِ المحرَّمِ كافة ، المحسوسِ مِنْهَا أَوِ المعقولِ ، ولا تخلو حكاية الأكل من الذم إذ يحكي من الحاجة ما يصدر عن غَرِيزَةٍ يُقَاسِمُ الحيوانُ الأعجمُ الإنسانَ العاقلَ مَادَّتَهَا ، فليست بمناط تفضيل وتكريم بل الاسترسال فيها ، ولو فُضُولًا ، مِمَّا يَنْحَطُّ بالإنسانِ إلى دَرَكَةٍ تَسْفُلُ أَنْ يَشْتَغِلَ بإشباعِ شهوتِه ، فكيف إِنْ جَمَعَ إلى ذلك الأكلَ من باطل قد سَرَقَ أو انْتَهَبَ أو قد جَمَعَهُ ربًا أو غِشًّا ؟! ، وثم من العموم آخر إذ خوطب الجمع كافة ، فتلك دلالة الواو ، واو الجمع المذكر في "تَأْكُلُوا" ، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِرَارًا مِنْ دلالةِ التَّغْلِيبِ استصحابا لقرينة العموم في خطاب التكليف حتى يرد دَلِيلٌ يصرف ، وثم من عموم الأموال ما اسْتُفِيدَ بالإضافة إلى الضمير ، ضمير الجمع المذكَّر في "أَمْوَالَكُمْ" ، وثم من قَيْدِ الحال "بِالْبَاطِلِ" ما يحكي الملابسة فتلك دلالة الباء وهي آكد في تسجيل الجناية مع قَيْدٍ يَحْتَرِزُ فالأكل من الحِلِّ رِضًى بما يكون من هِبَةٍ أو أْجْرَةٍ ...... إلخ ، ذلك مما يَخْرُجُ بَدَاهَةً من عموم النهي فذلك أكل الحلالِ الطيِّبِ .

    والأموال ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، مما يُقَوَّمُ بِقُوَّةِ الشراءِ لِمَا يُعْرَضُ من سِلَعٍ في السوق ، فَيَمْحَقُ الرِّبَا بَرَكَةَ المالِ إِذْ يُرَدُّ بِزِيَادَةٍ فِي الْوَرَقِ فَثَمَّ كَثِيرٌ منه يُطْبَعُ ، ولا قيمة له تجزئ ، وَذَلِكَ من عاجل العقوبة في الْأُولَى إذ عُومِلَ الجشع المرابِي الذي أكل الرِّبَا اختيارا ، عُومِلَ بِنَقِيضِ ما يَقْصِدُ فَرَامَ كثرة فإذا قِلٌّ بماله يَذْهَبُ .
    وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما عُوقِبَ بِهِ القبيل الإسرَائِيلِيُّ أَنْ حُرِّمَ عليه بَعْضٌ من طيباتٍ قد أُحِلَّتْ لَهُ ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، فكان من تصدير السياق بالباء في "بِظِلْمٍ" : نَصٌّ في السَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ ، وهو ما نُكِّرَ مدخوله من الظلم مَئِنَّةَ نَوْعِيَّةٍ تحتمل بالنظر في أصل الوضع الأول ، فَهِيَ تحتملُ التَّعْظِيمَ تَارَةً وَضِدَّهُ مِنْ تَحْقِيرٍ أخرى ، فتجري مجرى الأضداد وهي ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، من أدقِّ المواضِعِ في الاشتراك ، والإجمالُ فيها يجاوز غيره ، لا جرم كان افْتِقَارُهُ إلى الْبَيِّنَةِ أشد ، وهي ما شهد به السباق ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُكْمِ أَنْ حُرِّمَ عليهم من الطيب بعضٌ قَدْ أُحِلَّ لهم ، فَقَدَّمَ بَيْنَ يدي الحكم بِجُمَلٍ من الجنايات التي تَبْلُغُ حَدَّ النَّاقِضِ لِمَا كان من أصلِ الدينِ الأول ، فكان من ذلك نقض الميثاق ، فـ : (بِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ، فَثَمَّ من الْبَاءِ في "بِمَا نَقْضِهِمْ" ، ثَمَّ منها ، أَيْضًا ، عنوانُ تَعْلِيلٍ تَقَدَّمَ ، وَقَدْ زِيدَتْ فِيهِ "مَا" إذ تُضَاهِي في الدلالة تِكْرَارًا يَجْرِي مجرى الزِّيَادَةِ في المبنى مَئِنَّةَ أخرى في المعنى وذلك آكد في تسجيل الجناية ، فكان من النَّقْضِ مَا حُدَّ في المبنى مصدَرًا "نَقْضِهِمْ" ، وقد عَمِلَ فِيمَا تَلَا من الميثاق ، وذلك العنوان المحسوس الذي استعير لآخر يُعْقَلُ وبه تَقْرِيبُ المعنى إلى الذهن ، فَاسْتُعِيرَ نَقْضُ الحبلِ أو الوثاق المحسوس لآخر من الميثاق المعقول ، وبه استأنسَ من يُجَوِّزُ المجازَ في الوحي واللِّسَانِ ، وَمَنْ يُنْكِرُ فَهُوَ أَبَدًا يُنَازِعُ في هذا الوضع الأول ، فتلك دعوى لا بَيِّنَةَ لَهَا تَشْهَدُ ، فَيُجْزِئُ في رَدِّهَا أخرى تضاهيها وتخالف عَنْهَا ، فما يمنع أن يكون الوضع الأول للمعقول من نقض الميثاق ثم كان تال في الخارج لِنَقْضِ الحبل أو الوثاق المحسوس ، وإن كان المدرَك المحسوس أَقْرَبَ فَهُوَ ، بادي الرأي ، يظهر ، والذهن بَعْدًا يُجَرِّدُ مِنْهُ جِنْسًا مطلقا يجاوز به إلى آخر ، كما المثلُ إذ يجاوز به القائل المورِدَ الأول إلى مضربٍ تال ، فيستحضر الصورة الأولى ، ولو جنسًا من الدلالة مطلقًا ، ويحققه في المثال المضروب تاليا ، وَثَمَّ مَنْ يُجْرِي الأمر مجرَى المشتهر من الاستعمال فَلَوْ سُلِّمَ أنه المجاز فهو المشتهر ، وهو ، كما تَقَدَّمَ مِرَارًا ، حقيقة في العرف تَطَّرِدُ فَتُقَدَّمُ على الحقيقة اللسانية المجردة في الذهنِ ، وثم مِنْ نَظَرٍ في مَأْخَذٍ أَلْطَفَ إذ الكلام عنده جميعا من الحقيقة ، فهي مما تَرَاكَبَ فَائْتَلَفَ من المعنى المعجَمِيِّ المفرد وما كان من سياقٍ تَالٍ يُقَيِّدُ ، فذلك الظاهر الذي يجاوز ما يَتَبَادَرُ في الدرس الأصولي الذي يقصر الظاهر على أول في المعجم ، فإذا احتف به من السياق ما يَقْرِنُ ، فَتِلْكَ قَرِينَةُ التأويل الذي يخالف عن الظاهر والحقيقة ، وهما الراجح ، إلى آخر مرجوح من المؤوَّل والمجاز ، فذلك الحد القياسي في دلالات الألفاظ الأصولية ، فَجَاوَزَهَا بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أن صَيَّرَ القرينة جزءا من الحقيقة لا صارفا عنها ، ولا خلاف إذ الجهة قد انفكت ، فقد أراد بالحقيقة المعنى المركب المؤتلف من الحقيقة المعجمية المفردة وما احتف بها من قرينةِ سياقٍ تَشْهَدُ ، وَأَرَادَ المؤَوِّلُ إذ خالف عن جادَّةِ الحقيقة ، أَرَادَ بالحقيقة في اصطلاحه ما اقْتَصَرَ فَلَمْ يجاوزِ الحقيقة المعجمية المفردة التي يُجَرِّدُهَا الذِّهْنُ جِنْسًا مطلقا بما يكون من استقراءٍ لآحادها في الخارج فيكون من المشترك المعنوي بَيْنَهَا جِنْسٌ مطلق تَنْدَرِجُ تحته آحاد في الخارج بما يكون مِنْ قَيْدٍ زَائِدٍ فِي كُلٍّ ، فَعَمَلُ النَّاظِرِ أَنْ يُقَسِّمَ وَيَسْبُرَ حَتَّى يُحَرِّرَ المعنى الجامع فهو الجنس الدلالي المطلق الذي يسطر في المعجم فَلَا وُجُودَ له في الخارج إلا مُقَيَّدًا ، سواءً أكانَ القيدُ قَرِينَةً صارفة عن الحقيقة المعجمية الأولى على قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ المجازَ في اللسان والوحي أم كان جُزْءًا من الدلالة فهو يدخل في حد الحقيقة بما تَقَدَّمَ من عنوانِ التَّرَاكُبِ : حقيقة في المعجم مطلقة فلا وجود لها في الخارج يجاوز إلا أن يكون ثم قيد يأطرها إِنْ سِيَاقًا مَنْطُوقًا أو ذَاتًا في الخارج موجودة أُدْرِكَتْ بالحس في الشهادة أم لم تُدْرَكْ غَيْبًا لا يحيط به الحس وإن جَوَّزَ حصولَه في الخارج فمناطه التوقيف إذ الغيب لا يدرك بالحس فلا ينفك يطلب مرجِّحُا من خارج ، فهو يُرَجِّحُ الإثبات حال الوجود ، وهو ما يكون من الخبر ، فذلك عنوان الترجيح فيما غاب عن الحس فلم يدرك إن غيبا مقيدا في هذا العالم أو آخر مطلقا يجاوزه فافتقاره إلى الخبر يجب من باب أولى ، كما المثل يضرب أبدا بالإلهيات وهي أشرف الغيبيات وما تلا من السمعيات ، فكلُّ أولئك مما يثبت في الذهن وجوبا أو جوازا ، والعقل ، مع ذلك ، لا يحيط به دَرَكًا يجاوز المعنى المجرد إلى الماهية المقيدة في الخارج ، فَاقْتَصَرَ التكليف في هذا الباب الجليل على المعنى المجرد في الذهن دون خوض في ماهية أو كيف لا بالتمثيل ولا بالتشبيه ، فكان من الجنس الدلالي المجرد : عنوان التكليف تصديقا لا يجاوزه إلى حقيقة أو كيف في الخارج إذ لا يُطِيقُهُ العقلُ في دار الشهادة لا جرم كان التكليف بما يطاق ، وهو إثبات المعنى المجرد في الذهن دون خَوْضٍ في ماهية أو كيف ، وذلك حد التفويض في هذا الباب ، لا التفويض الذي جاوز إلى المعنى ، ولو مجرَّدًا في الذهن ، فذلك مما يُفْضِي إلى إبطال الدلالات اللسانية الضرورية ، دلالات الأجناس المعنوية المطلقة ، وَهِيَ أول ما يثبت في أي كلام يُفْهَمُ قَبْلَ أن يكون ثم من القيد ما يأطر ، فيدُلَّ على مرادِ المتكلم ، كما الإضافة في الإلهيات ، فإن إضافة المعنى أو الجنس الدلالي إلى الخالق ، جل وعلا ، ذلك ما يميزه ضرورةً من آخر يضاف إلى المخلوق ، وإن كان ثم اشتراك في المعنى المطلق ، فذلك ، كما تقدم ، الأول في أي استدلال يَنْصَحُ ، وإثباته في الذهن لا يستوجب تشابها في الماهيات خَارِجَهُ ، بل ثم في الخارج قَيْدٌ يميز الحقائق ، ولو مخلوقةً مشهودةً في الحس ، فكيف بآخر يميز الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق ، فهو يثبت من باب أولى وإن لم يدرك بالحس ، بل ذلك مناط الابتلاء بالغيب جائزا لا محالا ، فأخبار الغيب في النبوات منها الواجب ومنها الجائز فلا مُحَالَ فِيهَا إذ يَمْتَنِعُ التكليف بما لا يطيق العقل مما يخالف عن العلم الضروري الملجئ ، فالوحي لا يَتَحَكَّمُ كما المقال الأرضي المحدَث فلا يخلو الأخير من تَنَاقُضٍ ، ولو لَطُفَ ، فكل من خالف عن الحق فلا يَنْفَكُّ يَتَنَاقَضُ ، كما يقول بعضُ من حَقَّقَ ، وهو ما يَرْبُو وَيَعْظُمُ إن كانت المخالفة عن حَقِّ النبوات المحكم إن خبرا أو حكما بما يحكي ضرورةً القدرَ الفارقَ بين المرجع الرسالي المنزَّل وآخر من الوضع محدث ، فلا ينفك الأول يحكي عنوان الكمال المطلَقِ المنزَّهِ عَنِ الحاجة والنقص ، وهي بواعث التشريع الأرضي المحدَث فلا ينفك يصدر عن عَوَارِضَ بَشَرِيَّةٍ تَجْتَهِدُ في تأويل مظالمها ! أَنْ تُخَرِّجَ أهواءَها وأذواقها وما تطلق له عِنَانًا من الشح والأثرة ، أن تُخَرِّجَ أولئك ولا يخلو من باطل ، أن تُخَرِّجَهُ على جادَّةِ ضِدٍّ من الحق وإن سَلَكَتْ لأجلِه من أجناس التأويل ما يبطن فهو يخالف عن البدائه الضرورية في الجنان المفكِّر واللسان المترجِم ، فَيَنْقُضُ أصول المعاجم الدلالية نقضا ، وذلك ، أيضا ! ، من نقض الميثاق ، فمنه ميثاق الاستدلال وَنَقْضُهُ نقض المعيار الدلالي المحكم ومبدؤه ، كما تقدم ، أصول المعاني المجردة في المعجم بما استقر في الوجدان واشتهر من الاستعمال واستقرئ من إِرْثِ اللِّسَانِ المحكَم من نَثْرٍ وَنَظْمٍ ، لا جرم كان التوسل إليها بالإنكار : مَبْدَأَ نَقْضٍ للأخبار والأحكام كافة ! ، فكان من دعوى الانتحال ما ظاهره بحث في الآداب يَنْصَحُ وهو ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، لِنَصِّ الوحيِ يَنْقُضُ ، وإن لم يُكَذِّبْ أو يجحد ، فذلك مما يميز ويفضح ، فَتَلَطَّفَ صاحبُ الدعوى أن يبطل المرجع الدلالي مع الاحتفاظ بالأدلة مجرَّدَةً من الدلالة ! ، فهي الأوعية المفرغَة من مادتها الدلالية المحكمة ومرجعها ، كما تقدم ، المأثور من المنظوم والمنثور ذَخِيرَةً قد تَرَاكَمَتْ في الصدر والسطر لِكُلِّ نَاظِرٍ يُحَقِّقُ ، فإذا المخالف يُبْطِلُهَا وَإِنْ تَلَطَّفَ فَلَمْ يَجْحَدِ الوحيَ صراحة بل لا يَنْفَكُّ يُعَظِّمُهُ ويحققُ نسبتَه إلى الأصل ، فهو صادق في النقل ، وإنما الخلاف في العقل بما اضطرب من الدلالة إذ أبطل الخصم ما قد أُحْكِمَ من الدلالة المركَّبَةِ من لَفْظٍ ومعنًى وسياق ، من معجم لُغَةٍ وَآخَرَ في العرفِ قَدِ اطَّرَدَ فهو اللسان المشتَهِر المستعمَل زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، وذلك قَيْدٌ في الباب يدق ، فالكلام الديني المنزَّل ، بادي تأويله ناصحا في الخبر والحكم ، فالكلام الديني مبدأ التأويل الناصح لا يَنْفَكُّ يَنْصَرِفُ أولا إلى الحقيقة الاصطلاحية الأخص ، حقيقة الوحي إذ يَزِيدُ في مادة اللسان وَعُرْفِ الاستعمال ، يَزِيدُ فيهما من القيد الشرعي ما يرجح ، فهو كالعهد الخاص في أي فَنٍّ أو صَنْعَةٍ ، فَلَدى أصحابه من دقائق مباحثه ما فَاقُوا به غَيْرًا ، فكان لهم من الاصطلاح أخص في بابه وإن شارك غيره في أصول المعاني بما استعملَ كلٌّ من مادة المعجم المفردة فَزَادَ عليها من القيد ما يميز ، فالحقيقة الاصطلاحية في الشرع هي ، كما يقول أهل الشأن ، حقيقة لسانية مقيدة ، وهي ، أي الشرعية ، أولى تُقَدَّمُ على العرفية وإنْ شَارَكَتْهَا وصفَ الخاص في مقابل الأصل اللغوي العام ، فالحقيقة العرفية ، أيضا ، مما قُيِّدَ بمعنى يزيد ، فهو يُوَاطِئُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ عُرْفِ الاستعمال ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، عنوان محكم في باب الترجيح بين الحقائق إن تعارضت ، فَفِي البحث الديني ذِي المرجع الرسالي ، لا ينفك المستدل ، مبدأ الأمر ، ينظر في الحقيقة الشرعية إذ البحث يَتَنَاوَلُهَا خَاصَّةً ، فإن لم يكن ثَمَّ نص لها في الباب فَالْعُرْفُ المتداول زمنَ الرسالة تَالٍ في الاستدلال ، وإلا رجع الناظر إلى أول في اللسان ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يُسْتَصْحَبُ في الوجوه كافة إذ يستغرقه العرفُ وإن زَادَ عليه قيد الاستعمال المشتهر ، ويستغرقه الوحي وإن زاد عليه قَيْدَ الشرع المنزل ، فاللسان أول هو المطلق في المعجم وعاءَ معنًى يُفْرِغُ فيه الْعُرْفُ من دلالته أَخَصَّ في بابه ، وكذا الوحي إذ يملأ وعاء المعجم المفرد بما زَادَ من قيدِ تَشْرِيعٍ أخص في بابه ، فَلَا يُعْدَلُ عن الرَّاجِحِ من الخاصِّ الرسالي أو نظيره العرفي إلى أول هو العام المطلق في المعجم الدلالي ، لا يُعْدَلُ عنهما فَهُمَا الرَّاجِحُ إلى المرجوحِ من دلالة المعجم المجردة ، لا يكون ذلك إلا لِقَرِينَةٍ صارفة تُرَجِّحُ ، فذلك من جنس التأويل إذ يعدل فيه الناظر عن الراجح إلى المرجوح بما احتف به من قرينة تصرف ، كما المثل يضرب في مواضع من الوحي المنزل قد حُمِلَ فِيهَا اللفظ على المرجوح من دلالة اللسان المطلقة دونَ الرَّاجِحِ من دلالة الشرع المقيدة لا تحكما وإنما قَرِينَةَ سياقٍ تَصْرِفُ وَلَهَا من النظر ما يَنْصَحُ ، كما الصلاة في آي الذكر المحكم : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، فقد صُرِفَ عنوان الصلاة عن المعهود في الشرع إلى آخر أعم في اللسان إذ السياق يحيل ضرورة حملانها على الصلاة المعهودة في أحكام الفقه ، فَصُرِفَتْ إلى معنى في اللسان أَعَمَّ وهو الدعاء ، ومنه دعاء الثَّنَاءِ على صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَحَدَّهُ بَعْضٌ مثالَ تأويلٍ ينصح أو مجاز ذي قرينة تصرف ، ومن ينكر المجاز فهو ، أيضا ، لا ينفك في هذا الموضع يقرر الحقيقة المركبة من مادة المعجم المفردة ، ولو رَجَّحَ اللفظ في نصوص الشرع حكايةَ ماهية أخص ، فَثَمَّ من القرينة ما انضم إلى المادة المعجمية فَرَجَّحَ في هذا الموضع خاصةً ، رَجَّحَ الاقتصار عليها دون زيادة في الشرع وإن كانت المعهودة في نصوصه ، فَثَمَّ من الظاهر المركب : لفظ المعجم الأول وما كان من قرينةِ سِيَاقٍ ترفد ، ثَمَّ منهما ما به الحقيقة ائْتَلَفَتْ فهي مراد المتكلم الذي لا يستبين إلا أن يكون ثم نظر يجاوز الدلالة المفردة إلى أخرى مركبة تَأْتَلِفُ من لفظٍ وسياقٍ ، كما الكلام أولا يأتلف من لفظ يُنْطَقُ ومعنى يُعْقَلُ ، فيحصل بالتركيب الدلالي ما لا يحصل ، بادي الرأي ، بالتجريد اللفظي ، فالمجرد من مادة المعجم لا ينفك يفتقر إلى قَيْدٍ يُؤَطِّرُ ، وأيُّ كلامٍ يصدر فإنما يُرَدُّ تأويله ، بادي أمره ، إلى عرفِ زمانِه الذي نَزَلَ عليه أو وَرَدَ ، فلا يفسر بِعُرْفٍ حادثٍ بعده ، وإنما يُرَدُّ إلى عرفِ الجيل الحاضر ومن تَقَدَّم إذ الحاضر قد تَلَقَّى عنه ذخيرة اللسان فَنُطْقُهُ بَدَاهَةً لم يحدث فجأة من عدم ، وإنما هو العرف المستقر الذي تَنَاقَلَتْهُ الأجيالُ حاضرا عن سابق ، فما الحاضر إلا حكاية تأويل تُبِينُ عما مضى من الآثار ومنها النظم والنثر ، فذلك قانون عام في درسِ أَيِّ ظاهرةٍ لسانية أو اجتماعية أو عمرانية ..... إلخ ، فلا تنفك تحكي روافد تقدمت ، فَكُلُّهَا قَدْ صَبَّ في قَنَاةِ الظاهرةِ حتى تأطرت وصار لها في الخارج وجود يجاوز في الدلالة عَيْنَهَا إذ يحكي ما تَقَدَّمَ من أسبابها ، وذلك أصل في أي استدلال ، فإن الناظر لا يباشر ، بادي الاستدلال ، إلا الظاهرة اللسانية أو الاجتماعية الحاضرة ، فإن لم يحط علما بما تَقَدَّمَ من روافدها كان تأويله قاصرا إذ لم يستقرئ وُجُوهَهَا قَرَائِنَ تَحْتَفُّ وبها التأويل ينصح إذ يَأْتَلِفُ من أجزاءٍ منها حاضر هو المبدأ وَمَا تَقَدَّمَ من أصل وجذر ، كما الناظر في المعاجم يُفَتِّشُ في جذر المادة الأول فَتَصَوُّرُهُ في الاستدلال مَبْدَأٌ وبعده ما يكون من تَطَوُّرٍ دلالي محكَم قد رصده الناظر فلم يتحكم في اقْتِرَاحِ دلالة محدثة تَذَرُّعًا بِتَطَوُّرٍ قَدْ قَفَزَ بِهِ فجاوز المعهود من عُرْفِ اللسان المنطوق ، فَثَمَّ من التطور ما اعْتُبِرَ فِي اسْتِقْرَاءِ الأصول اللسانية المحكمة ، وَثَمَّ منه آخر حَدَاثِيٌّ يجاوز الأصول والفروع كافة فيكون من دلالته ما ينجم فجأةً بلا أصل أول يشهد ، فلا يكون تأويل أي ظاهرة في الوجود إلا بالنظر في الأصول ، والمثل له يضرب بما كان أولا صدر الكلام من عنوان الربا ، فَلَهُ من أصول المكر والتحايل ما به قد اسْتُحِلَّتِ المحارم بأدنى الحيل ، كما في الأثر ، وله من الجماعة أولى قد احترفت الصيرفة والنقد ، واحتكرت المال والجوهر وقارفت الجناية الربوية على قاعدة باطنة تحكمت في التأويل على قاعدة : (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، فكان من التحكم ترجيح بلا مرجح ، وتحريف في الشرع المحكم أَنْ صَارَ من المتشابِه إذ يَتَفَاوَتُ ، فلا يكون الربا محرما إلا بين أبناء الجماعة المختارة ! تحكما في التفضيل ثَانٍ يخالف ، أيضا ، عن عنوان النظر المحكم إذ لا يكون الترجيح المعتبر إلا بمرجِّحٍ لا تحكما يَنْقُضُهُ الخارج بما كان من عذاب نازل وتاريخ يُؤْثَرُ قد كُتِبَتْ فيه الذلة عَلَى مَنْ يَعْصِي وَيَظْلِمُ ، كما الآي محل الشاهد ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) ، إذ بالظلم كان العقاب الناجز ، وذلك أصل في الاستدلال ينصح إن طردا أو عكسا بما جاوز الجمع الإسرائيلي الذي نَزَلَ عليه الوحي فهو كالسبب الذي نَزَلَ عليه النص فلا يخصصه إذ العبرة ، كما يقول أهل الأصول والنظر ، بِعُمُومِ لفظِه ومعناه لا بخصوص سببه ، فكان من قَرِينَةِ التاريخ الشاهد ما يَرْفِدُ الظاهرة الربوية في الجيل المتأخر بِقَرَائِنَ في التفسير تُبِينُ إذ تَرْصُدُ ما تَرَاكَمَ من المسالك وإن صدرت عن أصل واحد قد اشتغل باحتكار المال والثروة أَنْ تَصِيرَ له الدولة على قاعدة الظلم والتحكم حكايةَ تأويلٍ باطنٍ لألفاظ التوراة أن تمنحَ المتأَوِّلَ ذريعة من الوحي تُبَرِّرُ ما يقارف من جنايةٍ يَنْقُضُ بها المعلوم ضرورةً من أحكام الديانة ، نَقْضًا لميثاقها المحكَم وَكِبْرًا وَحَسَدًا يَزْدَرِي الخلق كافة ، فمن سواه فهو من الأميين وليس على صاحب العنصر الشريف المفضَّلِ ، ليس عليه فيهم سبيل يمنع ، بل ثم من استباحة حرماتهم وإفساد أديانهم وأبدانهم وَانْتِهَابِ ثَرَوَاتِهِم ، ثم من ذلك تأويل الاختيار الإلهي بُنُوَّةً لا يُؤَاخَذُ بها الابن وإن عَقَّ وَقَطَعَ ، بل وَنَبَزَ الأب بما يقبح من الفقر والبخل ..... إلخ ، فذلك جوهر في النفس يخبث لا ينفك عنه الجمع الإسرائيلي يصدر في استباحة الربا ونقض الميثاق الرسالي المحكم ، وهو أول في الظلم يثبت ، فكان نقضهم الميثاق الديني الأول توحيدا قد خالفوا عن عنوانه المحكم إذ وصفوا الله ، جل وعلا ، بما عَنْهُ قد تَنَزَّهَ مِنَ النَّقْصِ الذي يستنكفه آحاد الخلق فَانْتَفَى في حق الخالق ، جل وعلا ، ضرورةً هي الْأَوْلَى في القياس الناصح .

    والله أعلى وأعلم .


  3. #3
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    ومن ذلك الميثاق المنتقِض في قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ، وهو المعنى الذي يَتَبَادَرُ مِنْهُ في الحسِّ : ميثاق الأسير أو الفرس ، فَهُوَ القيد الذي يُحْكِمُ لِجَامَهُ ، فاستعير هذا المعنى المحسوس وما كان تَالِيًا من النقض بعد الإحكام ، فَإِنَّ نَقْضَ القيدِ بما يكون من حَلِّ عراه ، ذلك من المحسوس الذي استعير ، أيضا ، لمعقول من الفكرة والشرعة والدين والمذهب والطريقة والمنهاج والسلوك والمعيار ..... إلخ ، فكل أولئك مما يُنْقَضُ كَمَا القيد المحسوس ، كما في الخبر المأثور عن صاحب الشرع المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ»" ، فكان من لام الجواب التي صُدِّرَ بِهَا السياقُ فَهِيَ الابتداء لكلامٍ معين : جواب القسم المقدَّر ، فَتِلْكَ لام الجواب ، فكان منها دليل على أَكْثَرَ من مدلول ، فهي دليل على لفظ محذوف وهو القسم المقدر صدر الكلام على تأويل : والله لَتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام ، وهي ، من وجه آخر ، دليل على معنى : معنى التوكيد فزيادتها في المبنى دليل أخرى في المعنى ، وكان من التوكيد بالنون المثقَّلة ختام الفعل "لَتُنْقَضَنَّ" ، فكان من كلِّ أولئك مَا به المعنى يَتَقَرَّرُ ، وهو ، أيضا ، من المعقول الذي استعير له المحسوس من نَقْضِ العرى المشهودة في الخارج ، فاستعيرت العرى لخصال الإسلام وأحكامه ، وهو مما به المستدل يَسْتَأْنِسُ لما تَقَرَّرَ لدى أهل السنة أن الإيمان يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فيزيد حتى يبلغ حد الكمال الواجب فتاليا من الكمال المستحب وينقص فينحط إلى دركة وعيد بما تُرِكَ من واجب أو فُعِلَ من محرم ، وهو جنس منه الوعيد المؤقت بما يكون من ناقض لكمال الإيمان الواجب وصاحبه تحت المشيئة عفوا فذلك الفضل أو أخذا فذلك العدل ، ومنه الوعيد المؤبد بما يكون من ناقض لأصل الإيمان الأول ، فكان من الزيادة والنقص ، بما يثبت من عرى وَشُعَبٍ وَيُنْفَى من أخرى ، وهو ما استغرق الإيمان والإسلام كافة ، إذ الإسلامُ وقد أفرد في هذا السياق فهو يَنُوبُ عن الإيمان بما تَقَرَّرَ من دلالة الاقتران والافتراق ، إذ ذكر الإسلام مُفْرَدًا يدل على خصاله أصالةً ، وعن خصال الإيمان نِيَابَةً ، فكان من ذكر العرى ما يَتَعَدَّدُ خِصَالًا في الخارج منها الاعتقاد والقول والعمل ، التوحيد والتشريع ، فاستعير المحسوس من عرى في الخارج ، استعير لمعقول من عرى الدين وهي خصاله العلمية والعملية التي استغرقت المحال والأحوال كافة ، اعتقادا يَبْطُنُ وقولًا يشهد وعملا يُصَدِّقُ ، وذلك مما به يستأنس من يُجَوِّزُ المجاز في الوحي واللسان ، ومن ينكر فهو على أصل قد تَقَدَّمَ مِرَارًا ، أن ثم من الأجناس المعنوية ما يطلق في الذهن فالشركة فيه تجوز بل وتجب إذ هي أول في دَرَكِ المعاني الأولية المفهمة في أي كلام ينطق ، فكان منها الجنس المعنوي الذي تحصل فيه الشركة ، ويكون من قَيْدٍ في الخارج ما يميز آحاده : المحسوسة أو المعقولة فهو حقيقة في كلٍّ فلا مجاز .
    وثم من الحال فالتوكيد "عروةً عروةً" ، ثم من ذلك ما يزيد في الدلالة ، وبعدها كانت الحكاية لمعلوم خبري وإن لم يخل من آخر إنشائي يأمر بالتشبث بعرى الدين ، من وجه ، والنهي عن نَقْضِهَا بالترك بعضا أو المفارقة كُلًّا ، ومن ثم كان النص على أول وآخر ، وهو ما صَدَّقَهُ التاريخ فهو التأويل الذي يشهد بصحة الخبر المنزل ، فانتقض الحكم أولا ، بما كان من نَقْصٍ أول فكانت النبوة فالملك الراشد فلا يخلو من نقص ، ولو يسيرا ، فهو خلافة النبوة وذلك المركب الإضافي الذي يميزه من تال قد صار الملك فيه عاضا ، وبينهما حكومةُ ملكٍ ورحمة وبها الانتقال من أعلى إلى أدنى ، ثم كان من الجبرِ مَا تَلَا ، وهو ما استبد وطغى فآلت به الحال أَنْ عَطَّلَ الوحي جملة وتفصيلا ، كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر ، فذلك النقض التام الذي يُوصَمُ حالَ الإطلاق في باب الأسماء والأحكام أنه النقض لما كان أولا من أصل الدين الجامع ، فهو أدنى ما يجزئ في حصول اسم إيماني ينفع ، فكان من نواقضه تعطيل الوحي واستبدال آخر من الوضع به حكاية خصومةٍ لا يَنْفَكُّ ذكرها يتكرر ، فهي الرسالة في حد والحداثة في آخر ، وثم من العروة الأخيرة الصلاة ، فلا ينفك ذكر الاثنين : الحكم والصلاة في سياق النقض ، لا يخلو من إنشاء ينهى عن الظلم في الحكم والترك في الصلاة ، ويأمر بضد من العدل في الأول والإقامة للثانية بما به الذمة تَبْرَأُ مع تحرٍ في القصد ما يحسن تجريدا لمادة توحيد ناصحة هي شرط الصحة في الأقوال والأعمال الحادثة .
    فذلك الميثاق الديني الذي يجري عليه النقص تارة والنقض أخرى ، وهو ، من وجه ، مما يكون تدرجا ، فلا يُنْقَضُ دَفْعَةً ، وإنما يكون من ذلك نقض عروة فأخرى ، كما قد أُثِرَ عن الفاروق عمر ، رضي الله عنه ، فـ : "إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية " ، وذلك من القصر الذي صدر به السياق توكيدا ، ولا يخلو من ضعف فهو الأدنى في بابه إذ الأمر مما يكون بداهةً ، كمالا بَعْدَ نَقْصٍ ، فتلك سنة الخالق ، جل وعلا ، في الأديان والأعيان كافة ، وثم من إسنادِ الفعل إلى ما لم يسم فاعله في "تُنْقَضُ" ، ثم من ذلك ما يحكي العموم إذ كَثِيرٌ يَنْقُضُ بما يقارف من الكفران والعصيان ، وثم من الظرف ما يقيد كَثْرَةً فتلك دلالة "إذا" فهو مما اطرد في بابه قَانُونًا يَسْتَغْرِقُ ، إذ يكون ذلك إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، إسلاما وجاهلية ، فمن لم يَخْبُرِ الجاهلية ولو من بابِ تَعَلُّمِ الشرِّ لاتقائه ، من لم يَخْبُرْ أمرها فهو لا محالة واقع في شِرَاكِهَا ، كما التاجر إذ اتجر وليس يفقه البيوع فهو لا محالة آكلٌ السحت والربا ، كما المأثور ، أيضا ، عن عمر الفاروق رضي الله عنه .


    فمن ذلك الميثاق المنتقِض لدى يهود : ميثاقُ التحريم لِلرِّبَا الذي يصيب جوهر الشريعة بِخَدْشٍ لا يُسْتَرُ بل بِكَسْرٍ لا يُجْبَرُ ، لأنه يَتَنَاوَلُ معادنَ أخلاقٍ رَئِيسَةٍ لا يقام بناء محكم في الاجتماع والعمران إلا على قواعدها المحكمة ، فأخلاق الإيثار فَضْلًا ، فـ : (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) ، أو : "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" ، فتلك محبة المثلِ عدلا ، وذلك من نفي الإيمان الواجب لا مطلق أول فإن هذا العمل الباطن الذي ينشأ في الجنان محبة وإشفاقا مع ما يكون ضرورةً من التلازم بين هذه المحبة الباطنة وآثارها الظاهرة في الخارج ، قولا وعملا ، فيكون من التلاؤم بين أجزاء القسمة ، باطنا وظاهرا ، جنانا ولسانا وأركانا ، يكون من التلاؤم بَيْنَهَا عنوان إيمان يكمل فتلك خصلة تُرَاوِحُ بَيْنَ الإيجاب والندب ، فمنها ما به كمال الدين الواجب ومنه ما يزيد من آخر مستحب ، فالمثل في المحبة عدل وهو الواجب ، والإيثار فضل وهو المستحب ، وَالنَّفْيُ في هذه المواضع مما احتمل وجوها ، فاحتمل نفي الحقيقة الإيمانية جملة فلا حقيقة في الخارج تَثْبُتُ ، ولو المطلق الأول ، أدنى ما يصدق فيه الاسم الْعَلَمُ الدَّالُ عَلَيْهَا ، وهو ما يَتَعَذَّرُ إذ خطاب المواجهة الذي دل عليه الضمير المخاطب المجموع في "أَحَدُكُمْ" مما ينصرف ، بادي الرأي ، إلى جمع مؤمن وَلَوْ تَغْلِيبًا بِالنَّظَرِ في الحال الظاهرة وعليها مدار الأحكام في دار التكليف ، فمدار الإجزاء والصحة في هذا الباب إنما يَنْصَرِفُ إلى حصول الماهية الشرعية المجزئة إِذِ اسْتَوْفَتِ الشروطَ وَانْتَفَتْ عنها الموانع ، وحصل من الأركان الواجبة ما به اكتمال الحقيقة الاصطلاحية الأخص ، فذلك التعريف اصطلاحا وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، مِمَّا جاوز التعريف في اللسان ، فكان من الاصطلاح قَيْدٌ يَزِيدُ بما يواطئ المحلَّ ، محلَّ البحثِ والنظرِ ، فحقيقة الشرع أخص ، وَلَا تَنْفَكُّ ، مع ذلك ، تَقْبِسُ من الحقيقة اللغوية شُعْبَةً وتزيد عليها أخرى هي القيد المخصِّص الذي يقصر الحقيقة اللغوية على نَوْعٍ من أَنْوَاعِهَا ، فالمطلق يُقَيَّدُ فيكون من القيد ما يأطر الحقيقة الأعم : عنوان الجنس المعنوي المجرد في الذهن ، يكون من القيد ما يأطرها على حقيقة أخص ، مِنَ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرْعِ ، فَثَمَّ حقيقة إيمانية أولى هي أول ما يثبت من المطلق الدلالي : أدنى ما يصدق فيه الاسم الإيماني ، وذلك ما تعذر حملان النَّفْيِ في الخبر عليه ، وإلا كان ذلك ناقضا من نواقض الإيمان ، وليس ذلك مِنَ الباب ، إلا أن يكون من نفي المحبة ما يجاوز إلى البغض ، وهو ، أيضا ، مما لا يَنْقُضُ الأصلَ الجامع لِذَاتِهِ ، وإنما يَرِدُ عَلَيْهِ قَيْدُ النَّقْضِ إذا كان الْبُغْضُ عَلَى قاعدة دِينِيَّةٍ فَهُوَ يُبْغِضُ المؤمنَ لما يَنْتَحِلُ مِنْ دِيَانَةٍ ، فَبُغْضُهُ ، لو تدبر الناظر ، بُغْضُ الديانةِ التي يَنْتَحِلُهَا المؤمن ، فَلَوْ تَحَوَّلَ عَنْهَا لَزَالَ السببُ وَحَصَلَ الرِّضَى ، فـ : (لَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ، وهو النَّفْيُ المؤقت حتى يكون التخصيص بالغاية بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ المخالفِ ، وهو النَّفْيُ الذي عَمَّ إذ تسلط على المصدر الكامن في الفعل "تَرْضَى" ، وذكر أهل الكتابين في هذا السياق يجري مجرى خاص يُرَادُ به عام ، فهو يستغرق خصوم الوحي كافة ، من أهل الكتاب أو أهل الردة أو أهل دين أو مذهب محدث ....... إلخ ، فذلك مما يحمل به النَّفْيُ في الخبر على نفي الأصل الجامع ، إذ بُغْضُ المؤمنِ لأجل ما به يَتَدَيَّنُ ، ذلك من النَاقِضِ لأصل الإيمان الأول ، وهو المجاز الأقرب إذ تَعَذَّرَ حملان النفي على نفي الحقيقة الإيمانية إلا أن يكون الخطاب لجاحد منكر ، فيكون ذلك من التكليف بالقوة لا بالفعل ، فيخاطب الجاحد بعنوان المحبة الدينية الأخص ويخاطب أولا بعنوان إيمان يجزئ في حصول أدنى ما يصدق فيه الاسم ، ولو المطلق الأول ، فهو شرط صحة لما تَلَا من التكليف أصلا أو فرعا ، وَثَمَّ ثَانٍ في الاحتمال وهو نَفْيُ المجازِ الأبعد : نفي الكمال الواجب بالنظر في عنوان العدل ، وثم ثالث وهو نفي مجاز آخر : نفي الكمال المستحب بالنظر في عنوان الفضل إِيثَارًا ، فَلَا يجب على كلِّ أحدٍ ، وإن كان من فضائل النفوس التي تَزْدَهِرُ في أعصار القوة ، قُوَّةِ الفردِ والجمعِ إذ به تَتَوَثَّقُ العلائق ويأمن الخلق كَافَّةً ، فَثَمَّ من روحٍ تَكْفَلُ بل وتالية تُؤْثِرُ ، وهو ما امْتُدِحَ بِهِ الجيل الفاضل إذ كان من الوحي باعثٌ قد اسْتَخْرَجَ مِنَ النُّفُوسِ معادنَ الفضلِ ، فكان من وصف الطباق الأول وهم أعظم من تأول الوحي فكرةً وحركةً ، باعثًا وشاهدًا ، فكان من وصفهم أنهم الذين : (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وهو ما حُدَّ مضارعا به استحضار الصورة مِنْ وَجْهٍ إذ يَصِفُ جِيلًا قد تَقَدَّمَ ، وإن كان من آثاره ما دُوِّنَ فَهُوَ شاهدُ الصدقِ المحكم أَنَّ الوحيَ حق إذ باشر المعادن الأخلاقية فعالج منها بَعْضًا قَدْ ثَبَتَ وَإِنَّمَا افْتَقَرَ إلى مُظْهِرٍ يكشف لا مُؤَسِّسٍ يُنْشِئُ ، فكان منه الدين المحكم الذي جَاوَزَ المتبادِر مِنَ الاعتقاداتِ العلمية المجردة وَشَعَائِرِ القول والعمل ، مع ما تَحْكِي من أصل أول وَبِهِ السلامة من إِرْجَاءٍ يُجَافِي عَنْ جَادَّةِ العدل في الباب ، فَقَدْ غَلَا بَعْضٌ فِي اعتبار الأخلاق والفضائل العامة فَصَيَّرَهَا آيةَ الدينِ الناصحِ ، ولو فَاتَ صاحبَها من الاعتقاد والقول والعمل ما يَلْزَمُ ، فالأخلاق والفضائل التحسيني أو الكمالي بعد الضروري والحاجي من الاعتقادات والشعائر والشرائع التي تَضْبِطُ حَرَكَةَ الفردِ والجمعِ ، إِنْ فِي السِّلْمِ أو فِي الحربِ ، فَلَا يشتغل عاقلٌ بِكَمَالٍ وهو الزِّينَةُ وَلَمَّا يستوفِ الضروري الأول وهو أدنى ما تثبت به الحقائق ، فالأخلاق والفضائل كواشف لحقيقة إيمانية قد اجتهد صاحبها في تحرير مادتها العلمية والعملية ، فحصل له من التصور ما زَادَ الأخلاق والفضائل مادَّةَ قصدٍ وَتَدَيُّنٍ فلا يشتغل بِتَحْصِيلِهَا عاداتٍ تُحْمَدُ أو ذَرَائِعَ بِهَا يَتَوَسَّلُ إلى صلاحٍ عاجل لا يجاوز الشاهد إذ لا تصور له يجاوز المنفعة العاجلة التي ضَاقَتْ دَائِرَتُهَا في المقال الحداثي ، فصار الفرد هو الأصل الذي تصدر عنه الفروع ، فهو المحكم الذي تُرَدُّ إليه المصالح والمفاسد في تَقْدِيرٍ باعثه أخلاقُ جِبِلَّةٍ وَطَبْعٍ لم تَتَهَذَّبْ بآداب الشرع إذ : (أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، فتلك مادة قَدْ رُكِزَتْ فِي الطَّبْعِ لا يجاوزها المتأدِّب إلا أَنْ يَأْطِرَهَا على جادة الوحي المنزل تصورا يصدر عن كمال المراقبة ، مراقبة المؤمن الطالب لِرُتْبَةِ إحسانٍ حَدَّهَا الروح الأمين ، عليه السلام ، فـ : "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَرَهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" ، فإذا حصلت هذه الخصلة الإيمانية الشريفة كان من وَازِعِ النَّفْسِ ما يَزْجُرُ ، وَكَانَ من روحِ الجمعِ ما يصلح ، فقد جاوز حَدَّ الصلاح الذاتي إلى الإصلاح المجاوز آيةَ السلامة من الهلاك ، فـ : (مَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ، فَثَمَّ من روح الوحي الباعثة ما أصلح النفس بادي الرأي ثم صَيَّرَهَا أداةَ إصلاحٍ تجاوز ، كما أخرى تناجز فقد أصابها من الفساد أولا ما زَادَ وطغى فجاوز بالوصف وَتَعَدَّى بالفعل إفسادا في الأرض ، ومنه الربا مِثَالًا تَقَدَّمَ ، فهو من أشد الذرائع أن يحكم المفسِد القبضةَ إذ يحتكر أسباب القوة والثروة ، ولا يكون ذلك إلا أن يُقَطِّعَ العلائق تقطيعا فلا يكون من روح الجمع ما يُشْفِقُ ، ولا يكون من تعظيم الوحي ما يَزْجُرُ ، فالربا قد جاء به تحريمٌ ووعيدٌ يَزْجُرُ ، وذلك أول في وجدان الفرد ، وثم تال من روح تُشْفِقُ أَنْ يَنَالَ أخاه بما يُؤْلِمُ ، فـ : "لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" ، والربا ضرار إذ يجتهد الغني في احتكار المال ، فَتَضِيقُ الأرزاق وَيَزْدَادُ الفقير حاجة ، ولا يكون من وظيفة المال في المجال العام : تداول يستغرق نفعه الجمع كافة ، فَيَلْتَئِمُ الخلق على قاعدة من الإحسان والإيثار ، لا الأثرة والضرار ، ويكون من روحٍ تَكْفَلُ مَا يُنَاجِزُ أخرى من حداثة تستأثر بِمَا تَأَوَّلَتْ في حَدِّ الحرية ، فكان من تأويلها باطن قد أَفْرَغَ العنوانَ الشريفَ من دلالته المعنوية المحكمة واستبدل به آخر عَلَى ضِدٍّ ، فإن إطلاق الحكم يخرج بالإنسان من قَيْدِ العبودية الناصحة التي تحرره من أخرى باطلة ، فإطلاق الحكم ذريعةٌ بِهَا يخرج المكلف من هذا القيد الناصح فَيَقَعَ في ضِدٍّ وَنَقِيضٍ ، عبوديةَ هوى وذوق يَجْنَحُ ، وأخرى لطاغوت يحكم ، وكلٌّ عن ذاته المجردة وفكرته المحدثة ، كل عَنْهَا يصدر فهي المرجع المحكم ، وَبِهَا يَقْضِي في آخر من الوحي المنزل ، فَيَأْبَى الانقيادَ لمرجع يجاوز من خارج ، بل قد صار العقل المحدَث هو المرجع والمصدر وهو المعيارُ الَّذِي يَحْكُمُ فِي آخَرَ ، فَلَهُ جُمَلٌ رَئِيسَةٌ من القيم والأخلاق الحاكمة ، فَيَسْتَدْعِي من دَوَائِرَ أخرى حكوماتٍ هي المتشابه فكل ما خالف عنه فالأصل فيه الرَّدُّ حتى يكون من القياس ما يُوَاطِئُ فَلَا يَقْبَلُ إلا ما وَافَقَ معياره ، ولو هوًى وذوقًا لَا يَزَالُ يَضطَّرِبُ فَفِي كل وَادٍ تَهِيمُ فَلَا تكاد تُفْصِحُ أو تُبِينُ ، فَصَارَ مقالُها ، ولو لم يَسْتَقِمْ على قاعدة محكمة من النظر فليس إلا الهوى الذي يطرأ والذوق الذي يحب ويكره ولو خصامَ مَنْ يُنَشَّأُ في الحلية ، فلا يكاد يُبِينُ إذ قد غلب الهوى العقلَ ، فصار هذا المقال المضطرب هو الحاكم المهيمن الذي يضع الجمل الرئيسة في التحسين والتقبيح وما يصدر عنها من حكومةٍ وتشريعٍ ، فلا تجاوز الفرد غايةً فهي تَتَأَوَّلُ جِبِلَّةَ الطبع من الأثرة والشح ، فلا تقيم وزنا لمصالح الجمع ، كما الربا آنف الذكر ، فإن باعث المرابي قَلَّ رأس ماله أو كَثُرَ ، فإن باعثه ما تَعَجَّلَ مِنْ كَسْبٍ ، ولو مُتَوَهَّمًا ، مع ما يلحق بالجمع مِنْ ضَرَرٍ ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، بِمَا تَرَاكَمَ من آثاره في تَضْيِيقِ الأرزاق والمعايش ، فَثَمَّ من روح الفرد ما يَنْقُضُ أخرى بها الجمع يَنْصَحُ إيثارا هو النافلة التي رفدها الوحي بِقَيْدٍ يحترز ، قيد الحال "وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" ، في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فهو يؤثر في السعة والضيق كافة ، بل الإيثار في الضيق أَشْرَفُ في الوصف وَأَجْلَبُ للمدح في الأولى والأجر في الآخرة لمن يؤمن بها فقد جاوز بالفعل حَدَّ الشهادة وهي تَفْنَى إلى غيب هو الأبقى ، فـ :
    ليس العطاء من الفضول سماحة ******* حتى تجود وما لديك قليل .

    ومن ثَمَّ كان الشرط الذي اطرد وانعكس ، فـ : (مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فَثَمَّ وقاية من الشح والأثرة ، وذلك وصف يحمد فَلَاءَمَ الحكم الذي حُدَّ جوابا لِلشَّرْطِ ، حكم الفلاح وهو ما صِيغَ في لفظه اسميةً تحكي الثبوت والاستمرار ، فَوَجَبَ من الفاء رَابِطٌ كما تقدم في مواضع فذلك قانون نحو قد استقرئ من المأثور من الكلام المحتج به ، ولا تخلو من فَوْرٍ وَتَعْقِيبٍ وذلك آكد في التَّقْرِيرِ والتوكيد مع عنوان سَبَبِيَّةٍ لا تخلو منها فاء وهو ما يَرْفِدُ الدلالة الشرطية فَالتَّعْلِيلُ فِيهَا يظهر إذ الجواب يدور مع الشرط وجودا وعدما ، فاجتمع في الفاء من الدلالات ما تَكَاثَرَ وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا ، مما به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك ، وثم من الاسمية عنوانُ تَوْكِيدٍ تَالٍ ، فذلك التوكيد المعنوي ، مع ما زِيدَ فيها من عنوان القصر بتعريف الجزأين "أولئك" و "المفلحون" ، وضمير الفصل "هم" ، ولا تخلو الإشارة إلى البعيد من عنوان مدح يزيد فتلك الإشارة إلى بعيد قد علت درجته ، وإن احتمل ، بادي الرأي ، عنوان البعيد مجردا فاحتمل درجة تَعْلُو أو دَرَكَةً تَسْفُلُ ، فذلك من الإجمال الذي يجري مجرى الأضداد إذ احتمل ضدين في الدلالة ، وهو من الإجمال بمكان يَغْمُضُ ، فَافْتَقَرَ إلى القرينة المرجحة ما لا يَفْتَقِرُ غيره من ألفاظ المجمل ، فكان من قرينة السياق ما رَجَّحَ عُلُوَّ الدرجةٍ ، فذلك مناط المدح والثناء بما تَقَدَّمَ من الوصف ، وقايةً من الشح وما اسْتَلْزَمَتْهُ مِنْ إثباتِ ضدٍّ من الكرم والإيثار ، ولو كان ثَمَّ خصاصة تمنع ، فحصل من ذلك مرجِّح في باب الأضداد ، إذ السياق يدل على المعنى المحمود رفعةً فِي الدرجةِ ، مع آخر يلازمه أَبَدًا ، علو المخاطِب ، جل وعلا ، فهو الأعلى فَيُشِيرُ إلى من دونه ، وَإِنْ عَالِيًا في درجته ، يشير إليه إشارة البعيد فمهما عَلَا المخلوقُ ، فالخالقُ ، جل وعلا ، أعلى ، فَعُلُوُّهُ العلوُّ المطلق الذي جاوز الوجود المخلوق كَافَّةً ، وثم من عنوان الفلاح ما حُدَّ اسْمًا مشتقا على حد الوصف المشبه وهو آكد في الإثبات إذ يلازم ، وهو ما رَفَدَ "أل" بعنوان الوصل على تقدير : فأولئك هم الذين أَفْلَحُوا ، مع ما احتملت "أل" من دلالة العموم المستغرق لوجوه المعنى ، وهو ، أيضا ، آكد في الثناء والمدح ، وبه الدلالة لزوما على الإنشاء المواطئ أَنِ : اتقوا شُحَّ النفوس فلا تَبْخَلُوا لتكونوا ممن نَصَحَ وَأَفْلَحَ ، واتصفوا بضد من الكرم والإيثار .

    فتلك مادة تشرف لا يلقاها إلا من يُصْلِحُ ، ولا يكون ذلك إلا أن يَصْلُحَ مَبْدَأَ أمرِه ، وهي ، كما تقدم ، مادة الفضل وبها اكتمال الإيمان المستحب على تأويل النفي في الخبر آنف الذكر أَنْ : "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" ، أنه نفي الكمال المستحب بالنظر في عنوان الإيثار فضلا ، فإن لم يُطِقْهُ فَثَمَّ آخر واجب ، وذلك العدل في المحبة أن يحب لأخيه ما ضاهى محبوبه ، ويكره له ما يكره لنفسه ، وذلك مفهوم من السياق يَلْزَمُ ، فيكره المرابِي لأخيه ما يكره لنفسه من الفقر أن يظلمَه غَيْرُهُ فيحتكرَ المال دولة فلا يَنَالَ مِنْهُ ما يَكْفِي إذ المرابي قد استلبه حقه ، فذلك مِمَّا يَكْرَهُ كُلُّ أَحَدٍ فَعَلَامَ رَضِيَهُ لِغَيْرِهِ ؟! ، فذلك مما به نَقْضُ الحقيقة الإيمانية الكاملة بل قد تُنْقَضُ أخرى هي الأصل إن استباح ذلك فَجَاوَزَ حَدَّ العصيان إلى الجحود والكفران ، فَاسْتَحَلَّ من الرِّبَا ما به يَضُرُّ أخاه قصدا ، وجاوز بالأمر ظلما أصغر إلى آخر يعظم إذ قد نَقَضَ بِهِ ما ثَبَتَ ضرورةً من تحريم الربا ، فكان من ذلك ما احتمل وجوها من النَّفْيِ على التفصيل آنف الذكر ، نَفْيِ الحقيقة أولا ، وَنَفْيِ مجازٍ أقرب وهو الصحة ، وآخر أَبْعَد وهو الكمال الواجب بالنظر في معنى العدل أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يحب لنفسه ، بل وثالث هو الغاية فذلك الكمال المستحب بالنظر في معنى الفضل أن يُؤْثِرَ أخاه فيحب له ما زاد عن محبوبه ، ومحله بداهة ما كان من أمر الدنيا لا الدين فلا إيثار في القرب الشرعية التي تُرَادُ لذاتها ، كما قَرَّر أهل الشأن ، ولكلٍّ ، لو تدبر الناظر ، حظ من النظر ، وبه ، أيضا ، يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فقد احتمل النفي وجوها لا يحول السياق دون الجمع بَيْنَهَا إذ لا تعارض ولا تناقض فالجهة قد انفكت إِنْ خَبَرًا أو مَا يَلْزَمُ مِنْ إنشاءٍ يأمر بما به الكمال المستحب يثبت فيأمر بالإيثار ، ولو ندبا فهو الفضل ، فإن لم يطقه المكلَّف فَثَمَّ آخر به الكمال الواجب يثبت فيأمر بالعدل أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وهو ما تظهر آثاره ضرورة في الفعل إِيتَاءً للخلق ما يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إليه ، كما في الخبر أَنْ : "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ" ، فكان من الشرط وعد باعث وبه السلامة من الألم قَبْلَ بلوغ اللذة ، وهو جار على قانون الحكمة أن تدفع المفسدة قَبْلًا ثُمَّ تُجْلَبُ المصلحة بَعْدًا ، فكان من ذلك مقابلة بها استيفاءُ القسمة ، مع طباق إيجاب بالنظر في ألفاظِ كلٍّ ، وثم من الجواب ما حُدَّ أَمْرًا : "فَلْتُدْرِكْهُ" ، فَلَامُهُ لامُ الأمرِ الجازمة وهو ما استوجب دخول الفاء الرابطة ، وثم من قَيْدِ الحال "وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ" مناطُ الفائدة وَإِنْ فَضْلَةً في اللَّفْظِ فَهُوَ في هذا السياق عمدةٌ في المعنى ، وَإِلَّا فالمنية تدرك الخلق كَافَّةً من آمنَ ومن كفرَ ، من آثَرَ وَمَنْ شَحَّ ، فكان من الحال إيمان هو الأصل ، فلا ينفع قول ولا عمل إذا تخلف الإيمان فهو شرط الصحة لكلِّ مَا تَلَا من الأقوال والأعمال ما بَطَنَ مَنْهَا وَمَا ظَهَرَ ، وكان من تال هو محل الشاهد ، فهو تأويل المحبة أَنْ يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه فَيَأْتِيَ إليه ما يحب أَنْ يُؤْتَى إليه ، فيتأول المحبة الباطنة بظاهر من الإيتاء يعدل ، ولا يخلو الخبر وعدا تقدم من دلالة إنشاء تلازم أن : آمنوا بالله واليوم الآخر وآتوا الناس ما تحبون أَنْ يُؤْتُوكُمْ إِيَّاهُ ، وَهُوَ مَا اسْتَلْزَمَ ، من وجه آخر ، نهيا عن الأضداد أن : لا تكفروا بالله واليوم الآخر ، ولا تظلموا الخلق فإذا استوفيتم حقكم استوفيتموه وزيادة ! ، وإذا أعطيتموهم طَفَّفْتُمْ وَنَقَصْتُمْ فذلك الظلم الذي جاء التنزيل به وَيْلًا أَنْ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) ، ولا ينفك ، لو تدبر الناظر ، يستغرق الربا محل الشاهد ، ولو المعنى الأعم زيادةً تَبْطُلٌ فلا عِوَضَ يُضَاهِيهَا .

    والله أعلى وأعلم .


  4. #4
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وروح الإيثار وهي أول أو العدل وهي تال ، تلك بداهة روح تخالف عن روح الربا أَثَرَةً وَجَشَعًا يروم صاحبه الكسب ، ولو نَالَ أخاه بما يكره ، بل الجمعَ كله بما يضر ويؤلم ، فغاية أمره أَنْ يَسْتَقِيمَ معاشُه ويزيد كسبه ويعظم مِلكه ومُلكه إن كان ذا ولاية عامة ، ولو خالف لأجل ذلك عن غاية الجمع وحكومة الوحي وكل معيار يَعْدِلُ حَدَثَ مِنَ الأرض أو نَزَلَ من السماء ! ، فليس ثم إلا ذاته التي صارت عنوان الحسن والقبح وما تلا من التشريع والحكم خَصَّتْ بها البلوى فلم تجاوز واحدا في الخارج لا ولاية له تستغرق وَتِلْكَ مصيبة ، أو عَمَّتْ فالمصيبة أعظم بما لها من سلطان في الخلق يَنْفُذُ عَدَلَ أَوْ ظَلَمَ ، فَمَا كان من عدل فلا يُرَادُ لِذَاتِهِ ! وإنما قد وَافَقَ هواه فهو المحكم الذي به يَقْضِي في الفكرة وعنه يصدر في الحركة ، فَلَوْلَا أَنْ وَافَقَ ما يَهْوَى ما كان لِيَنْفُذَ ، فعدل بلا أجر ! إذ لم يعين الغاية والقصد الذي يَبْعَثُ ، ولم يحرر المرجع الذي عَنْهُ يَصْدُرُ ، فالمرجع هواه وذوقُه المضطرب فإن وافقه الحق والعدل فَهُمَا من الحسن ! وإن لم يوافقاه فهما من القبيح ، فَفِي حَالِهُ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، في حاله يصدق الخبر أَنْ : "مَنْ قَالَ فِي القُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ" ، على كلام في إسناده ، فأخطأ إذ لم يسلك الجادة المحكمة في التأويل ، فَلَيْسَ أَهْلًا أَنْ يُفْتِي في التَّفْسِيرِ فضلا أَنْ يَجْتَهِدَ وَلَوْ أَتَى بِمَا لم تَأْتِ به الأوائل ! إذ خالف عن جادة الاجتهاد المعتبرة فلا أصول محكمة من الوحي واللسان ، وإنما التأويل الباطن الذي يُفْرِغُ الألفاظ الظاهرة من معانيها وإن أَبْقَى عَلَى مَبَانِيهَا نطقا بلا منطق ، حروفا بلا حدود تَأْطِرُهَا على جَادَّةٍ محكمة إِنْ رِسَالِيَّةً تَحْكِي الْمَقَاصِدَ الْكُلِّيَّةَ وَتُبِينُ عَنِ الحكومات الجزئية أو لِسَانِيَّةً هي المبدأ في تأويل أَيِّ نَصِّ يُنْطَقُ أو آخر في الكتب يُسْطَرُ فتلك أولى من الحقائق تَأْتَلِفُ من معجم هو المفرَدُ وَسِيَاقٍ من النَّظْمِ هو المركَّبُ ، فمن قال بِرَأْيِهِ فهو عن كل أولئك يجنح وإن أصاب من الحق بَعْضًا فَرَمْيَةً من غَيْرِ رَامٍ ، كما الملك والخليفة في حد ابن عوف إذ سَأَلَهُ ابن الخطاب وقد صارت له الولاية والحكم فَاسْتَوْثَقَ أمره من ناصح لا يكذب ، فأجاب ابن عوف بما يبين عن الفرق ، فالخليفة يأخذ من حِلٍّ ويضع في حِلٍّ فيجتهد في الحكم على قاعدة من الوحي هي المرجع الذي يُبِينُ عن الحلال فلا يجاوزه الخليفة ما استطاع وَإِنْ أَخْطَـأَ فِي الاجتهاد فلم يجاوز الأصل الأول ، فقد أصاب فَرْعًا عنه فَنَالَ الأجرينِ وأخطأ فَرْعًا عنه فَنَالَ الأجر ، فالوحي أبدا أصل محكم وهو في كلٍّ عنه يصدر أصاب فَلَهُ الأجران أو أخطأ فَلَهُ الأجر ، والملِكُ في ثان به استوفى المسئول القسمةَ ، الملِكُ يأخذ من حَلٍّ فهو الحق وحرام فهو الباطل ، ويضع في موضعه الذي ينصح فذلك حق ، وآخر ليس بموضعه فهو يغش ويكذب فذلك باطل ، فَيُصِيبُ بَعْضًا ويخطئ آخر وليس فيما أصاب بِمُثَابٍ إذ قد صدر عن الهوى والذوق ، فلا يخضع لمرجع يجاوز من الوحي إِذِ اضطَّرَبَ المعيار والمرجع هَوَى وَذَوْقًا فَتَارَةً يصيب وأخرى يخطئ لا على قاعدة من الاجتهاد تَنْصَحُ وإنما حكم وليس بأهل فما أصاب من الحق فلا أجر بل له من الخطإ والإثم ضِدٌّ كما القائل في القرآن برأيه فهو أبدا مخطئ خاطئ وإن أصاب الحق رمية بِغَيْرِ رَامٍ .

    فكان مِنْ نَقْضِ الميثاقِ في قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) : سَبَبٌ لِمَا كَانَ من عقاب مُنْزَلٍ ، فكان التحريم الشرعي الذي ضُمِّنَ معنى النكاية والجزاء المعجَّل بتكليف يُوَاطِئُ عنوان الجلال أَنْ حُرِّمَتْ عليهم في الأولى جمل من الطَّيِّبَاتِ ، فكان نَقْضُ الميثاقِ الأول ، وذلك العنوان العام المستغرق إذ نَقَضُوا ميثاق التوحيد الأول ، فَقَدَحُوا في ذات الله ، جل وعلا ، بما نَسَبُوا إليه من وصفِ النَّقْصِ المطلَقِ ، فكان من السمع المحيط ما به تسجيل الجناية العظمى قَدْحًا في المعلوم الديني الضروري أَنَّ الله ، جل وعلا ، الغني الحميد فلا يَفْتَقِرُ إلى أحدٍ من الخلق فذلك مما يقدح في الوصف ، وصفِ الكمال المطلق ، فلا يكون الإله بَدَاهَةً فَقِيرًا إلى سبب ، فذلك مما يقدح في كمال ذاته ووصفه ، ويقدح في كمال ربوبيته إذ يفتقر إلى سبب من خارج به تدبير الكون من الخلق إلى الإيجاد إلى الإعداد إلى الإمداد فكيف يكون منه إمداد بسبب وهو إليه يفتقر فَفَاقِدُ الشيء لا يعطيه ، ويقدح في كمال ألوهيته فإن المفتقِر إلى سبب لا تُؤْمَنُ حكومته أَنْ يُشَرِّعَ من الأمر والنهي ما به يَتَوَسَّلُ إلى السبب فلا يَنْفَكُّ يتأول له كما يتأول الحكام في ممالك الدنيا فيكون من مظالمهم التي تَفْحُشُ ما يُكْسَى لحاءَ عدلٍ يخدع ولا يكون ذلك إلا من فقير فاسد الطبع ، وذلك ، بداهة ، ما تَنَزَّهَ عنه الرب الخالق ، جل وعلا ، فكان من الوعيد إذ قَدَحَ القادح فَأَدْرَكَهُ الرب العالم ، جل وعلا ، بسمعه المحيط الجامع ، فـ : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فكان من التوكيد ما تحكيه اللام : لام الابتداء المخصوصة إذ دخلت على جملة الجواب : جواب القسم المقدَّر صدرَ الكلام ، فاللام التي دخلت على الجواب وهو تَالٍ يَتَأَخَّرُ ، تلك قرينة قد دَلَّتْ على المحذوف المقدَّر صَدْرَ الكلام ، وهو القسم المؤكد ، على تقدير : والله لقد سمع الله ، فَقُدِّرَ القسم بالاسم الأعظم ، فذلك أول ما يَرْجُحُ حَالَ التقدير ، وإن كان ثم من القسم في نصوص الوحي ما تَغَايَرَ ، فكان القسم بِاسْمِ الرِّبِّ ، جل وعلا ، تَارَةً ، وكان القسم أخرى بالذي نفس محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِيَدِهِ فهو المتصرِّفُ فِيهَا بالقدرةِ والحكمةِ ، جلالا وجمالا ، وذلك الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن النفوس جميعا بِيَدِ خَالِقِهَا وَمُدَبِّرِهَا ، جل وعلا ، وثم من السياق قَرِينَةٌ تَشْهَدُ أَنَّ الْيَدَ فِي هذا الموضع يد القدرة والحكمة لا تَعْطِيلًا لأصل الوصف الذاتي ، وصف اليد ، فإن ذلك تفسير بلازم من لوازمها ، وإثبات اللازم لا يَنْفِي الملزوم فهو الأصل ، فكيف يُسْتَنْبَطُ مِنَ الفرعِ لَازِمًا ما يأتي على الأصل الملزوم بالإبطال وهو الأول ، فإذا ذهب الأصل فَلَا بَقَاءَ لِفَرْعٍ ، فتأويلُ حقيقةٍ بمعنى يَنْفِي أصلها هو ، لو تدبر الناظر ، نَفْيٌ لهذا المعنى المتأوَّل إذ قد زال أصله فلا يثبت مجردا بلا أصل أول ، فكان من القسم ما أبان عن أوصاف الجلال والجمال كافة ، فَبِهَا الخلق والرزق والتدبير ، فكلُّ أولئِكَ مِمَّا يكون بالحكمة تقديرا هو الأول في الغيب ، وثم من القدرة تَالٍ به تأويل المحكوم المقدَّر في الغيب بما يواطئ المعلوم الأول ويصدق ، فالموجود تأويلُ المقدورِ ، وَمَا كَانَ فِي الشهادة فهو دليل صدق على ما كان أولا في الغيبِ ، فنفس محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِيَدِ القدرة والحكمة خَاصًّا ، وَالنُّفُوسُ كُلُّهَا بِالْيَدِ ذَاتِهَا عَامًّا ، فَذِكْرُ الْخَاصِّ مِنْ هَذَا الوجه لا يُخَصِّصُ العام فَهُوَ مِثَالٌ يُبَيِّنُ والمثال لا يُخَصِّصُ العام الذي لِأَجْلِهِ قَدْ وَرَدَ ، فهو المبيِّن لجنس العام ماهيةً مطلقةً في الذهن دون استغراقٍ لآحادها في الخارج فَلَيْسَتْ نَفْسُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده ، ليست ، بداهة ، وحدها من بِيَدِ الله ، جل وعلا ، بل حصولها في يده ، عز وجل ، تكوينا وتدبيرا وهو ما زِيدَ فيه معنى أخص في حق صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من الرعاية والتعاهد في حقه ما قد عَمَّ النفس ، فـ : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ، فَعَمَّ النفس ، وَعَمَّ الوحي نبوة هي أشرف الأوصاف البشرية وأعلى المراتب التي ينالها الإنسان وَهْبًا بلا كَسْبٍ ، فإعدادٌ لمحلِّ النبوة بما يواطئ القول الثقيل ، وما عَظُمَ من تكليف البلاغ والبيان الأول ، تكليف الرسالة فلا يطيقها أيُّ محل إلا ما أعده الله ، جل وعلا ، وصنعه على عَيْنٍ ، كما الكليم ، عليه السلام ، إذ : (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ، فكان من العين كما اليد في القسم آنف الذكر ، كان منها ما يُفَسَّرُ باللازم رعاية وعناية دون نفي للأصل وصف الذات الخبري الذي يثبت لله ، جل وعلا ، على الوجه اللائق بجلاله ، فكل أولئك من كمال الرعاية والعناية ، وبها الكفاية في الآي آنف الذكر : (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ، وهو ما حَسُنَ إِسْنَادُهُ إلى ضمير الفاعلين حكاية التعظيم ، فذلك من وصف الفعل جلالا به كفاية صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم مَنِ اسْتَهْزَأَ ، وذلك العموم المستغرق كلَّ جيلٍ من المستهزئين ، فجاوز آحاد من نَزَلَ عليهم السبب وكان منه آيٌ تَصْدُقُ فِي كلِّ جيلٍ ، ولو بَعْدَ حينٍ ، فذلك مكر الرب القدير الجليل أن يأخذ المستهزِئَ ، ولو على تَنَقُّصٍ ، وله ، جل وعلا ، في كل موضع آية بها الحكمة والقدرة تثبت .

    فَكَانَ مِنَ الكفاية ما عَظُمَ في مقام الامتنان فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، أن يكون الإسناد ، كما تقدم ، إلى ضمير الجمع حكاية التعظيم في الذات والتكثير في الوصف ، وصف الكمال المطلق ، مع وَاحِدِيَّةِ ذَاتٍ فَلَا تَتَعَدَّدُ وَأَحَدِيَّةِ وصفٍ فلا نِدَّ ولا شَبِيهَ ، وإن كان ثم اشْتِرَاكٌ في المعنى المجرد في الذهن جِنْسَ الدلالةِ الأول فَهُوَ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا ، قَدْرٌ من العلم ضروري لا يستقيم استدلال في إخبار أو إنشاء ، في عَقْدِ دينٍ أو عَقْدِ دنيا ، لا يستقيم الاستدلال إلا بِإِثْبَاتِهِ فهو العام الذي لا أَعَمَّ منه وهو رِكْزُ فطرةٍ أولى تُدْرِكُ المعنَى وإن لم تحسن حكايَتَه إلا أَنْ تُلَقَّنَ من لسان النطق ما يَتَأَوَّلُ المعنى ألفاظًا تحكي الوجدان الباطن ، فَيَلْتَئِمُ الكلام في الخارج : معنى يَبْطُنُ ومبنى يَظْهَرُ ، مع ما انضافَ إلى المفردات من سِلْكٍ من السياق يَنْتَظِمُهَا فذلك قانون النحو في الكلام المركب من آحاد من الكلام تُفْرَدُ فِي المعجم المطلق فَقَيْدُهَا ما يكون من نظم السياق ، وبه اكتمال الفائدة : معنى صحيحا صريحا يحسن السكوت عليه ، فكان من ذلك أصل في الإلهيات يَتَنَاوَلُ المعاني المجردة في الذهن دون الحقائق المقيدة في الخارج إذ لكلٍّ مِنْهَا مَا يُوَاطِئُ الذات ، كَمَالًا أَوْ نَقْصًا ، فكان من كمال الخالق المطلق في مقابل وصف المخلوق المحدَث فلا يخلو مِنْ نَقْصٍ ، ولو شَرُفَتِ الذات والأوصاف ، كما ذَوَاتُ النَّبِيِّينَ والصديقين والشهداء والصالحين ، وذوات الملَكِ المبرِّئِ من العوارض البشرية الممتَثِلِ تكليفَ التسبيح والحمد ، فلا تخلو ذات مخلوقة ، ولو شريفةً ، لا تخلو من وصف النقص ولو افْتِقَارًا إلى الموجِد الأول والمبقِي بَعْدًا ، فلا يكون ذلك إلا مِمَّنْ كَمُلَ أولا وآخرا في الذات والوصف والفعل كَافَّةً ، فكان من ذلك ما تأويله في الخارج كلماتٌ بِهَا التكوين والتشريع ، فَتَدْبِيرُ المحال والأحوال بالكمال المطلق ، وإن كان ثم اشتراك في المعنى المجرد في الذهن ، فلا السمع كالسمع ، إذ ليست الحقيقة في الخارج كالحقيقة ، فكان من الاختلاف ضرورةً في الذوات ما يحكي آخر في الصفات إذ الكلام فِيهَا فَرْعٌ عن الكلام في الذوات التي تقوم بها ، فكان من هذا الكمال الإلهي المطلق عنوان الانفراد تَوْحِيدًا في الذات والوصف وهو أول في الباب ، باب التوحيد ، وبعده تَالٍ في الربوبية بما يكون من الخلق والرزق والتدبير ، وآيته في الكون أَبَدًا مَا يَكُونُ من الاتِّسَاقِ ، كما اصطلحَ بَعْضُ النُّظَّارِ ، فكان من اختلاف الأضداد وتدافعها على سَنَنِ لطفٍ وحكمةٍ ، فَانْتَظَمَ أمرُ هذا العالم الشاهد ، وكان من تَعَاقُبِ أغيارِه لَيْلًا وَنَهَارًا ، صَيْفًا وَشِتَاءً ..... إلخ ، فَكُلٌّ ينفع حيث لا ينفع الآخر ، وكلٌّ ظَرْفٌ لحال لا تكمل إلا به ، فالنهار ظرف المعاش ، والليل ظرف السبات والانقطاع راحةً بها تستجم الأبدان المخلوقة إذ قد جُبِلَتْ على النقص واللغوب ، وهو ، بداهة ، مَا انْتَفَى ضَرُورَةً فِي حَقِّ ذي الجبروت والرحموت ، جل وعلا ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، وذلك ، أيضا ، مما نَقَضَ القبيل الإسرائيلي من الميثاق الإلهي ، فَنَقَضُوا ميثاقَ التوحيدِ في الاسم والوصف بالمخالفة عن ضروري من النقل والعقل أَنَّ هذا الخلق المحكم بما اتَّسَقَ مِنْ سَنَنِهِ في الخارجِ هو الدليل القاطع على عَلِيمٍ قَدِيرٍ لا يُعْجِزُهُ شيءٌ وَلَا يَتْعَبُ فَلَا يكون من النصب واللغوب ما افْتَرَتْ يهود إذ قاسوا الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق ، فالأخير يجهد وينصب ولا ينفك يناله من التعب ما يُقْعِدُ إذ قد جُبِلَ عَلَى نَقْصٍ في الذهن فهو يكل ، ونقص في البدن فهو يعجز فلا يطيق الذهن التدبير بلا كَلَلٍ ، ولا يطيق البدن الإنفاذ بلا تَعَبٍ ، بل لا بد من نقصٍ في العقل إذ يذهل فَيُصِيبُهُ من الخطإ في التقدير ما يحكي حاجةَ ضرورةٍ إلى رائد لا يكذب ، ومرجع من خارجه فهو ينصح إذ يجاوزه بما كان من علم يحيط وبه محكم التقدير فَلَا خَطَأَ وَلَا نَقْصَ ، فكان من النبوات دليل صدق يهدي إلى الرشد ، فهي من وصف الخالق ، جل وعلا ، الأول ، كلمات تشريع بها تدبير الأديان بمادة صدق وعدل ، كما كلمات تكوين بها تدبير الأبدان بمادة رزق وحفظ ، فكان من الأولى مناط توحيد في الألوهية تصديقا بالخبر وامتثالا للحكم ، وكان من الثانية مناط توحيد في الربوبية خلقا وإيجادا ورزقا وتدبيرا ، وَمَرَدُّ كلٍّ إلى توحيد أول في الذات والاسم والوصف كمالا مطلقا قَدِ انْفَرَدَ بِهِ الرب ، جل وعلا ، فهو الخالق المدبر والإله المشرع ، فَنَقْصُ المخلوق إذ قد ناله اللغوب مِمَّا به دليل منقول ومعقول به الفرق ضرورةً بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق ، فَانْتَفَى وصفُ النَّقْصِ عَنِ الرَّبِّ ، جل وعلا ، وهو ما أُكِّدَ ، كما القول في آي قد تَقَدَّمَ : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فيضاهيه في الدلالة قسما يُقَدَّرُ ، ما كان تاليا في نَفْيِ الوصفِ المنقَّصِ ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، فكان من القسم المقدر مَا دَلَّتْ عليه لام الابتداء المؤخرة في لَفْظِهَا فَهِيَ دالة على أول مقدَّم في لفظه ، فَدَلَّ تَالٍ على أول وإن خالف عن الأكثر ، فدلالة المتقدم على المتأخر أغلب ، إذ يثبت الأول فهو المرجع الذي يُحِيلُ عليه السياق بَعْدًا ، فلا يكون المرجع متأخرا ، وإن صح ذلك في مواضع فهو الأقل لا النادر إذ الكلام لا يفسر إلا بعد تمامه ، وبعد تمام النطق يكون نَظَرٌ أَعَمُّ يَسْتَغْرِقُ الكلام دفعةً ، فَيَدُلُّ المتأخر على المتقدم ، فقد حصل المرجع المحالُ إليه ، ولو تاليا ، فأحيل عليه التقدير لِمَا حُذِفَ ، ولو الصدرَ المقدَّم كما في هذا الموضع ، وثم من توكيد تال ما صُدِّرَ به الجواب من لام الابتداء فَلَهَا دلالة أخص عنوان الابتداء آنف الذكر ، ولها دلالة أعم فكل زيادة في المبنى لا تَنْفَكُّ تَدَلُّ على أخرى تضاهي في المعنى ، وثم من التحقيق إذ دخلت "قد" على العامل الماضي "خَلَقْنَا" ، وإسناده إلى ضمير الفاعلين مَئِنَّةُ التَّعْظِيمِ ، وثم من طباق الإيجاب ما استغرق شطري القسمةِ في الخارج ، وإطلاق الخلق ، كما تقدم في مواضع ، مما اسْتَغْرَقَ التقدير والإيجاد في الخارج وما تَلَا مِنْ تَدْبِيرٍ محكَم ، فكل أولئك من الخلقِ جنسا عاما تَنْدَرِجُ تحته آحاد من معان أخص ، وَثَمَّ مِنْ تَالٍ في الإخبار ما نَفَى احْتِرَازًا ، فاختص وصفَ النَّقْصِ لغوبا ، اختصه بالنفي وإن كان الأصل في النفي العموم ، فذلك الأليق بالثناء إجمالا في التَّنْزِيهِ وإطنابا في الثَّنَاءِ بالإثباتِ : إثباتِ أوصاف الكمال المطلق التي تُرَادُ لذاتِها ، فَيُرَادُ النَّفْيُ لِغَيْرِهِ تخليةً للمحل تُهَيِّئُ لِمَا تَلَا من تحلية بأوصاف الكمال فَالثَّنَاءُ بها يراد لذاته ، فحسن الإطناب فيها نصا على آحادها ، خلاف النص على آحاد المنفي من أوصاف النقص فذلك مما يذم به الممدوح فلا يُحْمَدُ أَنْ يُنْفَى عنه وصف النقص المفصَّل إلا أن يكون ثم شبهة تستوجب الدحض أو دعوى تستوجب النقض ، كما في هذا الموضع إذ افترى يهود ما به نقضوا ميثاق التوحيد المحكم ، فألحدوا في الوصف إذ نسبوا إلى الخالق الكامل من العجز واللغوب ما لا يصح لا في المنقول ولا في المعقول ولا في المحسوس بما تقدم من دلالة الاتساق أَنْ كَانَ هذا الكون بقدرة تَنْفُذُ ، وكان من تدبيره ما جرى على سنن محكم ، فخالفوا عن هذا الأصل الضروري ، فَدَخَلَ ، كما تقدم ، في عموم ما نقضوا من الميثاق في قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ، فكان من الوحي نَصُّ على عين الدعوى إبطالا لها ، فَنَصَّ على النفي ، وهو ما حسن ، أيضا ، إسناده إلى ضمير الفاعلين حكاية التعظيم ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، مع مَسِّ لغوب قد انْتَفَى وهو الأدنى فَانْتَفَى الأعلى من الإصابة ، انْتَفَى من باب أولى ، فما مسنا من لغوب ، وما أصابنا شيء منه من باب أولى إذ انتفى المس وهو أدنى فانتفت الإصابة وهي الأعلى ، انتفت من باب أولى ، مع ما كان من نص على العموم ، فإن النكرة "لغوب" فِي سِيَاقِ النَّفْيِ حكايةُ عمومٍ يَسْتَغْرِقُ وجوهَ المعنى وآحادَه في الخارج ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، فَزِيدَ في السياق "مِنْ" ، وهي تفيد التَّنْصِيصَ على العموم ، فإن العام وإن كان قطعي الدلالة في هذا الموضع فلا يحتمل التخصيص لمقام التنزيه الثابتِ ضَرُورَةً لله ، جل وعلا ، فإنه وَإِنْ قَطْعِيَّ الدلالة فَقَدْ زِيدَتْ فيه "مِنْ" فأفادته نَصًّا بعد آخر ، وَقَطْعًا بعد آخر ، فَبَلَغَ في الإثبات حد اليقين الجازم فلا يقبل التخصيص ، ولو احتمالًا ، فَنَفَى السياق دعوى يهود المفحِشة في جناب التوحيد نَقْضًا يأتي على أصلِه بالإبطال إذ وَصَفَ ذا الجلال والإكرام ، جل وعلا ، بما لا يليق بذاته القدسية المنزهة ، وكان من ذلك النَّفْيِ وهو الخبر في قوله تعالى : (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، كان منه عنوانُ إنشاءٍ يوجب تَنْزِيهَ الرب الخالق ، جل وعلا ، عن أَيِّ نَقْصٍ ، وَيَنْهَى عن ضَدٍّ أَنْ يُقْدَحَ في كماله ، جل وعلا ، ذاتا أو وصفا أو فعلا أو حكما ، كما البلوى ، كما تقدم مرارا ، قد عمت في الجيل المتأخر أَنْ عُطِّلَ الوحيُ واستبدل بِهِ الوضع المحدث ، وكان مِنْ تَالٍ ، وهو أدق في الوصف ، كان من تالٍ تعطيلٌ لمرجِعِ الرسالة المجاوز من خارج العقول بما يصحح الفهوم ويحد الأحكام ، فيجاوز ما يَتَبَادَرٌ من حكومات الشريعة إلى أخرى من التَّصَوُّرَاتِ التي تجيب عن سؤالات الضرورة أولا وآخرا ، خَلْقًا أول قَدْ تَقَدَّمَ ، ومآلا تاليا بعد المبعث والمحشر ، فَعُطِّلَ الرب ، جل وعلا ، في الاسم والوصف والفعل والحكم بل ثم من غَلَا فَقَدَحَ في أصل الذات وأنكر مطلق الوجود ، وذلك مما ينقض الميثاق والعهد ، وَكَذَا كَانَ الرَّدُّ في آي آل عمران آنف الذكر ، فـ : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فذلك من تسجيل جناية تفحش بما كان من قسم مقدر هو أول وما تلا من لام الابتداء ، وما كان من تحقيق إذ دخلت "قد" على العامل الماضي "سَمِعَ" ، فذلك ، كما تَقَدَّمَ ، سمع الإحاطة ولا يخلو من عنوان التهديد والوعيد ، وإن كان ثَمَّ مِنْ سَمْعِ اللهِ ، جل وعلا ، ما أَحَاطَ في سياقِ رعايةٍ وتعاهدٍ ، كما إجابة الداعي فذلك سمع الإجابة أن قد سمع الله ، جل وعلا ، دعاءَك ، وَثَمَّ منه محيطٌ بالمسموعات كافة ، فهو الوصف الذاتي الأعم ، خلاف ما يكون من آحادٍ من الفعل تُنَاطُ بالمشيئة ، كما إجابة الدعاء وإحصاء الأقوال تسجيلا به الوعيد الزَّاجِرُ كما قال يهود ، وإن كان القائل واحدا ، فلا ينفك يحكي اعتقاد المجموع ، فكان من الموصول "الذين" : حكايةُ العموم المستغرق فَذِكْرُ فنحاصَ إذ لَطَمَهُ الصديق أبو بكر لما أفحش القول فَنَسَبَ إلى الله ، جل وعلا ، الحاجة والفقر ، ذِكْرُهُ فِي سَبَبِ النزول ، من هذا الوجه ، يجري مجرى السبب الذي نَزَلَ عليه العام فهو المثال المبين ، والعبرة ، كما يقول أهل الشأن ، بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب الأول ، فكان السمع في مقام التَّرْهِيبِ والزَّجْرِ لِمَا كان من فاحش القول ، ولا ينفك يحكي القياس الباطل على المخلوق الناقص الذي يَسْتَقْرِضُ بالربا وَيُقْرِضُ ، فيكون من فعله ما يستجمع أسباب قوة وثروة تحكي نقصه وإن رام بها استكمالا ، فَلَا يَسْتَكْمِلُ إلا الناقص ، خلاف من قد كَمُلَ في الذات والوصف أولا ، فهو الغني الذي خلق الخلق وأكرمهم بمنح تزيد أَنْ ضَاعَفَ لهم الأجر ، فاستقرضهم ما هو له أولا ، ليكافئهم به أضعافا مضاعفة ، فلم يكن استقراضُه عن فَقْرٍ وَحَاجَةٍ تُلْجِئُ فيكون من المقرِض الربوي ما يقبح في فِقْهِ التكليف الذي خوطب به العبيد ، فما كان ذلك إلا قياسا فاسدا على حالِ مخلوقٍ نَاقِصٍ تُلْجِئُهُ الحاجةُ والفقرُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ ، ولو ربا ! ، فذلك ما مهر يهود ، فظنوا اللهَ ، جل وعلا ، مدينا من جملة من أقرضوه بالربا ، فهو يطرق بابهم طالبا القرض بالربا ! ، وتلك دلالةٍ حاجةٍ وفَقْرٍ ، وهو ما فَحُشَ في التصور والنطق ، وهو ، كما تقدم ، حكاية القياس الفاسد : قياس الخالق الكامل ، جل وعلا ، على المخلوق الناقص ، فكان من تسجيل الجناية ما نطقوا به زورا وبهتانا ، فـ : (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، فكان من تَوْكِيدِ المقولِ بالناسخ تسجيلا لمقالهم بما يبطل أعذارهم فقد تَقَصَّدُوُه نَصًّا ، وكان من المقابلة بين شطري الكلام : (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) ، و : (نَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، وطباق الإيجاب بين الألفاظ : اسم الله الخالق ، جل وعلا ، في حَدٍّ ، وهم في آخر حكاية الضمير المجموع "نحن" ، وكذا الطباق إيجابا بين "فقير" و "أغنياء" ، كان من كلِّ أولئك ما زاد المقال فحشا على آخر ، وكان من تال قد اسْتُقْبِلَ قَرِيبًا إمعانا في النكاية فتلك دلالة السين في "سَنَكْتُبُ" ، فذلك تسجيل ثان بعد سمع الإحاطة صدرَ الآية ، فَثَمَّ شاهد ثان من كتابٍ يُسْطَرُ ، وكان من الالتفات من الغائب إلى المتكلم في "سَنَكْتُبُ" ما به الحضور يثبت ، فالوعيد به يَعْظُمُ ، فالكتب يسجل القول الفاحش الذي حكاه وصلا في "مَا قَالُوا" كراهة إعادةٍ لذكرِه فهو مما لا يحسن تَنْزِيهَا لله ، جل وعلا ، ولو حكايةَ ما لا يَعْتَقِدُ القائلُ ، فَنَاقِلُ الكفر ليس بكافر ، وثم من حكايةِ تَقْرِيرٍ يزيد لِمَا قَارَفُوا من جناياتٍ أخرى بها نَقْضُ الميثاقِ المحكمِ ، فكان من قَتْلِ الأنبياءِ كبيرةً تَعْظُمُ وبها وعيد أخص في محكم الخبر ، فـ : "أشدَّ أهلِ النَّارِ عذابًا يومَ القيامةِ ؛ من قتل نبيًّا ، أو قتلَه نبيٌّ " ، وهو ما نص عليه ، أيضا ، في نقض الميثاق في آي النساء محل الشاهد : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، فيجري في هذا السياق مجرى الخاص بعد عام ، فإن قتل الأنبياء عليهم السلام فَرْدٌ من أفراد عام يَسْتَغْرِقُ نَوَاقِضَ الميثاقِ كافة ، فذلك ناقض عَمَلِيٌّ قد أطنب به خاصا بعد عام إمعانا في تسجيل ما فحش من جناياتهم العظمى ، ويجري في سياق آل عمران أَنْ : (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، مجرى الإطناب بخاص بعد آخر ، وثم من الحال "بِغَيْرِ حَقٍّ" ما يكشف فلا مفهوم له يثبت إذ لا يكون قتل الأنبياء بداهة بحق ! ، فلا يكون إلا بغير حق ، وثم من العطف تال فبعد التسجيل يكون التأويل : تأويل الوعيد أن يقع بكلم تكوين ينفذ فذلك قول الرب المهيمن ، جل وعلا ، فـ : (نَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) ، والإسناد إلى ضمير الجمع ، أيضا ، مما يحسن في مقام الوعيد زجرا مع ما كان من أمر التهديد ولا يخلو من التهكم إذ الذوق ينصرف ، بادي الرأي ، إلى ما تَلَذُّ به النفس فإذا هو ما يؤلم ويحرق ، فاستعير ذوق الحس لآخر يستغرق الحس حرقا والمعنى إهانة ، واستعير ذوق اللسان الأخص لآخر أعم ، وبه ، كما تقدم في مواضع ، به يَسْتَأْنِسُ مَنْ يُجَوِّزُ المجاز في الوحي واللسان ، إذ استعارَ محسوسا لآخر يُعْقَلُ ، ومن ينكر المجاز فهو أبدا على أصل أول أَنَّ ذلك مما استعملته العرب في كلامها المشتهر فصار حقيقة في عُرْفِهَا وإن كان مجازا بما اصْطُلِحَ متأخرا في علوم المعاني والبيان فلا يحكم المتأخر عَلَى المتقدم ، وإنما يُؤَوَّلُ الوحي بلسانِ زمانه إذ به قد نَزَلَ ، وهو على آخر أن الذوق جنس عام كسائر الأجناس المعنوية فلا يجاوز في حده المطلق : وجدان الطعم لذة أو ألما ، والسياق تال يقيد هذا الإطلاق بما يبين عن المعنى ظاهرا مركبا هو الحقيقة في سياقه فلا مجاز ، فيرجح في هذا الموضع ذوق الألم المحسوس والمعقول معا بما يجاوز ذوق اللسان المتبادر إذ يستغرق العذاب بدنَ الكافرِ كلَّه مع إهانة تُنْكِي وتؤلِمُ ، فذلك الظاهر المركب الذي يضاهي في دلالته النص حقيقة فلا مجاز ، وثم من عنوان العذاب ما أُضِيفَ إلى "الحريق" الذي حُدَّ فعيلا على تأويل فاعل فهو العذاب المحرِق ، فكان من الإضافة ما يجري ، من وجه ، مجرى إضافة الموصوف إلى الوصف مع ما زِيدَ في الدلالة ، ولو حدا على مثال المبالغة لَفْظًا ، ومن ثم كان التعليل نَفيًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ من الظلم ، فـ : (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فكان من الإشارة إلى البعيد ما جرى على قاعدة في اللسان تَطَّرِدُ أَنْ يُشَارَ إلى ما انْقَضَى مُطْلَقًا إِشَارَةَ الْبَعِيدِ ، قَرُبَ الْعَهْدُ بِهِ أَوْ بَعُدَ ، ولا يخلو من دلالة أخص إذ يشير إلى ما بَعُدَ سِفَلًا من وعيد يقبح ، فإن مادة البعد في اسم الإشارة كنظيرتها في النداء إذا كانت الأداة "يَا" ، فثم الجنس المطلق الذي يجرده الذهن فهو عام تندرج تحته آحاد ، فمن الإشارة ما بَعُدَ ومنها ما قَرُبَ ، ومن البعيد محل الشاهد ما دل على تعظيم وعلو ، كما الآي المحكم : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ، فإن الإشارة إلى ما تقدم من آي تكوين يعجز : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، وذلك ، بداهة ، مظنة التعظيم والعلو ، ومنه ما كان على ضد من إشارة إلى ما حقر وسفل ، كما في هذا الموضع : (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وثم من الجزاء عدلا فالباء في "بِمَا قَدَّمَتْ" نَصٌّ في الباب : باب السببية ، فَعِلَّةُ ما تقدم من الوعيد بعذاب الحريق ، علته ما قَدَّمَتْ أيدي أولئك من الإلحاد في باب الاسم والوصف وما كان من قَتْلٍ للأنبياء ، عليهم السلام ، بغير حق ، وهما من خاص يدل على عام إذ ثَمَّ من العنوان الأعم : تكذيب وكفران قد أتى على أصل الإيمان بالنقض ، فعذابه مما أُبِّدَ فلا يفنى ، وثم من عنوان اليد ما يجري مجرى التغليب إذ أكثر ما يُقَارَفُ من العمل ، خيرا أو شرا ، إنما يكون كسبا باليد ، فإذ خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له يقصر الكسب على اليد ، بل قد عَمَّ المحال كافة ، ما بطن وما ظهر ، فثم كسب الجنان اعتقادا يَبْطُلُ أو إرادةً تَفْسَدُ ، وثم كسب اللسان أن يُشْرِكَ أو يُفْحِشَ ، وثم كسب الرِّجْلِ أن تسعى في محرَّم ، وثم كسب اليد أن تسرق أو تَبْطِشَ .... إلخ ، كما في الخبر : فـ : "«لِكُلِّ بَنِي آدَمَ حَظٌّ مِنَ الزِّنَا، فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ، وَالْفَمُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْقُبَلُ، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ»" ، وثم من الإطناب في مقام الاحتراز نفيا لما قد يتوهم ولو محالا لذاته في قوله تعالى : (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فإن وصف الظلم يحكي الفقر والحاجة وهي الباعثة أن يظلم صاحبها ليسد حاجته ، وهو مما يحكي ، أيضا ، الجهل ، فالظالم يجهل العواقب ولا يحسن ينظر إلا في حال تعجل بها قضاء وطره وسد حاجته ، وذلك ، بداهة ، مما انتفى في حق الله ، جل وعلا ، فهو العليم الغني خاصة ، وهو الحميد المجيد عامة فَتَنَزَّهَ عن كلِّ نقصٍ واتصف بكمال ضد ، فما كان من نفي في الباب : نفي الظلم فلا يحصل به كمال في الثناء والمدح إلا أن يشفع بلازم في الدلالة : إثبات كمال لِضِدٍّ من العدل ، وهو الخبر الذي استوجب ، أيضا ، إنشاء الأمر أَنْ أَثْنُوا على الله ، جل وعلا ، بالعدل خاصة ، وبالمحامد عامة ، وَنَزِّهُوهُ عن الظلم خاصة وعن أوصاف النقص عامة .

    والله أعلى وأعلم .


  5. #5
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وكذا كان من نقضهم الميثاق دعوى باطل قد أفحش بها يهود ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ، وذلك من الماضوية التي تسجل الجناية ، فحكى الوحي ما كان من هذا القول الفاحش الذي ينقض أصل الدين إذ ينكر المعلوم الضروري الذي استقر في فطرةِ كُلِّ أَحَدٍ إلا من سفسط أو جحد ، فإن العلم أن الخالق هو الأعلى بالذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، ومنه وصف الغنى المطلق الذي يستلزم في القياس الصريح انْتِفَاءَ ضِدٍّ من الفقر والحاجة ، وما يكون من شُحٍّ وَأَثَرَةٍ ، والربا من آثارهما كما تواتر لدى يهود فكان منهم كبار المرابين لما جُبِلَتْ عليه نفوسهم الخبيثة من تعلق بالعرَضِ الأدنى ، مع جحود لدار البعث والحشر ، وذلك نَفَسُ حَدَاثَةٍ قد سَرَى في الكتب المنزلة إذ نالها التبديل والتحريف ، فكان من جناية الأحبار أن نسخوا من الكتاب الأول ! ، أن نسخوا منه ذكرَ الدار الآخرة إذ تحمل المؤمن بها أن يَرْقُبَ الله ، جل وعلا ، فَثَمَّ دار أخرى تجاوز وفيها تستوفى المظالم لا جرم كان من الوسواس اجتهاد أن يصرف النفس عن ذكرى البعث والحشر إذ تُغَلُّ يَدُهُ أَنْ يَظْلِمَ أَوْ يَسْرِقَ أو يُرَابِي فيأكل الخبيث المحرم الذي يَؤُولُ إلى قلٍّ ، وإن كان من كثرة عدد ، وهو ، كما تقدم ، ما يثبت بالدرس المحدَث الذي لا يجاوز الشهادة فيتناولها تناول الربح والخسارة دون نظر في شرع أو ديانة ! ، فالربا به كثرة عدد ومحق بَرَكَةٍ بالنظر الشرعي وَضَعْفٌ فِي قوَّةِ الشراء بالنظر المالي ، فيكون من الورق ما يكثر ويكون من القوة ما يَقِلُّ وَيَضْعُفُ ، كما قد أخبر صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من صنيع القوم أَنِ اجْتَهَدُوا في محوِ أيِّ ذكرٍ يَتَنَاوَلُ الدار الآخرة إذ تَذَكُّرُهَا يُبْطِلُ مَا صَنَعُوا من كيدٍ في الربا والبيع ، فكان من رباهم ما يحرم ، ومن بُيُوعِهم الغررُ الذي يفسد ، وإن زعموا أن ذلك مما يحل في شرعتهم ، فقد بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا من الخبر : خبر الآخرة ، والإيمان به عصمة تُذَكِّرُ صَاحِبَهَا إِذَا تَعَاطَى أسباب الشر والفساد أَنْ يَبْطِشَ وَيَسْفِكَ ويأكلَ المال بالباطل ، فَثَمَّ من فساد التصور أول بما كان من حذفٍ لذكرِ الآخرة فلم يَعُدْ ثَمَّ وَازِعٌ من خارج ، فليس ثم دار تجاوز هذه الدار ، وَفِيهَا يُسْتَوْفَى الحقُّ فلا يفوت منه دقيق ولا جليل ، وذلك مما يحجز أيَّ عاقل أن يظلم إذا قدر ، فَثَمَّ من الابتلاء وهو ما استغرق فيكون بالخير كما بالشر فتنة ، فَابْتُلِيَ بَعْضٌ بِمَا كان من رياسة ، ولم يكن ثم ما يعصم من ديانة فعظمت البلوى ، بَلْوَى الظالم في نفسه كما قد عظمت بَلْوَى غيره ، فالوسواس قد زَيَّنَ أن لا دار آخرة ، فهي حديث الخرافة ! ، فإذا كانت تلك قاعدة العقل ألا غيب يجاوز الحس ، ولا دار تجاوز الشهادة ، فَعَلاَمَ العدل والعفة ؟! فَقَدْ حُرِمَ صاحبُها اللذة والمصلحة التي اقتصرت على المعجَّل من الجاه والثروة ، وتلك مادة اقترحها يهود في تبديل المبنى وتحريف المعنى ، كما يرصد بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، إذ كان من العهد القديم ما قد عُظِّمَ لَدَى طَوَائِفَ تَنْتَسِبُ إلى المسيح عليه السلام ، فَدَسَّ فيه يهود ما دَسُّوا ، وكان من إفساد الدين الصحيح ، وهو ما كان أولا في الموسوية إذ كان من نقد الوثائِقِ مَبَانٍ ومعانٍ وأحداثَ تَارِيخٍ وَبِقَاعَ أرضٍ قد سُطِرَتْ ، كما ينقل بعض من حَقَّقَ ، قد سُطِرَتْ أسماؤُها المحدثة في كتاب قد نَزَلَ قَبْلَ وجودِها ، فَثَمَّ زيادات في المتن وتأويلاتٌ في المعنى ، ثم منها ما اتصل إسناده ! ، وهو ما فَتَحَ الذرائع إلى إلحاد في النظر يطعن في رب البشر ، جل وعلا ، فكان جحود دينه وكتابه ، فما لدى القوم من الكتاب قَدْ ضُمِّنَ ما أثبت العلم المحدث بطلانه ضرورة فَثَمَّ من المغالطات التاريخية والعلمية ما يخالف عن البدهيات المستقرة لدى الخاصة والعامة ، وذلك وجه من جملة وجوه بها طعن المنهاج الحداثي في الكتاب الرسالي ، فاجتهد في كشف وجوه من التبديل والتحريف في الكتاب الأول ، لَا لِيَهْدِي الخلق إلى الحق فَيَنْصَحَ لهم إذ يُبِينُ عَنِ الصدق من الكذب ، وإنما أكمل ما صنع الأول ، فكان من الأول تبديل وتحريف قد خَالَفَ عن النَّصِّ الأصيلِ الذي نَزَلَ عَلَى الكليمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْراةِ الجلالِ ، فَضَمَّنَهَا الأحبار ما احتملت الصدور من الإحن ، فقد نَاجَزَ أولئك النوع الإنساني كافة عَدَاوَةً مستحكمة فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ إخلاصٌ في القصد وإحسان في القول والفعل ، وإنما اسْتُذِلُّوا بِمَا بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا ، وَنَالَ منهم الشريف والوضيع وصارت دَرَكَتُهُم فِي قاعٍ سحيق ، كما آداب الماضين تحكي من صورة المرابي الجشع الذي لا يؤمن إلا بمدارك الحس ولا يفقه الإخلاص في القصد فلا يَبْذُلُ إلا رجاءَ عوضٍ في الأولى يُعَجَّلُ ، ولا يصنع ذلك ، كما تقدم ، إلا من لا يؤمن بيوم الحساب ، فلا يجاوز تصوره هذه الدار ، فهي الأولى والآخرة ، فلا دار تجاوزها ، فمن لم يظفر بها فَقَدْ خَسِرَ ، ومن لم يَنَلْ لَذَّاتِهَا من حِلٍّ أو حَرَامٍ فَقَدْ فَاتَهُ ما لا يستدرك إذ ليس ثم آخرة تعقب ، وتلك ، كما يقول بَعْضُ من اهْتَدَى من الخلق ، تلك سمة رئيسة في آداب الحداثة وفنونها إذ تَحُضُّ الخلقَ على الرذيلة والفحش بما تُزَيِّنُ من لَذَّاتِ النفس والجسد ، فلا عيش إلا عيش الأولى ، وتلك مادة تخالف عن حداء النبوات : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ، فذلك من القصر بأقوى الأساليب : النفي والاستثناء ، ولا ينفك يحمل المعنى الإضافي مبالغةً إذ ثَمَّ من العيش ما هو أول ، وإن كان المؤقت ، وهو ما قد يُرَجِّحُ حملانَ القصرِ على الحقيقة بالقيد احترازا أن لا عيش يكمل فهو المؤبد السالم من أي عَارِضِ نَقْصٍ يُنَغِّصُ ، فذلك عيش الآخرة وحده ، فخالفت عنه الحداثة إذ تُنْكِرُ المرجعَ المجاوز من خارج ، فلا تجاوز مادتها الحس وإن استعارت من الغيب بعضا ! ، فلا تنفك تستعمله في تَثْمِيرِ ما تَرْبَحُ في هذه الدار ، فَعَنْهَا تكافح وتقاتل إن أُلْجِئَتْ ، فَلَا تَنْفَكُّ تَطْلُبُ من حَافِزِ النِّضَالِ مَا يُهَوِّنُ القتلَ والجرحَ والنصب وبذل المال والولد ، وليس ثَمَّ إلا الوحي فهو الحافز الذي يجاوز الشهادة إلى الغيب ، وإن جحدتها الحداثة ! ، فَمُكْرَهٌ أخاك لا بطل ! ، فكان من قانون الحداثة المطرد أن لا دار تعقب ، فهذه الدار هي المنتهى ، وذلك مما يفسد الحال إذ يُصَيِّرُ الأمرَ فَوْضَى فَيَقْتُلُ الخلقُ بعضهم بعضا مخاصمة في دنيا قد صارت هي الآخرة ! ، فمن فاتته فلا عزاء للأغبياء ممن آمنوا بآخرة وحساب ! ، وتلك قاعدة في النفس تحكي حقد الكهنة والأحبار لما نالهم من ذل وصغار جزاءَ العدلِ أن خرجوا عن محكم الوحي ، فاتخذوه هزوا واتخذوا بَيْتَهُ ملعبا ومصرفا ، وكان من رباهم وأكلهم المال بالباطل ما فَحُشَ حتى صاروا علما بالغلبة ، فلا يذكرون إلا ويذكر الربا وهو ما اتصل إسناده فعمت به البلوى في الجيل المتأخر بما صَلُبَ مِنْ بُنْيَانِهِ المجاوزِ للأمصار فلا يكاد يسلم منه أحد ، ولو غُبَارًا ، كما في الخبر ، وهو ما استوجب نظرا في نفوس الكتبة من الكهنة وقد صاروا الكذبة الفجرة فَبَثُّوا في ثَنَايَا الكتاب المنزل حِقْدًا قد استغرق الخلق كافة ، وكان من الذريعة أن : (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، وكان من الخطإ ما تَرَاكَمَ بما بُدِّلَ وَحُرِّفَ تِبَاعًا جيلا بعد آخر ، حتى نَجَمَ من قَبِيلٍ يُنْسَبُ إلى المسيح ، عليه السلام ، حتى نجم من هذا القبيل ما احتمل العهد القديم فأخذه أخذ المعظم ، وكان من خروج عن أصل في المسيحة مُبَدَّلٍ ، فهو باطل عَلَى مثله قد تَرَاكَمَ ! ، فَنَجَمَ من هذا القبيل ما عَظَّمَ يهود فهم أهل العهد القديم وفيهم قد نشأ المسيح عليه السلام ، فاحتملوا مادة جحود وإنكار لِلدَّارِ الآخرةِ ، وَذَلِكَ مما بَثَّهُ يهود في كتابهم ، فصارت دعايتهم كفرا قد علم بالضرورة ، كما كفرهم بما تقدم صدرَ الكلامِ مِنْ نِسْبَةِ النَّقْصِ إلى رب السماوات والأرض ، جل وعلا ، فقد استباحوا ما جَاوَزَ الربا وحكومات الفقه فَبَدَّلُوا من الأصول ما قد أَتَى عَلَى أصلِ النبواتِ بالإبطال والنقض ! ، وكان من ذلك الكتاب المبدَّلِ مَا أفسد دين المسيح تارة أخرى بعد أولى تقدمت بها أُقْحِمَ من التَّثْلِيثِ والصلب وما كان من نسبة النقص مع روحٍ من الحكمة الأولى تُبَرِّرُ بما استعير من مقال الأقانيم ، ولا يخفى ما فيه من تَكَلُّفٍ في التأويل ، فكان تَالٍ قد سَرَى إلى جيلٍ قَدْ تَأَخَّرَ من المنتسبين إلى دين المسيح ، عليه السلام ، وكان منه روحُ حَدَاَثٍة تَقَدَّمَتْ قَدْ أنكرتِ الدار الآخرة ، وإن لم تُصَرِّحْ ، فَحَذَفَتْ ما طالته يَدُهَا من نصوصٍ تُثْبِتُ مَعَ ضرورةٍ في الوجدان والحس أَنَّ ثَمَّ ، كما تقدم مرارا ، مظالم في هذه الدار لم تُسْتَوْفَ ، فَعَظُمَ على نفوس قد رَقَّتْ ، وهي ، مع ذلك ، لم تَنَلْ من الوحي قِسْطًا يُثَبِّتُ ، وهو ، مع ذلك ، لا يُسْكِرُ ولا يُخَدِّرُ ، فإنه يمهل الظالم لعله يرجع وَيُطَمْئِنُ المظلومَ وهو مع ذلك سَاعٍ في إقرارِ الحقوق فَلَا تَضِيعُ تَذَرُّعًا أَنَّهَا عند الله ، جل وعلا ، تَثْبُتُ ، فعلام المدافعة لِمَنْ يُفْحِشُ فَيَخْرُجُ عن شريعة الأمر والنهي ؟! ، وعلام والإنكار على من يظلم عمت ولايته أو خصت ، فَثَمَّ دار أخرى تستوفى فيها المظالم وكفى ! ، وتلك رُوحُ جَبْرٍ قد سرت إلى طوائف من النصارى ، وكان منها ما قَدْ بَلَغَ طوائف من الأمة الخاتمة تأولا لَا تَزَالُ آثاره تظهر في العلم والعمل كافة ، فـ : "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعًا بِبَاعٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشِبْرًا بِشِبْرٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ مَعَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟»" ، فكان من روح الجبر ما قد غلا في بَعْضِ مقالٍ قد تأخر ، حتى أفضى إلى إباحية في السلوك فليس ثم إرادةٌ لِعَبْدٍ بِهَا يختار الفعل أو التَّرْكَ ، فصار الجبر ذريعةَ من يَعْصِي بل ويستبيح من المحارم ما قد عُلِمَ بالضرورة فَانْحَلَّ مقالُ الديانةِ ونجم آخر من الجحود والفجور والدياثة قد جاوز الحد فخالف عن المعلوم الضروري من النقل والعقل ، وتلك ، أيضا ، روحٌ قد سَرَتْ إلى مقالِ الحداثة المتأخر ، فكان من استباحةِ فواحشَ قَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ أنها مما يُذَمُّ وَيَقْبُحُ ، ولو لم يكن المنكر ذا دين يصح ، فَثَمَّ من بقايا فطرة ما قد صَرُحَ ، فَأَتَى عليها مقال الحداثة المتأخر بالإبطال ، وَعَمَّ بها ما كان خاصا في أمم تقدمت ، قد نالها من الخسف والقذف ما لو علمه الخلق وفقهوا سننه في الإمهالِ فالأخذِ مَا أقدم أحدٌ وَلَأَحْجَمَ كلٌّ إذ عقل المآل وإنما حُجِبَ مَنْ حُجِبَ بِسَكْرَةِ الحال مع ما تقدم من تبديل وتحريف قد أضعف الوازع فلا آخرة فيها الظالم يُحَاسَبُ وَيُجَازَى ، فاستوى الظالم والعادل ، واستوى العفيف والفاجر ، وتلك ، أيضا ، مادة في الفكر لا تخلو من حلول واتحاد ، فقد استوت الأعيان والأوصاف ، وصار الطاهر كالنجس ، وصارت الحليلة كالأم والأخت فَحَلَّ وَطْءُ كلٍّ فلا فرج يحرم إذ كلٌّ من عين واحدة يصدر فالحقيقة واحدة وإن اختلفت المظاهر ، وتلك روح إباحية لا تنفك تصدر عن أخرى من إلحاد وجحود ، وهو ما يجد الناظر في تاريخ المقالات الغالية التي مرقت من الديانة الخاتمة وَإِنْ بَقِيَ لها أصل نسبة فَنِسْبَةُ الاسم إلى الإسلاميين ، فهي معدودة من مقالاتهم ، وإن مارقةً ناقضةً لأصلِ ما يعتقدون من التوحيد وأصل ما يمتثلون من التشريع ، فكان من مقال باطني لم يخل من نَفَسٍ إباحي قد سَرَى إلى المتأخر الحداثي ، إذ جعل اللَّذَّةَ مُطْلَقًا عنوانَ الباعثِ فَيَقْبُحُ لَدَى كلِّ عاقل أن يجاوزه ، فكان من ذلك المقال ما يُنْكِرُ على أبٍ له من البنات ما يجمل فكيف يدع وطأهن وهو الأحق ويترك ذلك لغريب يحمل اسم الزوج ! ، وكان مما ذكر في مصادر ، والعهدة على من روى وإن كان من المقال والمسلك ما يرجح صحة القصص ، وَلَوْ تَعَجَّبَ منه السامع بادي الرأي قَبْلَ أن يحيط علما بأصولهم العلمية والعملية ، فكان من ذلك حكاية طَائِفَةٍ تَعْظُمُ فِيهِم إذ جاوزت قنطرة الشريعة الظاهرة فأبطلت حروفها وحدودها بل وأبطلت ما رُكِزَ من فطرة الغيرة والأنفة أَنْ تُنْتَهَكَ المحارم العامة بل والخاصة ، فيدخل من يدخل على حَلِيلَةِ الزوج ويفجر بها وهو ينظر فلا يمتعض ولا ينكر فتلك آية إيمانه وصبره أن يُنْتَهَكَ حريمه وهو راضٍ غَيْرُ مُكْرَهٍ ! ، ثم يبصق الفاجر بأهله ، يبصق في وجهه ويصفع فلا يتحرك الزوج فتلك آية بها يُبْتَلَى فإذا صبر فقد جاوز القنطرة ، فكان من ذلك مقال قد استجمع الباطن في الاعتقاد والإباحية في الأحوال ، والحلول والاتحاد في الأعيان ، فاستجمع الشر كله ، علما وعملا ، وصار في الجيل المتأخر ذريعة الإلحاد والانحلال مع ما ذاع من رُوحِ جَبْرٍ لا تقيم وزنا للأمر والنهي ، فكل قد قُدِّرَ وَكُتِبَ فانتهى الأمر وصار الاحتجاج بالقدر على المعصية ذريعةً أَنْ تُسْتَبَاحَ المحارم ، بل قد طال ذلك ، كما تقدم ، ما قد عُلِمَ من الدين بالضرورة أنه المحرَّم بل وكان من فطرة أولى ما يَنْصَحُ فَلَوْ لَمْ يَأْتِ وَحْيٌ لاستقر في النفوس منها وصف القبح والذم ، فكيف وقد جاء الوحي مصدقا لِمَا اسْتَقَرَّ من فطرةٍ تَنْصَحُ إذ المرجع واحد ، فَمُنْزِلُ الشرعِ هو خالق النفس ، وقد رُكِزَ فيها من فطرة الصدق والعفة ، التوحيد والمراقبة ما يحول دون المخالفة ، فكان من الوحي ما صدَّق المجمل على إجماله وزاده تفصيلا وَبَيَانًا ، وكان منه ما نَسَخَ المبدَّل والمحرَّف مما قارفت أيدي الأحبار والكهنة ، فاستدرك ناسخا وزاجرا ، كما الآي آنف الذكر إذ : (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ، فكان من النسخ والاستدراك مع زجر وَلَعْنٍ بما قارفوا من الجرم في الإلهيات وهي أشرف مسائل النبوات وأجدر ما يَتَنَاوَلُهُ العاقل حفظا وفقها ، استقراء وجمعا ، إحصاء يجاوز الحفظ المجرد لِمَبَانٍ تُلْفَظُ إلى فِقْهِ مَعَانٍ تُصَدَّقُ وَتُمْتَثَلُ فلا تَنْفَكُّ آثارها تظهر في الاعتقاد والقول والعمل ، عنوان الإيمان المجزئ ، فتلك مسائل نَقَضَهَا جيل أول قد بَدَّل وَحَرَّفَ حتى نال من الأصول بما تقدم من القدح في ذات الخالق ، جل وعلا ، ووصفه ، وما كان من نسخٍ يُنْكِرُ المعلوم الضروري من يوم آخر قد حذفه الكاهن الآثم ليفسد على الخلق أديانهم فقد احتمل من البغض والحقد على النوع كله ، ولا تستقر له رياسة في الخلق مع ما يكون من جاه وكسب إلا أَنْ يَفْسَدَ الدِّينُ فَيُنْقَضُ أصلُ التوحيد وَيُبَاحُ من الربا ما قَدْ عُلِمَ ضرورةً تحريمه في كلِّ كتابٍ تَنَزَّلَ ، ومنه كتاب التوراة الذي ائْتُمِنُوا أن يحفظوه فَلَمْ يُوَفُّوا ، بل كان ضد من تبديل وتحريف قد تَقَصَّدَ أصحابه ، فذلك عنوان عرض أدنى قد اجتهدوا في أخذه ، واستبدلوه بما أُحْكِمَ من الكتاب المنزل ، وهو ما سرى إلى دين النصارى فكان مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بالمخلّص ذي الملك الألفي وليس ثم بَعْدَ مُلْكِهِ دَارٌ تجاوز فَنِهَايَةُ التاريخِ في هذه الدار ، وتلك مقالة حداثية تحمل هذه الروح التوراتية المبدلة ، مع نَقْدٍ آخر قد أُحْكِمَ فَوَجَدَ في الكتب الأولى وقد بُدِّلَتْ ، وَجَدَ فِيهَا خصما تسهل مُنَاَزَلتُهُ ولو من باب :

    وَإذا ما خَلا الجَبَانُ بأرْضٍ ******* طَلَبَ الطّعْنَ وَحدَهُ وَالنّزَالا .

    فكان من نقد الكتاب الأول ما نَصَحَ في دَرْسِ الأديان ، إذ ثم من التبديل والتحريف ما قد عُلِمَ بالضرورة الدينية والتاريخية ولو بَأَدَوَاتٍ بحثية محدَثَةٍ ، فكان من ذلك ما زَادَ الخلقَ شَكًّا في هذه الكتب المتداولة فلم يزل بهم الوسواس حتى نقلهم إلى صريح من الإلحاد والانحلال فمن دين محكم إلى إحاد وانحلال يَنْقُضُ ، والقنطرةُ ما كان من تبديل وتحريف في الدين الصحيح المنزَّل وهو ما استغرق أجيالا وأدوارا وتلك خطوات شيطان لا يعجل ! ، وهو ما رَامَ الجيل المتأخر من نظار الحداثة أَنْ يَتَأَوَّلَهُ في الدين الخاتم كما قد تَأَوَّلَهُ في آخر تَقَدَّمَ ، فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ مَأْرِزُ إلا الكتاب الخاتم ، وكان من رحمة الرب الخالق ، جل وعلا ، أَنْ وَعَدَ صدقا أنه يحفظ ، فـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فَابْتَعَثَ مِنَ الخلقِ مَنْ يَنْهَضُ بحجته وبرهانه ، واصطفى جِيلًا أَنْ يُنَازِلَ بسيفِه وسنانه فيكون من الكتاب الهادي والسيف الناصر ما يجزئ في فَرْضٍ عين على كلِّ أحدٍ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَمْتَثِلَ ، وَفَرْضِ كفايةٍ أن يَنْهَضَ بِالرَّدِّ إِنْ فِي السلم أو فِي الحرب ، إن في ساحةِ جدالٍ ودعوةٍ أو أخرى من الجلاد يدفع تارة ويفتح أخرى لتكون كلمة الرسالة هي العليا تأولا لوعد آخر يصدق ، وعد الرب المهيمن ، جل وعلا ، فـ : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ، كما قد رَدَّ جَلَالًا على من افترى القول فَنَقَضَ أصل التوحيد إذ قَدَحَ في وصف الرب الحميد المجيد ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ، وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ ، مَا حُدَّ مَاضِيًا يُثْبِتُ الجناية ، فكان من حكايةِ قَوْلٍ قَدْ قِيلَ كذبا فلا يحتمل الصدق فما اعتذارهم وقد قِيلَ وانتهى الأمر ، فلا وجه له من التأويل ، ولو بعيدا ، فهو القدح الصريح في وصف الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، وهو ما جاوز إلى الجيل المحدَث ولو كِنَايَةً فَلَمْ يُصَرِّحْ كَمَا صَرَّحَ أولئك ، مقال الحداثة في الاقتصاد والعمل مثالا ، إذ نهض على قاعدة تجحد اسم الرَّزَّاقِ الغنِيِّ الكريمِ ، فموارد العالم لا تُصَدِّقُ هذا الخبر إذ هي المحدودة فلا تَسَعُ الخلق جميعا ! ، استدلالا بِوَاقِعٍ يَنْقُصُ فَلَيْسَ فِي الشهادة يَصْدُقُ ، فَإِنَّ انعدام العدالة في توزيع الضروري والحاجي ، ذلك من صنيع البشر لا من وصف الكون في نَفْسِ الأمرِ ، فقد جاءت النبوات بِوَصْفِ الغنى والحمد المطلق على وجهٍ يَلِيقُ بِذَاتِ الرب الكريم ، جل وعلا ، فلا يَبْخَلُ ، كما افترت يهود في الجيل الأول ، وكان من الحداثة ما يضاهي في الجيل المتأخر ، فكان من معيار الوحي المحكم ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، كان منه سَعْيٌ يُشْرَعُ أن يَعْدِلَ القاسم فيسلك جادة النبوة ، فالخليفة عنها يجمع المال من حِلٍّ ويضعه في مثلِهِ ، إذ ثم مرجع يجاوز فهو الحكم من خارج إذ يُبِينُ عما يحل من أموال الناس وما لا يحل فيعدل في الأخذ والقسمة ، فيكون منها سوية في الضروري والحاجي الذي لا تستقيم الحياة إلا به ، فذلك حقٌّ لِلْبَشَرِ كافة قد امْتَنَّ به الخالق ، جل وعلا ، فَأَبَى الخلق بما قد جُبِلُوا عليه من شُحٍّ وَأَثَرَةٍ واحتكارٍ للأرزاق وحبٍّ للمال أن يكون دولة بين الأغنياء ، كما مثال الربا في كل جيل ، لا سيما المتأخر الذي عمت فيه بَلْوَى الربا وعظمت ، فَثَمَّ حَقٌّ في الضروري والحاجي قَدِ امْتَنَّ بِهِ الرب العلي ، جل وعلا ، فَأَنْزَلَ من الوحي ما يَتَأَوَّلُ فَهُوَ يَنْفِي فَرَضِيَّةَ النَّقْصِ وَالْعَدَمِ ، وَذَلِكَ ما قَارَفَتْ أيديِ البشرِ من سوءِ توزيعٍ وإدارةٍ أو اصطناعا لأزمات بها المال يَرْأَسُ ، فيكون دولةً بَيْنَ سادةٍ تَحْكُمُ ، فَكَانَ مِنَ الوحي ما يَنْفِي هذا الفرض الذي يقدح في كمال الرب ، جل وعلا ، غِنًى وَكَرَمًا وحكمةً في الإعطاء والمنع .... إلخ ، وكان من الوحي ما يُقَبِّحُ الاحتكارَ ويحرم فَذُمَّ الشح والأثرة مع ما يكون تَالِيًا من جَشَعٍ وَبُخْلٍ وتلك ذرائع بها الربا يَرُوجُ إذ يُشْبِعُ غَرَائِزَ النَّفْسِ أَنْ تَطْغَى بما تستكثر من الأموال ، ولو عَدَدًا بلا قيمة تعدل أو قوة شراء تُجْزِئُ ، فَجَاءَ الوحي بمعيار من الخبر المحكم فهو يُوجِبُ العدلَ في قسمة الضروري والحاجي ، مع فضلٍ يَزِيدُ من الكمال به التفاوت بين الخلق آيةً بها التدافع المصلِح لهذا الكون ، وابتلاءً أن يشكر الواجد ويصبر الفاقد لا صبر الجبر آنف الذكر الذي يُبَرِّرُ الظلم والقهر ، وذلك عنوان حكمة في التشريع مع رحمة في التكوين أَنْ أَنْزَلَ الله ، جل وعلا ، من الرزق ما يجزئ ويزيد وإنما ضَنَّ الخلق بما قد جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ أَثَرَةٍ وَشُحٍّ ، فكان النقص والفقر وكان الجوع والهلاك إذ ظَلَمَ بَعْضُ الخلقِ بَعْضًا ، آحادا أو جموعا ، بل وَوَضَعُوا لِذَلِكَ من فَرَضِيَّاتٍ في الحياة والاقتصاد كَسَوْهَا لِحَاءَ العلم وهي الجهل والظلم المحض ، وصيروها الذريعة التي تُبَادُ بِهَا الأمم وَتُسْتَلَبْ بِهَا الأموال والذخائر ، فما كان ذلك إلا أنهم قد وَاطَئُوا يهود في مقالهم المقبح ، وذلك في كل جيل يَتَكَرَّرُ ، فـ : (قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، فثم من الماضوية ما به التقرير ، من وجه ، ولا ينفك يحكي الديمومة فقد جاوز الوضع الأول من زَمَانِهِ ، ولو لم يصرح المتأخر كما المتقدم ، وهو ما يحكي ، من وجه ، عموما قد أريد به الخصوص فلم يَقُلْ يهود جميعا وإن كانت تلك روحا تسري في الجمع ، صرَّح أو كنَّى ، وثم ، من وجه آخر ، ما يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، فإن ذلك مقال قد جاوز يهود فقال به بعض ، ولو بِاللَّازِمِ ، كما تقدم من مذهب الحداثة في الاقتصاد والتجارة ، فَثَمَّ اتهام ليد القدرة والحكمة فهي تعجز أَنْ تَرْزُقَ الخلق فَلَيْسَ في خَزَائِنِهَا ما يكفي ! ، وهي لا تحسن تُوَزِّعُ الأرزاق ، كما قال بَعْضٌ في الجيل المتأخر ، أَنْ رُكِزَتِ الذخائر في الأمصار الأفقر والأجهل ، وإن كان القائل من مركزٍ هو سبب ما مَسَّ الأطراف من ضر ، فَثَمَّ عموم معنى قد استغرقَ كُلَّ من بَتَّ الصلة بالوحي المنزل وَصَدَرَ عن ضِدٍّ من الوضع المحدَث ، فقال أولئك المقال الفاحش : (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، وهو ما يجري مجرى الكناية : كناية الفقر والبخل ، وهو ما قد تَنَزَّهَ عنه الرب ، جل وعلا ، ضرورة قد استجمعت أجناس الأدلة كافة : النقل والعقل والفطرة والحس ، وليس ثم من الكناية ، ولو في مقام القدح الباطل ، ليس ثم منها ما يوجب تأويلا أن يُنْفَى وصفُ اليدِ : وصفُ الذَّاتِ الخبري ، بل إنه مما يثبت كما الوجه اللائق بالموصوف ، جل وعلا ، فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء في وصفه ، ومنه وصف اليد الذاتي الخبري ، إذ ليس كمثله شيء في ذاته ، وإن كان من لوازم الحقيقة ما يَثْبُتُ إن كان حقا كما لازم اليد قوة تَنْصُرُ في قَوْلِ الرَّبِّ المهيمن جل وعلا : (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، وما يُنْفَى إِنْ كان باطلا كما لازم القول الفاحش : (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، فتلك كناية عن وصفٍ يُذَمُّ من البخل والشح ، لا جرم كان الرَّدُّ الزَّاجِرُ وفيه من الجناس الاشتقاقي بالنظر في أصل المادة ، مادة "غَلَّ" ، فيه من ذلك بَيْنَ "مغلولة" و "غُلَّتْ" ما به المكافأة فالجزاء من جنس العمل ، والعقاب من جنس الجناية ، فـ : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) : خبرا أريد به الدعاء على تأويل : اللهم غُلَّ أيديهم كما افتروا من والوصف ما هم به أحق ، فلا يخلو الخبر من دلالة أصلية ، إذ ذلك من عاجل العقوبة الرَّبَّانِيَّةِ أَنْ كَانَ من وصفِهم ما أفحشوا فِيهِ إذ وصفوا بِهِ الرب الخالق ، جل وعلا ، وهو بهم أليق ، فاستجمع الخبر الدلالتين : الخبرية المحضة وهي الأصلية ، وما كان تَبَعًا على حد الاستعارة دعاءً في سياق ذم ، وهو ، كما تَقَدَّمَ في مواضع ، مما به يستأنس من جَوَّزَ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، وثم من الإطناب في الذم لَعْنًا قَدْ حُذِفَ فاعله للعلم به ، بداهة ، في قوله تعالى : (وَلُعِنُوا) ، فقد لعنهم الله ، جل وعلا ، فطردهم من رحمته ، ولا يخلو الحذف من تحقير أن نُزِّهَ اسم الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، فلا يذكر في سياق يتناولهم وإن لعنا وسبا ، وثم من عموم اللعن ما يُجَاوِزُ فيلعنهم اللله ، جل وعلا ، ويلعنهم كل لاعن ، فـ : (أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ، بل ويلعن بعضهم بعضا إمعانا في النكاية والذم ، فـ : (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) .
    وَثَمَّ من السببية ما به العذر يَنْتَفِي ، فَقَدْ : (لُعِنُوا بِمَا قَالُوا) ، فلم يكن ذلك من الرب ، جل وعلا ، ظلما ، وإنما جَزَاءً وِفَاقًا ، وثم من الإضراب الذي يحتمل الانتقال من لعن وذم إلى إثبات لضد من كمال مطلق ، فـ : (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) ، وهو ما رَشَّحَ ، كما تقدم ، الجمع بين الحقيقة والكناية ، إذ كان من العدد تَثْنِيَةً ما استوجب حملان الوصف على الحقيقة لا المجاز تَأَوُّلًا ولو بلازم فليس ذلك بلازم ، إذ لا يستوجب تأويلُ وَصْفٍ بلازم من لوازمه يصح إذا كان ثم قرينة تصرح ، لا يستوجب نَقْضَ الأصل ، بل ذلك مما يأتي تَبَعًا بالإبطال على اللازم .
    والإضراب ، من وجه آخر ، مما احتمل الإبطال : الإبطال لمقالهم الأول إذ قد جاء لِضِدٍّ يثبت ، فاحتمل الوجهين ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما به يستأنس من يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك .

    والله أعلى وأعلم .


  6. #6
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    والشاهد مما تقدم أَنْ ثَمَّ من الحكمة الرسالية في تحريم الربا أنه يفضي إلى احتكار المال وتضييق المعايش وتلك حكاية التأله في الأرض بغير الحق أن يصير أصحاب المال أَرْبَابًا يَرْزُقُونَ مع أخرى هي معدن الخصومة بين الرسالة والحداثة أَنْ يَسْتَجِيزَ أولئك الحكم بالهوى والذوق بل قد صار ذلك مرجعهم في الحكومات كَافَّةً وإن تَأَوَّلُوا له من باطن الفكرة مَا يُفْسِدُ الحركةَ ، فَثَمَّ مِنَ الزُّخْرُفَ فِي وسواسِهم ما يَغُرُّ وَيَخْدع ، فكان من الربا ما يجاوز الجمع والكنز فهو أداة بها الشرع والحكم أن يخضع الخلق لمن يملك ، فعنده من المال ما يُذِلُّ أعناقَ الرجال بما جبلت عليه النفوس من الحرص ، ولهم في كل جمع من البشر مُنْخَنِقَةٌ وموقوذة ومتردية ونطيحة لم يجاوز همها ما تطعم وتنكح مع تشوف إلى رياسة وإن لم تكن لها أهلا بل ذلك وصف يطرد قبل الساعة كما أخبر صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يُوَسَّدَ الأمر إلى غير أهله ، وإذا كان ثم ربا يَفْحُشُ فصار هو الأصل المحكم ! ، فأصحابه على خلاف الهدي إذ يوسدون الأمر لمن ليس بأهل وبه يستذلون الخلق أن يخضعوا لسلطانهم وَيُثَمِّرُوا أموالهم بجهد يعظم رجاء فُتَاتٍ يحقر .
    وثم من العلة ، عِلَّةِ الرِّبَا ، ما اختلف فيه على وجوه تقدمت ، فكان من قول الظاهرية ، رحمهم الله ، ما صير الحكم غير معقول المعنى فهو يقتصر على المذكورات في الخبر من الأثمان والمطعومات ولا يجاوزها ، فَيَجْرِى مجرى التوقيف إذ لا يُعْلَمُ إلا بالنص ، ولا يُجَاوَزُ باجتهادٍ يُلْحِقُ غير مذكور بمذكور ، فالعلة في التحريم أنه محرم وكفى ! فلا يَتَقَدَّمُ الناظر بين يدي الوحي فيطلب من العلة ما لا نص عليه فذلك الظن والتخرص وهو مما نهى عنه الذكر المحكم صدرَ الحجرات إذ خاطب الجمع المؤمن أَنْ : (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، فكان من النداء ما اطرد في التنزيل خطابا لمن بَعُدَ صدرَ الآية ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، فلا يخلو من دلالة تعظيم لمن يُنَادِي ، وأخرى بها يستحضر المنادَى لا سيما الغافل أو المجاوز الحدَّ إذ يَتَعَدَّى في القول أو في العمل ، كما ذكر بعض من سلف أنها نزلت في أقوام تعدوا في الحكم فقالوا لو قال الله كذا وكذا ، أو لو صنع الله ، جل وعلا ، كذا وكذا لكان كذا وكذا ، فَكَرِهَ الله ، جل وعلا ، أن يكون التقدم بين يدي الوحي ، فلا يجاوزه المؤمن والخطاب وإن خُصَّ به المجيب من أهل الملة فهم المؤمنون ، فلا ينفك يحتمل من العموم ما يجاوز فيستغرق الجمع كافة ، من دُعِيَ فَأَجَابَ ، ومن دُعِيَ فَلَمْ يُجِبْ ، فَفَرْضُهُ أَنْ يُجِيبَ ثم يمتثل ، بل الأمر في الآية عنوان الدعوة الأعم إذ لا يكون إيمان إلا أن يُقَدَّمَ الوحي مرحعا في التصور والحكم ، فلا يُقَدَّمُ عليه غيره من هوى أو ذوق ، فَعَمَّ الخطاب الخلق جميعا إذ الوحي الخاتم حجة على العالمين كافة ، وثم من التعاطف ما استغرق في قوله تعالى : (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، فالشرع لا يُتَلَقَّى إلا من مشكاة النبوة ، إن آيًا من عند الله ، جل وعلا ، أو خَبَرًا عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فَلَمْ يُحْدِثْ من عنده بل ذلك وحي المعنى وإن حكاه بِلَفْظِهِ ، فكان النهي الذي عَمَّ فاستغرق إذ تسلط على المصدر الكامن في الفعل "تُقَدِّمُوا" ، وثم من الإطلاق ما قد عَمَّ المسائل كافة ، الخبرية والإنشائية ، الخاصة والعامة ، الدماء والأموال ، ومنها الأموال الربوية محل الشاهد ، فلا يجاوز الناظر ما نص عليه الخبر ، فذلك قول الظاهرية وتلك حجتهم أَنْ يُقْصَرَ الحكمُ على المنصوص دون تقدم بين يديه تَلَمُّسًا لمعقول يجري مجرى الظنون وبعد النهي كان الأمر أَنِ : (اتَّقُوا اللَّهَ) ، وذلك العام المستغرق بعد خاص بِعَيْنِهِ يَنْهَى عن التقدم بين يدي الوحي ، وبه يَتَّقِي المؤمن عاقبة السوء فلا يتقدم فيهلك أن يفتي فيما لا يعلم ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن ذلك هو عين التقوى فلا يتقدم الوحي في أَيِّ موضع ، فيكون العطف ، من هذا الوجه ، عطف مترادفين ، ولو في المعنى الأعم ، فكلاهما قد عم مسائل الديانة جميعا ، وقد يرجح الأول إذ ثم فيه من التأسيس ما هو أولى بالاعتبار ، فيكون من النهي ثم الأمر وبهما الْتِئَامُ الشرع ، فهو نهي يخلي المحل وَيُطَهِّرُ ثم أمر يحليه وَيُزَيِّنُ ، فذلك التَّأْسِيسُ خلاف القول بِالتَّرَادُفِ فهو مما به الكلام يحمل على التوكيد ، وحملانه على التأسيس أولى إذا دار بَيْنَهُ وبين التوكيد ، إذ في التأسيس زيادة معنى ، ومن ثم كان النص على العلة ، علة ما تقدم من النهي ثم الأمر ، فَثَمَّ من السؤال ما قد دل عليه النص اقتضاء ، فما علة ما تقدم ؟! ، فكان الجواب : لأن الله سميع عليم ، فَصَدَّرَ بالناسخ مؤكدا ، ولا يخلو من دلالة التعليل على التقدير آنف الذكر ، وثم من إظهار اسم الله ، جل وعلا ، الأعظم ، وحقه في النطق أن يضمر في هذا الموضع إذ تقدم ذكره في السباق المتقدم : (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ، فالقياس أن يقال : إنه سميع عليم ، فَأُظْهِرَ تَرْبِيَةً للمهابة واستحضارا لذي العزة والجلالة ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وثم من الإطناب في الخبر وصف السمع فالعلم ، وذلك من حسن التلاؤم إذ تلك أسماء تحمل الناظر أن يَرْقُبَ وَيَحْذَرَ فالله ، جل وعلا ، يسمع ويعلم ، وثم من الانتقال من سمع أخص إلى علم أعم قد استغرق المسموع والمرئي وما كان أولا في التقدير ، إذ أحاط به الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، وما كان بعدا من تأويل في الشهادة فهو يصدق ما كان تقديرا أول في الغيب ، وما كان من إحصاء في الكتب ، وما كان من كتاب جامع ناطق بالحق يوم البعث والحشر ، فـ : (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
    فكان من ذكر الوحي أن الربا محرم في المذكورات في الخبر ، كان من ذلك دَلِيلٌ يجزئ فلا يجاوزه الناظر إذ فِي نَصِّ الوحي كفاية ، وهو ما لا يجاوز حَدَّ المنطوقِ المباشر فلا اعتبار بمفهوم يوافق أو يخالف ، على تفصيل في ذلك ، وهو ما صيره بَعْضُ المحققين ، وإن لم يكن من الظاهرية ، ما صيره ذا حظ من النظر فَثَمَّ عنوان تعليل أعم فهو يستغرق مسائل الشرع كافة ، أكان ذلك مما ثبت لفظه وكان من فِقْهِهِ ما صَرُحَ ، فذلك عنوان علة يجزئ وإن لم يدرك الناظر حكمة أو معنى آخر أدق به يُنَاطُ الحكم وجودا وعدما ، فالعلة أن ذلك مما قد تَنَزَّلَ ، فَتَنَزُّلُهُ وَحْيًا يجب تصديقه وامتثاله ، ذلك في نَفْسِهِ حَدٌّ يجزئ في التكليف ، فالعلة أنه وحي ، وهو ما يجزئ في التعليل ، فـ : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فَثَمَّ من الشرط أن يُقْضَى الأمر ولم يكن ثم زيادة تُقَيِّدُ أن يعلم الناظر علة الحكم المنزل فلا يؤمن إلا إذا علم العلة بعينها ، فما يصنع في أحكام لا علل لها ؟! ، فهي محال توقيف وَهُوَ بَيْنَ أَنْ يَرَدَّهَا إذ صار العقل هو مناط التشريع والصحيح أنه مناط التكليف الذي يَنْقَادُ وَيَخْضَعُ لِمَا قَدْ نَزَلَ من الوحي المحكم الذي يَقْضِي في متشابهاتِ الهوى والذوق مرجعا يجاوز من خارج ، فهو المركز الذي عنه الأطراف تصدر ، فمركز التشريع في النبوات هو الوحي ، والخلق له أطراف فَبِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إذ يُصَدِّقُونَ وَيَمْتَثِلُونَ ، فَيَدْخُلُونَ ، من هذا الوجه ، في عموم الآي المحكم : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، وإن كان الخطاب في حق الملَك خطاب تكوين فلا تكليف إذ ليس ثم اختيار في حقهم فهو خبر محض لا يكلف بأمر أو نهي ، فحالهم أبدا السمع والطاعة ، وأما القبيل المكلَّف من الجن والإنس فالخطاب في حقهم خطاب تشريع يُكَلِّفُ فلا يَلْزَمُ منه طاعة واستجابة ، بل قد يَتَخَلَّفُ خروجا وعصيانا ، فيكون الخبر في حقهم مما أريد به الإنشاء أَنِ : اعملوا بأمره ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما جاوز الأمر المتبادر في اصطلاح الأصول المتأخر ، فالأمر في الآية قد عم الشريعة كلها : الخبر والحكم ، فكان من العمل ما جَاوَزَ ، فهو التصديق والامتثال ، لا العمل المتبادر الذي يقتصر على امتثال الأركان بالفعل وَالتَّرْكِ .

    فكان من حجة التكليف الأولى : العلة العامة التي توجب الامتثال أبدا عُلِمَتِ الحكمةُ أو لم تُعْلَمْ ، أَدْرَكَ العقلُ العلةَ مناطا أخص أو لم يدرك ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْتَغِلَ الناظرُ إذا شَكَّ حقيقة لا توهما ، أو كان منكرا جاحدا فَيُلْزَمُ في الجدال أن يَتَدَبَّرَ آيَ النبوات ودلائلها ، فيكون من بحث أول ما يحسم الخلاف في الفروع إذ الأصل قد حُرِّرَ ، فَمَتَى عُلِمَ صِدْقُ النبي بما كان من دلائل نُبُوَّةٍ ، فالدعوى في نَفْسِهَا مما يحتمل ، وليس فيها ، كما يقول بعض من حقق ، ليس فِيَها واسطة بين طرف هو أَصْدَقُ مَا يُدَّعَى وآخر هو أكذب ما يُفْتَرَى ، فلا واسطة ، كما قال أهل الشأن ، وهو ما لا يشتبه أمره أبدا إلا أن يكون ثم فتنة أولى لا تنفك تَرْتَفِعُ بما يكون من نظرٍ وطولِ تَدَبُّرٍ ، وما يكون من افتضاحٍ لأمرِ المكذِّبِ رحمةً من الرب المهيمن ، جل وعلا ، أَنْ يُضِلَّ الخلق فلا تقوم حجةٌ بقولِ مكذِّب ، بل كان من الحجة ما قد أُحْكِمَ وكان من دلائل النبوة ما تواتر فَبَلَغَ مِنَ الضرورةِ العلميةِ مَا يُلْجِئُ الناظر المتجرِّد أَنْ يُصَدِّقَ ، إذ يجد منها مادة تواطئ ما ركز في الجنان أولا ما لم يكن ثم مُغَيِّرٌ يُفْسِدُ ، وحجة النبوة مع ذلك له تدمغ وتنسخ إذا تفكر الناظر ، ولو جاحدا منكرا ، فلا تنفك الحجة تجد إلى الجنان مسلكا ، ولو ضُيِّقَتِ الطرق وانشعبت السبل وكان من اللَّغْوِ وَرَفْعِ الصوتِ ما به الباطل يُشَوِّشُ لِيَصْرِفَ الفكرةَ عن محكم الحجة ، فكان من حجة الرسالة ما هو أولى بالبحث والنظر جَمْعًا لِمَبَانِيهَا وَنَظَرًا فِي مَعَانِيهَا ، فإذا حُرِّرَ الأصلُ فَقَدْ كُفِيَ النَّاظِرُ مُؤْنَةَ النَّظَرِ فِي الفروعِ ، وكان من قول الظاهرية ما يَتَوَجَّهُ في باب السمع والطاعة ، وإن لم يلزم من ذلك القول بما قالوا في الفروع نَفْيًا للقياس ، فقولهم يتوجه بالنظر في الأصل ، أصل التكليف تَسْلِيمًا وَانْقِيَادًا ، إذ يُكْفَى الناظر في دلائل النبوة الأعم ، يُكْفَى مؤنة الجدال في كل فَرْعٍ لِمَ كان وما المعنى الأخص الذي لأجله شُرِعَ الحكم ، وما تعليل ما يظهر بادي الرأي من اختلاف في الأحكام مع اتحاد الجهة ، وإن كان من تحريرها ما يدق فيبين عن انفكاك ، ولو لَطُفَ مأخذه ، فالشريعة المنزلة لا تخالف عن الأقيسة المحكمة ، فلا تُسَوِّي بين مختلفين ولا تُفَرِّقُ بين متماثلين ، وإن كان من ذلك ما يعرض فَقِلَّة علمٍ وضعف نظرٍ أن لم يجمع المستدل وجوه الباب فيظهر له من الفرق ، وإن دَقَّ ، ما يوجب التفريق ، فالاشتغال بأدلة النبوة أولا خير من آخر بالفروع ، وإنما النظر فيها تَالٍ بعد تحرير الأصول .
    فَقَوْلُ الظاهرية مما يحسن في الأصول لا في قياس الفروع المحدَثات على المنصوصات معقولة المعنى ، مع مَا تَفَاوَتَ من ذلك ، فَثَمَّ عَقْلُ الحكمةِ الأعم ولا يجزئ في باب نظر أخص وهو القياس إذ يُنَاطُ بِعِلَّةٍ أدق يسهل ضبطها فلا تَنْتَشِرُ مادتها كما الحكمة التي لا تعتبر في باب القياس إذ لا تَنْفَكُ تَفُوتُ في جزئيات ، فلا يضر تخلفها إذ الحكم يناط بالمظنة الغالبة لا المئنة القاطعة ، والمظنة الغالبة لا تخلو من فَوَاتِ آحاد لا تحصل فيها الحكمة وهي مما قَلَّ أو نَدَرَ ، وغايته أن يشرع له من الحكم استثناء لا يَنْقُضُ الأصل ، بل هو يُؤَكِّدُهُ ، من وجه آخر ، فيجري مجرى الضرورة التي تقدر بقدرها فالاختيار في المقابل محفوظ حتى يَرِدَ ما يُجَوِّزُ العدول عنه إلى رخصة مرجوحة فهي استثناء كما القليل أو النادر .
    والعلة ، من وجه آخر ، منها ما يَلْزَمُ الأصلَ فَلَا يَتَعَدَّى كما قيل في السفر والمرض علة الفطر في رمضان ، وكما قيل في السفر علة القصر في الصلاة ، فذلك وإن أدركه العقل فلا يجاوز به الأصل المنصوص ، وهو ما قال بعض في علة الأجناس الربوية محل الشاهد ، فقال بَعْضٌ في علة التحريم في الذهب والفضة أنه جوهر الثمنية فلا يجاوز أعيانهما ، فلا يجري في غيرهما ولو اتُّخِذَ نَقْدًا به المعاوضة في المعاملات بَيْعًا وَشِرَاءً .... إلخ ، والصحيح أنه مما يَتَعَدَّى إذ ثم من العلة ما يجاوز فهو مطلق الثمنية الأعم لا جوهرها الأخص ، فيجاوز الذهب والفضة إلى كلِّ نَقْدٍ ، وَرَقًا أو معدنا ..... إلخ .
    وثم من الحكمة ، كما تقدم ، أعم في الباب ، فلا يناط به أخص في التعليل ، وإنما بابه المصلحة المرسلة التي سكت عنها الشِّارِعُ ، جل وعلا ، فلم يَعْتَبِرْ ولم يُلْغِ ، وهي مما قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر وقد اتخذتها الحداثة ذَرِيعَةً أَنْ تَنْقُضَ أحكام الشريعة المنصوصة إذ ثم من المصلحة الكلية ما يَرْجُحُ النص الجزئي اتهاما للوحي بالغفلة إذ لم يدرك تلك المصلحة المعتبرة فَجَاءَ بِمَا يَسُدُّ الذَّرَائِعَ إِلَيْهَا تحجيرا لواسع بحكم جزئي يُنَغِّصُ ! ، فوجب في القياس المحكم إهماله ، وَإِنْ ثَبَتَ قطعا ! ، ولم يكن ثم ضرورة معتبرة تُلْجِئُ ، بل الناظر يتوسع في الباب فيجاوز الضرورة إلى الاختيار أو ما ضَاقَ بَعْضًا فَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الحرج حاجة أو ضرورة تلجئ .
    فلا يُعَارَضُ النص الأخص بحكمة أعم ، بل ثم من القياس ما هو أخص في الاستدلال من المصلحة ، وهو ، مع ذلك ، لا يصمد لِنَصٍّ ، بل مخالفته عن النص قادح من قوادحه قد اصطلح ، كما تقدم في مواضع ، أنه فساد الاعتبار ، فكيف بالمصلحة الأعم وهي دون القياس الأخص ؟! ، فمخالفتها للنص لا تُعْتَبَرُ ، من باب أولى ، وفسادها في الاعتبار أظهر ، فلا يُخَالَفُ عَنِ النَّصِّ بِأَيِّ معقولٍ ، علة أخص أو حكمة أعم ، وما خالف في مواضع فهو الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فهي استثناء من أصل لعارض يطرأ فليس أصلا يثبت ، فلا يعارض به الأصل الأول ، وإنما الأول مُحْكَمٌ يَطَّرِدُ في الآحاد كافة ، وما كان من استثناء فَضَرُورَةٌ تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا تُخْرِجُ بَعْضَ الآحادِ لِعَارِضٍ معتبرٍ ، لا لآخر مُتَوَهَّمٍ ، أو تخصيصا بدليل يستقر فإن العارض من الضرورة ليس دليل تخصيص يَسْتَقِرُّ كما الخاص الذي يَقْضِي في العام بإخراج بعض آحاده ، فلا دليل تخصيص في عموم محفوظ كما المحرم لذاته ، ربا النسيئة مثالا ، فلا يخصص بأي دليل معتبر ، خلاف ما حُرِّمَ لغيره سدا لذريعة كما ربا الفضل مثالا فكان من التخصيص المنصوص رخصةٌ في عَرَايَا الرُّطَبِ أَنْ يُبَاعَ بخرصه تمرا فيما دون خمسة أوسق ، فكان من تحريمه لغيره ما أباحه في الحاجة لا الضرورة فإن التفكه بالرطب الجديد ليس بضرورة فَفَوَاتُهُ لا يُفَوِّتُ مقصدا كليا من مقاصد الشريع ، وإنما رُخِّصَ فيه رَفْعًا لحاجة دون الضرورةِ الملجئة ، فَثَمَّ حاجة بل قد تكون أدنى فذلك من رحمة الشرع المنزل ، فَثَمَّ من ذلك أَنْ يَتَّخِذَ صاحب التمر الجاف القديم من الرطب ما به يَتَفَكَّهُ وَيُوَسِّعُ على أهله مع التحري في الخرص وَحَدِّ الأمر بقدر مخصوص ، خمسة أوسق ، والتقابض يدا بيد ، فكان من تقييده ما لم يطلق الرخصة إذ لم تبلغ حد الضرورة وهي ما لا يخلو ، أيضا ، من قَيْدٍ في النظر إذ تقدر بقدرها فلا يجاوزها المضطر ولا يتخذها ذريعة إلى نقض الأصل ، إذ كيف يَسْتَدِلُّ بِعَارِضٍ في نَقْضِ مستقِرٍّ ثَابِتٍ ، فذلك مما يخالف عن البدائه ، فكان من التقييد آنف الذكر : تقييد الرخصة في العرايا إذ لم تبلغ حد الضرورة التي تجيز لصاحبها ما لا تجيز الحاجة فهي دونها لا جرم كان التفريق آنف الذكر بين المحرم لذاته والمحرم لغيره ، فأباحت الضرورة الأعلى المحرم الأعلى وهو المحرم لذاته وأباحت ما دونه من المحرم لغيره ، أباحته من باب أولى ، فذلك من العموم والخصوص المطلق ، إذ اتسعت دائرة الضرورة في إباحة المحرم كله ، ما هو لذاته فَالنَّهْيُ عنه نهي مقاصد وما هو لغيره فَالنَّهْيُ عنه نهي وسائل ، خلاف الحاجة من وجه آخر فهي الأدنى فلا يُسْتَبَاحُ بِهَا إلا الأدنى من المحرم ، المحرم لغيره تحريم الوسائل والذرائع ، فَيُسْتَبَاحُ بِهَا المحرَّم الأدنى من المحرَّم لغيره لا الأعلى من المحرم لذاته فذلك مما لا يستباح إلا بِضَرُورَةٍ تُلْجِئُ ، وهي مما به فَوَاتُ مقصدٍ رَئِيسٍ من مقاصد التشريع على تَفْصِيلٍ في الترجيح بَيْنَهَا إذا تعارضت .... إلخ .
    فالترخيص في العرايا ، عرايا التمر ، نَصٌّ بِعَيْنِهِ يُخَصِّصُ العموم الذي يَنْهَى عن التفاضل بين أفراد الجنس الواحد ، كما في الخبر أَنِ : "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الْآخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ" ، فكان التفاضل في عرايا التمر وهي مما قد نَصَّ عليه الخبر آنف الذكر ، كما نَصٌّ آخر يخصص عموم : "«لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»" ، وهو نهي قد استغرق ، من وجوه ، فَثَمَّ من تَسَلُّطِ النهي على المصدر الكامن في الفعل ما أفاد عموما قد استغرق وجوه المعنى ، معنى البيع ، وثم من دلالة الموصول "مَا" عمومٌ آخر بالنظر في أصل الوضع الأول ، فالموصول نص في العموم كما قَرَّرَ أهل البيان والأصول ، فَخُصَّ هذا العموم بِالسَّلَمِ ، كما في خبر آخر ، فتلك حاجة لا ضرورة ، فكان من تخصيص العموم آنف الذكر : "«لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»" ، إذ لم يكن النهي إلا سدا لذريعةِ الْغَرَرِ فهو من المحرم لغيره ، وإلا فإن من المبيع ما هو مباح في الأصل ، وإنما كان التحريم ، كما تقدم ، لِعَارِضٍ سَدًّا لذريعة الْغَرَرِ ، فَأُبِيحَ لحاجة لا تبلغ حد الضرورة ، وكان من النص ما يُخَصِّصُ ، وإن ذهب بعض أن السَّلَمَ لا يخالف عن الأصل فليس بَيْعَ معدوم وإنما هو بَيْعُ موصوفٍ في الذمة ، لا جرم اشْتُرِطَ فيه أن يكون مما ينضبط بالوصف وأن يقبض الثمن حالا في مجلس العقد ... إلخ .
    وَقَدْ قَيسَ على كُلٍّ في بابه ، فَقِيسَ على السلم عقد الاستصناع وهو بيع لمعدوم وإن كان موصوفا في الذمة فاشترط في الْمُسْتَصْنَعِ ، أيضا ، أن يكون مما ينضبط بالوصف .
    وَقِيسَ على عاريةِ التمر عاريةُ العنب أن يُبَاعَ بِخَرْصِهِ زَبِيبًا ، وإن خالف بَعْضٌ فَقَصَرَ الرخصة على المنصوص من التمر ، وهو ما يخالف عن روح التشريع أن يكون التيسير ما لم يكن ثم إثم فلم يكن ثم ما يقدح في حق الله ، جل وعلا ، فتخصيص المنة مما يُنَغِّصُهَا إلا إذا كان ذلك لحق الله ، جل وعلا ، كما ضَرَبَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثل بالنهي عن الصلاة في المقبرة فذلك تخصيص لمنة أعم إذ : "جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا" ، فكان من التخصيص ما اعتبر في هذا الموضع لا تَنْغِيصًا وإنما حِفْظًا لحق الله ، جل وعلا ، فذلك مقصد التشريع الأول ، حفظ الدين وأصله المحكم توحيد الله ، جل وعلا ، فَنُهِيَ عَنِ الصلاة في المقبرة سدا لذريعة الغلو في المقبور فذلك مما يَقْدَحُ في توحيد الرب المعبود ، جل وعلا ، فكان مِنْ بَعْضٍ أَنْ قَصَرَ مِنَّةَ العرايا بالمنصوص تمرا فلا يدخل فيه العنب ، وهو ، كما يذكر بَعْضُ من صَنَّفَ ، هو قول الحنابلة وأهل الظاهر ، وهو بأصول الظاهرية أليق كما تقدم من منعهم القياس في العزائم فكيف بالرخص التي تخالف عن الأصل ؟! ، وثم من جاوز فاعتبر روح التشريع في رفع الحرج فدخل العنب قياسا على التمر إذ ثم نص هو الأصل ، إباحة العرايا في التمر ، فَقِيسَ عليه ما يضاهي من العنب فكلاهما من المكيل الذي يُجَفَّفُ وَيُدَّخَرُ ، وثم من جَاوَزَ إلى كل ما يُيَبَّسُ وَيُدَّخَرُ فدخل فيه الجوز واللوز والتين ، وذلك أصل في مذهب المالكية إذ العبرة عندهم بما يدخر ويكال ، فاطرد عندهم في الأموال الزكوية وَنَظَائِرِهَا الربوية فتلك علة الربا عندهم في المطعومات المنصوص عليها في الخبر .
    فتلك نصوص ذات معنى يدركه الناظر وهو مما ينضبط ، فقال بَعْضٌ إنه مِمَّا يَلْزَمُ الأصلَ المنصوصَ فلا يجاوزه ، فلا تجاوز العرايا التمرَ إلى العنبِ والتين .... إلخ ، وقال آخر إنه مما يجاوز فَيَتَعَدَّى إلى آخر غير منصوص فذلك القياس الذي ينظر في المعنى المعقول ، فيجاوز المنطوق إلى المفهوم ، خلافا لما تقدم من قول الظاهرية إذ جعلوا المنطوق وحده دليل الشرع المحكم فأنكروا القياس ، على تَفْصِيلٍ في حدهم القياس ، وقالوا إن في نصوص الوحي ما أجزأ في نَوَازِلِ الشرع كافة ، وهو ما وافقهم فيه الجمهور ، وإن زَادُوا في حَدِّ الإجزاء ، فالنصوص تجزئ بالمنطوق والمفهوم كافة ، لا بالمنطوق وحده ، مع التسليم ، بادي الرأي ، كما قال بعض من حقق ، أَنَّ في نصوص الوحي جمهرة عظمى تجزئ في أكثر النَّوَازِلِ ، وثم من القدر الفارق بين الحكمة والعلة ، الضرورة والحاجة ، المنطوق والمفهوم ..... إلخ ، وذلك باب من الفقه يدق ، وبه كان الخلاف في الفروع لا في الأصول ، فتحريم الربا مُتَوَاتِرٌ قَطْعِيٌّ ، وإنما كان الخلاف في بَعْضِ الفروع ، وفي جملة من البيوع أَيَصْدُقُ فِيهَا حَدُّ الربا أم لا يصدق ، أتباح مطلقا أم حال حاجة أخص أم ضرورة أعم ، وإن كانت الأخيرة مما يبيح المحظورات كافة ، ما حُظِرَ لذاته فَنُهِي عنه نهي المقاصد وما حُظِرَ لغيره فَنُهِيَ عنه نهي الوسائل والذرائع إلى محرم لذاته ، فالضرورة في نفسها مما يخصص الحكومات كافة ، أصولا وفروعا ، بل ثم منها ما رُخِّصَ فيه بالكفر الذي يَنْقُضُ أصلَ الدين المحكم كما قد أَبَانَ عَنْهُ الوحي المنزل : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) ، وإن كان من العزيمة ما يرجح وقد يَبْلُغُ حَدَّ النَّدْبِ كما يكون من عزيمة وقد أُبِيحَتِ الرخصة إذ يكون ثم من المعارض الراجح ما يعتبر ، فلا يشمت خصوم الديانة مثالا وإنما تُكْسَرُ قلوبهم إِنْ ضَيَّقُوا على أتباعِ الرسالة فحصل من الضرورة ما يبيح الرخصة في تَعَاطِي محرَّم وإنما امْتَنَعَ مَنِ امْتَنَعَ لَا أَنَّهَا لا تباح حال الضرورة ، وإنما لما تَقَدَّمَ من معارِض راجح أن تُكْسَرَ قلوب أهل الباطل فلا يشمتوا في القبيل المؤمن ، كما تقدم في موضعٍ من حال عبد الله بن حذافة السهمي ، رضي الله عنه ، وقد وَقَعَ لَهُ من الضرورة في أَسْرِ الرومِ ما أباح المحرم من الخمر والخنزير ، فَكَانَا رخصةً في حقه فأبى كَسْرًا لقلوب الخصوم ، وذلك ، كما تقدم ، من المندوب فلا يجب على كلِّ أحدٍ إذ لا يطيقه كلُّ أحدٍ فإيجابه يُوقِعُ في الحرج الذي رَفَعَهُ الشرعُ فَجَاءَ بما يبيح الرخصة ، وإن كانت العزيمة أولى ، كما المثال يُضْرَبُ بِبِلَالٍ ، رضي الله عنه ، فَلَمْ يُعْطِهم ، ولو كلمةً ، وهو واحد قد أَخَذَ بالعزيمة في مقابل جمع يكثر أعطاهم ما أرادوا إذ اشتد تعذيبهم وَبَلَغَ بالمعذَّب ما به تُبَاحُ الرخصة ، فأجاب عمار ، رضي الله عنه ، مثالا وهو من هو في الإيمان الذي بَلَغَ مشاشه ، فكان آية الحق في قتال البغي وله ما له من السبق والفضل في نفسه وآله ما قد عُلِمَ ضرورةً ، فَلَمْ يَقْدَحْ في ذلك أَنْ أَخَذَ بالرخصة فلم يطق العزيمة كما بلال ، بل قد نَزَلَ الوحي يبيح ما فيه قد تَرَخَّصَ وإن في أصل ِالدين الأول وكان من إقرار صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "«إِنْ عَادُوا فَعُدْ»" ، وهو الشرط الذي اطَّرَدَ وَانْعَكَسَ ، فيدور الجواب معه وجودا وعدما ، فَثَمَّ من التعليل معاودتهم التعذيب ، وثم من الحكم أَنْ يُعَاوِدَ الترخص ، فذلك مما أمر به صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا أمر الإيجاب ، وإنما أمر إباحة للرخصة ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فهي من رخص التَّرْفِيهِ لا الإسقاط ، كما تقدم في مواضع من قسمة الحنفية في هذا الباب ، فَثَمَّ فيها رخصة الإسقاط أن يسقط حكمُ الأصلِ ويستبدل به آخر على ضد ، كمن أصابته مخمصة وخشي الهلكة ولم يجد إلا الخنزير أو الميتة ، فالأمر في حقه إيجاب لا ندب ما لم يكن ثم معارض أرجح كما تقدم من خبر ابن حذافة السهمي ، رضي الله عنه ، فيجب عليه إذا لم يكن ثم معارض أرجح ، يجب عليه أن يَتَعَاطَى الرخصة ، ولو ضرورةً تُقَدَّرُ بقدرها ، فيأخذ من الخمر أو الدم مشروبا ، أو من الميتة أو الخنزير مطعوما ، يأخذ منهما ما يسد الرمق ويحفظ المهجة فلا تَتْلَفُ ، فإن أعرض ولم يَتَنَاوَلْ وَلَيْسَ ثَمَّ مُعَارِضٌ راجح فأفضت الحال إلى هلكة فهو آثم إذ قد خالف عن واجب ، وإن عَارِضًا قد أسقط حكم الأصل المحرَّم ، ولو ضرورةً تقدر بقدرها ، فيأخذ منها حتى ترتفع الضرورة ، ويقال فيها ، أيضا ، إن عادت الضرورة فَعُدْ في تَعَاطِي ما يدفعها ولو من المحرم لذاته خنزيرا أو خمرا ، وإن كان الأمر في خبر عمار رضي الله عنه : "«إِنْ عَادُوا فَعُدْ»" ، وإن كان الأمر فيه أمر إباحة وإرشاد فليس الواجب ولا المندوب ، خلاف الحال في تَعَاطِي الخنزير أو الميتة إذا عاودت المخمصة فَيُقَالُ لصاحبها أيضا : عُدْ ، لا عود إباحة بل عود إيجاب يأثم إن خالف عنه ما لم يكن ، كما تقدم ، معارض أرجح .

    فَتَعَاطِي الرخصة في حق الآحاد يدور بين الإسقاط الذي يستبدل فيه حكم طارئ بآخر هو الأول الثابت لا نسخا وإنما ضرورة تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا فإذا ارتفعت رجع الحكم إلى الأصل عزيمة محكمة ، فيدور تعاطي الرخصة في حق الآحاد بين الإسقاط آنف الذكر ، أو الترفيه الذي لا يسقط فيه حكم الأصل وإنما أُبِيحَ ضده ضرورة تقدر بقدرها ، كما الإكراه على الكفر فإن حكمه الأول لم يرتفع ، ولو حال الترخص ، فهو محرم أبدا ، وإنما كان من الرخصة ما أباح لآحاد من العامة ، وإن نُدِبَ الاستمساك بالأصل كما صنع بلال ، فذلك المندوب في الجملة ، وإن بَلَغَ حَدَّ الإيجاب في مواضع كما العالم أو صاحب الرياسة المعتبرة في الخلق فَيُخْشَى من تَرَخُّصِهِ فِتْنَةٌ تعم بها ينقض الدين أو يُبَدَّلُ ذريعةَ التخفف والترخص ، فلا تكون رخصة في ذلك إلا لآحاد الخلق دون العالم وصاحب الرياسة المتبوعة .
    وهو ما يجري في الربا كما سائر الأحكام ، فَثَمَّ منه ما يجري مجرى الرخصة حال الضرورة ، فهو من المحرم لذاته ، كما ربا النسيئة مثالا تقدم ، فلا يباح إلا لضرورة أعلى لا لحاجة أدنى ، وثم منه ما أَجْرَاهُ بَعْضٌ مَجْرَى العارية استثناءً من أصل يجاوز الضرورة إلى الحاجة ، كما قِيلَ مثالا في بَيْعِ التَّوَرُّقِ ، فيشتري آجلا ويبيع عاجلا بِثَمَنٍ أقل ، فأباحه بَعْضٌ ما لم يبعه إلى من اشتراه منه ، بادي الرأي ، فذلك الربا الصراح وإنما كان المبيع حيلةً فهو قَنْطَرَةٌ يُجَاوِزُهَا المال من المقرِض بالربا إلى المقترِض ، خلاف ما لو اشتراه بآجل وباعه على آخر مع انتفاء شبهة التواطؤ بين البائع الأول ومن يَشْتَرِي بَعْدًا فلا يكون بإيعاز من الأول فَتَخْتَلِفَ الشخوص وَتَتَّحِدُ القصود فهو يشاركه في تجارة أو يواطئه في الجناية نَظِيرَ عوضٍ يُبْذَلُ لَهْ أن يكون هو القنطرة التي تُحِلُّ الحرام فمثله في هذا الموضع كَمَثَلِ التَّيْسِ المستعار في إباحة الفروج ، فَأَبَاحَ بَعْضٌ التَّوَرُّقَ ، على التفصيل آنف الذكر ، وحرمه آخر سَدًّا لذريعة الربا أَنْ يُسْتَدْرَجَ بَعْدًا كما حال الربا فمن قارفه مرة بعد أخرى عَسُرَ عليه أن يُفَارِقَ فَهُوَ من دَيْنٍ إلى آخر ، فَعَاقِبَتُهُ القل وإن كَثُرَ في يده النَّقْدُ ، فحرَّمه بَعْضٌ سدا للذريعة ، وَتَوَسَّطَ آخَرُ فأباحه حَالَ حَاجَةٍ لا تبلغ الضرورة فَهُوَ بَيْعٌ في الجملة يَصِحُّ بالقيد آنف الذكر ، أَلَّا يَبِيعَهُ عَلَى مَنِ اشْتَرَاهُ منه ، ولكنه ، من آخر ، مما يُتَّخَذُ ذريعة إلى الربا المحرم ، فإذ نُهِيَ عنه سدا للذريعة فهو مما يُبَاحُ لحاجة لا تبلغ حد الضرورة لا لِتَفَكُّهٍ بِفُضُولِ المباح كما البلوى قد عمت في جيل متأخر قد صَيَّرَ الاستهلاك عادة بها يتوسع ، وذلك ، كما تقدم ، باب من الفقه يدق ، وهو مئنة حكمة في التشريع إذ ينظر في القرائن المحتفة ، وذلك مما وجب على صاحب الفتوى ، فلا يُفْتِي وَلَمَّا يَتَصَوَّرِ النازلة فيكون له من العلم بأحوال زمانه وما استحدث من البيوع والحيل ! ، وما يظهر من حال المستفتي أهو صاحب ضرورة أو حاجة ، أم هو راغب في توسع وَتَرَفُّهٍ ، كأن يَسْتَفْتِيَ مُسْتَفْتٍ فِي بَيْعِ التَّوَرُّقِ آنِفِ الذكر ، ويجد المفتي من القرينة أنه صاحب ضرورة أو حاجة فَيُفْتِيَ له بالإباحة فتلك ، من وجه ، من مسائل الخلاف السائغ لا البعيد أو المهجور ، وهي ، من آخر ، ما لا يطلق ، ولو ضرورةً أو حاجةً ، بل يكون من فِقْهِ المفتي وإن كان يَعْتَقِدُ الإباحة المطلقة ، يكون من فِقْهِهِ أَلَّا يُفْتِيَ بالحلِّ مطلقا سدا لذريعة التوسع في فضولِ معاشٍ تُوقِعُ صاحبها تاليا في هوة الدَّيْنِ الذي لا يَزَالُ يعظم ويتراكم فيلجئه آخرا أن يقترض بالربا ليسدد إذا لم يجد من عليه يَتَوَرَّقُ ، فيفتي المفتي بالحل المقيد بالضرورة أو الحاجة وإن اعتقد مطلق الإباحة ، فإذا وجدا ابتداء من القرينة ما يُرَجِّحُ أَنَّ السائل ليس ذا ضرورة ولا حاجة فهو يروم التَّرَفُّهَ والتوسع فيكون من الفقه أن يفتِيَه بالتحريم وإن كان يعتقد الإباحة ، فَيُفْتِيهِ بخلاف مذهبه ويأخذُه بالعزيمة لا الرخصة سدا لذريعة الوقوع في المحرم ، فمن الفقه ، كما تقدم في موضع ، من الفقه النظر في حال المستفتي وما يحتف بها من قَرَائِنَ كما المثل أبدا يضرب بفتوى ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أَلَّا تَوْبَةَ لقاتل في مجلسٍ ، وَأَنَّ له توبة في آخر ، فَرَاعَى في كلٍّ حَالَ المستفتي فالأول ينوي القتل بما لاح في عينه من شر فَلَمَّا يَقْتُلْ بَعْدُ فكانت الفتوى له زاجرة تمنع ، والثاني قد قَتَلَ وجاء يسأل نادما فالحكمة ألا يُقَنَّطَ من الرحمة ، فَثَمَّ من التوبة ما يقبل على تفصيل في توبة القاتل خاصة إذ ثم حقُّ مقتولٍ لا يمكن استدراكه وإن عَفَى أولياء الدم أو قَبِلُوا الدية طوعا لا كرها ، فَحَقُّ المقتول في نفسه لم يسقط أبدا ، وذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ذلك مما إليه المرد يوم الحشر إذ يحكم الديان ، جل وعلا ، بين الخصوم ، فَيُقْتَصُّ من القاتل للمقتول وإن قُبِلَتْ توبة الأول ، فلا ينفك الثاني يَسْتَوْفِي منه ما فات من حقه حسناتٍ أو يَعْفُوَ بما يجد من جزاء أعظم على تفصيل في القول في هذا الجرم العظيم الذي عمت به البلوى في الجيل المتأخر مصداقَ ما أخبر به صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يكون آخر الزمانِ بين يدي الساعة .

    والله أعلى وأعلم .


  7. #7
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    والربا يضعف بنيان المجتمع ، فلا يقتصر ضرره على الثروة ، فذلك أول ما ينال من المجتمع ، فإنه يحكي عناوين رئيسة في فساد الاعتقاد والأخلاق ، إذ انصراف المرابي إلى جمع المال واحتكاره مع رغبة جامحة أن يذل الخلق ويخضعهم ، مَعَ مَا تَلَا مِنْ إِخْضَاعِ الدول والممالك أن تكون أداة بها رءوس الأموال تحكم ، فقد جمعت المال بما تَبْذُلُ من قرض الربا ، وَتُخَاطِبُ في النفوس غَرَائِزَ الجمعِ والاستكثارِ ، وَالتَّرَفُّهِ والاستهلاكِ ، فَاسْتَجَابَ الخلقُ لِدَعَايَتِهَا وَاقْتَرَضُوا وَأَنْفَقُوا بلا عائد ، فلم يكن مِنَ الإنفاق ما يَنْفَعُ الخلق في مَعَاشٍ أو معادٍ ، مع أول لا ينفك الجمع ، إذا خالف عن جادة الوحي ، لا ينفك الجمعُ عنه يغفل ، فذلك رائد الصدق من خبر الوحي الذي يحمل النفوس أَنْ تَرْقُبَ وَتَحْذَرَ ، فالله ، جل وعلا ، يَرَى وَيَسْمَعُ ، وذلك مما الخلق به يَتَهَكَّمُ إذ استزلهم الشيطان فأنساهم الذكر الذي جاء يبين عن الحقائق والغايات ، فكان منه أول في الاعتقاد توحيدا به القصد ينصح ، فلا يتحرك ، ولو في مباحٍ أو لذةٍ ، إلا وثم قصد ونية ، وذلك من آي السداد في القول والعمل ، فإذ غاب هذا القصد ، وهو مما أَفْسَدَ الجاحدُ المنكرُ والبلوى به أَعْظَمُ إِنْ كان ذا ولاية في الخلق تَعُمُّ ، فلا يحكم الخلق وَيُقَيِّدُ الجمع إلا أن يُنْسِيَهُمْ ذِكْرَ الله ، جل وعلا ، لا جرم كانت عناية المبدِّل والمحرِّف أن يطمس على آي من الوحي تحكي المآل بعد الموت دَارًا آخرة فيها الجمع يختصم وفيها الحاكم الحق يَقْضِي بين الخلق فيما اختلفوا فيه من القول والعمل ، فذلك العموم الذي حكاه الموصول "مَا" في الآي المحكم ، فـ : (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، فَثَمَّ من الموصول نص في الباب قد استغرق الخصومات كافة ، وهو ما زِيدَتْ فِيهِ الكينونة الماضية إطنابَ مبنى يحكي آخر من المعنى ، فهو آكد في الدلالة من القول في غَيْرِ التَّنْزِيلِ : فيما اختلفوا فيه ، مع ما لِلْكَيْنُونَةِ من دلالة أخص إذ تحكي ديمومة الوصف فذلك مما عَمَّ ، أَيْضًا ، فاستغرق ما كَثُرَ وَاتَّصَلَ من الخلاف ، وهو ما ينصرف ، بادي الرأي ، إلى الخلاف المعتبر مما لا يسوغ ، فتلك مسائل الأصول من الاعتقاد والأحكام والأخلاق ، مع أخرى وإن ساغ فيها الخلاف فلا ينفك الحق فيها واحدا لا يَتَعَدَّدُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع تكثر ، ذلك مما بِهِ الرسالةُ تُخَالِفُ الحداثة إذ الأولى حكم من خارج يجاوز الهوى والذوق الذي يصدر عنه الخلق فيختلفون ، فلا يفصل في خصوماتهم إلا مرجع يجاوز من خارج ، إن فِي خلافٍ يسوغ في الفروع ، أو آخر لا يسوغ في الأصول ، فالوحي حاكم فيه بالحق في دار التكليف وبه قامت الحجة الرسالية الناصحة في مسائل العلم والعمل كَافَّةً ، وَالرَّبُّ ، جل وعلا ، قَاضٍ فيه بين الخلق يوم الحشر ، فكان من المسائل أصول تَعْظُمُ ومنها في الاعتقاد يوم آخر من تمثله فهو له وَازِعٌ أن يَجْحَدَ أو يَظْلِمَ ، وأخرى في الأحكام رِبًا من عَلِمَ عاقبته في الأولى والآخرة فَصَدَّق الوحي فِيمَا أخبر فلا يُقَارِفُهُ إلا ضرورة تقدر بالقدر فهو من أعظم ما حُرِّمَ إذ النهي إلى ذَاتِهِ قد تَوَجَّهَ ، فَابْتُلِيَ الخلق أن يجتنبوه ، ولو كان من من الكثرة في المبدإ ما يُزَيِّنُ ، فهو إلى قِلٍّ في الأولى والآخرة ، وثالثة في الأخلاق تُهَذِّبُ ، فَالرِّبَا ، كما تقدم في مَوَاضِعَ ، لا يكون إلا عن شُحٍّ وَأَثَرَةٍ قد ابتلي الخلق أن يحسموا مادتها أو يحكموا لجامها فيدفعوا منها قدر الطاقة ، فإن النفس قُلَّبٌ لا تَثْبُتُ على حال وسياستها أن تَنْطِقَ بصدق وتحكم بعدل ، ذلك من أشد ما ابْتُلِيَ به الخلق إلا من رحم الله ، جل وعلا ، فأحسن يسوس نفسه ويحكم لجامها فلا تطغى ، وكان من شدته أن يكظم ويملك ، فلا يفلت الزمام من يده ، ولا يكون ذلك إلا أن يُؤْمِنَ بآخرة فِيهَا الجزاء العدل واستيفاء ما فَاتَ مِنْ حَقٍّ ، وهو ما يحمل العاقل أَلَّا يَظْلِمَ ، فَثَمَّ دَارٌ أخرى تُجَاوِزُ الشَّهَادَةَ ، كما الوحي مَرْجِعٌ يجاوز العقل ، فالحكم به أول في الدنيا ، وما فَاتَ فهو فِي الآخرة يُسْتَوْفَى فلا يُغَادِرُ صَغِيرًا أو كبيرا من قول أو عمل ، وذلك عموم آخر قد حكاه الوحي ، فكان من استفهام من أَجْرَمَ وهو خائف يُشْفِقُ ، فـ : (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ، فَثَمَّ من النَّكِرَاتِ ما ورد في سياقِ النَّفْيِ فَأَفَاَد العموم ، من هذا الوجه ، وثم من طباقِ الإيجاب بين الصغيرة والكبيرة ، ثَمَّ منه ما استوفى أَجْزَاءَ القسمة في الخارج ، وَكُلُّ أولئك من عموماتٍ تُزَكِّي فِي النَّفْسِ المحاسبةَ والمراقبةَ ، فلا تكون حركة ولا سكنة إلا وَثَمَّ قَصْدٌ وَنِيَّةٌ ، إِنْ فِي فُرُوضِ الأعيانِ أو في فروضِ الكفايات أو ما زاد من المستحبات والمندوبات ، فالرسالة تَرْفِدُ النَّظَرَ إِذْ تُجَاوِزُ به الشهادة إلى الغيب ، وتحكي صدقا ما يكون بعد الموت ، فَصَحَّحَتِ العلومَ والمدارك مع مرجع يجاوز من خارج قد جاء بما يجزئ في الحكومات كافة ، ومنها أحكام الأموال ، محل الشاهد ، فكان من عنوانِ التكليفِ تَسْلِيمٌ وإن لم يدرك الناظرُ العلَّةَ ، مع ما نَصَحَ الوحي إذ جاء بما يواطئ صريح العقل في باب الحكومات المعللَّة ، فأجاب ، كما يقول بعض أهل الفضل ، أجاب عن سؤالات لماذا ، فَلِمَاذَا يَتَّجِرُ الخلق ؟! ، ولماذا يقترض بَعْضٌ مِنْ بَعْضٍ ؟! ، ولماذا يُقْرِضُ الغنيُّ الفقيرَ ؟! ، وإذا أقرضه بلا ربا فَمَا يَرُومُ من ذلك ؟! ، فلا تكون حَرَكَةٌ في الخارج إلا وَثَمَّ غَايَةٌ مِنْهَا قَرِيبٌ فِي دَارِ الشهادة أَنْ تَصْلُحَ ، ولو نَظَرًا يجاوز الحال إلى ما تَلَا فَلَا يَغْتَرُّ الجمع إذا كان له من خاصة الرشد أَنْ يُقَيِّدَ الْفَرْدَ فَلَا يَطْغَى ويظلمَ الجمعَ حقَّه ، ومنها آخر يَبْعُدُ فهو مما يجاوز الدار الأولى إلى الدار الآخرة ، فيروم المقرِض من تفريج الكرب في الشهادة تَفْرِيجَ آخر في الغيب ، كما الأثر المحكم قد أَخْبَرَ ، إذ الكرب أشد وأعظم إلا من رحم الرب المهيمن ، جل وعلا ، فتلك أصول بها امتازت المثل الرسالية من أخرى حداثية ، فَثَمَّ سؤالُ النِّيَّةِ والقصدِ وهو أول قبل الشروع في قَوْلٍ أو فِعْلٍ ، فالمال واحد في أعيانه وأنواعه ، وإنما اختلفت المثل ، مُثُلُ الاتِّجَارِ والإقراضِ والاستثمار ، وَمَرَدُّهَا ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظر ، إلى قصدٍ أول يجيب عن سؤالات القيم والمبادئ ، والغايات والمقاصد ، لا جرم كان من مُثُلِ الحداثة المتأخرة ما حَادَ عن هذه الجادة ، فلا تَشْتَغِلُ ، أبدا ، بِالْعِلَلِ الغائية للأشياء إذ لا تَرُومُ إلا الانتفاع المجرد وهو ما يُبَاشُرُ بالمدارك الظاهرة ، لَذَّةَ جَسَدٍ وجمعَ مالٍ وسلطانَ ولايةٍ بها يظلم الخلق فيضرب بَرَّهُمْ وَفَاجِرَهُمْ بالسيف ، كما في الخبر المحكم ، وذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ذلك عنوان الخروج الذي يجاوز الاصطلاح القياسي في كتب المقالات والفرق ، أو هو مما يُبِينُ عنه بَيَانًا أوفى ، فالخروج حكاية أخرى بها يُتَّهَمُ الوحيُ فلا يخلو الطَّاعِنُ فيه من هوى وحظ نفس ، إذ الوحي يخالف عما استحسن بمدارك حس تقصر فهي مما نَقُصَ جِبِلَّةً فلا يَبْرَأُ من وصمة الحاجة والفقر مع ما كان أولا من الجهل الذي يفضح الرأي ، فإعجاب صاحبه به آية طغيان إذ خَرَجَ على الوحي بالهوى والذوق ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، أَفْحَشُ في القول وَأَضَرُّ في الفعل من الخروج على سلطان الحق بِغَيْرِ حَقٍّ ، تَأَوَّلَ صاحبه فكان الباغي المعذور أو لم يتأول فكان الباغي الفاجر الذي جَمَعَ إلى فساد الفعل والقول ، فَسَادَ القصدِ ، فالأول ممن اجتهد وهو الاجتهاد أهل ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَمْ يُصِبِ الْحَقَّ مع ما قد يحصل في النفوس من هوى وحظ يجعل التأويل في مواضع : تأويلا فاسدا لا عذر فيه باجتهاد ، مع ما قد يكون لصاحبه من قَدَمِ سَبْقٍ في الحق وحسنات تمحو ما اقْتَرَفَ مِنَ الإثم فَلَيْسَ يُعْصَمُ فِي قولٍ وَلَا عمل ، وليس من شرط العدالة والتوثيق في ميزان الجرح والتعديل ، ليس من شرطهما العصمة وإلا ما كان واحد في الدنيا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إلا الأنبياء ، عليهم السلام ، فكان من الخروج على آي الوحي ما أفسد الدين والدنيا كافة ، بما كان من شؤم الظلم في الحقوق بما يستباح من الحرمات ، فالمرَابِي ، من هذا الوجه ، خارج على الجمع إذ قد خالف عن حكومة الوحي فاستباح ما حَرُمَ من المال كما الخارج بالسيف قد استباح ما حَرُمَ من الدم ، وهو ما يصدق في آحاد من الرعية ، بل ويصدق في ذي الولاية السياسية والقضائية ، فيخرج على الجمع ويستبيح منهم الدم والمال ، فهو الْبَاغِي الذي يستوجب الدفع بما تَقَرَّرَ في أحكام البغي وهي كسائر الحكومات المجملة مما قد عمت به البلوى إِنْ إِفْرَاطًا يجاوز فلا يَعْتَبِرُ ما اعْتَبَرَ الشارع من المصالح والمفاسد ، أو تفريطا يجفو في فريضة الأمر والنهي احتسابا يحسم مادة الجور فلا يطمح بَاغٍ من ذي رياسة أو جاه أو مال ، أو قوة بها يخرج على الخلق ، كما المحارب الذي يقطع الطريق فيصدق فيه ، ولو بعضا ، أنه خارج على الجمع بالسيف ، كما الحاكم الجائر إذا استباح من الدم ما قد عُصِمَ ، فهو كالمحارب القاطع بل ضرره في الناس أعظم بما له من سلطان يَنْفُذُ ، وكذا ما آلت إليه الحال في الربا محل الشاهد ، فثم من نُظُمِ النقد والتجارة ما به الحاكم يخرج على الوحي الذي حَرَّمَ الربا ، فـ : (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، فخالف عنه الحاكم وأجرى من ضِدٍّ طوعا أو كرها ، أو ضَنًّا بملك فهو يخشى رأس المال الذي احتكر الأسباب وصارت له الكلمة في التَّوْلِيَةِ والخلعِ ، فمن لم يطع الأمر وإن خالف عن النقل والعقل كافة ! ، فأضر بالدين والدنيا ، من لم يطع فلا طاقة له بِرَأْسِ المال وجنوده ، وليس له من الصحب ما لطالوت إذ ظَنُّوا لقاءَ الحقِّ ، جل وعلا ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا والوحي حاضر في النفوس ، الأفرادِ والجموعِ ، مَعَ حكومةٍ له تجاوز ما يَتَبَادَرُ من أمر ونهي يُبَاشَرُ في باب التكليف فَثَمَّ روح الرسالة التي تجاوز بالعقل مدارك الحس ومعايير الحسن والقبح التي أُحْدِثَتْ وبآي الوحي قد اسْتُبْدِلَتْ فصارت هي المرجع وعنها الحاكم والمحكوم يصدر ، ولو كِنَايَةً لا تُصَرِّحُ ، فقد نشأ الجيل على المحدثة أنها الحق المحكم فَصَارَ يُنَافِحُ عَنْهَا وَيَدْفَعُ وإن كان فيها نَقْصُ أُولَاهُ وَفَسَادُ أُخْرَاهُ ، فَتِلْكَ حال كحالٍ أولى عالجها ابن عبد العزيز العادل إذ شب فيها الصغير وشاب عليها الكبير ، فانقلب الحق باطلا والباطل حقا لا في مقال الحكم والسلطان وإنما سَرَى ذلك إلى الوجدان ، وجدانِ الجمعِ الذي ضَعُفَ فلم يدفع الصائل الذي غَزَا واحتل من خارج ، ولم يدفع آخر قد خرج على الجمع فاستحل الدم والمال ، وكان من الربا ، محل الشاهد ، ذريعة بها أفقر الخلق إذ نَقَصَ المالُ وضاقَتِ الأرزاقُ والتجاراتُ ، ولا يخلو ذلك ، لو تدبر الناظر ، من فسادٍ تَقَدَّمَ في المرجع والمصدر ، لا جرم كان من خروج أول ، فلم يخرج على الخلق إلا وقد خرج على الوحي أولا ، فكان من جحد الحكم الرسالي واستبدال آخَرَ حَدَاثِيٍّ به ، مع طعن في النقلة من الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، فَمَنْ تَلَا تَوَسُّلًا إلى الطعن في الرسالة التي خَرَجَ الجائر على حكومتها ، فكان من بَلْوَى أعم في جيل قد تَأَخَّرَ ، كان مِنْهَا مَا جاوز الفتنة الأولى ختام الراشدين ، وما تلا من خروج الخارجين ، إن بَغْيًا لم يجاوز حد السياسة والحرب ، أو آخر قد جاوز فخاض في مسائل أسماء وأحكام من كفر وإيمان هي مَبْدَأُ الافْتِرَاقِ في هذ الأمة ، فكان من البلوى في جِيلٍ قد تَأَخَّرَ فلم يكن له من فضيلة الزمان وتحري العدل في الخصومات ما للجيل الأول كما يضرب بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثلَ بالحجاج المبير وقد سُئِلَ بَعْضُ مَنْ سَلَفَ عن الصلاة خلف الخارجي المبتدِع ، فأجاب أن صلينا خلف الخارجي سبعا عجافا ! ، فأراد الحجاج وهو ذو الولاية الجائرة مع ما له مِنْ حَسَنَاتٍ مغمورةٍ في بحار مِنَ السَّيِّئَاتِ المذمومة ، فقد خالف عن الأمر الأول ، ولم يكن على جادة في الحكم تُحْمَدُ ، فَخَرَجَ على أهلِ المحلةِ بسيفِ جورٍ واستباح من الدم والمال ما ليس بحق ، فكان من وصف الخارجي ما فيه قَدْ صَدَقَ ، وإن لم يكن الخارجي في اصطلاح المقالات والفرق ، فلم يفارقهم في كثيرِ فعلٍ وإن كان لهم في الميدان العدو والخصم ، فواطأهم إذ خرج على الأمر الأول ، واستبدل به آخر وإن تَأَوَّلَ له كما تأول الخوارج ، فكان على طريقة من النَّصْبِ تواطئ الجفاء في باب المحبة ، محبة آل البيت رضي الله عنهم ، في مقابل ما كان من غلو فيها لدى من تَشَيَّعَ ، وثالثة هي الأعم ! ، ثالثة الخوارج إذ جفت فِي حق الصدر الأول كافة إلا ما كان زَمَنَ الشيخين ، رضي الله عنهما ، ومن مات قبل الفتنة ، فَأَشْبَهَ الحجاجُ الخارجينَ عليه إذ أَسْرَفَ كما أَسْرَفُوا في القتل والسفك ، فَغَايَتُهُ أن يواطئهم في الحكم وذلك مما به العذر في الحكم لا في رفع الإثم والذم ، وإن كان من أمرهم ما يُرَدُّ إلى الله ، جل وعلا ، فيصدق فيهم ما يصدق في صاحب الكبيرة التي تَعْظُمُ ، فهم تحت المشيئة ، وإن كانوا من أصحاب الوعيد بما انتهكوا من حرمات الدم والمال ، وما خالفوا في مسائل من الاعتقاد ، ولو في بابِ ولايةٍ وحكمٍ وهو مما يكون أولا في الفقه ، فلم ينفك خروجهم على الجمع بما كان من ظلم وجور لا ينفك يأرز إلى اعتقاد وتصور فهو أبدا سَابِقُ الحكمِ الذي يُصَدِّقُ في الخارج ، سواء أكان الاعتقاد الخارجي الأخص الذي سُطِرَ في كتب المقالات والفرق أم كان اعتقادا كاعتقادِ الحجاج في طاعة الملوك إذ جاوز الحد مع ما أُثِرَ من حاله إذ نَصَبَ العداوة لآل البيت تَشَيُّعًا لعثمان ، رضي الله عنه ، وبني أمية بَعْدًا ، فلم يخل في حكومة العراق وهي شيعة علي ، رضي الله عنه ، لم يخل من نَفَسِ نَصْبٍ حَمَلَهُ على آخر من الخروج بما أسرف من قتل ومصادرة ، وما كان من تال يذكره بعض من حقق آيةَ خروجٍ تَلْطُفُ ، فلا ينفك صاحبها إذ يخرج عن الوحي ، وَإِنْ تَأَوَّلَ أنه على الحق إن إسرَافًا في المقال الباطن كما كان بَعْدًا في جيل قد تأخر إذ قد بَعُدَ العهد من الوحي فعظم الجهل وفحش القول الباطني الذي خالف عن المعلوم الرسالي الضروري ! ، فكان من ذلك خروج على الوحي إذ خرجوا عن محكمه وتأولوه بما بطن من حكمةٍ أولى محدثة هي الوثن في الفكرة إذ لا سَنَدَ لها إلى وحي أو نبوة ، وهو ما تأوله المقال الإسماعيلي الباطني مثالا ، فتأوله في المغرب ثم مصر سَيْفًا به استحل الدماء مع ما احتكر من المال ، فَعَظُمَتْ به البلوى كما الخارجِيُّ في كلِّ جيلٍ ، بل كان من خروجهم ما هو أفحش من الخروج المعهود في اصطلاح المقالات والفرق لا جرم أفتى بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ من المالكية في المغرب أَنْ يُنَاجَزَ القومُ ، ولو تحت لواء خارجي ، مخلد بن كيداد اليفرني الذي خرج على القائم الفاطمي في المغرب مثالا ، فكان من تراجح المفاسد أن يخرج الجمع مع خارجي أهون من آخر ! ، وإن صَدَقَ في كلٍّ وصفُ الخارجي المارق إِنْ بَاطِنِيَّةً تغلو في الخروج عن محكم الوحي أو أخرى تخالف فهي تَقِفُ على الظاهر مِنَ الألفاظ ، كما كان من الخوارج الأوائل ، دون نَظَرٍ في القرائن ودون جمع لطرق بها الاستدلال يكمل صورةً في الذهن تحصل وبها استيفاء الألفاظ والمعاني فَتُجْمَعُ الأخبار وبها تأويل ما أجمل من الآي التي زعم الخوارج الوقوف عليها دون آخر من الآثار يفسر إذ كان من الغلو في الخروج على الصدر الأول أَنْ كَفَّرُوا الجمع فكيف يُقْبَلُ منهم خَبَرٌ يُبِينُ عن الحق ، وهو ما اطرد في مقالِ كلِّ خارجِيٍّ ، على تفاوت في ذلك ، فتكفير الصدر الأول ممن خاض في الفتنة أصل في الخروج الأول ، ولا تنفك آثاره ، كما يقول بعض من حقق ، لا تنفك آثاره تظهر في كل خروج على الجمع ، فكان من المقال الإسماعيلي الباطني تصريح لا يكني في هذا الباب بما استعلن من سَبِّ الصدر الأول بل ثم من جاوز فاستعلن بِسَبِّ النبوات فكان من ذلك ما يُغْنِي عن الجدال والاعتذار ! ، وهو ما وقع الحجاج فيه ، ولو بَعْضًا دون أولئك فالعدل بذا قاض فلا يستوي بداهة ، وهو الناصبي ، لا يستوي هو والخارجي الأول الذي أسرف في الباب فجاوز النصب والعداوة إلى التكفير المصرح ، ولا يستوي من باب أولى مع الإسماعيلي الباطني الذي جَمَعَ كلَّ سَوْأَةٍ في القول والعمل ، في التصور والحكم ، فكان من المعنى الجامع ، وإن على تَفَاوُتٍ ، فكان منه القدح في الصدر الأول بَعْضًا أو كُلًّا ، مع ما أَحْدَثَ في المقال ما ليس منه فامتحن الخلق عليه بحد السيف ، وتلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ سَلَفَ ، تلك آيةٌ في كلِّ محدِث في الأمر ما ليس منه ، إن في الاعتقاد أو في الشريعة أو في السياسة أو في المال ، كما الربا مضرب المثال ، فمن أحدث فهو يجاوز ما قد نَزَلَ من الوحي المحكم ويستبدل آخر به فيكون من انْتِقَالِ المركز ، مركز التصور والحكم ، من السماء إلى الأرض ، من الرسالة إلى الحداثة ، من الوحي إلى الوضعِ ، فإذا جاوز عاصيا وهو الأدنى أو مُسْتَبِيحًا وهو الأفدح مع ما استوجب ذلك من نَقْضِ الأصل الأول ، أصل الإيمان الجامع ، مع ما يُسْتَصْحَبُ حالَ الحكم في الأعيان من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع في باب الأسماء والأحكام وما يُعْتَبَرُ من الأعذارِ من الجهل والتأويل .... إلخ وما لا يُعْتَبَرُ ، فَإِذَا جاوز العاصي أو المستبيح إذ جاوز المرجع الرسالي المحكم الذي يقضي من خارج ويجاوز العقول والمدارك فَيَعْلَمُ أولا بما تَقَدَّمَ من تقدير محكم ، وهو من علم الإحاطة إذ استجمع الأعيان والأحوال كافة ، فَجَاوَزَ العاصي أو المستبيحُ ، جَاوَزَ مركزَ الوحيِ والنبوة فالعقول له أَطْرَافٌ بِأَمْرِهِ تَعْمَلُ ولحكمه تخضع في كلِّ جليل ودقيق من الأمر ، فَانْقَلَبَ المعيارُ وَفَسَدَتِ التَّصَوُّرَاتُ والأحكام ، إذ خَالَفَ صاحبها عن المنقول والمعقول كافة ، وصار المركز المحكم طرفا يَتَشَابَهُ فلا يصيب الحق في نفس الأمر ، وإن أصابه قَبْلًا في أعصار البداوة فلا يصيبه بَعْدًا في أعصار الحضارة ، فغايته أن يُصْلِحَ ما تقدم فهو من تاريخ يُؤْثَرُ وله في الجنان وصف يُحْمَدُ لا يجاوز حد التعظيم المجرد دون أن يكون له في الخلق حكم يُلْزِمُ إلا ما استعير اختيارا أو اضطرارا ! ، فيكون من روحِ أخلاقٍ وَقِيَمٍ هي مما أجمع عليه العقلاء كافة ، مَبَادِئَ لا امتياز فِيهَا بين الرسالة والحداثة ، بل ثم من مسمى أخص يُبِينُ عن فَارِقٍ يعظم وإن اتحد الاسم ، فالعدل والحرية .... إلخ مجملات في الذهن يتأولها كلٌّ بما يواطئ الهوى والذوق فلا تنفك تطلب المبيِّن المحكَم وشرطه أبدا أن يجاوز الأذهان من خارج ، فيحد منها معان محكمة تَقْضِي في أَقْيِسَةِ العقولِ ومواجيد النفوس فتلك المتشابهات التي صَيَّرَهَا أصحابها المحكَمَ الذي يَقْضِي في غَيْرٍ فهو المتشابه الذي يقبع في طرف ، فلا يَنْفَكُّ يخضع لمركزٍ من التصور والحكم محله كلُّ أحدٍ يحكم أو يملك ، فصاحب القوة إذ بَغَى وَخَرَجَ على الجمع بسيف يقتل ويجرح ، وصاحب المال إذ بَغَى فخرج على الجمع بِرِبًا يفحش وَيُفْقِرُ بما يفضي إليه من احتكار وَدُولَةٍ بين أغنياء هم القلة ، فيكون من أعيانهم وأموالهم نواة تصلب وما حولها قد ضَعُفَ وَتَفَتَّتَ وإن كثيرا فغثاءً كغثاء السيلِ ، كما الخبر المحكم ، فكان من استيلاءِ قليلٍ على كثير بما استجمع من أسباب القوة والمال ، وبها صاغ الفكرة التي تُبَرِّرُ ، وهي لمن خَضَعَ تُؤَطِّرُ على جادة لا تخالف عن هوى الملأ المحتكِر ، وهي ، من وجه آخر ، لمن خالف تستأصل ، وذلك ، أبدا ، عنوان الخروج ، ومنه خروج المال إذ يحترف الربا فيخرج عن مقاصد الوحي وحكوماته النافذة ، فالخروج ، كما تقدم ، عنوان يجاوز المعهود المتبادر من اصطلاح الأسماء والأحكام في كتب الفرق والمقالات ، فَثَمَّ ، مع القدر الفارق بداهة ، ثم الخروج الذي يصدق في كلِّ مخالفة عن الوحي ، فهي خروج عن الأمر والنهي وهو مما به البلوى تعظم في مسائل العامة من الحكومات في الدماء والأموال وسائر الحرمات .

    والله أعلى وأعلم .


  8. #8
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    ومن ذلك الخروج عن الحق ما يكون على لسان التنزيل ، كما الحال في الجيل المتأخر ، فكان من ذلك ما عمت به البلوى في كل عصر ، وكلما باعد أهل المحلة أو المصر عن معدن العربية لسانا يَنْطِقُ لَا نَسَبًا يَتَسَلْسَلُ ، وكان من آخر عن جيل النبوة الأول ، إذ بَعْدًا قد فَشَا اللحن وفسد اللسان العربي ، فكلما كان ذلك مباعدةً من لسان العرب نطقا أو وصفا ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ العلمَ الواصف ، فَكَانَ مِنْ ذلك ما حَفِظَ صورة الرسم وما يكون من شَكْلٍ وإعرابٍ وما يكون من تجويد في التلاوة ، وَكُلُّ أولئك مما دُوِّنَ بَعْضُه في باب المعاني التي تُسْتَنْبَطُ ، وَحُرِّرَ بَعْضُهُ تَوَاتَرًا في القراءة ، وبه حفظت المباني التي تُنْطَقُ ، فكلما باعد الناظر كان اللحن الفاسد في النطق والكتب بما يهجر من النحو والإعراب ، وما يكون تاليا من طرائق الْبَيَانِ وبها المعاني تُحَرَّرُ ، فيستبين الناظر مراد الكلام العربي وأشرفه ما يكون من الوحي الرسالي إذ به صلاح المحالِّ الأشرف من الجنان والأركان كَافَّةً ، وبه السعادة والنجاة , فاللسان العربي آلَتُهُ فِي الْبَيَانِ والإفهامِ ، وإن كان ثم من الحقائق الاصطلاحية الأخص إن في الشرع أو في العرف ، وإن كان ثم منها ما زِيدَ فِيهِ من الدلالة ما قَيَّدَ ، كما تقدم في مواضع من كلام أهل الشأن في باب الحقائق أَنَّ الحقائق الدينية حقائقُ لسانيَّةٌ مقيَّدَةٌ قد أُطِرَتْ على معنى دون آخر ، فَزِيدَ فيه أو نقص ، وصار الاسم الْعَلَمَ عَلَى حقيقة في الاصطلاح أخص ، كما الربا محل الشاهد ، فَثَمَّ من اسمه في اللسان عنوانُ زيادةٍ تُطْلَقُ قد استغرقت المحسوس والمعقول كافة ، فكان من زِيَادَةٍ فِي الأرضِ إذ تَرْبُو بما يكون من الزَّرْعِ ، فخروجه منها زِيَادَةٌ إذ يجاوز تُرْبَتَهَا ويكون من سَاقِهِ وَوَرَقِهِ وما يُحْمَلُ مِنْ ثَمَرِهِ ، يكون من ذلك زيادةٌ في الحس ، فـ : (تَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ، فكان من الرؤية اعتبار في العلم لا جرم تَعَدَّتْ إِلَى اثْنَيْنِ ، وَثَمَّ مِنْ شَرْطٍ قد حُدَّ لكثرة في المعنى ، فتلك دلالة "إِذَا" كما قَرَّرَ أهل الشأن ، ولا يخلو من دلالة ظرفية لها من التعليل وجه ، إذ كان من ظرف الْإِنْزَالِ : إِنْزَالِ الماء ما به الاهتزاز والإنبات يحدث ، آيةً بها الاعتبار في باب الرُّبُوبِيَّةِ خَلْقًا وَتَدْبِيرًا ، والبعث حشرا فَحِسَابًا فَجَزَاءً ، إذ من أَحْيَى الأرضَ وهي ميتة بما يكون من الماء ، فهو على إحياء الموتى يَقْدِرُ ، فالأرض هامدة لا حياة فِيهَا فَإِذَا نَزَلَ عليها الماء اهتزت بمبادِئِ حياةٍ إذ يُبَاشِرُ الماءُ البذرَ فَيُهَيِّجُ فِيهِ مَكَامِنَ النبت ، ثم يكون الإنبات من كلِّ زوجٍ بهيج ، وتلك آية أخرى في الخلق بها استبان الخالق الفرد من سَائِرِ الخلق ، فالخالق ، جل وعلا ، واحد في الذات أَحَدٌ في الوصف فرد صمد فلا يفتقر إلى سبب من خارج إذ ثم من الغنى ما أطلق ، والمخلوق ، في المقابل ، زَوْجٌ يَفْتَقِرُ فيه واحد إلى آخر ، وتلك آية بها يستبين القدر الفارق بين الخالقِ المحدِث والمخلوق المحدَث ، فكان من الإنبات ما نُسِبَ إلى الأرض في قوله تعالى : (وَأَنْبَتَتْ) ، وهو ، عندَ بَعْضٍ يُثْبِتُ المجاز ، هو عنده من مجاز الإسناد ، إذ المنبِت حقيقةً هو الله ، جل وعلا ، فذلك من وصف فعله الذي يناط بالمشيئة ، وإن غَلَا أولئك بَعْدًا في هذا المعنى الصحيح حتى أفضت بهم الحال إلى إبطال الأسباب المشهودة أنها لا تُفْضِي إلى المسبَّب ، وإنما يكون المسبَّب عندها لا بها ، إذ مَرَدُّهَا جميعا إلى الله ، جل وعلا ، وذلك وإن صح في المعنى فلا يلزم منه ما الْتَزَمَ أصحاب هذه الدعوى إذ قَدْ خَلَقَ الله ، جل وعلا ، الأسبابَ وأجرى بها المقادير بما أُودِعَ فِيهَا من قوى الفعل والتأثير ، فَالسَّبَبُ يُفْضِي إلى المسبَّب لا أن المسبَّب يكون عنده لا به فيكون السبب أمارةً لا أكثر فتلك روح من الجبر قد سَرَتْ فِي مَقَالِ بَعْضِ مَنْ تَأَخَّرَ ، فكان من الكسب في باب الْقَدَرِ ما يُضَاهِي ، إذ لَيْسَ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ بِهَا يكون الفعل ، وإنما هي أمارة يَقْتَرِنُ الفعل بها فَيَكُونُ عندها لا بها مخالفةً للمعقول والمحسوس كافة ! ، إذ يَجِدُ كلُّ فاعلٍ من القدرة ما به الفعل أو التَّرْكُ يكون ، وَيُبَاشِرُ مِنَ الأسباب ما قد ثَبَتَ ضرورةً إِنْ بِالنَّقْلِ أو بالعقلِ أو بالحس والعادة كما في علوم التجريب ومنها مواجيدُ ضرورةٍ لا يُنْكِرُهَا إلا جاحد ، كما الأكل مثالا في الباب قد اشتهر إذ يحكي غريزة في الحس لا ينكرها عاقل ، فمن جاع فهو يأكل ولا يقول بداهة إن هذا المطعوم ليس سَبَبَ الشبعِ ، وإنما يحصل عنده لا به ، فذلك ما لا يقول صاحب القول بالكسب ، فضلا عن آخر يجحد الأسباب ، فهو مما خالف عن الأدلة كافة ، فالأرض تُنْبِتُ بِمَا رُكِزَ فِيهَا من قوى تَعْضِدُ ، فإذا وُضِعَ البذر فِيهَا اكتسب منها أسبابَ إِنْبَاتٍ بما يكون من امتصاصِ جزئيات تَنْفَعُ وبها التمثيل يَنْصَحُ إذ تَتَحَوَّلُ الأجزاء الصغيرة إلى أخرى مركبة ، مع ما يكون من طاقة بها الجنين يتحرك فيفلق الحبة مع ما يكون من آخر من السماء يَنْزِلُ ، فالجنين يمتص من الماء ما به البذر يَنْتَفِخُ وَيَنْشَقُّ ، فَيُغَادِرُهُ الجنين وَيَسْتَكْمِلُ ما قُدِّرَ له من زيادة وَرِبًا حتى يَسْتَقِيَم ساقا وَيُخْرِجَ أَوْرَاقًا وَثِمَارًا ، فكل أولئك مما يكون من جملة أسباب منها ما يكون في الأرض ومنها ما يَنْزِلُ من السماء ، فهي أسباب في الحس والشهادة بها الزوج البهيج يَنْبُتُ ، وبها الورق والثمر يخرج ، آيةً في التكوين والتدبير وهو ما يكون بأسبابٍ تُؤَثِّرُ لَا أَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بالتأثير فذلك الشرك في باب الربوبية وإنما تُؤَثِّرُ بِمَا أَوْدَعَ الخالقُ المدبِّرُ ، جل وعلا ، فِيهَا من قوى فَتَجْرِي عَلَى سَنَنٍ محكَمٍ ، وَإِنْ تَخَلَّفَ بَعْضٌ فذلك مما يدخل ، أيضا ، في حد الربوبية إِنْ إِنْفَاذًا أَوْ مَنْعًا ، فالقدرة ترجح الإنفاذ تارة فيكون الوجود كما الماء يُبَاشِرُ البذر فَيَزِيدُ وَيَنْشَقُّ ، وقد يَرْجُحُ المنعُ فَيَتَعَفَّنُ وَيَنْحَلُّ ، فلا يستكمل ما عُهِدَ من خلق وتكوين ، ويكون من المانع ما يحول دون الاستكمال ، كما النطف في الأصلاب والأرحام فقد يكون من المشيج ما يثبت ويستكمل ما عُهِدَ من أطوار الجنين حتى يولد ، وقد يجهض فلا يستكمل فيكون من المانع ما يحول دون تمامه ، وذلك قانون آخر يطرد في الأسباب ، إذ ليس السبب يُفْضِي إِلَى المسبَّب دون عواضد من خارج ، فلا بد من شرطٍ يُسْتَوْفَى ومانع يَنْتَفِي ، ولا بد مِنْ سَبَبٍ أَوَّلَ يَتَقَدَّمُ ، إليه السبب المشهود يَأْرِزُ فَيَكُونُ التسلسل من المشهود إلى المغيَّب ، وهو في نَفْسِهَ لَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى أول ، فذلك قانون يطرد في الأسباب كافة ، المشهود والمغيَّب ، فهي تَتَسَلْسَلُ حَتَّى تَبْلُغَ الأول فلا سبب له يَتَقَدَّمُ ، وإنما هو الأول المطلق ، وذلك ، كما اطرد في مواضع تكثر ، ذلك مما يصدر من كلمات تكوين تَنْفُذُ فهي تأويل ينصح إذ يحكي وصف الرب المهيمن ، جل وعلا ، خلقا ورزقا وتدبيرا .... إلخ ، فَثَمَّ من الإيجاب المرجِّح في الباب ما يكون بالوصف والكلمة لا بالذات ، كما زعم من زعم من أربابِ حكمةٍ محدَثة لم تهتدِ بهدى النبوة بل قد خاضت في الباب وهو الغيب فلم يُشْهَدْ ، خَاضَتْ فيه بمقاييس من العقل والحس وليس ثَمَّ مثال في الشهادة يُقَاسُ عليه فلم يَشْهَدْ أحد الخلق الأول لِيُرَجِّحَ في الباب مقالا لا يخلو من ظن وتخرص مع ما فَحُشَ فيه من الجنسِ المعطِّل ، جنس النفي الذي الْتَزَمَهُ الأوائل إذ جَرَّدُوا عِلَّتَهُمُ الأولى في الخلق ، جَرَّدُوهَا من الوصف والفعل ، فهي الموجِبَة بالذاتِ اضطرارا فلا إرادةَ ولا اختيارَ إذ لا علم ولا تَصَوُّرَ أول إلا العلم الكلي المجمَل ، فكان من حَدِّهَا ما غَلَا في التجريد حتى بلغ بها العدم فهي المطلق بشرط الإطلاق في الخارج ، وليس ذلك ، لو تدبر الناظر ، إلا المعدوم في الخارج فلا وجود له يَثْبُتُ إلا ما كان من الإطلاق المجرد في الذهن ، فلا وجود في الخارج يجاوز ، لا جرم كان هذا القول ذريعةَ إلحادٍ وانحلالٍ إذ يُفْضِي إلى إبطالِ الرب الخالق ، جل وعلا ، وهو ما يُفْضِي تاليا إلى إبطال الإله الحاكم ، فتبطل الكلمات كافة ، الكونية والشرعية ، ويقترح كُلٌّ ما يواطئ الهوى والذوق إِنْ فِي قِصَّةِ الخلق الأولى أو ما تلا من شريعة تحكم ، فكلٌّ يستحسن ويستقبح بما يحكي مرجعا ذاتيا لا يجاوز إذ ليس ثم آخر من خارج يجاوز فيأطر العقول على قصة في التكوين تصدق وأخرى في التشريع تعدل ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، آية في التكوين والتدبير ، وَثَمَّ أخرى في البعث إِحْيَاءَ مَا همد من الأرضِ ، وثالثة بها اسْتَبَانَ القدر الفارق بين المخلوق والخالق ، جل وعلا ، وتلك آيُ اعتبارٍ في الكون بها الرؤية العلمية في الجنان قد تَعَدَّتْ إلى المفعولين ، وَثَمَّ من المقابلة بَيْنَ شطريِ الجملة ما اسْتَكْمَلَ فِي الخارج أجزاءَ القسمة ، فشطر الأرض الهامدة فلا حياة ، وآخر إذا باشرها الماء فَاهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وكان من الإنبات حَيَاةٌ في مقابل موتٍ هو المبدأ ، وهو ما حَسُنَ لأجلِه ، أيضا ، طباق الإيجاب بين الألفاظ ، وإن تلازما فإن الموت لازم ما يكون من الشيء الهامد ، والربا والإنبات حكاية الحياة التي تطابق الموت آنف الذكر ، طباقَ الإيجابِ المبينِ عن المعنى إذ بِضِدِّهَا تَتَمَايَزُ الأشياء ، وكلُّ أولئك مما يَرْفِدُ الآي وهو الخبر ، ما يرفده بلازم آخر هو الإنشاء أَنِ اعْتَبِرُوا بما تَقَدَّمَ من آيِ تكوينٍ يَنْفُذُ ، فهو ذريعةٌ إلى تَالٍ من الوحي يحكم بما تَنَزَّلَ من كلماتٍ تُخْبِرُ بالصدق وتحكم بالعدل ، فذلك المرجع المجاوز من خارج وبه القياس يُقَيَّدُ ، فَهُوَ تَابِعٌ لِمَا من الوحي قد تَنَزَّلَ ، فيكون من التصديق والامتثال إيمان يجزئ في الباب .

    فَثَمَّ من ربا الحس ، محل الشاهد ، ثم منه شطر في الدلالة ، وثم آخر في المعنى إِنِ المحمودَ كما في ربا عند الله ، جل وعلا ، به المضاعفة في الثواب أو المذموم كما الربا محل الشاهد ، فحصل من ذلك جنس من الدلالة يجرده الذهن فهو المطلق الأول الذي لا يحصل في الخارج إلا مُقَيَّدًا ، فيكون منه آحاد منها المحسوس ومنها المعقول ، منها المحمود ومنها المذموم ، وكل أولئك مما لا يدرك إلا أن يكون ثم لسان يفصح عن الحقائق ، فهو لسان التنزيل الأول عربية تَنْصَحُ إذ سلمت من اللحن المحدَث ، فكان من قرون الاحتجاج في الباب ما به الكلام قد استقام ، فمنه يأخذ الناظر المتعلم لقانون العربية المحكم ، منه يأخذ العبرة بما كان من كلام العرب فما تعرفه من ذلك عَرَفَهُ ، وما تُنْكِرُهُ فَهُوَ يُنْكِرُ ، فكان من وصفه المحدَث تاليا أن يضبط ما كان أولا من قانون اللسان إن في النطق نحوا أو في الفهم بَيَانًا يجزئ في حصول المعاني إن بالدلالات الأولية صراحةً أو أخرى ثانوية بما يكون من الكناية ، فَثَمَّ عبارة وثم إشارة ، وثم منطوق وثم مفهوم ..... إلخ ، فكل أولئك مما نطق به المتقدم بداهة ، ولم يكن لِتَالٍ في الباب إلا الحكاية ، الحكاية الواصفة التي تحفظ ما تَقَدَّمَ من المثل الناصحة إن نظما أو نَثْرًا وَبِهَا التوسُّلُ إِلَى غَايَةٍ أشرف ، حفظِ التنزيلِ المحكم ، إذ لا يفقه الناظر دلالاته إلا أن يفقه لسانه ولا يكون له ذلك إلا أَنْ يُعَالِجَ من نصوص الجيل الأول ما به قد نَزَلَ الذكر المحكم ، فَلَا يُفَسَّرُ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا ، لا يُفَسَّرُ بِلِسَانٍ تَالٍ قد حدث ، وإنما يكون ذلك بأول قد أُحْكِمَ وَاسْتَقَرَّ ، فهو المعيار الحاكم من خارج فيما تلا من تأويلات محدثة ، وهي ، كما استقرأ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، هي من آثار العجمة التي غلبت على أصحاب المقالات المحدثة ورءوس الفرق التي خالفت عن جادة النحلة وإن لم تفارق الملة ، ولو في الجملة ، فكان منها بَعْضٌ قد أتى بما ينقض أصل الدين فَخَرَجَ نوعا وآحادا إذ لا يكون عذر فِيمَا جَاوَزُوا كَمَنِ ادَّعَى أن النبوة لم تختم فَأَنَّى يُعْذَرُ وَقَدْ خَالَفَ عن معلومٍ ضروريٍّ محكم ، وكان منها آخر قد خرج نوعا لا آحادا ، كما التعطيل العام المستغرِق في باب الإلهيات المحكَمِ إذ ثم من شبهة التأويل ما يوجب التوقف وإن خرج المقال عن الأصل الأول ، وكان مِنْهَا ، في المقابل ، ما ينقض السنة ولا يجاوز إلى الملة ، فيكون من وصف الذم ما يقتصر على الإحداث في الدين ما ليس منه لا الخروج عن أصله بما ينقض المعلوم الضروري منه ، فكان من آثار العجمة ما قد عَمَّ شؤمه المقالات كافة ، فلم يحسنوا يُنْزِلُوا الوحي منازله ، ولم يَسْتَقْرِئُوا مادته بل أخذوا بَعْضًا دون آخر ، جهلا أو هوى ، أو هُمَا مَعًا ! ، لا جرم كان من فقه العربية ما جاوز المتبادر من نطقٍ يُفْصِحُ وتلاوة تستقيم فيها المخارج والصفات .... إلخ ، فذلك مما يَتَنَاوَلُ المنطوقَ وهو حسن محمود بل هو الأول في أيِّ كَلَامٍ يُفْهَمُ ، فَلَا بُدَّ من نظمٍ يستقيم على سنن الإعرابِ الفصيحِ ، وثم تَالٍ من المعنى بما اطَّرَدَ مِنْ قانونِ العربِ في فقه المعاني بعد نطق المباني ، وهو الفقه لما تَبَادَرَ من الأوليات التي يحصل بها البيان تصريحا ، والثانويات التي يحصل بها البيان تأويلا ينصح فليس المخالفةَ عَنِ الظَّاهِرِ المتبادرِ إلى آخر يبعد أو يبطن بلا قرينة ترجح ، وإن كان من التأويل الباطن ما لا تسلم له قرينة معتبرة فليس إلا أخرى تُتَوَهَّمُ ، بل هي التلفيق المطلق مخالفةً عن المعلوم اللساني الضروري وهو ما اصْطُلِحَ فِي الدرس الأصولي أنه التلاعب بقانون اللسان المبين إذ يقترح الباطني المؤول ما لا أصل له يثبت لا فِي نَظْمٍ ولا في نَثْرٍ ولا فيما تَلَا من كلام الوحي ، فَثَمَّ من ذلك ما لو فُتِحَتْ إليه الذرائع لَانْدَثَرَ اللسان وَنَجَمَ كلَّ يومٍ آخر ! ، بل وصار لكلٍّ لسانٌ يحكي وجدانه ، وهو ما اصطلح في قانون التأويل المحدث أنه الملكية العامة ، فالنص ملك الجميع ، لا ملك القائل الأول وإن كان من إرادته ما يبين عن المراد فهو المعيار الحاكم في الباب ، فأنكر المتأخر ما تقدم من مرجع يجاوز من خارج ، مرجع المتكلم الأول فمراده هو الحاكم في بَيَانِ المعنى إذ الكلام كلامه فلم تنقطع إليه النسبة وَتَتَّصِلْ إلى آخر يتأخر قد جاء فَوَجَدَ النص فَقَطَعَ العلائق بما تقدم من نطق ، وأحدث آخر من ذاتِه فلا يجاوز ، وَحَكَمَ به على كلام غيره تعسفا في الاستدلال أَنْ يُنْزِلَهُ ما يواطئ هواه وذوقه ، فلا ينزله منزله الأول ، فيكون من اللسان أَلْسُنٌ إِذْ بَطَلَ المرجع الأول بما اطرد من قانون النطق المحكم ، وَأُحْدِثَ آخر يواطئ هوى زيد فَلَهُ لسان ، وهوى عمرو وله آخر ..... إلخ ، فمن يقضي في هذا الألسن وقد افترقت واختلفت بل وكان من التناقض ما لا يُرْفَعُ إلا أن يكون ثم مرجع من خارج يحكم ، قانونَ نظمٍ وَنَثْرٍ أول ، فهو القاضي فيما اختلفت فيه الألسن المحدثة ، كما الوحي قاض فيما اختلفت فيه الشرائع المحدثة ، فذلك قانون يطرد في النطق والشرع كَافَّةً ، لَا جَرَمَ كانت العربية دِينًا كما يقول أهل الشأن ، فليست تَرَفًا من درس الألسن ، بل هي آلة البيان المفهم لما نَزَلَ من الوحي المحكم ، إذ الشريعة الخاتمة عربية ، فهي عربية في مَبَانِيهَا على خلاف أَمِنْهَا بَعْضٌ أعجمي قد عُرِّبَ بما كان من استعمال يكثر ، فيجري ذلك ، أيضا ، مجرى الحقيقة العرفية إذ العرف قد استعار مِنْ لسانِ العجمِ بَعْضَ ألفاظٍ لم تقدح في قانون النظم العربي فلم يَسْتَعِرْ تَرَاكِيبَ أعجمية وَيُصَيِّرَهَا من جملة العربية ، أم البابُ على ضد فهو عربي قد استعاره اللسان الأعجمي ، أو هو مما تَوَاطَأَتْ عليه الألسن .

    والشاهد أَنَّ الشريعة الخاتمة عربيةٌ في مَبَانِيهَا وفي مَعَانِيهَا ، في مفرداتها وفي تَرَاكِيبِهَا ، وبها تصور أول لما به الوحي قد تَنَزَّلَ ، وهو ، كما تقدم ، مما تَنَاوَلَهُ البحث المحدَث في الألسن كافة ، فكان ، كما ينقل بعض من حقق ، كان من إحصاءٍ في الألسن يحكي فقدان ما يَعْظُمُ من ملكات الإبداع في العلوم كافة ، ثلاثة أرباع منها كما البحث قد أثبت ! ، فلا يكون في العلم إلا مقلِّدًا وإن اجتهد فلا يبلغ حد الإطلاق فلا يكون منه التميز والإبداع إذ لم يَتَصَوَّرِ المعاني ، بادي الرأي ، التصور التام فلا يكون ذلك إلا بِاللِّسَانِ الأم ، لسانِه الأول في النطق ، فإذا أتقنه وتصور به المعاني الكلية والجزئية ، وأتقن منه المفردات والتراكيب ، ومهر في حكاية المشاعر والمواجيد .... إلخ ، إذا كان ذلك فالانتقال إلى لسان ثان به يستكمل العلوم والمعارف ، ذلك مما يُؤْمَنُ ضَرَرُهُ إذ تَضَلَّعَ الناطق من لسانه الأم ، وكان من تصور المعاني ما أجزأ في حصول الملكة ، وذلك باب العلوم ، وثم آخر في الهوية والذات ، فاللسان شطر منها يعظم إذ يجاوز ما تقدم من حكاية البيع والشراء والسب والشجار ! ..... إلخ ، فكان منه ، كما يتندر بعض من حقق ، كان منه ما صُنِّفَ في السَبِّ والفحشِ ، فَلِكُلِّ لسانٍ منه ما يميز ! ، كما الطيب من الكلام والمفيد ، فتلك هوية في الوجدان تَسْتَقِرُّ ، بل وهي مِمَّا يخضع في مواضعَ للعرفِ ، إن في الجيل الواحد ، فتجد من الكلم ما يفحش في مصر وهو مما يجري عادة في آخر فيتداوله الخلق كافة بلا إنكار ، فهو منطوق الأراذل والفضلاء جميعا ! ، وقد يكون من تَغَيُّرِ العرفِ بِتَعَاقُبِ الأجيالِ ، وهو ما اصطلح أنه التغير الدلالي أو علم أصول الكلمات ، إذ يكون منها في جيل ما طَرَأَ عليه تَغَيُّرٌ بما يكون من عُرْفٍ يحدث فَيَنْقَلِبُ الحسنُ قَبِيحًا والقبيح حسنا ، فاللسان من هذا الوجه جُزْءٌ رَئِيسٌ من هوية الفرد والجمع إذ يباشره في نطقه كما يُبَاشِرُ العوائد الجبلية ، بل ، كما يقول بعض من حقق ، بل هو مما يرسخ في الوجدان رسوخا يجاوز الدين في أحيان ، فيبدل المرء دينه ولا يطيق تبديل لسانه الذي عليه قد دَرَجَ ، واللسان ، من وجه ثالث ، وهو على القمة يقبع ، فذلك الدين الذي يُنْسَكُ ، فشعائره وأذكاره لا تكون إلا بلسانه ، لا جرم كان من قول الجمهور ألا يُقْرَأَ الكتابُ الخاتم بلسان يغاير عن العربي الناصح ، إذ الكلام هو اللفظ والمعنى كافة ، على خلاف قد اشتهر من تجويز الحنفية ، رحمهم الله ، القراءةَ بالفارسية وعليها يُقَاسُ غيرُها إن أصاب القارئ المعنى ، وهو مما حِدُّ ضرورةً لمن لا يطيق ، مع ما حُكِيَ عن رجوع إمام المذهب عنه ، إذ المعنى لا ينضبط إلا بلسانه الأم ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، من الدلالات الثانوية ما لا تَفِي به الترجمة إلا ما عَسُرَ فَاشْتُرِطَ له من الدقة ما لا يحسنه إلا آحاد من المهرة ، فَلَهُمْ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، لهم من ممارسة اللسانين ما يحيط دركا بوجوه المعنى ، وإن دَقَّتْ فِي الوجدانِ وَلَطُفَتْ ، فَيُحْسِنُ الانتقالَ المتدرِّجَ إلى ما يُضَاهِي المعنى المركب لا تَرْجَمَةَ المفرداتِ لفظا فذلك مما قد يُخْرِجُ المترجَم عن حدِّ الجد إلى الهزل بما يكون من معنى مباشر لا ينظر في الدقائق التي أرادها المتكلم بما اطرد في لسانه من وجوهِ كِنَايَةٍ وَبَيَانٍ ، فالشعائر لا تكون إلا بلسانها الأم ، والشرائع ذات المعاني المعقولة وإن لم يكن ثَمَّ تَعَبُّدٌ بِمَبَانِيهَا المنطوقة ، الشرائع لا تُفْهَمُ إلا بلسانها الأم ، سواء أكانت مما تَنَزَّلَ من الوحي أم أُحْدِثَ مِنَ الوضعِ ، فلكلِّ أمةٍ من لسان التصور والحكم ما يميزها من أخرى ، وهو ما يَرُدُّ عَجُزَ كلامٍ إلى صدرٍ قد تَقَدَّمَ ، إذ كان من العجمة ما فَشَا فِي جِيلٍ قد تأخر ، فَأُحْدِثَ فيه من الدين ما أُحْدِثَ ، وخولف به عن الضروري من قياس اللسان المحكم ، وكان من التأويل ما بَعُدَ وآخر قد بطن فَتَكَلَّفَ له المحدِثة في الدين من القرائن ما يخالف عن النقل والعقل كافة ، وهو ما بَدَأَ يَسِيرًا بعد الجيل الراشد ، فكان مِنِ انْتِقَالِ الأمرِ من رُشْدٍ إلى مُلْكٍ ، وإن كان من المبدإ رحمة فَلَا يَنْفَكُّ يَنْقُصُ عن الرشد الأول ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حقق ، إذ مَازَ صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم بَيْنَهُمَا ، فَعُلِمَ أَنَّ في الْمُلْكِ نَقْصًا ، ولو بَدَأَ يسيرا فلم ينفك يزيد ويعظم حتى كان الملك العاض الأول ، وهو مع ذلك مما حَفَظَ العربية ، فكان وصفه كما ينقل بعض من حقق عن الجاحظ وهو من أئمة المقالات المحدثة ، فلم يَنْفَكَّ يصدق إذ غلبته عربيته وهو العربيُّ نسبةً إلى كنانة العربيُّ لسانا وإن خالف عن قانونه في الديانة بما كان من تَلَقٍّ عن أَئِمَّةٍ في الاعتزال المحدَث ، فانتصف لعربيته من اللسان الأعجمي ، فوصف الملك الأموي أنه العربي الأعرابي ، فهو أقرب إلى البداوة الأولى وإن حصل فيه من رسوم الملك المحدَث ما أخرجه عن حد الرشد الأول ، وهو مما قارب به قانون الأعاجم في الحجابة ورسوم الملك وإن ظل له من اللسان العربي حظ أوفر ممن جاء بعده من بني العباس إذا كانت دولتهم كما يقول الجاحظ وفيها قد ولد ونشأ وعاش وهلك وقد جاوز التسعين ، كانت دولتهم فارسية خراسانية قد غلب عليها الأعاجم عصبة ملك ورسوم حجابة وروح حضارة وهو الأدق إذ اللسان يجاوز ، كما تقدم في مواضع ، حد الإفهام المجرد ، فَثَمَّ منه معان تَلْطُفُ لا تنفك آثارها تظهر في الخاصة والعامة ، في طرائق الفكر ورسوم الحياة ، ولو عوائد في الجبلة ، فغلب الأعاجم في ملك بني العباس على اللسان الناطق إذ انقضى عصر الاحتجاج ، وهو ما أفضى إلى ذيوع محدثات كبرى ، كما المأمون العباسي مثالا يَبْرُزُ في حقبة الخلفاء الأقوياء ، دور بني العباس الأول ، فَغَلَبَ المأمون بعصبته الخراسانية عصبة الأمين العربية ، وكان من نحلة المأمون ما لم يخل من آثار خراسانية أعجمية ، كما في خلق القرآن وما استجلبه من مقال الاعتزال والتعطيل ، وما كان أولا من تشيع ، وهو ما سَبَقَ الْتِئَامَ المعتزلة والشيعة بَعْدًا في بغداد إذ كان الشيعة الأوائل قَبْلًا على جُمَلٍ معتبرة من مذهب السنة في الأصول لا سيما في الإلهيات والقدر ، وقد زاد المأمون خروجا قد أفحش فخرج على الجمع بمقال محدث وسيف يستأصل ، وهو ما قارب به المعتزلةُ الخوارجَ في أصول كَنَفَاذِ الوعد والوعيد وَحُكْمِ من قارف الكبيرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبه استجازوا امتحان الخلق بمقالهم المحدَث ، فلم يجاوز المأمون وصف المحدِث الغالي في الدين إذ يقترح القول ويمتحن به الخلق وكل أولئك من آثار العجمة فهي تمد بسبب وإن لم يكن الأوحد فكان من البدع الكبرى ما لم يَظْهَرْ زَمَنَ بَنِي أمية مع ما كان فيه من نقص ، فكان الدين ، كما يقول بَعْضُ مَنْ نَظَرَ ، كان الدين في جيل الرشد هو الأصل ، وما كان من دولة فهو الفرع ، كما الكتاب الهادي أولا يَشْرَعُ والسيف الناصر تاليا يَنْصُرُ ، ثم لم تلبث الحال أن بُدِّلَتْ ، ولو على مكث ، فصارت الدولة هي الأصل ولا بد لها من دين ولسان فهما شطرا هوية رئيسين ، حتى آلت الحال أن تصير الدولة هي الأصل ، ويكون من الكتاب ما يُبَرِّرُ في مواضعَ مخالفتَها عن ظاهره بما يُتَأَوَّلُ من محكمه تعسفا في الاستدلال ، ولو عُظِّمَ الدين وكان هو المرجع وكان من مادته حافزُ فتحٍ يَتَوَسَّعُ وإن دخلته أغراض الملوك في الحكم فلم يَنَلْ ذلك ، كما يقول بعض من دَقَّقَ ، لم يَنَلْ من الجموع التي تفتح ، ولو في الجملة ، فلم تخل من بعضٍ رام المغنم العاجل وهو ما يَزِيدُ كُلَّمَا باعد الناظر عن جيل النبوة وما تلا من خلافة الرشد ، كما العجمة تَزِيدُ كلما باعد الناظر عنهما ، فيكون من شؤم النقص ما يطرد في الدين واللسان كافة ، وَبَيْنَهُمَا من الاقتران ما يلطف ، فكلما نقص الدين نقص اللسان ، وضده يثبت ، فكلما ضعف اللسان ضعفت الديانة بما يكون من عجمة تشكل في دَرَكِ المرادِ المحكم من نص الوحي المنزل .

    والله أعلى وأعلم .


  9. #9
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فاللسان ، كما يقول صاحب الموافقات ، هو الرَّابِعُ في الرتبة في تفسير الذكر المحكم ، فهو لسان التَّنْزِيلِ الذي انشعبت روحه في البيان والفقه ، فقه النصوص الرسالية ، فَجَاوَزَ ، كما تقدم في مواضع عدة ، جاوز الدلالة المعجمية المفردة التي تحكي اللغة العامة التي يتداولها الخلق في شأن الحياة ، فَثَمَّ من لطائف الْبَيَانِ ما لا يدركه إلا أهل اللسان طَبْعًا ، وهو ما جهد المحققون بَعْدًا أن يحكوه وَصْفًا ، فكان من صنيع المتأخرين أن ضبطوا معيار النطق بعد فُشُوِّ العجمة واللَّحْنِ ، وكانت العلوم الواصفة ، كَمَا يذكر بعض من حقق ، كانت أَمَارَةَ إِتْقَانٍ من وجه ، وهي مما به تأول المحققون الوعدَ الصادقَ في محكم التنزيل الخاتم ، فـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فاسم الذكر ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظرُ ، يَتَنَاوَلُ المشهور المتبادر من الآي المنزل ومازاد من الخبر المأثور ، وما كان بَعْدًا من معيار الفهم والاستنباط بما نقل من لسان التنزيل ، لسان الجيل الذي عليه قد تَنَزَّلَ ، وما كان قبلا من مأثور النظم والنثر ، وما دون من علوم الآلات الواصفة فهي تضبط النص لفظا ومعنى ، فجاوز الذكرُ ما تبادر إلى الذهنِ من الآي المتواتر الذي حُفِظَ لَفْظًا وَمَعْنًى ، فكان منه ، كما يقول الشافعي رحمه الله ، إحاطة تستغرق أنه حق في نفس الأمر فهو حق في الظاهر من النقل والباطن في نَفْسِ الأمر ، لا أن له ظاهرا من لفظ وباطنا من معنى يغاير عن أصل الدلالة المحكم ، وإن استبطن من لطائف الدلالات ما يجري مجرى الإشارات ، فَشَرْطُهَا أَلَّا تَنْقُضَ الأصل إذ هي فرع عليه فإذا أبطلته فقد بطلت إذ لا فرع يَثْبُتُ بلا أصل يَتَقَدَّمُ ، فشرطها ألا تَنْقُضَ فَتَخْرُجَ عن جوهر المعنى المحكم إلى باطن يَتَشَابَهُ سواء أَتَوَسَّلَ به المؤول أن يَنْفِيَ المدلول الأول أم اتخذ إلى ذلك ذريعة ، وهو ، كما اطرد في صنيع المبطلين ، ما يستوجب تجريد الآي من الأثر ، ففي الآثار الرسالية ، المتواترة والآحادية ، فِيهَا من بَيَانٍ في الاصطلاح أخص يجاوز ما أُطْلِقَ من دلالات اللسان الأعم ، فتلك ، أيضا ، من حِيَلِ المتأولة في الباب ، فإما أن يخرجوا بالألفاظ عن الدلالات المعجمية الأولى فيقترحوا من المعاني ما لا تدل عليه المباني ، ولو احتمالا مرجوحا ، فَثَمَّ من التأويل ما بعد فهو يُفَتِّشُ فِي مهجور الألسن فَلَعَلَّهُ يَظْفَرُ بوجه من الدلالة يؤيد ما تَأَوَّلَ ، وذلك ما استدعى التَّلَاعُبَ بالأصول المحكمة من اللسان ، فالتلاعب بها لا يقل جرما عن آخر بأصولِ الآي والخبر ، فالأول يَقْدَحُ في المدلول ، والثاني يقدح في الدليل ، وإن أعجزه القدح في النقل المتواتر لآي الذكر المحكم ، فذلك مما يفضح القائل إلا أن يجهر بعداوة الوحي الخاتم فَلَيْسَ على دينه ، سواء أكان من خصومه ابتداء أم صحت له نسبة الدم والنشأة ، أَنْ وُلِدَ لأبوين على الملة الخاتمة أو لأحدهما ، على تفصيل في ثبوت العقد الأول ، فَثَمَّ من صحت له هذه النسبة فهو على الدين الحق مولدا ، وإن قارف بعدا من الإنكار والجحود فضلا عن الخصومة المفحِشة التي تجحد الضرورات العلمية المحكمة ، ومنها ما قد سَلَّمَ به الخصوم أصلا ، فكان من العقل ما حال بينهم وبين قول يُزْرِي بِرَأْيِهِمْ أَنْ يُنْكِرُوا تَوَاتُرًا قَدْ بَلَغَ حَدَّ الضرورة العلمية الملجئة استقراءً لِنُسَخٍ تُتَدَاوَلُ وَقَبْلَهَا آي في الصدور يُتَنَاقَلُ جيلا عن جيل بأسانيدَ محررة ، مع ما تَقَدَّمَ من علمٍ يصف الرسم والنطق جميعا ويبين عن وجوه من الاختلاف في القراءة ، وَيَضَعُ لَهَا مِنَ الْحَدِّ والشرط ، ويبين عن درجاتها أمتواترة أم مشهورة أم آحاد أم شاذة أم مدرجة من كلام بعض مَنْ فَسَّرَ ، فَمَازَ المحققون وجوه القراءات ودرجاتها ، وكان من قصة الجمعِ ، جمع المصحف الأول والثاني ، وما تحرى الْجَمَعَةُ كَتْبًا وَنُطْقًا ، وكان من علوم محدثة تُبِينُ ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، عن صحة الأصول المادية ، من ورق المصاحف والمداد ..... إلخ ، فالطعن في هذه المتواترات يُزْرِي بصاحبه ، فكان من العدول عنه ما استوجب النظر الصريح ، ولو رَامَ صاحبُه القدحَ في محكم التنزيل ، فعدل عن الذكر المتواتر وراح يقدح في الأثر المدوَّن ، أن يطعن في حجية الخبر رَأْسًا ، وهو الأصل الثاني بعد الكتاب بل ثم من صَيَّرَهُمَا واحدا إذ الجنس الأعلى قد تماثل ، وحيا قد تَنَزَّلَ من الرب الخالق ، جل وعلا ، فمن طعن في حجية الخبر فهو ، 0ولو من باب الإلزام بما هو لازم ، فهو يطعن في حجية الآي المتواتر ، إذ الأصل ، كما تقدم ، واحد ، وهو الوحي : آيًا يتواتر وخبرًا قد تَوَاتَرَ بالنظر الأعم في ثبوته ، فإن اسمه مما لا يجحد ، ولو كان القائل جاحدا ، فلا يطيق الإنكار المطلق ، إذ ثم من السنة ما اصطلح أَنَّهُ علمُ عَامَّةً بما تَوَاتَرَ من هيئات مخصوصة فيجمل عابدات وأذكار ، كما الصلاة وهو المثال الأشهر ، فمن ذا يَرُدُّ مُتَوَاتِرَهَا العملي الذي يَتَكَرَّرُ فِي كلِّ يَوْمٍ في بِقَاعٍ شتى يستحيل تَوَاطُؤُهَا على الكذب ، فحصول الصلاة فيها جميعا عَلَى هَيْئَاتٍ تَتَمَاثَلُ ، وإن كان ثَمَّ خلافٌ فَفِي بَعْضٍ لا يقدح في أصل الشعيرة ، كما الخلاف المتداول في كتب الفروع في هيئات من القول أو الفعل ، فالصلاة ، من هذا الوجه ، مُتَوَاتِرٌ عملي قد دل العرف الاصطلاحي الأخص ، عرفُ الأداء لشعيرة مخصوصة ذات ماهية مقدرة في القول والعمل ، قد دل على زيادة معلومة في الحقيقة اللسانية المطلقة ، فإنها تصدق في أَيِّ دعاء مطلق ، فذلك حدها في المعجم ، كما تقدم من حَدِّ الربا في اللسان أنه الزيادة المطلقة ، ومنها المحمود ومنها المذموم ، ومنها المحسوس ومنها المعقول ، فَزَادَ الاصطلاح المخصوص في الشرع ، زَادَ فِيهَا من الدلالة ماهية مخصوصة تَحْرُمُ : زيادةً بلا عوض يُقْبَضُ ، وذلك معنى قد اتَّسَعَ فجاوز المتبادر من زيادة مع تأخير الأجل ، أو أخرى تُقْبضَ فضلا في نفس المجلس ، فكان منه النسيئة والفضل ، وكان آخر يلطف بما يجري مجرى القرض مع حصول النفع شرطا في العقد فظاهره التماثل ، ولا يخلو من زيادة ، ولو خَفِيَتْ ، فإن النفع ، وإن لم يقبض فَيَكُنْ ذا ماهية بالحس تدرك ، فإنه ربا بالمعنى الأعم ، وذلك ما قد نَصَّ عليه الأثر أَنْ : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" ، على كلام في إسناده بل قد ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ أنه ليس يصح وإن كان معناه يصح إذ انعقد الإجماع عليه ، كما في زيادة مشهورة في باب الطهارة أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غَيَّرَ لونه أو طعمه أو ريحه ، فالاستثناء : إلا ما غَيَّرَ لونه أو طعمه أو ريحه ، مما ضُعِّفَ إسنادا وإن انعقد عليه العمل إجماعا .
    فكان من العموم في الخبر أَنْ : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" ، كان منه ما استغرق ، فتلك دلالة "كل" وهي من أمهات الباب : باب العام ، ولأجلها استجيز في العربية الاستئناف بالنكرة "كُلُّ" وإن مقيدةً أَنْ أُضِيفَتْ ولو إلى أخرى تضاهيها فاكتسبت من التخصيص ما يُقَارِبُ بها التعريف ، فكان من قِيَاسِ الشَّبَهِ أَنْ جَازَ الابتداء بها فَرْعًا على أصل قد أشبهت ، أصل المعرفة ، فالنكرة إذ خُصِّصَتْ ، فَقَدْ تَنَازَعَهَا أصلان : المعرفة المحضة والنكرة المحضة فألحقت بأقربهما وصفا ، إذ إضافتها قد خَصَّصَتْهَا ، والتخصيص عَامِلٌ يُرَجِّحُ فِي اللَّفْظِ معنى قد تَعَيَّنَ وَاتَّضَحْ ، وإن لم يبلغ حد المعرَّف المحقَّق ، فَأَشْبَهَ ، من وجه ، الجائز في العقل ، فهو مما استوى فيه طرفا القسمة : إيجابا أو امتناعا ، وإن كان المنكَّر المخصَّص بالإضافة إلى نكرة مثله ، وإن كان هذا المنكَّر المخصَّص إِلَى التعريف ، بادي الرأي ، أَقْرَبَ ، أو يُقَالُ إِنَّ النكرة المحضة لا يَرْجُحُ فِيهَا معنى يجوز الابتداء بها لفظا ، فَلَمَّا وُضِّحَتْ بالإضافة إلى المعرفة المحضة ، اكتسبت منها وصفها المحض ، وصف التعريف إذ المضاف يأخذ حكم المضاف إليه ، فكان من المرجِّح ما انْتَقَلَ بِهَا الانْتِقَالَ التام من النكرة إلى المعرفة ، وكان من آخر ما انْتَقَلَ بها بَعْضًا فأشبهت المعرِفةَ ، ولو وَجْهًا ، كما تقدم من إضافتها إلى النكرة ، فذلك مما أكسبها تخصيصا لا توضيحا ، فصارت إلى المعرفة أقرب فَأُلْحِقَتْ بها في الحكم شَبَهًا وجاز الابتداء بها ، كما في الأثر آنف الذكر ، فذلك من قياس الشبه في اللسان ، وذلك ، كما تقدم ، العموم المستغرِق ، فكلُّ قَرْضٍ ، وذلك المبتدأ ، وثم من الإطناب ما يَزِيدُ في الوصف ، فالجملة : "جَرَّ نَفْعًا" وصف للمضاف إليه ، فليس كل قَرْضٍ بداهةً ربا ، بل الغالب فيه أنه عَلَى ضِدٍّ ، إذ قوة المال تَضْعُفُ ، فمن أَقْرَضَ اليوم عشرة فهي بَعْدَ سنةٍ تَقِلُّ ، وإن تماثلت في العدد ، لا جرم كان من فتوى بَعْضِ المالكية رحمهم الله ، على إجمال في النسبة يفتقر إلى تحرير في المذهب ، كان من فَتْوَاهُمْ أَنَّ ذلك مما يعتبر في الإقراض ، وقد حَدَّهُ بعض الفقهاء أن تضعف القوة ثُلُثًا اسْتِئْنَاسًا بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "الثُّلُثُ . وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" ، وإن وجب الاحتراز في هذا الموضع ألا يكون من القرض ما يزيد في العدد تذرعا بما يطرأ من نَقْصٍ في القيمة ، فيزيد المقرِض ويشترط تذرعا بما يطرأ من ضَعْفٍ ، وتكون الصورة ربا نَسِيئَةٍ تصرح ، وإن كانت الذريعة أن القوة تضعف ، فإن أراد الخروج من عهدة الربا فليقرضه مالا ذا قوة تثبت ، كما الذهب وزنا مخصوصا يقدر فيلزمه مثله بعد انقضاء أجله ، أو ما استقر من العملات المتداولة بين الأفراد والدول ، فمنها ما استقر صرفه فَحَفِظَ قِيمَتَهُ ، وإن لم يخل من نقص بما يطرأ من نَوَازِلِ الكون ، ولكنه يحفظ القيمةَ وعاءَ ادخار ، ولو لم يستغرق ، فلا بد من نقص بما يطول من الأمد ، مع آخر يوجب الاعتبار بما يكون من دين قديم يُؤَدَّى بعد سنين عددا ، فمن الإجحاف أن يُؤَدَّى عددا في أموال قد تناقصت قيمتها وضعفت قوتها ، فكان من ذلك ما فحش فلا يحتمل ، فما كان بالأمس يساوي مثاقيلَ ذهبٍ فلا يساوي اليوم معشار ما كان قَبْلًا ، فكان من النقص ما فَحُشَ وذلك مما يعتبر حفظا لحق المقرِض ، لا ما يشترط أولا من زيادةٍ معلومةٍ تَذَرُّعًا بما لم يَقَعْ بَعْدُ أَنَّ القيمة تَنْقُصُ ، ولو اطرد ذلك في زمانه ، فلا يَشْتَرِطُ المحرَّمَ نَصًّا بما يكون من زيادة تُقَدَّرُ ، فكان من العموم ما استغرق ، إن نصا كما تقدم من دلالة "كُلُّ" على التفصيل آنف الذكر ، وما كان من تَنْكِيرِ "نَفْعًا" وهو ما يفيد العموم وإن ورد في سياق إثبات فالقياس أن يفيد الإطلاق الذي يصدق بأدنى ما به الماهية تحصل ، ماهية النفع التي دل عليها اللفظ ، فَيُشْبِهُ ، من وجهٍ ، ما ضَرَبَ بِهِ بَعْضُ من حَقَّقَ مثالا لعموم قد خالف عن المعهود في لفظه ، نكرة في سياق نفي ، فأفادت وإن في سياق إثبات ، أفادت العموم المستغرق بما احتف بها من قرائن تَشْهَدُ ، كما في الآي المحكم أَنْ : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) : فالقياس في الأصول والمعاني أنها نكرة في سياق الإثبات فدلالتها دلالة الإطلاق الذي يجزئ في ثبوته أن تَعْلَمَ نفس واحدة فقط ما قدمت ، فذلك أدنى ما تحصل به الحقيقة في الخارج ، حقيقة النفس ، وذلك ، بداهة ، مِمَّا لا يُتَصَوَّرُ لِقَرِينَةٍ في الباب تشهد ، فإن دلالة العموم أظهر إذ يكون الحساب والجزاء للخلق كافة ، فـ : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) ، فكان من زيادة "كُلُّ" في هذا النص المبيِّن ما أَزَالَ الإجمال في الآي الأول أَنْ : (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ، فَحُمِلَ مجملها إذ وردت "نَفْسٍ" وحدها ، حُمِلَ مجملها على المبين الذي حُدَّ نَصًّا في العموم "كُلُّ" وَأُضِيفَ إلى نَفْسٍ المنكَّرة ، فأفاد الاستغراق للآحاد كافة ، كَمَا الإضافة في الأثر آنف الذكر أَنْ : "كل قرض جر نفعًا فهو ربا" ، فكان من النفع ما استغرق ، وإن نكرة في سِيَاقِ إثباتٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فدلالته تستغرق النفع المحسوس وآخر معقولا ، النفعَ من الجنس نفسه مالا بمال أو من جنس آخر قَرْضًا مع اشتراط زيادة أن ينتفع بِبَيْتِ المقرِض سكنا أو دابته ركوبا ...... إلخ ، أو يكون من شرط في عقد بيعهما أو إيجارهما ما ينفع المقرِض لا جرم كان النهي عن بيعتين في بيعة وبيع شرط سدا لهذه الذريعة ، وثم من الخبر "فَهُوَ رِبًا" ، ثَمَّ من الخبرِ مَا صُدِّرَ بالفاء إذ لا يخلو المبتدأ من دلالة الشرطية ولو دوران الحكم وهو الخبر مع المبتدإ بالنظر في المعنى الذي اشتق منه وهو القرض الذي يزيد نَفْعًا ، فدار معه حكم الربا وجودا وعدما ، كما الجواب يدور مع شرطه وجودا وعدما ، فكان من ذلك ، أيضا ، ما يجري مجرى القياس ، قياس الشبه أن أُلْحِقَ الخبر في هذا السياق بجواب الشرط إذ أشبهه في المعنى فَأُلْحِقَ به في الحكم ، فدخلت الفاء الرابطة على الخبر ، وهو ما ضمنه معنى الشرط الذي يطرد وينعكس ، وثم من الحكم ما أطلق ، فهو ربا يحرم ، وذلك الخبر الذي استوجب إنشاء يلازم ، إذ يحكي صورة محرمة ، ولازم ذلك النهي عنها ، فَثَمَّ نهي عام يستفاد من الخبر : النهي عن الربا المعهود في الشرع ، وثم آخر خاص فهو يَنْهَى عن ربا مخصوص ، وهو ما اتخذ صورة القرض الذي يجر نفعا .

    والشاهد أن ثم من الزيادة الاصطلاحية الأخص في ألفاظ اللسان ما زَادَهَا قَيْدًا ذا دلالة تشريعية ، كما تقدم من لفظ الربا وهو الجنس المطلق في الذهن وله من الأنواع والآحاد في الخارج ما تفاوت ، فمنها المعقول ومنها المحسوس ، ومنها المحمود ومنها المذموم ، وكذا الصلاة مِثَالًا تَقَدَّمَ ، فَلَهَا من الدلالة اللسانية المطلقة ما يَقْتَصِرُ على الدعاء ، ولو مطلقا ، واعتباره وحده دون تَفْتِيشٍ في نصوص تُبَيِّنُ من الآي والآثار ، ذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ الدلالات الاصطلاحية المخصوصة ، دلالاتِ الصلاة ذات الماهية الشرعية المقدرة ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الناظر على قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، فَإِنَّ لِمُسْتَدِلٍّ ، ولو لعبا في التأويل ! ، أَنْ يُخْرِجَ المكلَّف من عهدة الفرض أن يَرْفَعَ يديه ويقول : يا رب ! ، فيصدق في هذه الصورة أنها صلاة بالنظر في أصل الوضع الأول : دلالة المعجم المطلق ، بل قد جاء الوحي لها بما يشهد في مواضع ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، فتلك صلاة الثناء والمدح ، و : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ، فذلك دعاء الرحمة ، ومنه الدعاء لآل أبي أوفى ، رضي الله عنهم ، أَنِ : "«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»" ، فجاز لمتلاعب أن يخرج من عهدة النص ، ولو من باب الفرض فلا يتصور أن يقول ذلك من له أدنى حظ من الديانة ، فيقصر الصلاة على الحقيقة اللغوية المطلقة دون نظر في أخرى من حقيقة اصطلاحية أخص في نصوص الوحي ، وَتِلْكَ نصوص الخبر والأثر التي أَبَانَتْ عن ماهيات شرعية أخص ، في الفرض والواجب والمستحب ، على قول من فَرَّقَ بين الفرض والواجب في الصلاة ، كما الحنفية رحمهم الله إذ فَرَّقُوا بين الفرض كما المكتوبات والواجب كما الوتر فهو واجب عندهم إذ كان الأمر في الخبر : "يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ" وظاهره الإيجاب كما قرر أهل الأصول والنظر ، وهو مما رُفِدَ بالعلة على حد التوكيد المقرون بالفاء ، فاكتسب منها دلالة تعليل أخص مع ما احتمل أولا من دلالة التوكيد ، فَثَمَّ من القرينة ما رَفَدَهُ أَنْ زَادَ فِيهِ معنى عَلَى أول ، فمعنى التوكيد أول ، وما كان مِنَ الفاءِ إذ اقترنت به فهو تال إِذْ أَفَادَ التَّعْلِيلَ الزَّائِدَ ، فهو جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة الأمر بالوتر ، فكان الجواب : لأن الله ، جل وعلا ، وتر ، وذلك الخبر الأول ، وثم تال قد حُدَّ حَدَّ الجملة "يُحِبُّ الْوِتْرَ" ، فأطنب به تاليا بعد أول ، وكان من التَّرْتِيبِ ما وَاطَأَ المشهور في اللسان إذا تعددت الأخبار ، فَيُقَدَّمُ المفرد فالجملة ، وهي مما حُدَّ مُضَارِعًا يستحضر الصورة ، من وجه ، ولا يخلو من ديمومة الوصف إذ آحاده لَمَّا تَزَلْ تحدث في الخارج إذا شاء الله ، جل وعلا ، حدوثها بما يكون من سَبَبِهَا : مَحَابًّا يحبها الله ، جل وعلا ، ويرضى عنها ، فهي كسائر الأوصاف الفعلية إذ نَوْعُهَا قديم وآحادها لما تزل تحدث في الخارج ، فإذا حَدَثَتْ حَدَثَ مِنَ المحبَّةِ ما يُضَاهِي ، وإذالم تحدث كان من ضد من البغض والكره ، وإن لم يلزم من ذلك تحريم ، فَقَدْ تَفُوتُ المحبة والرضى ولا يَعْقُبُهَا البغض والسخط ، إذا كان الأمر من المندوب فيرجع المحل إلى الأصل خلوا من أي وصف ، لا محبوبا ولا مكروها ، وإن لم يخل من لوم أن فاته ما يحب الله ، جل وعلا ، من الاعتقاد والقول والعمل ، ولا يلزم من مَحَبَّةِ الْوِتْرِ بُغْضُ ما سواه من الشفع ، بل سن منه ما يستحب في صلاة الليل ، كما في الخبر : "صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى. فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ، صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى" ، فيكون آخره وترا إذا خَشِيَ الصبح ، وهو ما حذف منه المضاف إيجازا على تقدير : فإذا خشي أحدكم طلوع الصبح صلى واحدة ، وذلك الخبرُ الذي يَحْكِي الإنشاءَ عَلَى تَقْدِيرِ : فَلْيُصَلِّ ركعةً واحدة لتكون آخر صلاته وترا ، كما في الأثر ، أن : "اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا" ، وذلك أمر الاستحباب إذ يَرْفِدُ الصلاة في الخبر بعهد أخص فهي صلاة الليل نافلةً ، وإن لم يلزم ذلك فهو على الاستحباب أيصا فلو صلى بعد الوتر شَفْعًا مَا كُرِهَ ، ولا يجب عليه الوتر تاليا ، فلا وتران في ليلة كما في الخبر .
    وكذا لفظ "حَقٌّ" في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "«الْوَتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» قَالَهَا ثَلَاثًا" ، وهو مئنة من الثبوت في نفس الأمر ، فثم منها ما يحكي إيجابا ، ولو ظاهرا لا نصا ، وثم ما يحكي الندب ، وإن كان في تتمة الخبر ما يُرَجِّحُ الإيجاب فإن نَفْيَ النسبة في "لَيْسَ مِنَّا" مما لا يكون على ترك مندوب ، فأدنى أحواله أنه سنة مؤكدة تقارب الإيجاب وإن لم تكن على حده إذ ليس من الواجب الذي علمه صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضمامَ بن ثعلبة ، رضي الله عنه ، في الخبر المشهور وهو من البيان الذي لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، فإذ لم يجز ذلك ولم يكن من ذكر الوتر فيه ما يثبت إذ اقتصر على المكتوبات الخمس ، فذلك سكوت في موضع بَيَانٍ آخر أن سكت عن ذكر الوتر في الواجبات في موضع بيان ، فدل ذلك على بَيَانٍ آخر : بَيَانٍ ينفي إيجاب الوتر .
    فتلك نصوص الخبر والأثر التي أَبَانَتْ عن ماهيات شرعية أخص ، في الفرض والواجب والمستحب ، في العيني كما المكتوبات أو الكفائي كما الجنازات والعيدين والكسوف والخسوف ، في المواقيت والشروط والأركان والقراءة فاتحةً هي الفرض وما زاد من قراءة تُنْدَبُ إِنْ فِي السرية أو في الجهرية ، فكل أولئك مما أُجْمِلَ في الكتاب ، فلا بد من نظر يزيد في الخبر والأثر ، وإلا بطلت فريضة الصلاة وهي من المعلوم الديني المتواتر إن قولا أو عملا ، فكان من الخبر والأثر ما أبان عن هذا المتواتر فاستعار الحقيقة اللغوية المطلقة وَزَادَهَا من قيد مخصوص ما جعلها حقيقة اصطلاحية أخص ، وهي الحقيقة الشرعية المجزئة في حصول مُسَمَّى الصلاة المعهودة ، إن المفروضة أو المندوبة ، وبها وحدها الخروج من عهدة الفرض والندب في باب الصلاة ، لا جرم كان من الحكمة ما عُطِفَ على الكتاب في مواضع من الذكر المحكم ، فكان من وصف صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنَّهُ : (يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فذلك ، من وجه ، مما احتمل الترادف ، فإن الكتاب حكمة إذ تأولها بَعْضٌ أنها النبوة كما في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ، على خلاف في ذلك فَثَمَّ من جعلها العقل والفقه في الدين ، وثم من جعلها جنسا عاما يستغرق فأعلاه النبوة ولكنه لا يقتصر عليها ، وألفاظها هي الكتاب ابتداء فهو العمدة في بابها ، فيكون ذلك من باب عطف السبب على المسبَّب ، فحكمة النبوة سبب في حصول الكتاب آيةً بها الإعجاز إذ تَنَزَّلَ على قلب البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وسلم بِلِسَانٍ عربِيٍّ مبين ، فالنبوة سبب في حصول الكتاب آيةً تُعْجِزُ ، وَنَصًّا به البيان والإفهام لجمل من التوحيد والتشريع فهي الواجب الأول على كل أحد يُكَلَّفُ ، وَإِنِ افْتَقَرَ في مواضع إلى المبيِّن ، وذلك ، وجه آخر ، في العطف ، أن كان من عطف الحكمة وهي المخصوصة ، فدلالة "أل" فيها : دلالة العهد الخاص ، فتلك حكمة السنة والأثر ، وعطفها على الكتاب ، من هذا الوجه ، عطف مبيِّن على مجمل ، أو هو ، من وجه ثالث ، عطف خاص على عام ، فالحكمة من الكتاب بالنظر في الجنس الأعلى الذي يستغرق ، جنس الوحي فمنه الآي ومنه الخبر ، فَعَمَّ ثُمَّ خَصَّ الحكمة الخبرية بالذكر تَنْوِيهًا بشأنها واحترازا من قَادِحٍ فِيهَا أو مُزْرٍ بِدلالتِها التشريعية إِنْ بَيَانًا لمجمَلٍ من الآي المتواتر أو اسْتِئْنَافًا لحكمٍ جديد لم يذكر في الكتاب ولو مجملا ، فتلك حجة قد أبان عنها الكتاب فهو أصل في الحجية لما تلا من الأصول الرسالية ، ومنها السنة الخبرية ، فكان من الأمر ما أُطْلِقَ أَنْ : (أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، و : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، فَعَمَّ وجوه الطاعة والاتباع كافة ، وجوه المعنى وآحاد النصوص إِنْ خَبَرِيَّةً تُصَدَّقُ أو إنشائية تُمْتَثَلُ ، فَعَمَّ بالكتاب ، وهو كتاب التشريع مطلقا ، الآي والأخبار ، المتواتر والآحاد ، ثم خَصَّ الحكمة بالذكر ، فهي حكمة السنة المأثورة ، وقد يقال ، من وجه آخر ، إن العطف في الآية : عطف تغاير ، فالكتاب هو الوحي كله : آيه وخبره ، والحكمة هي حكمة البيان بما تَقَدَّمَ من حقائق اللسان المطلقة وهي أصلٌ فِي التَّنْزِيلِ العربيِّ المبينِ ، وما زاد من حقائق الاصطلاح الأخص ، اصطلاحِ الشرع آيًا وَخَبَرًا ، فكان من صنيعِ بَعْضٍ يَرُومُ الإبطال لمدلولات الألفاظ الرسالية إذ لم يطق جَحْدًا لِمَا تَوَاتَرَ منها ، كان من صَنِيعِ بَعْضٍ أَنْ تَكَلَّفَ لها غَيْرَةً وَأَنَفَةً أن تفسد ، فزعم لها كمالا وهي له أهل ، ولكنه تَوَسَّلَ بِهَذَا الحقِّ إلى باطل أَنْ زَعَمَ الاكتفاء بها ، كما في الخبر أَنْ : "يُوشِكُ الرَّجُلُ يَتَّكِئُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ" ، فَجَرَّدَهَا من المبيِّن لِمَا أُجْمِلَ من مدلولاتها الاصطلاحية الأخص ، وتلك هي الحقائق الشرعية التي جاءت بها النصوص الخبرية ، متواترةً أو آحادًا ، فكان من صَنيِعِ بَعْضٍ أَنْ ضَرَبَ الحقائِقَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ، فضرب الحقائق الاصطلاحية الأخص بالحقائق اللغوية الأعم ، وَتَوَسَّلَ بالثانية ، وهي حق ، إلى باطل رام به إبطال الأولى وهي الأصل في التكليف إلا أن تَرِدَ قرينة صارفة توجب حملان اللفظ على الحقيقة اللسانية الأخص ، كما تقدم من صلاة الثناء والذكر في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) ، وثم من جاوز الحد في الباب فَرَاحَ يقترح للصلاة من المعاني ما يضاهي تأويل الباطن ، فهي معراج روحي ، وذلك حق في المعنى ، إذ بها الصلة بين العبد وربه ، جل وعلا ، ولكنه زاد في الباب معان باطنة توسل بها إلى مقالات فناء ووحدة أَنْ صَفَا بها المحل الأرضي الكثيف فتجرد من العلائق ليحصل له الاتصال بالحقيقة العليا اتصالا يجاوز القربة الشرعية إلى ضرب من الاتحادية يزعم شهود الباطن الذي يسقط عنده الظاهر ، تأمل حد بعض الشيوخ المتأخرين للصلاة وهي ذلك الفرض المعهود في النقل والعقل لدى كل أحد فهو من المعلوم الديني المتواتر ، فصار من حَدِّهِ ما استغلق فمن ذا يطيق له فهما أن الصلاة هي : "فيض الشهود الإطلاقي المعبر عنه بالقوس الغيبي المنزه عن المراتب العددية والأحكام الزمنية على جميع مراتب الشبح المشبه التقييدي بحيث يستهلك كل ذرة منه في حضرة فيتلاشى الكل بظهور الكل فيبقى قابُ من ليس كمثله شيء منزّه عن القوسين في حضرة نَامُوسِ الوحدانية من ما وراء سدرة منتهى الرسالة وسدرة مبتدى الولاية في حقيقة السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" ، فمن ذا يفقه هذا النص الباطني وقد لَاحَتْ في ألفاظه مادة حلول واتحاد اتخذت الشهود والفيض الإلهي ذريعة إلى ظهور الحقيقة العليا فَيَتَلَاشَى بها الحد بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق ، وَيُسْتَهْلَكُ الناسوت في اللاهوت ، كما يقول بَعْضُ من اصطلح ولو تذرعا أن القوم ما أرادوا الاتحاد المباشر ولم يكونوا جميعا على نحلته ، فذلك حق ، ومن الإنصاف أن يميز الناظر السكر من الصحو ، وإنما ذُمَّ الحلول والاتحاد مطلقًا في الأحوال كَافَّةً فهو باطل في السكر وفي الصحو ، وإنما الكلام في العذر ، مَنْ يُعْذَرُ وإن هجر في القول وأفحش فقد بَلَغَ حَالًا من السكر والذهول هي النقص فلا يمدح بِهَا صاحبها ، وإنما الغاية أَنْ يُعْذَرَ إن خَرَجَ عن التكليف ، لا أن يصير ذلك قانون النظر في الحقائق الشرعية ولها اصطلاح أخص قد أَجْزَأَ الوحي في حَدِّهِ فَلَا مَزِيدَ من تأويلٍ يَبْطُنُ قد يخرج به عن الحد المفهِم ، كما مذاهب قد سَقَطَ فِيهَا التكليف بل قد صَارَ ذلك آيةَ ولايةٍ قد بَلَغَ السالك بِهَا النهاية سدرةَ المنتهى فانكشفت الحجب وسقط الأمر والنهي ، فالحق قد تَجَلَّى بعد أن تَخَلَّى السالك وَتَحَلَّى ، فَتَجَلَّتِ الأنوار الإلهية بما كان من أذكار وصلوات فهي العلل الفاعلة الطالبة لدرجةِ الكمالِ العلمية عِلَّةً غائية من أَدْرَكَهَا فَقَدْ بَلَغَ اليقين فلا تكليف بالعمل وَرَاءَهَا بَلِ التَّبَجُّحُ بِنَقْضِ الشرائع وَتَرْكِ الفرائض هو الدليل على بلوغ تمام الولاية ! ، وهو ما يشبه ، مِنْ وَجْهٍ ، قَبَسًا آخر من الحكمة الأولى قد تحملتها الحداثة في الجيل المتأخر إذ لم تَشْتَغِلْ بالعللِ الغائية فلا غاية لهذا الكون ولا هدف ولا حقيقة واحدة يعيش لأجلها الخلق كافة ، تأمل ذلك في مقابل ما تَنَزَّلَ في محكم الوحي من غاية الخلق أَنْ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فَضَاهَاهَا المذهب الوجودي مثالا ، وهو تمثل فكري من تمثلات المذهب الحداثي الذي يُنْكِرُ المرجع المجاوز من خارج عَبَثًا يتشدق بالحرية المطلقة فلا يُلْزِمُ أَحَدٌ أحدا بشيء ، بل لكلٍّ مرجعه الذاتي وتجربته الخاصة في النظر والتأويل ، وبها يبلغ الحق الذي يَرَى بالعقل ويجد بالذوق ، فهو الحق في نفس الأمر وإن خالف عن آخر قد خاض تجربة أخرى ، وثالث ورابع ..... إلخ ، مع جحود كُلٍّ أَنْ يَنْقَادَ إلى مرجع يجاوز من خارج فيحسم الخلاف بين العقول والألسن فيما اختلفت فيه من الحقائق والحدود ، فجحده القوم كافة ، وهو استوجب لسانا جديدا ينطق بالتأويل المحدث ، فيكون من محكمات اللسان : المعجمية المفردة والسياقية المركبة ، يكون منها حجاب دون الحقيقة الباطنة ، فلا يبلغها السالك إلا أن يبطل اللسان الحاجز دون بواطن المعارف فيقترح آخر ينسخ المتقدم ، كما باطن الحقيقة ينسخ ظاهر الشريعة ، تأمل قاعدة الشمس التبريزي خامسة من أربعين في العشق ، على ما اطرد في اصطلاح الشيوخ المتأخر وقد قاربوا بالطريقة حد الحكمة الأولى ، وهو ما صيرها باطنية فلسفية فَشَتْ في العجم ما لم تَفْشُ في العرب ، لا عنصرية وتحكما ، وإنما اللسان العربي يعصم من التأويل الباطني المحدَث إذ يحول بينه وبين إفساد الشرع والنطق كافة ، فتأمل قول الشمس التبريزي : "تنبع مُعظم مشاكل العالم من أخطاء لغوية ومن سوء فهم بسيط . لا تأخذ الكلمات بمعناها الظاهري مُطلقا وعندما تلج دائرة الحب تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن . فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات لا يمكن إدراكُه إلا بالصمت" . اهـ
    وَأَوَّلُ الكلامِ لا يخلو من حَقٍّ فَعَامَّةُ خلافاتِ الخلق ترجع إلى القياس الفاسد ، وما كان انحراف في الفكرة أو الحركة إلا من قياس باطل ، كما أثر عن بعض السلف ، فما عبد غير الله ، جل وعلا ، إلا بالمقاييس ، فَضَلَّ الخلق في القضية الأولى الرَّئِيسَةِ ، قضية التوحيد التي بها صلاح السنن كافة ، الكونية والشرعية ، فالتوحيد ، لو تدبر الناظر ، أصل محكم في العلوم كَافَّةً ، فهو معيار يصح في النظر إذ يحكم بالحق في أعظم قضايا الخلق : فضايا التأله والمبدإ في الخلق والمصير بعد الموتِ ، فإذا هُدِيَ الناس فيها إلى الحق فما بعدها أيسر ، إذ صلاح الأصل في الأفكار يؤذن بآخر في فروع من الأقوال والأعمال وسائر الأحوال ، فذلك المركز الذي يصدر عنه أي إنسان في شأنه كَافَّةً إِنْ شِرْعَةً بِهضا يَتَنَسَّكُ أو جِبِلَّةً بها يَتَكَسَّبُ ، إِنْ عِلْمَ التوحيد والتشريع أو آخر من البحث والتجريب ، فَلَا بد من أول هو الباعث ، فيكون من التصور العلمي أول يَتَقَدَّمُ الحكمَ المصدِّق في الخارج ، فمبدأ الحركة فكرة ، وحركات الأبدان في السياسة والحرب والاقتصاد والاجتماع وسائر أحوال العمران ، وما حُدَّ لها من العلوم الواصفة ، من وجه ، وبها ترجمة الظواهر إلى لُغَةٍ تُحْكَى ، سواء أكانت لغة تَحْكِي المعقول من مواجيد النفس أم المحسوس من حركات الجسد والكون ، وما يكون من ظواهر في الخارج تخضع لمعايير الحس في القياس والدرس ، كما يَضْرِبُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ المثلَ بِلُغَاتِ العلوم التجريبية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات ، فَقَدِ اخْتَزَلَ أربابُها ظواهرَها في المختبرات وقاعات الدرس ، اخْتَزَلُوهَا فِي رموز ذات مدلول ، وتلك لغة محدثة قد اصطلح عليها أهلها ، وصار لها في مجامعِهم وصف التواتر الخاص إذ يَتَوَاتَرُ عِنْدَ أهل الفَنِّ أو الصناعةِ ، يَتَوَاتَرُ عندهم من الألفاظ والدلالات ما لا يَتَوَاتَرُ عِنْدَ غيرِهم ، وإن استعاروا من معجم الدلالات الأعم ، معجم اللسان المطلق ، وإن استعاروا منه مواد ضَمَّنُوهَا من القيد ما صَيَّرَهَا حقيقة اصطلاحية أخص بما كان من عرف متداول بين أهل الفن الواحد ، ولكلِّ علمٍ لغته الاصطلاحية التي بها انضباط الحقائق ، وإن بَلَغَتْ من الإشارية ما بَلَغَتْ ، كما علوم الرياضة والتأمل ، فلا تنفك تَحُدُّ المواجيد من التوكل والصبر ..... إلخ ، وهو ما عَابَهُ بَعْضُ من حَقَّقَ لا بالنظر في أصله ، فالكلام في السلوك والأخلاق مما يحمد ، وإنما عِيبَ الإفراط في الحد إذ تَكَلَّفَ من اللفظ ما صَيَّرَ الواضح مشكِلا ، وذلك أمر قد اطَّرَدَ في الحدود المنطقية المتأخرة وقد سرت في العلوم كافة ، وإن العلوم الدينية واللسانية ، وهي مما جاء في الوحي الخاتم عَرَبِيًّا يُفْصِحُ بِلِسَانٍ بَلِيغٍ محكَمٍ قد أدى المعاني بجوامع موجزة معجزة ، فكان من إيجازها ما سَهَّلَ التحمل ثم الأداء إذا فَقِهَ الناظر نظم المباني فهو من أهل اللسان فعلم ما تَوَاتَرَ فِي اللسان من صورِ التراكيب التي تنظم المفردات في سِلْكِهَا الجامعِ ، وكان من بلاغها ما به الحجة تُقَامُ بظواهر الألفاظ التي يستوي الخلق كَافَّةً فِي دَرَكِهَا فَتِلْكَ أصولُ العلومِ والأعمالِ ، فكان من تَوَاتُرِهَا إِنْ في الكتب أو في النطق أو في العمل ، كان منها ما يجزئ كُلَّ أحدٍ أَنْ يَبْلُغَ من الإيمان درجةً بها يسعد وينجو ، كلٌّ بما أطاق ، فإن الخلق لا يستوون في درك المعارف لا سيما اللطائف التي تدق ، فكان من رحمة الخالق ، جل وعلا ، بالخلق أن جعل الأصول واضحات فجاءت بلسان ناصح يُفْصِحُ ، وكان من ظواهرها في الاعتقاد والقول والعمل ما يجزئ ، فظواهر ألفاظها التي تَتَبَادَرُ من المجموع المركب من الدلالة المعجمية المفردة والدلالة السياقية المركبة ، تلك الظواهر تجزئ في الباب دون خوض في إشارات أو بَوَاطِنَ تَلْطُفُ فَلَا يُدْرِكُهَا كُلُّ أحدٍ ، سواء أكانت من القياس الناصح وإن خفيت فَلَا يُدْرِكُهَا إلا مَنْ حَقَّقَ فَتَضَلَّعَ من الأصول الدلالية النظرية وهي قدر يجاوز الدلالة الضرورية التي لا تفتقر إلى نظر ولا استدلال فيجزئ فيها ما ركز في الوجدان من أحكام إسنادية في الكلام تبين عن الحقائق دفعة دون عمل يجاوز في الاستنباط مقدماتٍ وَنَتَائِجَ لا يُدْرِكُهَا إلا من أعمل الفكر إعمالًا يجاوز الضروري أو الظاهر المتبادر ، فكان من الفطرة الناصحة في كلِّ نَفْسٍ أَنْ هُيِّئَ المحلُّ لقبول آثار الوحي ، وأعظم مسائله ، كما تقدم ، التوحيد ، وهو أول واجب على العبيد كافة ، كما النظم المشهور في مسائل الإيمان والاعتقاد ، فكان من رِكْزِ الفطرةِ توحيدٌ أول هو أَثَرُ مِيثَاقٍ تَقَدَّمَ لا يحسن أحد يحكيه وإن أدركه يقينا ، فوصف المدركات الضرورية من المواجيد النفسانية ، وصفها الوصف المنطقي المنضبط قد يعسر فلا يحسنه عامة الخلق بما كان من تكلف أهل الصناعة في صياغة الحدود الجامعة المانعة .
    فكان من تلك الضرورة العلمية في كلِّ نَفْسٍ مَا صَيَّرَ ظواهرَ الوحي مَنَاطَ التكليف المجزئ في الأصول الدينية التي بها صِحَّةُ العقدِ والشرعِ بما وجب على آحاد الخلق ، فذلك قدر ضرورة يشترك فيها كل أحد ، وهو التواتر العام ، وإن زَادَ بَعْضٌ بما اشْتَغَلَ به من الدلالات النظرية كالإشارة في مقابل العبارة ، فَعِبَارَةُ النَّصِّ مَا ظَهَرَ مِنْ أَلْفَاظِهَا ، وإشارتها ما دلت عليه لا في محل النطق ، وإن لم تكن ذريعة بها يجاوز النظر حد العقل بما استقر فيه من مقدمات الاستدلال الضرورية ، دلالات معجم يطلقها الذهن وهي أوَّلٌ فِي دَرَكِ أَيِّ معنى مركب بما يكون من ائتلافها بادي الرأي في جمل مركبة تحكي معنى سياقيا مجموعا من كلمات المعجم المفردة وما اشتهر في نظم اللسان من علائق بين الألفاظ فهي روابط بها يَلْئَتِمُ الكلام لفظا يفهم فيفيد معنى صحيحا قد اكتمل ، إن مذكورا أو مقدرا بما يَسْتَتِرُ من ضمير أو يُحْذَفُ من بَعْضٍ قَدْ دَلَّ عليه آخر دلالةً تجزئ في الحذف فهو ، كما تقدم في موضع ، خلاف الأصل ، فلا يكون إلا بدليل يجزئ ، وهو ، أيضا ، مما احتمله اللسان فَصَارَ من عرفه الأخص وإن خالف عن حقيقة اللسان الأعم ، فهي أولى درجات الاستدلال مطلقاتٍ يقيدها السياق بما يكون من عُرْفِ لسانٍ أخص ، لا جرم كان في الرجوع إليه زمنَ التكلم فهو المعتبر في تفسير الكلام المأثور ، كان من الرجوع إِلَيْهِ أَمَانٌ في الفقه والعمل ، فلا بد من فقه لسانِه الِّذِي نَزَلَ به وحيا أو سُطِرَ بِهِ نَظْمًا أو نَثْرًا ، مع ما حُفِظَ من وصفه الذي يحكي الإعراب والشكل ، وما يكون من طرائق الأداء إقامة أو إمالة ، تَفْخِيمًا أو تَرْقِيقًا ..... إلخ ، بل منه ، كا يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، منه ما يُحْكَى بحركة الشفة كما الروم والإشمام مثالا فلا يستفاد منه صوت يُدْرَكُ وإنما التحري في النقل ولو حركات الفم كما نوع لطيف في علم الرواية اصطلح أنه المسلسل فمنه المسلسل بما يحكي الراوي من حال صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضَحِكًا أو هيئةَ جلوسٍ مخصوصة .... إلخ ، لا جرم كان من العلم الواصف في الكتاب النازل : أولٌّ به ضَبْطُ النَّصِّ فمنه : ضَبْطُ النُّطْقِ بما يكون من أدوات التجويد والصوت ، وما يكون من مُتَوَاتِرِ القراءاتِ الَّتِي جهد أهل الشأن في جمعها وَبَيَانِ طُرُقِهَا وأنواعها التي تجزئ فِي ثُبُوتِ الآيِ قِرَاءَةً تجزئ في الصلاة وفي التلاوة خَارِجَهَا ، وأخرى قد فاتها شرط به قد خَرَجَتْ عن المعيار القياسي في الباب بما اسْتَقْرَأَ أهلُ الشأن ، وعمدتهم في ذلك الإسناد ، فهو من علم الرواية المأثور ، كما لسان الوحي إذ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا عن أهله من جيلِ التَّنَزُّلِ وما كان قَبْلًا مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ قَدْ جهد أهل الشأن في تحقيق نسبته ورواية ألفاظه وتصحيح أبياته وَتَحَمُّلِهَا مشافهةً عن جيلِ احتجاجٍ قد سَلِمَ من اللَّحْنِ والْعُجْمَةِ ..... إلخ ، فكل أولئك مما به ضبط النص في الرواية ، إن متواترة أو أخرى من الآحاد الخبرية التي اشترط فيها أصحاب الاصطلاح ما ظهر من العدالة والضبط والاتصال ، وما خفي مِنَ السلامة من الشذوذ والعلل القادحات التي لا تظهر ، بادي الرأي ، فَمَثَلُهَا في الرواية مَثَلُ الدلائل الخفية في الدراية بما يخالف عن الأصل ، كما تقدم من الذكر والحذف ، فالذكر هو الأصل الذي يَطَّرِدُ ، والحذفُ مَا خالف عنه فَافْتَقَرَ إلى دليلٍ من خارج ، إذ يعدل به الناظر إلى المرجوح عن الراجح ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما استوجبَ قَرِينَةً معتبرةً في التأويل ، وإلا كان لَعِبًا كَمَا اطَّرَدَ في مسالك الباطن التي تذرعت في الجيلِ المحدَث بما اصطلح أَنَّهُ تَفْكِيكُ النَّصِّ فَلَمْ يَسْلَمْ منه وحيٌ مُنَزَّلٌ ولا وضع محدَث أَنْ تَوَسَّعَ أصحابه في الباب وَصَيَّرُوا الذات حكما على النص بما لكلٍّ من تجربة وذوق ، فلم يعد النص حكرا على صاحبه الأول الذي تَكَلَّمَ بِهِ أو كَتَبَهُ لِيُبِينَ عَنْ مُرَادِهِ الذي يقضي في متشابهات قد حدثت بعده بما اقترحَ كلُّ ناظرٍ من تأويل ذاتي يستند إلى مواجيد خاصة ، فصار الكلام الواحد على أنحاء شتى ، وهو ما غلب على أهل الطريق في مذاهبهم المتأخرة إذ دخل عليهم من التأويل الباطن مع قَبَسٍ من الحكمة الأولى ذات المعايير الذاتية التي لا تَنْضَبِطُ ، فثم تجربة روحية أو عقلية خاصة هي عنوان الحقيقة في نفس الأمر وإن خالفت عن مِعْيَارِ العقلِ والنطق واستحدثت من الدلالات الذاتية ما يُبْطِلُ أَيَّ مرجع من خارج يجاوز بما تَوَاتَرَ من قانون اللسان الأعم وهو أول في تأويل أي نص ، فلا بد من معيار من الألفاظ ينضبط بما تواتر واشتهر من معجم الحقائق الأعم : الحقائق اللسانية التي يجردها الذهن ، فَمَا تَلَا من القيد فهو قَيْدُ الجيل المتكلم : جيل التَّنَزُّلِ أو التَّحَدُّثِ ، إذ يُرَدُّ إليه النص الذي فيه قَدْ نَزَلَ أو دُوِّنَ أو صُنِّفَ ، فالمتكلم يَرُومُ إفهام الجيل الأول أصالة ، فَتَكَلَّمَ بما يعرفون من متواتر اللسان ألفاظًا وَتَرَاكِيبَ فَلَهَا معيار أخص في الفهم والفقه ، فهمِ المدلولِ الأول وَفِقْهِ ما جاوز من الدلالات الثانوية التي تفتقر إلى القرائن المعتبرة ، سياقية أو عرفية أو دينية ، فالقرينة السياقية وما احتف بها من بساط الحال ، وما كان من بَعْضٍ يجزئ من قَرَائِنِ عقلٍ تُدْرَكُ ، وهو ما يمتنع في المغيبات التي لا تدرك إلا من خبر يقتصر الناظر عليه إذ لا يدرك ما جاوز من الماهية والكيف فذلك مما يبطل خاصة العقل الأشرف أن يؤمن بالغيب الذي لا يدرك حَدُّهُ في الخارج وإن لم يمتنع في قياس العقل الناصح فهو ، كما تقدم في مواضع ، من الجائز الذي استوى طرفاه في الإثبات والنفي ، فالعقل لا يوجبه ، بادي الرأي ، ولا يحيله ، فكان حده أولا الجواز ، وثم من المرجح ما به الإثبات أو النفي ، أو كَانَ على أصل أول يُسْتَصْحَبُ أَلَّا يُثْبَتَ وَلَا يُنْفَى ، وإن كان ذلك إلى النفي أقرب ، فهو باب مداره التوقيف ، فلا يثبت إلا بدليل وهو ما اطرد في الشعائر كما العقائد ، فكان من اصطلاح أهل الفقه التحريم : تحريم عبادة إلا بدليل هو النص في بابه فلا يجزئ فيه الجواز المحض أو دليل عام في مَوْضِعٍ خاص ذي هيئات وماهيات مقدرة فَتِلْكَ زِيَادَةٌ لا تَثْبُتُ إلا بدليل يَزِيدُ ، فلا يجزئ فيها التجويز العقلي المحض أو الاستحسان الوجداني الأخص الذي يُصَيِّرُ النص ، كما تقدم ، تجربة وجدانية خاصة بها تفكيك النصوص بما يواطئ الأذواق والعقول ، فلكلٍّ معيار ذاتي لا يجاوز ، ولا معيار من خارج يَقْضِي في معلومه الوجداني فإنه ، في المقابل ، مما لا يُرَدُّ مطلقا بل هو على حَدِّ الاختبار أَنْ يُرَدَّ إلى المحكم من الأدلة والدلالات التي انضبطت بما أُثِرَ من قانون اللسان المفهِم ، فَيَقْضِي في المواجيد الذاتية : قضاء المحكم في المتشابه ، فَمَا وَاطَأَ منها الأدلة الصحيحة والاستدلالات الصريحة فهو يُقْبَلُ ، وما خالف فكان على غير الهدي الأول فهو يُرَدُّ ، وذلك مما نَصَّ عليه الخبر ذو الدلالة المنطوقة المصرحة أَنْ : "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" ، فدلالة المفهوم أن من عمل عملا على الهدي الأول فهو يقبل إذ وافق مراد الشرع المحكم ، ودلالة المنطوق المصرِّح أن مَنْ أحدث من الأمر ما ليس منه فهو رَدٌّ ، وهو ما استغرق كُلَّ زيادة مخصوصة لا تثبت إلا بدليل في باب الأصل فيه ، كما تقدم ، التوقيف ، وهو ما قد عم فاستغرق المحدثات كافة ، العلمية والعملية ، سدا لذريعة التحريف في الديانة ، فالإحداث يكون بالنقص كما الزيادة وكلاهما تحريف وتبديل يَنَالُ المعنَى والمبنى كَافَّةً ، فَسُدَّتِ الذرائع إليه أَنْ نُهِيَ عن مقدِّماته مِمَّا يكون زِيَادَةً تُسْتَحْسَنُ بالهوى أو الذَّوْقِ الذي يحكي ذَاتِيَّةَ مِعْيَارٍ يَتَفَاوَتُ فَهُوَ بِعَدَدِ النُّفُوسِ التي تَنْظُرُ وَتُجَرِّبُ ، ولكلٍّ تجربة ذاتية خاصة في تأويل النص فإذا صدر كلٌّ عن ذاته فَلَهَا معيار لا يَنْضَبِطُ لا جرم اختلفت الحدود في حكاية الظواهر الوجدانية ، كما اطرد لدى أصحاب الطرق الرياضية ، فكان من الحدود ما غَمُضَ وَلَطُفَ فهو يحكي حالا وجدانية خاصة خاضها كل أحد فحكى ما وَجَدَ ، أبان أو أجمل ، فقد يزيد حدُّه المعرَّفَ غموضا بما يستعمل من لغة إشارية تَلْطُفُ فلا يكاد يدركها إلا هو بما حصل له من معجم دلالي أخص يحكي تجربته الذتية المنفردة ! ، وتلك إشارة تجاوز ما تقدم من إشارة النص وهي من المعتبر في دلالات الألفاظ لا في محل النطق ، فتقابل العبارة المنصوصة ، كما المثل في الأصول يضرب بآي التنزيل المحكم أَنْ : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، فَثَمَّ من العبارة ما يَنْسَخُ عزيمةً تقدمت في الصوم ، فصار الرفث مباحا حتى انقضاء الليل ، وهو ما دل بإشارة تلطف أن صوم الجنب يصح فإن إباحة الرفث في ظرف الليل كله مما يدل إشارةً أَنَّ الجنابة قد تحصل في آخر جزء من الليل وليس بعده إلا طلوع الفجر فلا تكون ثم فسحة اغتسال من الجنابة ، فيصوم جنبا ، وبه رَدَّ أهل الشأن روايَةَ أَبِي هريرة رضي الله عنه : "«إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ، صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَحَدُكُمْ جُنُبٌ، فَلَا يَصُمْ يَوْمَئِذٍ»" ، وقد رواها مرسلة عن الفضل بن العباس ، فَثَمَّ واسطة إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، في مقابل أخرى وَرَدَتْ عن أم المؤمنين عائشة وأخرى عن أم سلمة ، رضي الله عنهما ، إذ تحكيان من فعل صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يصبح يومَ صيامه جُنُبًا فَيَغْتَسِلُ وَيُصَلِّي الفجر ، فحصل مِنْ بَعْضِ يومه جنابةٌ ، ولم يبطل ذلك صومه ، إذ لو أبطل لكان البيان عليه واجبا ، فهو موضع حاجة تمس أن يَسْتَبِينَ الخلق أحكام الشرع ، ومنها ما تَعُمُّ به البلوى من الجنابة والتَّطَهُّرِ ، فَلَا تَصِحُّ عباداتٌ عظمى كالصلاة والطواف إلا بها ، فَلَمَّا سكت في موضع البيان كان ذلك بَيَانَ الجوازِ ، وهو أدنى ما يستفاد من التقرير السكوتي في باب الأحكام ، ولا يقال إن ذلك من الخصائص فهي مما لا يثبت إلا بدليل هو النص في الباب ، فَيُنَبِّهُ عليه صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما المثال يُضْرَبُ بِوِصَالِ الصوم إذ ظنوه عاما فَنَهاهُمْ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو من خصائصه فإذا أَبَوا إلا الوصال فَإِلَى السحر وإن كان تعجيل الفطر أفضل ، فهو السنة سدا لذريعة الزيادة في العبادة ، فيكون من ذلك إحداث في الأمر ، وهو ، كَمَا تَقَدَّمَ ، رَدٌّ ، فلا تثبت الخصائص إلا بدليل وإلا فالأصل في الشرائع العمومُ المستغرق حتى يرد دليل من خارج يُخَصِّصُ ، فلا يكون ذلك بالاحتمال المحض ، فيقال : يحتمل أنه من خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يُقَاسُ عليه ! ، وذلك باب لو فُتِحَ لَتَذَرَّعَ بِهِ كَثِيرٌ أَنْ يُبْطِلَ أحكامًا قد ثَبَتَتْ فَيُحَجِّرَ الواسع تحكما بلا دليل ويصيرها من خصائص صاحب التشريع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو ما نهى عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : "ما بالُ أقوامٍ يتَنَزَّهونَ عن الشيءِ أصنَعُهُ ؟ ! فواللهِ إِنَّي لأعْلَمُهُمْ باللهِ ، وأشدُّهم لَهُ خشيَةً" ، فَتَنَزَّهُوا ، كما قال بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، تَنَزَّهُوا عن أشياء قد فعلها وظنوها خصائص وهو ما يَفْتَحُ الذرائع إلى نَقْضِ الشرائع أنها جميعا من خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا تعم بخطابها الجمع المكلف ، وذلك مما خالف عن الأصل الأول في الكتاب المنزل إذ الأصل فيه العموم في التصديق والامتثال ، حَتَّى يَرِدَ دليل التخصيص فهو الضرورة التي تقدر بقدرها ولا تَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلِهَا ، ومنها ما كان من حديث الثلاثة الذين تَقَالُّوا عبادته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهو أتقاهم لربه ، جل وعلا ، فكان من إجرائه النصوص على العموم فأفعاله ، كما تقدم ، على ذلك حتى يَرِدَ الدليل المخصص من خارج ، ومن باشر الفعل فحكاه كما مثال الجنابة آنف الذكر ولا يكون إلا بين الرجل وأهله فلا اطلاع لأحد عليه لينقل نقل المباشرة بلا واسطة ، فَرَجَحَ خبر أمهات المؤمنين ، من هذا الوجه ، رَجَحَ خبر أبي هريرة الذي ينقل عن واسطة ، وإن موثوقة فالساقط صحابي لا تضر جهالة عينه لا جرم كانت معظم روايات ابن عباس رضي الله عنهما مثالا وهي المرفوعات إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت من مراسيل الصحابة فهو من صغارهم فَتَحَمَّلَ عن كبارهم وطال به العمر مع تَحَرٍّ في الطلب والجمع به قد اشتهر ، فجمع من علم الصحابة كثيرا ورفعه إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالواسطة مُعَدَّلَةٌ بِتَعْدِيلِ الوحي ، لا عصمةً من الخطإ ، وإنما أُخْرَى من الكذب ، فلم يكذب أبو هريرة ، رضي الله عنه ، في الرواية ، وإنما غاية ما يكون من إعمال القواعد المعتبرة في باب الجمع والترجيح ، أَنْ يُقَالَ إِنَّ قول أبي هريرة ، رضي الله عنه ، يُحْمَلُ على الْأَوْلَى ، فيكون النفي : نفي الصورة الكاملة لا أخرى مجزئة ، فالمجزئة مباحة ، ولو خلاف الأولى ، فكان من فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يحكي الإجزاء وهو أدنى ما يخرج به المكلف من العهدة ، فكان من بَيَانِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالفعل ما أَجْزَأَ في حصول المعنى ، إباحة الفعل لا أكثر ، وإن كان الْأَوْلَى أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الفجرِ فَيَسْتَأْنِفَ يومَ الصيام طاهرا من الجنابة ، فإن تعذر الجمع بين الخبرين فالترجيح ، كما تقدم ، أَنَّ أَبَا هريرة ، رضي الله عنه ، قد أخطأ في التحمل إِنِ اللَّفْظَ أو المعنى فَرَدَّتْهُ أم المؤمنين إلى الصحيح في نَفْسِ الأمر بما استدركت آيةَ حفظٍ لِلذِّكْرِ أَنْ يُبَدَّلَ أَوْ يُحَرَّفَ أَوْ يَضِيعَ منه شيء لا في أَصْلٍ ولا فِي فرع لا يحصل الدين المجزئ إلا به ، فذلك مما امتنع ضرورةً في الدين الخاتم وإلا بطلت الحجة ، ولو احتمالا ، فَلَئِنْ كان ثَمَّ خطأ في موضع فذلك ما يفتح ذرائع الاحتمال إلى خطإ في آخر ، بل وعام يستغرق النقل كافة ، ولو أصلَ الرسالة ، لا جرم كانت عناية الفرق الخارجة عن الجادة وما تلا بَعْدًا من حداثة اقْتَبَسَتْ من مقالهم شُعَبًا بها احترقت ، كانت عنايتهم جميعًا التكذيب إما بالقدح في الرواة صراحةً أو كنايةً ، وهو مما به التوسل تاليا إلى القدح في ناقل الديانة الأول ، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو بالقدح في المرويات أنها مما أَخْطَأَ فيه الراوي وَوَهِمَ وهو ما يحكي الجهل المطبق بعلوم الرواية والترجيح التي صُنِّفَ فيها ما صُنِّفَ ، وكان من تحرير مادتها ما يَنْفَعُ في إزالة التعارض المتوهم أو الترجيح بين الروايات ترجيحا معتبرا ذا قواعد محكمة ليس منها بداهة ، وجدان السامع وتجربته الذاتية في التَّعَاطِي مع النصوص الدينية ! ، فتلك ثانية بعد أولى في منهاج الحداثة ، كما يحكي بَعْضُ من حَقَّقَ من صنيع الفرق الأولى فلم تخرج الآخرة عن طريقتها ، فإما التكذيب فإن أعياهم فالتأويل الذي لا يستند إلى دليل محكم ، وإنما هو التحكم تَرْجِيحًا بلا مرجِّح إلا ما تقدم من التجربة الوجدانية الخاصة فِي التَّعَاطِي مع النص ولو تَفْكِيكًا وَهَدْمًا واستبدالَ محدَثٍ لا أصل له في نَقْلٍ أو عَقْلٍ أو لسانٍ بِآخَرَ محكم ، وليس ذلك ، أيضا ، إلا اللعب الذي يفسد الاستدلال بالكلام كله ، كلام الوحي أو البشر ! .
    فكان من إنكار صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أولئك النفر الذين تَقَالُّوا عبادته ما سَدَّ ، أَيْضًا ، ذريعة الغلو في الزهد والرياضة وأخرى أدق بها يَسْتَدْرِكُ كلُّ أَحَدٍ على الوحي بما يطرأ من هوى أو ذوق ، كما تقدم من تجارب التفكيك والتأويل الذاتية التي تصدر عن مرجع من داخل يَتَفَاوَتُ ، فلا يحسم مادة الاختلاف والتعارض بين المواجيد النفسانية في تأويل الألفاظ الدينية أو الفكرية ، لا يحسمها إلا مرجع يجاوز من خارج له من معيار اللسان الحاكم ما يواطئ قصد المتكلم ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلِسَانِ الجيل الأول الذي تَحَمَّلَ وَأَدَّى ، وله من رِكْزِ اللِّسَانِ مأثور قد تَرَاكَمَ من كلامٍ منظومٍ ومنثورٍ ، فَتَحْرِيرُهُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، أول في دَرَكِ مرادِ المتكلم مع تحرير النسبة إليه صِحَّةَ إسنادٍ بها الدليل يَسْلَمُ مِنَ الكذب ، وبعدها صراحة استدلال بها المدلول يَسْلَمُ من الخطإ ، وهو ما يواطئ القياس المصرح في الألفاظ عامة ، فاللفظ لا ينفك يدل على المعنى في محل النطق تارة فهو الظاهر المتبادر فلا يعدل عنه الناظر إلا بقرينة تأويل معتبرة ، وأخرى لا في محل النطق فهو المفهوم الذي يوافق أو يخالف قِيَاسَ طرد أو عكس ، ومنها الإشارة ، كما تقدم في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، وهي مما أجمل في الاصطلاح المتأخر فاستوجب الاحتراز فمن الإشارة معتبر في الدلالة إذ لا ينقض الأصل فهو المعنى الثانوي تاليا بعد أولي يثبت ، فلا يكون من الإشارة وهي الفرع ما يَنْقُضُ العبارة وهي الأصل ، ومنها ما سلك المسلك الباطني تذرعا ، كما تقدم ، بالاصطلاح الذاتي الذي يصير اللسان الواحد على كثيرٍ لا يحصى ، فيكون الخطأ في الاستدلال وإن كان الدليل واحدا ، إذ أُفْرِغَتِ الألفاظ من مادتها المعجمية وهي الضرورة العلمية الأولى في أي استدلال محكم ، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا كُلُّ نَاظِرٍ أو مُحِبٍّ ، كما تذرع الشمس التبريزي في قاعدته آنفة الذكر ، فـ : "تنبع مُعظم مشاكل العالم من أخطاء لغوية ومن سوء فهم بسيط . لا تأخذ الكلمات بمعناها الظاهري مُطلقا وعندما تلج دائرة الحب تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن . فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات لا يمكن إدراكُه إلا بالصمت" ، وأول الكلام ، كما تقدم ، لا يخلو من حق فعامة خلافات الخلق ترجع إلى القياس الفاسد ، ومنه قياس اللسان فلا يحرر كُلٌّ معيارَ النطق في محل النِّزَاعِ ، فقد تَنْفَكُّ الجهة فلا خلاف ، بادي الرأي ، وإن توهم المختلِفان ذلك ، فإذا حَرَّرَا أصول الاستدلال وَصَارَا على كلمة سواء ارْتَفَعَ الخلاف أو سَهُلَ فيه الترجيح إذ كلٌّ على أصل محكم ومعيار من الاستدلال ينصح ، ولا يكون ذلك إلا بظواهر معتبرة في الاستدلال إما المفردة أو المركبة ، وهو ما نهى عنه الشمس التبريزي ! ، فكان من قاموس الحب جَدِيدٌ ينسخ ، فلا يُدْرَكُ بما ظهر من العبارات إذ لها في الوجدان الذاتي معيار أخص يحملها على مراد باطن لا يظهر فلا يَفْقَهُهُ إلا من عالج تجربة الحب والعشق ، فَلَهُ في ظاهر الألفاظ نظر يجاوز وإن أتى على أصولها بالإبطال فَنَقَضَ العقائد والشرائع ، فإذا ولجت دائرة المحبة فاخلع لسانك ومنطقك قبل الدخول فذلك باب لا يدرك بالمعقول ، فالوجدان قد نسخه وصيره مما أكل الزمان عليه وشرب ! ، فـ "عندما تلج دائرة الحب تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن . فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات لا يمكن إدراكُه إلا بالصمت" . اهـ
    وذلك من جميل القول فلا يخلو من معان تخاطب الوجدان بالشوق والمحبة وتلك موارد يصدر عنها العشاق في دنيا الخلق بما يحسن من دقائق الغزل ، فلا تجاوز هذا الحد مبالغة في وصف المحبوب فاللسان يعجز عن وصفه لما تكامل من حسنه ، فيكون الصمت أبلغ من كل كلام ، وللمحبين لُغَةُ همس وصمت هي أبلغ من كل قَوْلٍ بل الكلام في موضع السكوت يُفْسِدُ ، فمن الأحوال ما بهاؤه إجمالُه فإذا اسْتَبَانَ ابْتُذِلَ ، ومن نظر المحبين لسان صِدْقٍ لا يحسنه إلا من أَتْقَنَ ، فكل أولئك من المعنى الحسن الذي يصح في مواجيد العشاق لا في الشرع ، واسم القواعد في نَفْسِهِ يَقْبُحُ أن كان العشق الإلهي الذي شَهَرَهُ الشمس التبريزي ومن بعده الشيخ جلال الدين الرومي في أشعاره المعروفة ولا تخلو من جودة في العبارة ولطف في الإشارة ولكنه مما يصح بين الخلق لا بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق إذ تَذَرَّعَ به بَعْضٌ فجاوز به نصوص العشق إلى نصوص الشرع ! ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما تَوَسَّلَتْ به الحداثة المتأخرة أَنْ تُبْطِلَ دلالات الأصول المتقدمة ، لا سيما الرسالة المنزلة فهي خصمها المستحكم ، فكان التوسل بالتأويل الباطن أَنَّ النص ملك الجميع فكلٌّ له يُعَالِجُ بما يهوى ويجد ، فَلَهُ لِسَانُ تَعَقُّلٍ لا يجاوزه إذ يأبى الانقياد لآخر من خارجه ، فيكون من الألسن بعدد العقول التي عنها تصدر ، ويكون من التأويلات الذاتية ما يبطل المحكمات الدلالية ، ولو أصولَ معانٍ في المعجم قد علمت بالضرورة من اللسان والوحي ! ، فصار النص المحكم على وجوه تَتَشَابَهُ ، وليس ثم حكم يَقْضِي بَيْنَهَا حال التَّنَازُعِ ، بل صار كلٌّ على حق فهو مما بلغه بهواه وذوقه إذ الحقائق تَتَعَدَّدُ والصور تَتَكَرَّرُ وإن كان الجوهر واحدا يقدم ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، مما توسلت به المذاهب الأرضية المحدثة في القديم وفي الحديث أن تبطل حكومة التنزيل ، ولو أصول توحيد وتشريع ، بل منها ما قد جاوز الحد : إلحادا في التصور وإباحية في المسلك كما الناظر يرى في الجيل المتأخر ، وإن كان لذلك أصل أول ، فالمذاهب الإلحادية الإباحية ليست وليدة جيلها فلا تنفك يحدث منها في كل جيل وليدُ سفاحٍ يقترح من التصورات والمسالك ما يخالف عن النقول والعقول والبدائه ، كما بعض الفضلاء يضرب المثل بحركات باطنية أولى صدرَ الملك العباسي وما تلا إذ كثرت الحركات الباطنية السرية ، كما حركة المقنع الخراساني الذي قال بَبِعْضٍ من جمل الحداثة المعاصرة ! ، أو هي قد قالت بما كان منه أولا ، أو هما جميعا قد قالا بمقال يطرد في النوع الإنساني كافة إذ تَوَهَّمَ الاستغناء فَطَغَى حتى بَلَغَ في ذلك الغاية أن يصير إلها يعبد ، فـ : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ، فَيُسْمَعُ لقولِه وَيُطَاعُ لأمره فهو معدن عصمة لا تحتمل الخطأ ، فقال المقنع إن الإنسان إله ، فَزَعَم أن روح الله قد حلت فيه ثم تناسخت من آدم حتى النبي الخاتم ومنه إلى أبي مسلم الخراساني إذ لم يقتله المنصور العباسي فقد غاب ليرجع آخر الزمان ! ، فتناسخت الروح الإلهية حتى بلغت المقنَّع نَبِيًّا مبدأَ أمره ثم إلها قد أباح لعباده كل شيء وأسقط عنهم كل فرض إلا أن يسجدوا له إذا رأوه فذلك مما يكفيهم المؤنة ويخرجهم من العهدة : عهدة التكليف بالشرعة .

    والله أعلى وأعلم .


  10. #10
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    ولا تكون سلامة في هذا الباب إلا أن يكون من محكم الاستدلال جادة تسلك ، في المراجع وفي المعاني ، في الأدلة وفي الدلالات ، فأول هو الكتاب إذ يفسر بمثله فما أُجْمِلَ فِي موضع أبين عنه في آخر ، كما في أكل المال بالباطل ، وهو في الربا محل شاهدٍ بِمَعْنًى أعم يجاوز ، فكان من تعاطفهما كما في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) ، كان منه خاص قد أُفْرِدَ بالذكر تَنْوِيهًا بشأنه وهو مما يعظم ويفدح ، ثم عام قد استغرق أكل المال بالباطل ومنه الربا ، فكان من الأخذِ في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) ، كان مِنْهُ مَا حُدَّ مصدرا قد عمل في المفعول المأخوذ وهو "الرِّبَا" ، فلا تخلو اسميته من ثبوت هو آكد في تسجيل الجناية مع احتراز بما تلا من نهي قد تَقَرَّرَ ، فلم يكن مباحا في شريعتهم إذ هو من جملة علوم ضرورية منها الخبري ومنها الإنشائي ، فالرسالات قد تواطأت عليها ، فكان من "قد" في قوله تعالى : (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) ، كان منها تَحْقِيقٌ في الباب مع إيجاز حَذْفٍ لِمَا قَدْ عُلِمَ بداهة إذ النهي في مواضع التشريع لا يكون إلا للرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، فهو الإله المشرِّعُ بما أَنْزَلَ من كلمه الديني الحاكم ، فكان من المرجع التشريعي في الأمر والنهي ، في الإباحة والحل ، كان منه ما حُذِفَ فاعله في مواضع إذ قد عُلِمَ بَدَاهَةً ، فَمَرَدُّ الأمر في تلك المواضع إلى الله ، جل وعلا ، وما حُذِفَ في موضع فقد ذُكِرَ في آخر فَحُمِلَ هذا على ذاك ، على ما اطرد في نصوص الوحي المنزل ، فإن ما أُجْمِلَ منه في موضع فقد أُبِينَ عنه في آخر ، فكان من بَيَانِ الوحي في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، كان منه ما أبان عن المجمل من الفاعل المحذوف في قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، فَمَنْ يُحِلُّ في الأحكام هو الله ، جل وعلا ، بما انْفَرَدَ به من وصف التشريع ، وهو ، لو تدبر الناظر ، من التدبير الذي انقسمت موارده في الخارج فمنه التدبير الكوني بالكلمات النافذة ، ومنه آخر في التشريع بالكلمات الحاكمة ، وكذا بَيَانُ الخبر في مواضع من قَبِيلِ : "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا" ، فكان من نداء الجمع ما استحضر ، وهو ما استعمل فيه العام استعمالَ الخاص ، فعنوان الناس عام في الباب يَسْتَغْرِقُ وقد توجه الخطاب إِلَى جمع مخصوص قد حضر مجلس الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا يَلْزَمُ من ذلك قصر الحكم على هذا الجمع المخصوص بل ذلك خلاف المتداول المشهور في نُصُوصِ الوحي المعصوم ، فالأصل فيها العموم المستغرق إن في الخبريات تصديقا أو الإنشائيات امتثالا ، فخطاب جَمْعٍ بِعَيْنِهِ ، ولو خطاب العام المستغرق ، كما في هذا الموضع ، خطاب جمع بعينه لا يَلْزَمُ منه القصر أَلَّا يُجَاوِزَهُمُ الحكم فيكون من دلالة "أل" على هذا الوجه : عهد خاص لا يجاوز جماعة المخاطَبين الحاضرين ، بل ذلك خلاف الأصل ، أصل العموم المستغرق ، فلا يصار إليه إلا بقرينة تأويل معتبرة تُرَجِّحُ المرجوحَ ، فتلك زيادة علم بها الانتقال عن الأصل ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، فإن الناقل عن الأصل يُقَدَّمُ وشرطه أَنْ يُورِدَ من الدليل ما يُرَجِّحُ ، فهو صاحب دعوى تأويلية إذ يروم صرف الظاهر العام من خطاب التكليف المستغرق إلى مؤَوَّل خاص يقصر الخطاب على آحاد أو جَمْعٍ بِعَيْنِهِ ، فَخَالَفَ عن الأصل المشهور المتداول وَوَجَبَ عليه من القرينة ما يُرَجِّحُ ، فَهُوَ صاحب الدعوى المفتقِرَة إلى الْبَيِّنَةِ فإن أقامها فَبِهَا ونعمت ، وإن لم يُقِمْهَا فاستصحابُ الأصلِ : أصلٌ ، وهو الظاهر المتبادر فما يحمل العاقل أن يخالف عنه إلى مرجوح لا يَتَبَادَرُ قَدْ بَعُدَ فِي المأخَذِ بل قد يَبْطُنُ فَهُوَ لَعِبٌ بالدلالات يجافي عن المعقولات الصريحات ، فما يحمل العاقل المتجرد من الهوى السالم من السكرة والغفلة ، ما يحمله أن يخالف عن علم ضروري قد استقر في النفوس كافة : أَنَّ الراجح المتبادر هو المعتبر بما تَرَاكَمَ مِنْ ذَخَائِرِ النُّطْقِ وَطَرَائِقِ الفهمِ وانزياح الدلالات في الاستعارات والكنايات حتى صارت عُرْفَ لِسَانٍ يَشْتَهِرُ كَمَا في شعر الجاهليين مثالا وهم معيار النطق العربي المفصِح الذي جاء عليه الوحي المنزل ، فيكون من كل أولئك ظاهر يجاوز المتبادر من ظاهر الدلالة المعجمية المفردة وإن كانت أولا في الباب ، فهي أولُّ الْبَيَانِ وبها يَتَصَوَّرُ المخاطَبُ المرادَ ، وإن لم يكمل إلا أَنْ يَقْرِنَ ، فَيَقْرِنَ هذا الظاهر المفرَدَ بألفاظٍ يَنْتَظِمُهَا سلك الجملة ذات الدلالة العهدية الخاصة بما استقر من نَحْوِ اللِّسَانِ ، وهو ما افْتَرَقَ فِي النطق فكانَ لكلِّ لسان منه أصل ، فالنحو أصل في الجمل المركبة بعد حصول الدلالات المطلقة من ألفاظ المعجم المفردة ، فالنطق بها مجردة لا يفيد السامع إلا تصور الحقيقة في الخارج بما استقر في الوجدان من أعلام تدل على مسميات مخصوصة ، وهو ، وإن كان مبدأ الفهم ، لَا يَنْفَكُّ يَفْتَقِرُ إلى زِيَادَةٍ في النطق ، وإلا صار وصفه وصف الطفل مبدأَ التَّعَلُّمِ إذ لا ينطق بالجمل المركبة بما استقر من قواعد النطق المحكمة نحوا ، فلا يرتب الكلام الترتيب المعهود في اللسان ، وإنما ينطق أولا بمفردات تحكي الحقائق المجردة وإن حصل من لغة الإشارة والجسد ما يبين عن رغائب يعجز عن حَدِّهَا الحدَّ المحكَم فَلَمَّا يُبِنْ بَعْدُ فِي نطقه وخصامِه ، فيشير إلى الشيء ويحاكي ما سمع قَبْلًا من الأب أو الأم ، فَيَنْطِقُ لَفْظًا مجرَّدا ، مع إشارةِ يَدٍ أو بكاءٍ يميزه السامع ، مع ما يكون من آيات الرغبة أو الرهبة ، وما اطرد ضرورة من محبوبات النفوس وَمُبْغَضَاتِهَا ، فإذا وجد ما يلهو به ويلعب ، فأشار إليه إشارة الطالب وَنَطَقَ بِاسْمِهِ كَمَا قد سَمِعَ ، فإذا أُعْطِيَهُ رَضِيَ وَإِذَا حُرِمَهُ سَخط وصرخ ، فكل أولئك من قَرَائِنَ مجموعةٍ تحكي عبارةً منظومةً في نطق العاقل الذي يُتَرْجِمُ عن الطفل ما يعجز ، فتأويل ذلك : أريد هذا أو ذاك من آلات اللهو أو رغائب الأكل والشرب ، أو أكره هذا أو ذاك مما يؤلم أو لا يُسْتَسَاغُ طعمه من دواء أو نحوه ...... إلخ من أجناس البيان لدى الأطفال فَهِيَ مما اسْتَغْلَقَ عَلَى العاقل إذ لا عهد له بِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الولدِ سَابِقٌ أو يكون ممن له في الباب حظ وَافِرٌ ، فهو يحسن يُرَبِّي وَيُنَشِّئُ ، فَيَفْقَهُ عن الأطفال لغتَهم المركَّبَة من الألفاظ المفردة بلا نظم ، والإشارات ، والبكاء وما دَقَّ من نَغَمِهِ إذ يَحْمِلُ ، كما يقول أهل الشأن ، يَحْمِلُ مِنَ العهد الدلالي الأخص ما يُعْلَمُ بِطُولِ الممارسَةِ ، فذلك مما يصدق فيه أنه كلام ، وهو ما يُوَاطِئُ حَالَ المتكلِّم فلا يجزئ بداهة من بالغٍ يَعْقِلُ وَإِلَّا كان عِيًّا يستوجب التداوي بما يكون من صعوبة في النطق أو عجز في الإدراك والفهم ، فَلَئِنْ حَصَلَ بِنُطْقِ مفرَدَةٍ ما يبين أولا عن ماهيات في الخارج هي فحوى الكلام ، فلا تنفك تفتقر إلى قرائن من خارج بما يكون من نظم اللسان المركب ، فيكون من الإسناد ما يجزئ في حصول المعنى الذي يريد المتكلم ، سواء أَذُكِرَ الإسناد أم قُدِّرَ فَهُوَ المحذوف فَلَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ قَرِينَةً من منطوقٍ سابقٍ أو بساطِ حالٍ حاضر ..... إلخ ، كمن استغنى بالإشارة عن فعل مسند يطلب شيئا في الخارج ، فيكون من إشارة اليد مع قَرِينَةِ الوجه انْبِسَاطًا يَحْكِي رَغْبَةً فِيهِ ، أو يدفعه فهو مما يكره فيكون من قرينة الوجه انْقِبَاضًا مع إشاحة ونفور ..... إلخ ، يكون من أولئك قَرَائِنُ تُجْزِئُ عَنْ ذِكْرِ المسنَد صراحةً مِنْ قَبِيلِ : أنا أريد هذا وفيه أرغب ، أو لا أريد هذا وعنه أرغب ...... إلخ ، فيكون من الكلام : مجموع مركب من اللفظ والمعنى ، وآخر من نُطْقٍ مُرَكَّبٍ يَزِيدُ في اللفظ المفرد من الدلالة السياقية المجموعة ما به البيان المجزئ ولو دلالة أولى تواطئ نحو الكلام قياسا ، مع ما يكون تاليا من انْزِيَاحٍ في الدلالة وهو المعنى الثانوي الزائد مِمَّا لَطُفَ من إشاراتِ النَّصِّ بعد عبارة أولى في النطق تحكي المراد الأولي ، وهو ما يعلمه كل أحد بما استقر ضرورةً من معجم اللسان المركوز في كلِّ نَفْسٍ فِطْرَةَ النُّطْقِ الْأَعَمِّ وَبِهَا امتازَ الإنسان من سائر الأجناس ، وأخرى أخص بِمَا يكون من تَلْقِينِ الأبوين والجمعِ ، وما يطرأ من الاصطلاح المحدَث إن في حد العلوم المحترَمَةِ أو في لغة السوق المبتذَلَةِ ، فَثَمَّ ، كما يقول أهل الشأن ، ثَمَّ رافد الاجتماع الذي يُدْرَكُ بِنَبْرَةِ الصوتِ والتنغيم ، ومخارج الحروف ، والألفاظ المستعملة التي تسبق إلى ذهن المتكلم بما استقر في وجدانه إذ تَكَرَّرَ في سمعه ، فالجمع قد رَفَدَهُ بالمعجم المشتهر من عُرْفٍ صحيحٍ أو فاسد ، فاجتمع له من ذلك الممارسة ، وهي أول ما يَتَعَلَّمُ الناطق ، ثم يكون ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، يكون التجريد بِحَدِّ الأصول والقواعد المحكمة في قاعات الدرس نحوا وبلاغة لمن أراد الاستزادة ، فلا يُعَلَّمُ الطفل الصغير اللسان تجريدا في قاعاتِ درسٍ لا يفقه اصطلاحها الأخص ، وإنما يُعَلَّمُ من ذلك محاكاةً لما يسمع من الأبوين والجمع حوله ، كما لا يُعَلَّمُ التجويد في حلقات التلاوة بتجريد الأحكام إظهارا وإدغاما .... إلخ ، فذلك اصطلاح أخص لا يحسن به البدء ، وإن حَفِظَ من منظوماته ما ينفع بَعْدًا ، فهو يحفظ أولا ما لا يفقه بما كان من حافظةٍ بِكْرٍ لم تَتَشَبَّعْ باصطلاحات العلوم أو عبارات السوق فلا زالتْ نَاصِحَةً تَقْبَلُ ، فتحفظ من الألفاظ ما لا تحفظ ذاكرة الكبير ، وإن كان للأخير من قوى التحليل والتركيب ما يَرْجُحُ الصغيرَ الذي يكونُ مبدأُ كلامِه محاكاةٌ للصوتِ دون دَرَكٍ لِمَا وراءَه من معنى ، فلا يكون تعليمه في هذه السن المبكرة إلا تَلْقِينًا لا تجريدا لاصطلاحاتٍ لا يحسنها كثير من العقلاء البالغين فضلا عن صِغَارٍ بَادِئِينَ ! ، فكان من التلقين والتقليد أول ، وما تَلَا من فِقْهٍ أَخَصَّ فهو التجريد للقواعد والأصول بما استحدث من اصطلاحات العلوم ، فذلك تال بعد استقرار اللسان المجزئ في حصول بَيَانٍ أول يُفْهِمُ ، فَيُشْبِهُ ، من وجه ، فَرْضَ العينِ في حكومات التكليف ، فيصدق في العربية من هذا الوجه ، وهي لغة التنزيل الخاتم ، يصدق فيها أو فِي بَعْضٍ منها لا يحصل فقه الأخبار والأحكام إلا به ، يصدق فيه أنه فرض عين ، إذ ما لا يتم الواجب من الاعتقاد والقول والعمل ، ما لا يتم الواجب من ذلك إلا به فهو واجب ، فكان من العربية ، من هذا الوجه ، قدر واجب على كلِّ أحد ، فهو فرض العين الذي لا يجزئ دِينٌ إلا به ، فما جدوى ألفاظٍ بلا معان ، وهي في الشريعة مناط تكليف لا تَبْرَأُ ذِمَّةٌ إلا بِتَصْدِيقِهِ خَبَرًا وَامْتِثَالِهِ حُكْمًا ، فإذا استكمل الناطق فَرْضَ العين من اللِّسَانِ ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْبَيَانِ والفقهِ ما به تمام النصح في الأخبار والأحكام ، فإذا حصل ذلك كان من فرض الكفاية تالٍ أَنْ يَنْهَضَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ والملة فَيَفْقَهُوا من العربية ما يجزئ في حصولِ فِقْهٍ أَخَصَّ به دَرَكُ المراد الشرعي إِنِ الخبريَّ أو الإنشائيَّ ، وذلك أصل عام في كل اصطلاح حادث به جَرَّدَ علماء الملة قواعدَ العلوم الخادمة أدواتٍ بِهَا حُفِظَتِ الألفاظُ والمعاني وَاسْتُنْبِطَتِ الأحكامُ بما اسْتَقَرَّ من لسان الجيل الأول وما تقدم من نَظْمِ الجاهليين وَنَثْرِهِمْ فذلك تَيَّارٌ ممتدٌّ من لسانِ الجمعِ قَدَ حَمَلَ مِنَ العهد الخاص ما صَيَّرَهُ الحجة في بَيَانِ الوحي الذي نَزَلَ بِلِسَانِهِ ، فكان من العلوم ما حَفِظَ الصورةَ والأصلَ ، صورةَ النطقِ وأصلَ الفقهِ ، وبها حُفِظَ الذِّكْرُ المنزَّل ، وَنُقِلَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَدِرَايَتِهِ ما يُجْزِئُ فِي إقامةِ الشَّرْعِ مَقَاصِدَ وَأَحْكَامًا ، علومًا وأعمالًا ، فَثَمَّ روحٌ من الدلالة تَلْطُفُ قد بُثَّتْ في نصوصِ الوحي بما استقر من لسان الجمع الذي زَادَهُ الوحي اصطلاحا أخص فتلك حقيقة تالية قد قَيَّدَتِ الحقيقة الأولى : حقيقةَ اللسان المطلق بما كان من اصطلاح شرع يُقَيِّدُ ، فهو يأطر الألفاظ العامة كالصلاة دعاءً يستغرق آحاد الباب كافة ، فَعُرْفُ الشَّرْعِ المنزَّل يأطرها على دعاء بِعَيْنِهِ قد استجمع من الأركان والشروط والواجبات ... إلخ صورةً مخصوصة هي الماهية الشرعية المسطورة في مدونات الآثار والفقه ، وذلك أصل قد اطرد في النصوص جميعا ، وبه نُقِضَتْ تأويلات المعطلة وما كان تاليا من مقال المفوضة في الإلهيات إذ لم يجاوزوا القول : إِنَّ لألفاظ النصوص الخبرية في الإلهيات خاصة ، إن لها معانٍ ، دون تعيين ، كمن يقول إن الصفاتِ تُفِيدُ نِسْبَةً مخصوصة إلى ذات ، فما الجديد ؟ ، وذلك مما يَصْدُقُ في أي نسبة كمن حَدَّ الماء أنه شيء ، وهو مما قَدْ عُلِمَ بداهة ، فذلك حَدٌّ عام شديد الإجمال لا يُفْصِحُ عن وصفٍ يميز هذا المعنى الأخص ، معنى الماء ، يميزه من بَقِيَّةِ المعاني ، وهو ما استوجب حَدًّا أَخَصَّ لا يلزم منه الخوض في ماهية أو كيف إن كان الباب بابَ غيبٍ كما الإلهيات فاستوجب الرد إلى معيار محكم في دلالات الألفاظ المفرَدَة والجمل المركَّبة عَهْدًا أخص من نحو وَبَيَانٍ ..... إلخ ، فإن لم يُرَدَّ الكلام إلى هذا المعيار الأول الذي نَزَلَ به الوحي ، كان من ذلك اضطراب في الفهم ، إذ رَدَّ كُلٌّ ما يَقْرَأُ من ألفاظٍ إلى ما يهوى من المعاني أو يجد ، فصار من ذلك طاغوت متبوع قد جاوز به التابع الحدَّ إذ صَيَّرَ رَائِدَهُ الهوى والذوق ، فلا بد من معيار حاكم يأطر الكلماتٍ مرجعًا من خارج يجاوزها إن في الأحكام أو في الألفاظ ، فالباب واحد لا جرم كان من العربية أحكامُ إباحة وحظر كما أحكام التكليف فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ إِنَّ تَبْدِيلَ العربية أن تَحلَّ أخرى محلها في كَتْبِ النصوصِ أو فِقْهِ معانيها فِقْهًا يجاوز المعنى الأول الذي تمكن ترجمته على شَكٍّ وَتَوَقُّفٍ أن يصيب المترجم مراد المتكلم بِاللِّسَانِ الأصيل ، وإن أصاب منه كثيرا فلا يصيب ما لَطُفَ من الدلالات الثانوية بل ولعل بَعْضًا من المعاني الأولية يفوته ، فكان من تحريم التبديل في هذ الموضع حكم شرعي كما الخلاف المشتهر عند الحنفية ، رحمهم الله ، هل يُقْرَأُ القرآن بالفارسية ، وهو ما نُسِبَ إلى أبي حنيفة رحمه الله ، وقد ورد أنه قد رجع عنه ، وإن لم يُبَحِ الإباحة المطلقة وإنما أُبِيحَ للعاجز بما يجاوز حد الترجمة أن يكون اللفظ الفارسي نفسه مناط تعبد فذلك مما لا يُسَلَّمُ وإن أصاب المعنى إذ الكلام ، كما تقدم ، اللفظ والمعنى جميعا ، فحصل من ذلك أَلَّا بُدَّ في الكلامِ من مرجع من خارج يجاوز ، لا جَرَمَ كان من قولِ بَعْضٍ في أصلِ اللسان أنه وحي كما الوحي الشرعي فَصَارَ من هذا الوجه المرجع الخارجي المجاوز الذي نَزَلَ لِيُبِينَ عن مرادات المتكلمين ، أو هو من الإلهام ، وهو ما يصدق فيه أنه وحي ، ولو بالمعنى الأعم ، كما في آي النحل أَنْ : (أَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، وذلك إلهام فطري ، وكما في آخر إلى أم موسى ، عليهما السلام ، بما بث الْمَلَكُ في نَفْسِهَا من لمة خير أن تلقي الكليم ، عليه السلام ، في اليم ، وإن كان ظاهرُ الفعلِ الشَّرَّ .
    والشاهد أَنَّ مِنْ قَوْلِ المفوضة في الباب : باب الإلهيات ، أن من قولهم ما خالف عن أصل الوضع الأول إذ لم يُثْبِتْ إلا نسبة شيءٍ مجْمَلٍ إلى ذات الله ، جل وعلا ، فَلَيْسَ له من المعاني المخصوصة ما يدركه العقل ، فلا يدركه إلا الله ، جل وعلا ، فَابْتَلَى الخلق ، وذلك لازم القول ، ابتلاهم بما لا يمكن فَهْمُهُ فِي أشرف العلوم والمعارف وَفَرْضِ العين من واجب وقت لا يتأخر فهو مبدأُ أَيِّ حَرَكَةٍ في الخارج ، فاعتقاد العبد في المعبود أصل في باب الإثبات والنفي ، وآخر من الأمر والنهي ، وثالث في الوجدان يَرْقُبُ فهو يَأْطِرُ القصد على جادة إخلاصٍ وَنُصْحٍ بها الأعمال تمتاز وإن استوت في الماهيات والصور فلا يحصل ذلك ، بداهة ، بألفاظ في الإلهيات بِهَا وصف الله ، جل وعلا ، نفسه ، وهي ، كما يَلْزَمُ مَنْ فَوَّضَ ، هي تدل على معان لا تعلم ؟! ، فما الجديد في الوجدان أَنْ طَرَقَ السمعَ كلامٌ ذو معنى ، فذلك محل إجماع لدى العقلاء كافة ، ولكنه لا يدركُ فَمَا استفاد العاقل منه إلا الصوت المعجَم ، وما حصل له من زيادةِ علمٍ أَنْ أَدْرَكَ أَنَّ لِهَذَا الكلامِ معنى ، وإن لم يدركه على حد التَّعْيِينِ ! ، فَصَارَ كأيِّ كلام أعجمي يطرق سمعه فهو يعلم ضرورة أن لهذا الكلام معنى يُفْهَمُ بِمَا اسْتَقَرَّ من عُرْفِ الجمع الذي به ينطق ، لكنه يعجز عن الفهم إلا أن يَتَعَلَّمَ ، فما يصنع إِنْ أُلْزِمَ ذلك في لسانه الذي به يَنْطِقُ أولا ، وما يَتَعَلَّمُ بَعْدُ من نحوِ اللسان وَبَيَانِهِ ليدرك معان هي الأشرف ؟! ، وهي ، لو تدبر الناظر ، مناط التكليف الأول ، إذ كيف يَعْبُدُ رَبًّا لا يَعْرِفُهُ ، فَلَيْسَ ثَمَّ من اسمه ووصفه ما به يَقْطَعُ ضرورةً في العلم ، وإن لم يجاوز بذلك حَدَّ المعنى المجرد في الذهن ، فهو محل الخصومة بين المثبِتِ والممثِّل ، والمثبِت والمعطِّل ، والمثبت والمفوِّض ، فَمَا الْتَزَمَ الإثبات لمعنى بعينه يدركه بما استقر في وجدانه من نظم اللسان المحكم ، فَمَا الْتَزَمَ بذلك فَقَدْ سلم له التصور الأول في الإلهيات ، وَسَلِمَ من استدراك يَلْزَمُهُ في الشرعيات كما الإلهيات ، فيكون من ذلك ذريعة ، ولو تالية ، أَنْ يُعَطِّلَ الشرعيات أو يُفَوِّضَ فِي حدودها الاصطلاحية في الشرع فالباب واحد ، وإن كان من حكومات الفقه العملية ما نُقِلَ نَقْلَ التواتر فلم يسلم ، مع ذلك ، من تأويلات باطنية ولو في الأصول المحكمة من المباني الخمسة صلاةً وزكاةً وصيامًا وَحَجًّا ، مع أول في الشهادة قد عَطَّلَهَا من معنى النفي والإثبات توحيدا يَنْفِي الشِّرْكَ ، وَيُفْرِدُ القديم الأول من المحدَث ، فكان من تأويلات الباطنية اتحادٌ ووحدةٌ قد خالف صاحبها عن محكم التوحيد الذي جاءت به النبوات كافة ، فلا يسلم للعبد دين يجزئ إلا أن يَتَعَاطَى من الإثبات قَدْرًا به حد الحقائق الدينية المخصوصة إن في الإلهيات أو في الشرعيات ، فذلك قانون يستغرق النصوص كافة ، فإن أفرط في الإثبات فقد خرج إلى تمثيل غال ، وإن أفرط في النفي فقد خرج إلى تعطيل جاف ، وإن توقف في المعنى وهو الأول في أَيِّ نص إن في العلم أو في العمل ، إن في التصور أو في الحكم ، إِنْ تَوَقَّفَ فيه فقد جفا وإن لم يعطل صراحة ، فمآل مقاله ، ولو من باب اللازم ، مآله التعطيل إذ جَرَّدَ الألفاظ من دلالاتها ولو لم يَنْفِ إذ لم يكن من الإثبات ما يجزئ ، إثبات المعاني المطلقة في الذهن مع تفويض الحقائق والماهيات في الخارج ، فذلك ما لا يطيق العقل في دَارِ الشهادة ، وإن ادَّعى مَنِ ادَّعَى أن له من الولاية ما به حُجُبُ الغيبِ قَدْ زَالَتْ فانكشفت له الحقائق ، فالتكليف الخبري في دار الشهادة لا يجاوز إثبات المعنى المجرد في الذهن ، وهو ما يجاوز إثبات المفوِّضة أَنَّ ثَمَّ معنى فذلك ، كما تقدم ، محل الإجماع لدى العقلاء كافة وإلا كان الكلام صوتا كأي صوت فلا دلالة فيه ولا عهد ، فلا يسلم للعاقل كلام يجزئ في تصديق أو امتثال إلا أن يدرك منه معنى أخص بما استقر من لسان الوحي ، فَيُثْبِتَ معنى مخصوصًا في بابه دون أن يخوض في حقيقة أو كيف إن كان الباب غَيْبًا قَدِ ابْتُلِيَ بإثبات معناه دون الخوض في حقيقته كما الإلهيات والسمعيات كافة ، بل من ذلك أحكام توقيف في الشرعيات يمتثلها المكلف وإن لم يدرك وجه الحكمة فيها أو العلة .

    والشاهد أن من نصوص الوحي بَيَانٌ أول في دَرَكَ مُرَادِ الشَّرْعِ المنزَّل ، فهو أول ما يَلْجَأُ إليه الناظر في الآي والخبر ، فتلك مراجع التفسير والتأويل المحكمة ، وإن كان تال لها مِنْ آثارِ مَنْ سَلَفَ ولهم من فِقْهِ النص فِقْهًا أخص بما تقدم مرارا من لسان الاحتجاج فهم أهله نُطْقًا قد أغناهم عن تجريد قواعده في النحو والبيان كما حدث بَعْدًا إذ تَقَادَمَ العهد وفشت العجمة واللحن ، فَأُلْجِئَ المتأخرون أن يجردوا قواعد العلوم آلاتٍ بها التوسل إلى ما كان قَبْلًا ضروريا يحسنُه كلُّ أحدٍ فهو مادةُ يَوْمِهِ في الكلام بَيْعًا وشراء .... إلخ ، وإنما تَعْظُمُ البلوى أن يصير الضروري البدهي محل تردد ونظر ! ، كما آخر أفدح أن يفسد معيار الضرورة في الحسن والقبح ، كما يحكي أبو الطيب من أيام محنته ، فـ :
    يُقضى على المرء في أيامِ محنتهِ ** حتى يرى حَسَناً ما ليسَ بالحَسَنِ .

    وإنما احتاج الخلق أن يصنفوا في العربية والأصول وسائر الآلات المفهمات ، وإنما احتاجوا ، كما يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، إذ انْقَرَضَ الجيل الحافظ لعلوم الشريعة حفظَ البداهة فهي ، كما تقدم ، مادة يومهم إذ فيهم قد نَزَلَتْ فكان لهم من لسانها وَقَرَائِنِهَا مَا أَغْنَى عَنْ سطرِها في كُتُبٍ فقد حصلت في الصدر ، ونصحت في الاعتقاد والقول والفعل ، فصارت كـأفعال الجبلة أكلا وشربا فلا يحتاج أحد أَنْ يُثْبِتَهَا إلا أن يَجْحَدَ الناظر ويكابر فيروم جدالا ينقض البدائه أو يفسد منه العقل فلا يُؤَاخَذُ ! ، وَلْيَخْتَرْ لنفسِه ما شاء ! ، فَلَمَّا انْقَرَضَ الجيل الحافظ الشاهد ، كان من تَالٍ يُجْزِئُ فِي حفظِ الشريعة : حفظِ رِوَايَتِهَا في الكتبِ مع تال في قَوَاعِدِ نَقْدٍ تمحص الأسانيد والمتون كافة ، وحفظِ لسانها في قواعدَ مجردةٍ في النحو والبيان ، وحفظِ أصولها المفهِمة في قواعدَ مجردةٍ في الأصول بها استنباط الحكومات الحادثة بِرَدِّهَا إلى الأدلة الثابتة مما قد عُقِلَ معناه وَحُرَّرَ علَّةً مخصوصة تَنْضَبِطُ ، فكان من ذلك ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، كان من ذلك تجريد العلوم الواصفة ، وهي في الجيل الأول شاهدة دون أن تحضر حضور الاصطلاح المتأخر ، فهي حاضرة في صدور الجيل الأول ، لا جرم كان من آثارهم في التفسير تال في البيان بعد الآي والأخبار ، ثم رابع بما تكلمت به العرب الذين نَزَلَ الوحي بِلِسَانِهم لا من تَلَا بَعْدًا إذ فَشَتِ العجمة واللحن ، فتلك أربعة حَرَّرَهَا بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ في أصول تفسير محكم لما تَنَزَّلَ من الوحي ، وبذا قد عُلِمَ الفاعل في نصوص التكليفِ ، كما تقدم من حِلٍّ كَحِلِّ الرَّفَثِ إلى النساء ليلة الصيام إذ : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، فكان من ذكر الفاعل صراحة في آي من قبيل : (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، كان منه بَيَانٌ يجزئ ، وكذا ما كان في أخبار من قبيل : "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا" ، فكان من ذكر الله ، جل وعلا ، وهو الذي أَحَلَّ ، فليس ذلك لصاحب الشرع صلى الله عليه على آله وسلم إلا بَلَاغًا وَبَيَانًا ، فما كان من إسناد في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كما في الخبر : "لَا يُمْسِكَنَّ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ، فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَهُمْ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَلَا أُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ" ، فأسند الحل والتحريم إلى نفسه وقيده تاليا بما يواطئ حكم الإله المشرع ، جل وعلا ، فلا يكون من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، فـ : (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) ، فَمَا أُثِرَ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أخبار في مقام التشريع فهي وحي ، وإن لم يُعْجِزْ في التلاوة إعجازَ الآي المتواتر ، فيصدق فيه ، من هذا الوجه ، أنه صاحب الشرع بلاغا وبيانا لا إنشاء واستئنافا فليس ذلك إلا لله ، جل وعلا ، وكذا في النهي ، محل الشاهد في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) ، فقد كان من القرينة نَصًّا ما أبان عن الناهي ، فهو الله ، جل وعلا ، كما في الخبر : "وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ" ، والنهي نص في التحريم إلا أن يكون من القرينة ما يصرف ، فكان من التحريم كما النهي ، كان منه ما قد حُذِفَ فاعله للعلم به ضرورة ، كما في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ .....) الآية ، و : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ......) الآية ، فأبان الوحي في مواضع أخرى عن المحرِّم ، وهو الإله الحاكم ، جل وعلا ، كما في قوله تعالى : (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ، وكما في الخبر عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، أَنْ : "حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيذَ الْجَرِّ" ، فَذُكِرَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مُفْرَدًا إذ لا يكون تحريمه الشرعي إلا بوحي إلهي ، وَزَادَ من البيان ما يحسم الشبهة : "أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ" ، فذلك ، من وجه ، كإسناد الشرع إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يكون إنشاء واستئنافا وإنما يكون بَلَاغًا وَبَيَانًا وإن لم يكن له أصل أول في آي الوحي المتواتر ، إذ الخبر وحي له من الحجية في إنشاء الأحكام ما للآي ، فكلاهما ، كما تقدم ، وحي وإن تفاوت في الوصف ، فالآي مما تواتر وبه التحدي إعجازا وبه النسك تلاوة تجزئ في المكتوبات والنوافل ، والأخبار مما ورد أكثره آحادا ولم يكن في لفظه إعجاز إلا إعجاز المعنى جَوَامِعَ كَلمٍ ، فليس للأخبار مَا يُجَاوِزُ من إعجازٍ أخص به امتاز الكتاب المتواتر ، وليس بها انعقاد فريضة أو نافلة كما الآي المتواتر ، فكذا التحريم فصاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم يحرِّم بلاغا وبيانا لا إنشاء واستئنافا ، فليس ذلك إلا لله ، جل وعلا ، ذُكِرَ اسمُه أو لم يُذْكَرْ للعلم به ، بداهة ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) ، فَنَهَى عن الربا بما أَنْزَلَ من حكومة الجلال التَّوْرَاتِيَّةِ على الكليم ، عليه السلام ، فحكاه الوحي الخاتم نَصًّا في شَرَائِعَ تَقَدَّمَتْ فَصَارَ ، من هذا الوجه ، شَرْعًا لَنَا ، وإن كان ثم من القرينة ما يَرْفَعُ الخلافَ في هذا الحكم خاصة ، إذ قد جاء النهي المصرِّح في الشريعة الخاتمة ، فَأَغْنَى عن آخر من شِرْعَةٍ قد تَقَدَّمَتْ ، وإن ثَبَتَتْ بِنَصِّ الوحيِ المحكَمِ كتابَ الختم المنزَّل ، فالعبرة مبدأَ أَيِّ نَظَرٍ ديني ، العبرة بما كان من شريعة الختام الناسخة لا بما كان من أولى قد تَقَدَّمَتْ ، فالمتأخر قَاضٍ فِيهَا قَضَاءَ المحكَم في المتشابه ، ومنه القضاء أنها مما ثبت في الكتاب الأول ، فلا يُسَلَّمُ بِذَلِكَ لمجرَّدِ ورودِ الخبرِ أو الحكمِ في الكتاب الأول إذ قد ناله التبديل والتحريف في مواضع لا يمكن الجزم بها إذ لا أصل يصح ، ولو واحدا قد سلم له من الإسناد آحاد بل فَرْدٌ مطلق مع أن ذلك في نفسه ، كما تقدم في مواضع ، مع أَنَّ ذلك لا ينفك يحكي توقف الناظر في إثبات الصحة ، ولو في خبر مرفوع أو أَثَرٍ موقوف أو مقطوع فكيف بكتاب تشريع إلهي ، فما تواطأت عليه النفوس وتداعت أن يُنْقَلَ نَقْلَ التواتر فإذا نُقِلَ بإسناد واحد يُغْرِبُ وهو المشهور الذي يطلب من النَّقَلَةِ جَمْعًا يَكْثُرُ ، فإذا كان هذا النقل الآحادي في موضع تواتر معنوي ، فذلك في نفسه مما يوجب التوقف في القبول ، فكيف بالتواتر اللفظي كتابَ شريعةٍ مُنَزَّلَةٍ ؟! ، فذلك مما لم يسلم لتوراة الكليم ، عليه السلام ، ولو واحدًا يُرَدُّ إليه ما تَشَابَهَ من اللفظ فلم يكن ثَمَّ قَاضٍ يَقْطَعُ إلا ما كان تاليا من كتاب الختم المهيمِن ، كما في هذا الموضع الذي نَصَّ تَصْرِيًحا على تحريم الربا ، وإن كان منه ، كما تقدم ، ضرورة علمية قد اطردت في رسالات السماء كافة ، فَنُهُوا عنه في كتابهم الأول ، وَنُهُوا عنه بنص الكتاب الخاتم ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، هو ما يجري على قَوْلِ مَنْ يُخَاطِبُ الكفَّارَ بفروعِ الشريعة فهم مخاطبون بحرمة الربا فرعا وهم قَبْلًا مخاطبون بما لا يصح الفرع إلا به من أصلِ توحيدٍ أول ، فخوطبوا بحرمةِ الرِّبَا إما فِي كتابهم الأول أو بِنَصِّ الكتابِ الخاتم وإن لم يؤمنوا به فقد جاء يَذُمُّ ما كان من حالهم الأولى إذ أخذوا الربا مع حصول النهي ، وكان من تال هو العام بعد الخاص ، وهو مما حُدَّ ، أيضا ، حد المصدر إمعانا في تسجيل الجناية في قوله تعالى : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) ، فكان من العموم بالإضافة في "أَمْوَالَ النَّاسِ" ما أبطل مقالهم أَنْ : (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، فذلك مما يحرم في أموال الخلق كافَّةً من آمن ومن كفر إذ هو من الظلم وهو مما نُهِيَ عنه مطلقا إن فِي حَقِّ من تُحِبُّ أو آخر تكره ، فليس ذلك مما يرد إلى هوى أو ذوق ، فـ : (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، وكان من الحال "بِالْبَاطِلِ" في قوله تعالى : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) ، كان منها قَيْدٌ يميز فليس الأكل من أموال الناس مما يَقْبُحُ مطلقا بل منه ما يحمد أجرةَ أجيرٍ قد استحضر نِيَّةَ القيام على الأهل والولد إنفاقا يجب على القادر الواجد ، وكذا الأكل من الوليمة والهدية الخالصةِ من شبهة الرشوة أو الربا ، فالأكل منها يجبر صاحبَها وَيُدْخِلُ السرور على قَلْبِهِ بما يكون من مودة وتحاب قد حَضَّ عليه الوحي ، فكان من ذرائعه ما يكون من تَهَادٍ قَدْ سَلِمَ ، كما تقدم ، من شبهة رشوة أو ربا ..... إلخ ، فكان من القيد بالحال "بِالْبَاطِلِ" : مناط به امتاز المباح من المحرم ، فأكل الأموال بالحق جائز ، وأكلها بالباطل محرم ، وهو ما حُدَّ في هذا الموضع خَبَرًا لا ينفك يحكي دلالة الإنشاء المحرِّم : أَنْ لَا تأخذوا الربا خاصة ، ولا تأكلوا أموال الناس بالباطل عامة ، وهو ما أُرْدِفَ تَالِيًا بعنوان الوعيد الذي يدل على الذم إذ : (أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، وهو ما أضيف إلى ضمير الجمع في "أَعْتَدْنَا" مئنة تعظيم يحسن في مواضع الجلال كما الجمال ، مع ماضوية بها تقرير المعنى وهو آكد في الترهيب ودلالته دلالة الحقيقة إذ قد أعدت النار وإن حَدَثَ من آحاد العذاب تأولا لأخبار الوعيد وإن حدث من ذلك يوم الحساب والجزاء ما لم يأت تأويله بعد ، فَذَكَرَ أَوَّلًا عقابَ الأولى تحريما لطيبيات قد أحلت ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) ، وَذَلِكَ مما حُدَّ حَدَّ السَّبَبِيَّةِ ، فَالْبَاءُ نَصٌّ فِيهَا ، وذلك الظلم الذي أُجْمِلَ صدرَ الآية ، وله أصل أول قد تقدم في قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ) ، وهو مما حُدَّ ، أَيْضًا ، حَدَّ السَّبَبِيَّةِ ، ولا تخلو مِنْ زيادة "مَا" زيادةَ مبنًى تدل على أخرى في المعنى ، وثم من نَقْضِ الميثاق ما يحمل على معنى أعم ، وهو نقض الأصل الجامع بما كان من الشرك الحادث ، وهو ما حُدَّ ، أيضا ، حَدَّ المصدرية في "نَقْضِهِمْ" ، دليلَ الثُّبُوتِ ، إذ الاسمية مَئِنَّةُ تَوْكِيدٍ في الدلالة فالمعنى قد اسْتَقَرَّ وَثَبَتَ ، وَثَمَّ من المنقوضِ ميثاق توحيد قد تَقَدَّمَ ، فإذا انْتَقَضَ انْتَقَضَ مَا تَلَا من المسائل ، وهو ما حَدَّهُ بَعْضٌ بمثال أخص وهو مِيثَاقُ الإيمان والنصرة لخاتَمِ الرُّسُلِ كَافَّةً ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، من نَوَاقِضِ الميثاق الأول ، فكان من نقضهم الميثاق ما تقدم ذكره في آل عمران : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، فَنَقَضَ الخلفُ مِيثَاقًا عقدَه السلف ، وجحدوا ما سُطِرَ في كتابهم من وصف النبوة الخاتمة ، وذلك نَقْضٌ لِرُكْنٍ من أركان الإيمان : الإيمان بالنبوات ، فمن أنكر واحدة قد ثَبَتَتْ فقد أنكر النبوات كافة ، فَنَقَضَ الرُّكْنَ ، وَنَقْضُ رُكْنٍ من الحقيقة يَنْقُضُهَا ، كما المثل يُضْرَبُ في العبادات بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَهِيَ أجزاءٌ من الماهية الدينية المخصوصة إذا فَاتَ بَعْضُهَا فَاتَتِ الحقيقة كُلُّهَا ، فلا يجزئ في استدراكه إلا الإتيان به في محلِّه ، وذلك قانون عام يستغرق الحقائق كافة ، ومنها الحقائق الدينية ، والإيمان مِنْهَا ، فَفَاتَ إذ فَاتَ رُكْنٌ مِنْهُ ، وهو الإيمان بالنبوات ، إذ أنكروا الميثاق الأول أَنْ يُصَدِّقُوا النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وينصروه ، وهو ما أُبِينَ عنه تَالِيًا إذ عُطِفَ عَطْفَ التلازم ، فَإِنَّ نَقْضَ الميثاقِ التوحيدي الأول يستوجب الكفر بآيات الله ، جل وعلا ، ولو كُفْرًا بِبَعْضٍ ، فهو كُفْرٌ بالجميع ، فإذ كفروا بالميثاق وهو آية ، فقد كفروا بالآيات كافة ، فَيَكُونُ مِنَ التَّعَاطُفِ تَعَاطُفُ التلازم على حد السببية ، إذ كفرهم بالميثاق سببٌ قد أَفْضَى إلى كفرٍ بالآيات كافة ، وهو ، من وجه آخر ، مما يحتمل التعاطف عاما بعد خاص ، فَأَفْرَدَ آية الميثاق بالذكر تَنْوِيهًا ثم أطنب تَعْمِيمًا ، فَذَكَرَ الكفر بالآيات كافة ، وهو ، من وجه آخر ، مما عم فاستغرق إذ أضيف إلى اسم الله ، جل وعلا ، في "آياتِ اللهِ" وهو أعرف المعارف : الْعَلَمُ على أَشْرَفِ مسمًّى في الوجود ، الإله المعبود بحق ، جل وعلا ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ جَمْعُ الْقِلَّةِ : الجمع المزيد بالألف والتاء في "آيَاتِ" ، وهو مَا رُفِدَ بالإضافة إلى المعرَّف : الاسم الكريم "الله" ، فَحَكَى كَثْرَةً لا تُحْصَى إِنِ الآي الكوني وهو آثار الربوبية تقديرا وتكوينا وتصويرا وتدبيرا ، وهي مما يكثر فلا يكاد يُحْصَى إذ أمره ، جل وعلا ، أبدا ، يَتَنَزَّلُ من السماء ، فَثَمَّ من كلمات الكون ما ينفذ آياتٍ منها المعجز المتحدَّى به ، ومنه المطرد كما سَنَنٌ يُعْجِزُ فلا يقدر عليه إلا الله ، جل وعلا ، وإن لم يُتَحَدَّ به ، كَتَعَاقُبِ الليل والنهار ، فكل أولئك من الآيات الكونية النافذة ، والكفر بها يحتمل الإلحاد أن يَجْحَدَ وجودَ الرب الخالق المدبر ، بادي الرأي ، أو يُثْبِتَ له بَعْضًا وَيَنْفِيَ بَعْضًا ، كمن يثبت التكوين وينكر التدبير ، أو يثبت من التكوين عِلَّةً فاعلة أولى بها الترجيح في الخلق الجائز تَرْجِيحَ الاضطرارِ فلا علم يَتَقَدَّمُ ولا مشيئةَ بها الأمر يَنْفُذُ تَعْطِيلًا قد اطرد في مقال الحكمة الأولى وبه ، كما تقدم مرارا ، به قَدْ تَوَسَّلَتِ الحداثة المتأخرة أن تطرد الباب في مسائل التشريع والحكم ، فَلَا يُرَدُّ ذلك ، بداهة ، إلى أولٍّ لا يعلم ، فكيف يحكم وَيُشَرِّعُ ؟! ، فكان من نفي العلم ما جاوز أولا في باب التقدير والتكوين إلى تال في الحكم والتشريع ، فَسَرَى التعطيل من مقال الحكمة الأولى إذ تَقْدَحُ في آيات الربوبية النافذة ، سَرَى إلى آخر في مقال الحداثة إذ تقدح في آيات الألوهية الحاكمة ، فَثَمَّ من القدح ما تلازم نَقْضًا لميثاق الربوبية خَلْقًا ، وميثاق الألوهية شَرْعًا ، وهو ما يقدح في ماهية التوحيد المجزئ ، توحيد العلم والعمل ، الخبر والحكم ، وهما شَطْرَا القسمةِ ، ولكل من الآي مُتَعَلَّقٌ ، فتوحيد الخبر ينصرف بادي الرأي إلى الآيات الكونية ، وتوحيد الطلب ينصرف بادي الرأي إلى الآيات الشرعية ، وهي ، أيضا ، مما انقسم في الخارج فمنه آي خبري يُثْبِتُ وَيَنْفِي وبه تصحيح القوة العلمية وهي أول في التصور وعنها الحكم الْإِرَادِيُّ يَصْدُرُ ، وهو مبدأ التأويل لما تَنَزَّلَ من آي الذكر الحكيم ، تصديقا بما أخبر ، وهو ما استوجب ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي موضع ، ما استوجب حملان الألفاظ على المعاني التي نَزَلَ عليها بِرَدِّهَا إلى لسانِ زمانِها ، وذلك أصل في تأويلِ أَيِّ نَصٍّ تأويلا صحيحا يسلم من المعنى البعيد أو الباطن فكلاهما يخرج عن قانون اللِّسَانِ وَمُرَادِ المتكلِّم من الكلام إِذَا حُمِلَ على اصطلاح حادث ، أو نُقِلَ من حقل دلالي إلى آخر ، كما يكون من ترجمة حرفية تهمل الاستعارات والكنايات والمجازات ، عند من يُثْبِتُهَا في اللسان والوحي ، بل من ينكر فلا ينفك يستبدل بها قَرِينَةَ السياقِ والعرفِ ، والعرف حاكم في هذا الباب إذ اطرد في استعماله لفظا في الدلالة على معنى ، قد اطرد فيه من ذلك ما يكافئ المجاز عند المثبت ، فكلاهما ، لو تدبر الناظر ، يَرُدُّ الكلام إلى حَقَائِقَ فِي عُرْفِ النُّطْقِ تُجَاوِزُ مَا ثَبَتَ بِأَصْلِ الوضعِ ، وإن اختلفا في الحد أَمَجَازٌ هو إذ خرج عن الدلالة الوضعية الأولى أم حقيقة بما اصطلح أنه الظاهر المركب فهو يَزِيدُ في البسيط المفرد بما اطرد من دلالة المعجم الأولى ، يزيد فيها قَرِينَةَ السياقِ أو بِسَاطَ الحالِ ، أو ثالثا من العقل ، والقرينة العقلية ، لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ ، مما وجب الاحتراز في تَنَاوُلِهِ فَإِنَّهُ لا يجاوز معقول المعنى الذي يدخل في حد المدركات العقلية مِمَّا تُدْرَكُ أسبابُه بالحس أو بالنظر ، فالتعليل فيه جار ، وهو مما تَتَفَاوَتُ العقول في حَدِّهِ ، إن في استخراجِ المعنى الذي يُنَاطُ به الحكم فَيَدُورُ معه وجودا وعدما ، وهو ما يَتَرَاوَحُ بَيْنَ نَصٍّ أو تَنْقِيحٍ أو تَخْرِيجٍ ، وثم تال من التحقيق في نظائر له في الخارج تُرَدُّ إليه رَدَّ الفرع إلى الأصل ، فوجب الاحتراز فيما عدا مِمَّا لا يُدْرِكُ العقل فيه المعنى ، وإن كان ثَابِتًا في نفس الأمر ، وإنما عَدَمُ وجدانِه العلَّةَ أو الحكمة لا يَسْتَلْزِمُ عدم وجودها في نفس الأمر ، فيحترز في غير المعقول ، وإن كان له حقيقة في الخارج فهي مما جاوز المدارك ، فلا يجاوز العقل فيها حَدَّ الإثباتِ لِمَا يُطْلَقُ من المعاني المجردة جَرْيًا على قانون اللسان المتداول زَمَنَ الكلام ، وهو ما يجاوز مطلقَ الإثباتِ لأيِّ معنى مع تفويض يجاوز في الإلهيات والسمعيات والغيبيات كافة ، ولو من باب الإلزام طردا وعكسا ، فيكون المجزئ على هذا القول ، يكون المجزئ إثباتَ الوجودِ ، وجودِ معنى وحقيقة قد نَزَلَ عليها هذا الخبر المغيَّب الذي لا يدرك بقياس العقل ، فجاوز أولئك في باب التفويض حَدَّ الحقائق في الخارج فهي المغيَّبات التي لا تدرك بالحس أو النظر ، فالتفويض فيها حق إذ لا دَرَكَ لَهَا في الخارج ، وإنما كان الاستدراك في هذا الموضع أن يجاوِزَ المفوِّض فلا يثبت المعنى المجرد الذي يحكيه معجم الألفاظ المستعملة زَمَنَ الخطاب مع ما احتف بها من قرائن السياق والعرف ، حقائق تزيد فهي تقضي في الحقيقة اللغوية المطلقة : قضاءَ المحكم في المتشابه ، فكان من فعلِ المفوِّض أن جاوز الحقائق المقيدة في الخارج فالتفويض فيها حق إذ لا يدرك ماهيات الغيوب إلا الرب المعبود ، جل وعلا ، وإنما ابْتَلَى الخلق بها إيمانا لا يَبْتَلِي العقلَ أن يؤمن بالمحال وإنما غايته أَنْ يَحَارَ فِي حقيقةِ هذا المثبَت من المعنى المطلق في الذهن ، وإن قُيِّدَ ظاهرُه بما تَرَاكَبَ من قَرَائِنِ السياق وَعُرْفِ اللسان ، فلا قَرِينَةَ لعقلٍ في هذا الباب أَنْ يَقْتَرِحَ من الماهية الأخص : قِيَاسَ غائبٍ على شاهد يجاوز القدر الجائز ، وهو قياس المعنى وإلا بطلت الدلالات اللسانية كافة ، فلا بد من رَدِّ المشهودِ والمغيَّب جميعا ، لا بد من رَدِّهِمَا إلى معجم أول يبين عن حقائق ودلالات مطلقة في الذهن لا يلزم من إثباتها تشابه أو تماثل في الكيف ، وإنما لكلٍّ ، المشهودِ والمغيَّبِ ، لكلٍّ منها ما يواطئ ، وذلك قانون الحكمة أبدا أَنْ يُعْطَى كلُّ محكوم من الحكم ما يلائم حاله ، كمالا أو نقصا ، فكان من وجدان الضرورة فطرةَ توحيد تَنْصَحُ ، كان من وجدانها قضاء يقين يقطع أن الخالق الأول ، جل وعلا ، هو المنفرد بالكمال الذاتي المطلق أزلا وأبدا ، فهو الأول والآخر ، وذلك ما استوجب تاليا أن يكون له من ذلك أوليةً وآخريةً أخرى تَصْدُقُ فِيمَا قَامَ بالذات من صفات الكمال المطلق ، جلالا أو جمالا ، معنى أو خبرا ، على قسمة مشهورة تداولها أهل الشأن في حد الصفات الإلهية في الآيات الشرعية : مستمَدِّ الإثبات والنفي في الخبريات والأمر والنهي في الإنشائِيَّاتِ ، فهي العمدة في باب التشريع ، ولا يجزئ فيه إلا التوحيد : توحيد التأله تصديقا بالخبر وامتثالا للحكم ، مع تَسْلِيمٍ تام يَنْفِي الحرج في الصدر ، فذلك شرط إيمان قد حُدَّ في الآي حَدَّ القسم أَنْ : (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، فكان من القسم باسم الربوبية فلا تخلو من تدبير ، وهو الجنس العام الذي يستغرق التشريع كما التكوين ، فكان منه في هذا الموضع ربوبية تحكم في مسائل الخلاف كافة ، فذلك العموم نصا في الموصول "ما" : الموصول الاسمي العام الذي حد لغير العاقل من المعاني والنوازل التي يحكم فيها الوحي ، فكان من القسم نَصٌّ في الباب ، وهو ما أفرد فيه ضمير الخطاب مواجهة إذ تَنَاوَلَ أول مخاطب بالوحي : النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن احتمل ما يجاوز بل ذلك هو الواجب اللازم لقرينة تقدمت في مواضع من عموم الربوبية في قوله تعالى : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، فجاوز المعنى إذ استغرق الجمع كافة ، على تقدير : فلا وَرَبِّكِم ، أو هو مما يجري مجرى الخطاب لغير معين بالنظر في قرينة العموم في خطاب التكليف المنزل الذي استغرق الجمع كافة ، فيكون من الإفراد في الضمير ما لا يستوجب التعيين بل يحكي آخر من التعميم كما التأويل المشتهر في بيت أبي الطيب :
    إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ ******* وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا .
    فلم يكن من خطابه بالضمير "أنت" واحد معين في الخارج ، وإنما أجراه مجرى المثل فهو يصدق في كل مخاطب ، فكل من سمع البيت فهو يستحضر أبا الطيب له مخاطبا في مقام النصح ، وكذا يثبت في آي الوحي ، من باب أولى ، فالنصح فيها أعظم والتكليف بها أوجب ، فكأن الله ، جل وعلا ، وهو الإله المشرع ، كأنه يخاطب كُلًّا فمن أراد أن يكلمه الله ، جل وعلا ، فَلْيَفْتَحِ المصحفَ وَلْيَقْرَأْ ما تيسر يَجِدْ من خطاب الوحي له ما يصدق ويعدل فهو ينصح له في المسائل كافة : الخبرية والإنشائية ، فحصل من ذلك عموم قد جاوز المخاطب الأول : النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وَثَمَّ من نَفْيِ الإيمان ما تسلط على المصدر الكامن في العامل "يُؤْمِنُونَ" ، وهو ما انصرف ، بادي الرأي ، إلى نفي الأصل الجامع حتى ترد قرينة صارفة إلى نفي الكمال الواجب ، فلا يحصل لهم إيمان يجزئ ، وثم من المضارعَةِ مَا بِهِ اسْتِحْضَارُ الصورةِ فِي مقام التحذير والنصح ، مَعَ دلالة ثبوت واستمرار ، فلا يؤمنون في الحاضر وفي الاستقبال إذ لا تنفك الحوادث تطرأ ، فهي مما لا يَتَنَاهَى ، فكان من حكومة الوحي ما يستغرق وهو ما جاوز النص إلى القياس وما زاد من المصالح والذرائع والأعراف بما حُدَّ الحد المحكم ، كما تقدم في موضع ، ألا تكون الأدلة العقلية ذريعة لنقض النصوص الشرعية تذرعا بما يطرأ من مصالح فذلك في التأويل يضاهي ما تقدم من حملان الألفاظ الرسالية التي نَزَلَتْ على أعراف لسانية قد حَدَثَتْ ، فَتُحْمَلُ على معنى تال قد طرأ بما كان من تطور في الدلالة ، أو آخر قد تعسف في التأويل فَحَمَّلَ النصوص من الحادث بعدها ما لا تطيق حتى بَلَغَ الأمر في مواضع حد الهزل وإن حكى أزمة النفس ، النفس التي غُلِبَتْ فهي تُفَتِّشُ عن خبرٍ يُبَشِّرُ أَنَّ ثَمَّ من الخير ما يعظم ، وذلك حق إن بِالسَّنَنِ العام في جريان المقادير ، فـ : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ، أو بآخر أخص من أخبار الفتن والملاحم وما تلا من الأشراط ، وفيها من البشرى ما يَشْرَحُ ، فكان من التعسف في التأويل ، وهو ما اطرد في الجيل المتأخر ، إذ ظهر خصوم الرسالة في الحس ، وإن ظهرت حجة الوحي أبدا بما كان من اللفظ والمعنى ، فكان من التأويل ما انشعب فسلك سُبُلًا ، فَثَمَّ مَنِ انْهَزَمَ وَافْتُتِنَ بما أنجزت الحداثة في الحسِّ فَرَاحَ يَتَأَوَّلُ نصوصَ الوحي بما يُوَاطِئُهَا إِنْ عَلَى قاعدةٍ يَتَوَسَّلُ بها إلى نَقْضِ الوحي وَإِنْ تَلَطَّفَ في الحكاية بما يُظْهِرُ من تعظيم النصوص فهي لا تُنْكِرُ منجزَ الحداثة بل هي تدعو إلى العلم والتدبر ، وذلك الحق الذي يُرَادُ به آخر يبطل ! ، فَإِنَّ حَضَّ الوحي أَنْ يُطْلَبَ العلمُ ويكون من التدبر ما جاوز الحفظ إلى الفقه ، ذَلِكَ مما لا يستوجب ما استوجبوا بِقِيَاسٍ فاسد وإن صحت المقدمات ، فَتَوَسَّلُوا بذلك أَنَّ علم التجريب هو الحكم ، فَلَهُ من معيار النظر ما يجاوز الوحي النازل ، والوحي بِذَا شاهد ! ، فهو شاهد على إبطال مرجعه في الحكم ! ، إذ قد جاوزه الزمن بما كان من منجز الحداثةِ فِي الحس تجريبا يحتمل الصواب والخطأ فكيف صَحَّ في الأذهان أن يكون الحكم ، فيحكم من خارج في وحي قد عُصِمَ ، وهو ، أبدا ، ما استوجب النظر الأخص في دلائل النبوة قبل الخوض في جدالِ فروعٍ لَمَّا تُحَرَّرْ أصولها بَعْدُ ، وثم آخر قد حسن قصده ، فهو يتكلف من التأويل في آي الإعجاز الكوني ما يرد به المنجز المكتشف إلى ما تَنَزَّلَ من الآي المحكم ، ولا يخلو من حق معتبر في مواضع ، فمن آي التكوين ما قد أعجز وبه الاستدلال على آخر من التشريع يحكم بما تقدم مرارا من التلازم الضروري في العقل بين آي التكوين النافذ توحيدَ ربوبية في الخبر ، وآي التشريع الحاكم توحيدَ ألوهية في الطلب ، فلا يخلو من حق وإنما زاد في مواضع بما تَكَلَّفَ من التأويل وَتَعَسَّفَ أَنْ رَدَّ الْيَقِينِيَّاتِ الرسالية إلى ظنيات تجريبية تَحْتَمِلُ فإن ثبت الخطأ فقد تَوَسَّلَ الخصم إلى الطعن في الوحي إذ قد جاء التجريب بما له يُنَاقِضُ ، وليس ذلك يلزم من اقتصد في الباب ولم يتكلف فإن الوحي ما أتى ، بادي أمره ، لينظر في مسائل التجريب وإنما استصحب بَعْضًا في سياق الإعجاز توسلا إلى قصدٍ أول هو الرئيس : توحيد النبوة فهي المرجع في الأخبار والحكومات كافة .
    وثم ثالث قد تعسف في الباب ، كما تقدم ، أَنْ أَصَابَهُ من كَرْبِ الانهزام في الجيل المتأخر ما به ضاق الصدر فَرَاحَ يُفَتِّشُ فِي أخبار الغيب من الفتن والملاحم ، وفيها حَقٌّ كثير كما آخر ضعيف أو باطل ، ولم يكن له من أدوات التحرير والضبط ، روايةً ودرايةً ، لم يكن له من ذلك ما يعصم من تعسف في التأويل وتكلف ، فَرَاحَ يتأول نصوصا صريحة قد نَزَلَتْ على المشهور المتداول في لسان العرب إبان التَّنَزُّلِ الأول ، راح يتأولها على محدَث من الدلالات قد طرأ ، وحقائق لم تكن زمن النبوة ، حتى تأول بَعْضٌ وهو حق لا افتراض لما لم يكن ! ، حتى تأول بَعْضَ ما كتب بين عين الدجال من لفظ "كفر" أنه عين مشهورة في المصريات القديمة ، وتأول وصف عينه وهو الأعور أنها كالعنبة الطافية أو البارزة عن مَثِيلَتِهَا ، تأولها بأنها العين التي طبعت على نَقْدٍ مشهور في المركز هو الآن عملة التداول الأولى في العالم ، فَثَمَّ الهرم والعين فوقه تطفو وتبرز ! ، ولا يخلو الرسم من رموز ذات دلالات باطنية تُبَشِّرُ بنظام جديد في التصور والتشريع يستغرق العالم كافة فهو الأممي المجاوز فَهَلْ ذَا ما قد قصد النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يخاطب عربا لا علم لهم بداهة بما يكون من قابلٍ في طباعة النقد ورسم العين الطافية على هرم ! فتأول صاحب هذا القول : تأول النص العربي المحكم بما دل عليه ظاهره المتبادر بلا قرينة تصرفه إلى آخر ، تَأَوَّلَ هذا النص تأولا باطنا يستحضر من نصوص الدجال وهو ذو ثقل في هذا الباب لا سيما مع يَتَوَاتَرُ من النوازل وَيَتَسَارَعُ فَبَعْضٌ قد ألجأه الضيق أن يستعجل الملاحمَ لِيُقْضَى فِيهَا بين الخلق ويكون الظهور الخاتم وإن لم يُبْذَلْ له من السبب ما يكافئ ، ولو يَسِيرًا بما لا يجاوز الحد فلكلٍّ قدرة أخص قَدْ أُنِيطَ بها من التكليف ما يواطئ ، فلا تكليف بما لا يستطاع ، وليس يجوز التكليف إلا بما يطاق ، فـ : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، إن في التكليف العام في الواجبات والفرائض أو في أخرى تَزِيدُ ، وبها الخلق قَدْ تَفَاوَتَ ، فلكلٍّ منها ما يواطئ حاله فلا يكلف أحد ما لا يطيق أن يكون من فعله خَارِقَةٌ تَنْصُرُ الحقَّ دفعة أو يكون من تأول النصوص ذات الأسباب والسياقات المنضبطة فلا تكون دفعة بما يخالف السنن الكوني كافة فَيَخْتَزِلَ بهذا التأويل الباطن أَطْوَارًا من العملِ بها الأرض تُهَيَّأُ لما قد ثبت من السنن الكوني الذي حكاه الخبر الشرعي المصدَّق ، فلا يكون تأويل السنن الكوني دفعة إلا أَنْ يَشَاءَ الله ، جل وعلا ، وإلا فالسنن الكوني المحكم هو ما أنيط به التكليف الشرعي المنزَّل أَنْ تُبْذَلَ أسبابٌ بها يجتهد الفاعل أن يبلغ من الغاية ما يحمد في نصوص الوحي ، ولا يكون ذلك بما تقدم من تأول باطن يتكلف من المعاني وهو ما يحمل بَعْضًا في طرف آخر يجفو ولو احترَازًا مما يُفْضِي إليه هذا الغلو في تأويل النصوص فيكون من آخر أن يجحدها فهي مما وضع تَثْبِيطًا لهمم الخلق أن تَنْهَضَ فتعمل ، أو هو مما تَسَلَّلَ من أديان مبدلة ومقالات محدثة تَرْقُبُ المخلِّص آخر الزمان ولو قعدت عن بذل الأسباب فالمخلص آتٍ لا محالة ، بل من بَدَّل دينه وَحَرَّفَ وكان من ذلك ما كان في الألفاظ والدلالات وما أفضى إليه من تعطيل في الشرائع والحكومات ، مَنْ تِلْكَ حاله فلا ينفك ، كما يرى الناظر في الجيل المتأخر ، لا ينفك يبذل من السبب ما به يُهَيِّئُ الأرض لمخلِّصه ، ولو باطلا ، فذلك ما قَاسَ عليه الرَّادُّ لهذه النصوص الصحيحة ألا يقع أهل الحق فيما وقع فيه أولئك ، وإن كان من نص الوحي الخاتم ما سَلِمَ به المؤمن مِمَّا لم يسلم منه الأول ، ولو كان من سوءِ التأويلِ أن صارت هذه النصوص في مواضع ذريعة القعود والتكاسل فَلَيْسَ ذلك بِعَيْبٍ فيها وإنما العيب عيب من نظر فلم يفقه ، فلا يَرُدُّ محكم النص إلى فاسدِ تأويلِه وعظيمِ جهلِهِ ، وإلا بطلت دلالات الوحي كافة فلا تنفك في كل جيل ينالها من فاسد التأويل ما يخرجها عن حدها في الخبر والحكم كافة ، ولا يكون جهل الجاهل بداهة حجة على علم العالم ، بل من عَلِمَ فَهُوَ حجة على من جهل ، فَلَيْسَ الجهل بحجة ، وإنما غايته أن يكون عذرا في الباب ، وليس عدم وجدان الشيء ، كما تقدم ، ليس دليلا على عدم وجوده في نفس الأمر ، بل قد يوجد الشيء والناظر يجهل فما لا يدرك أكثر مما يدرك ، و : (مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، فالقياس في الباب قياس مع الفارق ، أن يُقَاسَ الوحي الخاتم في محكماته اللفظية والمعنوية ، أَنْ يُقَاسَ على ما قد بُدِّلَ من ألفاظ الكتاب الأول وَحُرِّفَ من معانيه ، وإن عظمت الشبهة بما كان من قعود بعضٍ ممن يَنْتَسِبُ إلى الحق وتكلفه من التأويل الباطني ما يضاهي تأول الآخر الذي بدل في دينه وَحَرَّفَ ، فَرَامَ الأول حسم المادة والذريعة فإذا به يجفو في ما قد غلا فيه الأول فيجحد النصوص كافة ، ما صح منها وما بطل ، سدا لذريعة التواكل مع نَقْصٍ في فقه الأخبار روايةً ودرايةً فلم يجد من حجة الرد إلا قياس العقل على ما كان في الملل والنحل الأخرى من نظرية تغلو في المخلص والمهدوية ... إلخ ، قد بطلت ولم تنفك آثارها إلى مَقَالِ الحقِّ تَتَسَلَّلُ بما كان من تأويل فاسد لها إن في العلم أو في العمل ، فَكَانَ منها بَعْضُ أَثَرٍ في قُعُودِ النَّاسِ فالفرج آت لا محالةً وإِنْ لم يُبْذَلِ السبب ! ، فكان من سد الذريعة إلى ذلك ما قد جفا ، كما تقدم ، فجفا في الباب وَرَدَّ الحقَّ منه والباطلَ سدا لذريعة الباطل ! ، كما قد صنع بَعْضُ من عَطَّلَ في باب الإلهيات إذ أَرَادَ رَدَّ غُلُوِّ مَنْ وَقَعَ في التمثيل فَنَفَى القياس الفاسد في هذا الباب : قياس الغائب على الشاهد في الحقائق خارج الذهن ، وذلك حق ، ولكنه ، أيضا ، قد جاوز الحد فَجَفَا في الباب حتَّى نَفَى الحق منه والباطل فَوَقَعَ في ضد من تَعْطِيلٍ في مقابل ما كان من أول من تمثيل ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، والحق أبدا جادة بين إفراط يغلو وتفريط يجفو .

    فكان من العموم آنف الذكر ما استغرق الحكومات كافة ، فـ : (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، فلا يؤمنون الإيمان المجزئ في حصول اسم ديني ينفع ، ولو الأصل الجامع بادي الأمر ، مع ما يكون تاليا من تَوَسُّلٍ إلى الكمال الواجب ، فلا يؤمنون وذلك عموم قد خص بالغاية المتصلة في السياق : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، وهو ما جاوز بالضمير المخاطب المفرد ، ما جاوز بهذا الضمير البشيرَ النذير صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى ما قد جاء به من الوحي ، فإنهم يحكِّمون الوحي إذ يحكِّمون صاحبه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي بلغ منه الألفاظ وَبَيَّنَ منه المعاني وَسَنَّ له من طرائق الاستدلال والاستنباط ما يواطئ ، كما تقدم ، عُرْفَ زَمَانِه ، فَإِنَّ العرفَ المستقر هو المعتبر في تفسير النصوص فلا تُفَسَّرُ بِمَا تَلَا من اصطلاحٍ حادث لم يكن زمنَ التَّكَلُّمِ ، وإنما خوطب الجيل بما يفقه ، فَلَوْ خُوطِبَ بظاهرٍ من اللفظ ، فالواجب حملانه على هذا الظاهر لا على آخر قد حَدَثَ بَعْدًا بما كان من تَطَوُّرٍ في دلالات الكلمات حتى يخرج به المتأول عن جادة النقل فضلا عن العقل ، كما تقدم من تأويل العنبة الطافية ! ، فلا يكون الإيمان إلا أن يكون الوحي هو المحكم في كلِّ نَازِلَةٍ تطرأ ، فتلك ، كما تقدم ، دلالة "مَا" نصا في العموم قد استغرق في قوله تعالى : (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، وثم من الإطناب في التكليف معطوف به الاحتراز في قوله تعالى : (ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ) ، فلا يكون الحرج ، أي حرج ، وتلك دلالة النكرة "حَرَجًا" في سياق النفي ، وثم ختام بالتسليم المؤكد لفظا بالمصدر أو المفعول المطلق ، فـ : (يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، حكايةَ آخرَ يُضَاهِي من التوكيد في المعنى ، وهو الخبر ذو الدلالة الإنشائية التي تحض على تحكيم الوحي في مواضع الشجار والنِّزَاعِ ، ومواضع الاتفاق من باب أولى فلا يحصل إيمان يجزئ إلا بذلك ، وهو ، من باب التلازم ، ما يَنْهَى عن ضِدٍّ ، أن يكون الحكم لغير الوحي فذلك مما ينقض الإيمان على تفصيل في الباب .

    وذلك مما يدخل في الحد آنف الذكر : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ) ، فعمومها ، كما تقدم ، قد استغرق الكوني والشرعي ، الخبري والإنشائي ، وهو ما زاده القوم جحودا إذ قَتَلُوا الأنبياء ، عليهم السلام ، وهم حملة هذ الآيات فَقَتَلُوهُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فكان من تسجيل الجناية في قوله تعالى : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، وذلك ، كما يقول أهل الشأن ، من الوصف الكاشف فلا مفهوم له ، إذ لا يكون قتل الأنبياء بداهة بحق ! ، ثم زَادُوا في الجحود أَنْ قالوا : (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) ، إما دعوى تُجَازِفُ ، كما يقول بعض من حَقَّقَ ، أن قلوبهم أوعيةُ علمٍ قد امتلأت فلا تفتقر إلى الوحي الخاتم ! ، وتلك ، أيضا ، دعوى الحداثة في كلِّ جيل ألا حاجة لها في رائد صدقٍ من نبوة ووحي ، فإما دعوى تجازف أو أخرى احتجاجا بالقدر ، فقلوبهم لا تقبل الحق ، فكان من الرَّدِّ إضرابا يُبْطِلُ أو هو ينقل إذ يبين عن علة هذا القلب الأغلف : (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) ، فذلك الطبع الكوني بما كان من مخالفة عن الأمر الشرعي ، فكان ذلك : (بِكُفْرِهِمْ) وتلك بَاءُ السَّبَبِيَّةِ التي تَنْفِي حجة الجبرية أن ذلك مما قد قُدِّرَ عليهم فلا سبيل إلى رَدِّهِ ! ، بل ذلك مما كسبت أيديهم من الكفر والعصيان ، وهو ما أفضى إلى سلب الإيمان ، فدلالة القلة في قوله تعالى : (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ، دلالتها كالعدم فلا يؤمنون أبدا ، أو ذلك ، كما يقول بعض من حقق ، ذلك من إيمان قليل لا ينفع إذ آمنوا بِبَعْضِ النبوات وكفروا بِبَعْضٍ ، فـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) ، أو قد تحمل على الحقيقة فلا يُؤْمِنُ منهم إلا قَلِيلٌ كما الحبر ابن سلام رضي الله عنه .

    والله أعلى وأعلم .


  11. #11
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان من نقض الميثاق ما أُكِّدَ ، كما تقدم ، فَزِيدَتْ "مَا" في قوله تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ) ، وهي تحكي التكرار ، فأوجز في الذكر ولم يكرر في اللفظ ، وكان من "مَا" نائب يوجز ، وبه المعنى يبلغ ، وذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى المجاز ، مجاز الإيجاز أو الحذف ، ولا حذف بلا دليل ، فالأصل عدمه ، فإذ خرج الناظر عنه فأثبت ما يخالف ، فقد أثبت حذفا والأصل عدمه ، فتلك الدعوى التي تخالف عن الأصل المستصحب أَلَّا حذف ، ومن خالف عن الأصل فهو صاحب دعوى ناقلة عنه ، فلا تقبل دعواه بلا دليل يشهد ، فكان من "مَا" دليل على المحذوف المقدر ، فعدل عن الذكر إلى الحذف عدول المتأوِّل عن الظاهر الراجح إلى آخر هو المرجوح فلا يتبادر ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا بِقَرِينَةٍ هي الدليل الناقل ، فكان منه في هذا الموضع "ما" فهي زائدة في المبنى لا جرم عَمِلَ ما قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا ، فليس لها أَثَرٌ في الإعراب ، وإنما زيادتها زيادة في المعنى ، كما فِي "مَا" في قوله تعالى : (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) ، فالأصل : ولا يأب الشهداء إذا دُعُوا ، فإنها ، أيضا ، مما زِيدَ فَلَا محل له في الإعراب ولا دلالة له تجاوز حَدَّ الزيادة في المبنى ، خلاف "ما" الاستفهامية ، وأخرى موصوله ، وثالثة نافية تعمل عمل ليس وهي التي اصطلح أنها الحجازية كما في قوله تعالى : (مَا هَذَا بَشَرًا) ، ورابعة شرطية ، وخامسة تعجبية ، فتلك ألفاظ ذات دلالات أخص في الإعراب سواء أكان لها محل من الإعراب كالاستفهامية والشرطية أم لم يكن كما النافية العاملة عمل ليس ، وسواء أكانت غير عاملة فيما تلا أم هي تعمل ، كما "ما" الحجازية التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر ، فحصل من صورة اللفظ واحد ، وكان من الدلالة ما اختلف وهو ما عنه السياق يبين فهو ، كما تقدم مرارا ، أصل في تعيين مراد المتكلم وهو ما جاوز الكتب والنطق المجرد إلى التنغيم والنبر فإنه يحكي دلالة أخص بها يمتاز التَّعَجُّبُ مِنَ الاستفهام ..... إلخ ، بل بِهِ ، أَيْضًا ، يمتاز الاستفهام فمنه الإنكار ومنه التوبيخ ومنه الإبطال ومنه التقرير ...... إلخ ، فكان من "ما" : مشترك لفظي إذ ثَمَّ صورة واحدة في النطق والكتب ولها من الدلالات ما اختلف ، وهو ما يدرك ، كما تقدم ، بِقَرَائِنَ تحتف فهي كَقَرَائِنِ التأويل التي تَصْرِفُ اللفظ إلى معنى دون آخر ، فإذ ازدحمت فيه الدلالات فهو المجمل الذي يفتقر إلى مُبَيِّنٍ من خارج إذ يرجح وجها دون غيره ، وقد يُجَوِّزُ في أحيان الجمع بين أكثر من معنى ، أو الجمع بين المعاني كَافَّةً ، على قول من يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فحصل من الشكل والإعراب قرينة رجحت في كل موضع دلالة أخص ، فإذ زِيدَتْ "ما" ولم يكن ثم عمل أخص ، ولم تكن مانعا إذ عمل ما تَقَدَّمَ فيما تلا وهي بينهما زيادة مبنى تحكي التوكيد معنى دون عمل أخص في الإعراب فتلك قرينة رجحت أنها الزائدة ، وثم من الدلالة الأخص تكرار اللفظ ، فإن زيادتها في نفسها حكاية معنى يزيد ، وإن المطلق ، وثم آخر أخص ، وهو دلالتها في هذا النظم على تكرار في اللفظ ، على تقدير : فَبِمَا نَقْضِهم فَبِمَا نَقْضِهم ، فتكرار اللفظ لا ينفك يحكي التوكيد ، فكان من نقض الميثاق ، وهو ما قد عَمَّ فاستغرق بدلالة الإضافة إلى الضمير في "مِيثَاقَهم" ، فاستغرق المسائل الدينية كافة ، الخبرية والإنشائية ، ومنها تَحْرِيمُ الرِّبَا ، محل الشاهد ، وهو ما استغرق آحادا في الباب تَكْثُرُ في الجيل المتأخر مضاهاةً ليهود إذ استحلوا المحارم بأدنى الحيل ، فَنَقَضُوا الميثاق إن بِالنَّقْضِ لأصلِه من التوحيد بما كان من قدح في ذات الرب الحميد المجيد ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فكان كفرهم بالآي الخبري الذي أبان عن وصف الرب العلي ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَنَسَبُوا إليه وصف النقص الذي عنه قد تَنَزَّهَ من الفقر والتعب والندم بعد الفعل فبكى حتى رمدت عيناه ! والبخل وغل اليد ! ، فكان من ذلك باطل قد أفضى إليه قياسهم الغائب من الحقيقة الإلهية العليا على مشهود في الحس من حال الخلق وما يعتريهم من نقص بل ذلك رِكْزُ الجبلة وإن بَلَغَ الإنسان ما بَلَغَ من الكمال باطنا وظاهرا ، ولا يخلو هذا القياس ، قياس الغائب على الشاهد في الحقيقة والكيف ، لا يخلو من دلالة تكلف قد اطردت في كل مقال يخالف عن الوحي المنزل أن يصير الإنسان المشهود بالحس هو الأصل وما كان غيرا ، ولو الإلهَ الحقَّ بما غاب من حقيقته العليا ، وما كان غيرا فهو فرع في معيار المقال الإنساني المحدَث ، وإن كان من هذا المقال ما يحمل نسبةً ، ولو مجملة إلى الوحي المنزل كما مقال يهود المبدل

    فَنَقَضَ يهود الميثاقَ إن بِالنَّقْضِ لأصلِه من التوحيد أو بآخر لما قد أُحْكِمَ مِنَ التشريع ، ومنه تشريع الربا ، فإن من خاصة النفس أَنْ تَجْمَعَ وَتَمْنَعَ إِنْ لم يكن ثم لجام من الوحي يحكم ، فالوحي جادة عدل تأطر سالكها أن يعدل في القول والفعل ، في الإعطاء والمنع ، فكان من نَقْضِهم الميثاق ما استخرج من النفوس معادن خبث تحكي دَوَافِعَ شَرٍّ كما أخرى على ضد فهي دَوَافِعُ الخير ، وَتِلْكَ ، كَمَا يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، تلك خَاصَّةُ النفس إذ رُكِزَ فِيهَا من هدى الفطرة نجدان : خير وشر ، وثم إلهام : إلهام الفجور والتقوى ، فَخُلِقَتِ النفس أَنْ تَقْبَلَ الأسباب كافة ، وهي لا بد لِسَبَبٍ تَقْبَلُ فلا تكون خلوًا إذ أصل خلقتها أنها الحساسة المتحركة بالإرادة ، والإرادة لا بد لها من تصور ، والتصور لا بد له من مرجع هو القيم العظمى الحاكمة التي يحكيها لسان المقال والحال كافة فتلك جُمَلَ مَعَانٍ تأطر صاحبها على جادة مخصوصة قد رُكِزَتْ فيه بادي الرأي فطرةً مجملةً وأبين عَنْهَا تَالِيًا إذ خرجت من القوة إلى الفعل بما كان من الإيجاد والخلق ، وَحَصَلَ لها من الاعتدال أو الاعتلال بما يكون من تأثير من خارج ، فإن الجمع يُؤَثِّرُ في الفرد لا جرم كان النص أبدا على النظر في الخليل فهو فاضح إذ يبين عن ماهية خليله ، فَهُمَا على دين واحد ، وهو ما يجاوز دين الاعتقاد إلى دين الفكر والسلوك ، الفكرة التي تَبْعَثُ النفس أَنْ تَفْعَلَ أو تَتْرُكَ ، والحركة فهي سُلُوكٌ مِنْهُ بَاطِنٌ مَبْدَؤُهُ التَّرْجِيحُ في باب التحسين والتقبيح ، وما يكون تاليا من الحكم أن ذلك مباح أو محظور وبه الإرادة تحصل فِعْلًا أو تَرْكًا في الباطن ، فيكون من تأويلها في الخارج حَرَكَةُ اللِّسَانِ نطقا أو الجوارح فِعْلًا أو تَرْكًا في الظاهر فهو تأويل ما بطن أولا من الإرادة التي تقبل الضدين قبل الشروع في الفعل ، فإذا باشرته فقد تَلَبَّسَتْ بواحد فلا تقبل آخر إذ المحل الواحد لا يحتمل اثنين ، ولو من الجنس نفسه ، كما المثل يُضْرَبُ أَبَدًا بالناسخ المؤكد ولام الابتداء إن اجتمعا في سياق واحد ، فإذا اجتمعا قُدِّمَ الأقوى وهو الناسخ ، وَأُخِّرَتِ اللام فهي أضعف فلا يحتمل المحل كِلَا المؤكدين ، فكذا الإرادة فهي مبدأَ الأمرِ تَقْبَلُ الضدين ، فإذا حصل التصور الأول لمعادن الخير والشر ، فَثَمَّ من الحكم تال يَقْبَلُ أو يَرُدُّ ، يَفْعَلُ أو يَتْرُكُ ، فهو تأويل يصدق المعلوم الأول ، لا جرم افْتَقَرَ كُلُّ فَاعِلٍ حي حساس مريد يختار مَا به التكليف يصح فلا تكليف بِجَبْرٍ إذ معنى الإرادة فيه يَبْطُلُ وإن كان من إرادة التكوين تقدير وخلق أول وتال في الشهادة يصدق فلا يخرج اختيار المخلوق عن علم الخالق ، جل وعلا ، وإرادَتِهِ ، فَافْتَقَرَ كل مخلوق إلى مرجع من خارج يجاوز فذلك التصور الذي عنه القول والعمل يصدر ، فكان من ذلك مرجع أول من السماء ينزل ، وهو مرجع الوحي المحكم ، وكان آخر من الوضع المحدَث ، فَنَجْدُ الخيرِ نجد الوحي ، وَنَجْدُ الشر نجد الوضع ، إذ الأول عن رب غني حميد يصدر ، فهو ، جل وعلا ، الذي خَلَقَ الناس لا ليستغني بهم من فاقة أو يستكثر بهم من قلة ، أو يستأنس بهم من وحشة ، بل ذلك وصف المخلوق فلا يقاس عليه الخالق ، جل وعلا ، إذ ثم فارق أي فارق ! ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، من قياس الغائب على الشاهد ، قياسا يجاوز المعنى المجرد في الذهن ، فالقياس فيه يجوز بل ويجب فَهُوَ يثبت الأصول الدلالية الأولى ، معجمَ لِسَانٍ يَرْفدُ المتكلم بمادة من النطق هي أول في الفهم والبيان ، وإلا صار الكلام أصواتا لا تجاوز في الحد : لَفْظًا يُنْطَقُ بلا إرادة وقصد ، فذلك آخر قد اشْتُرِطَ فِي حَدِّ الكلام المجزئ ، فَثَمَّ من محاكاة البَبَّغَاءِ مثالا ما يصدق فيه ، بادي الرأي ، أنه كلام يُفْهَمُ ، فَقَدْ جاوز لَفْظًا لا دلالةَ له مِمَّا أُهْمِلَ مِنْ تَرَاكِيبِ العربية إذ لا مرجع له في المعجم يضاهي معنى مخصوصا بما عُهِدَ من لسان العرب العهد الخاص سواء أَقِيلَ إنه مما حصل وحيا أم إلهاما أم وضعا أَوَّلَ ، فَجَاوَزَتْ محاكاةُ الْبَبَّغَاءِ الصوتَ وجاوزت اللفظ المهمَل ، إذ ينطق بأصوات ذات دلالات مفهمة بما استقر في الوجدان من معجم اللسان ، بل ثم مِنْهَا كما في أمثلة تُشْهَدُ في هذا الجيل ، ثم منها ما جاوز في النطق كلمات مفردة إلى سياقات مركبة ذات معان مخصوصة في الاصطلاح فهي مما يصدق فيه أنه الكلام لفظا يفيد معنى يحسن السكوت عليه إذ اكتمل المعنى ، وهي ، مع ذلك ، مما لا يصدق فِيهِ حَدُّ الكلامِ التَّامِّ ، إذ شرطه ، كما تقدم ، إرادَةٌ تَسْلَمُ من الْعَوَارِضِ ، من الإكراه أو الغفلة كما النائم إذا تكلم فلا يُؤَاخَذُ بما قال ، وكما الطفل الصغير الذي يُقَلِّدُ كلاما يُلْقَى عَلَى سمعِه ، وَكَمَا الْبَبَّغَاءُ الذي يُعَلَّمُ فلا يَفْقَهُ مَا يَنْطِقُ فَحَصَلَ من صوته كلام يُفْهَمُ ، من وجه ، إذ ثم اصطلاح أول قد ثبت في الوجدان بما استقر من معجم اللسان ، وثم نظم يواطئ نحو العربية ، فَيَفْقَهُ السامع معنى المنطوق بما استقر في وجدانه من المعنى المفرد والمركب ، وهو في نفس الآن ليس بكلام إذ لم يقصد الْبَبَّغَاءُ ما يقول فَلَيْسَ ثَمَّ عقل عنه يصدر المنطوق ، وإنما حاكاه في الصوت دون المعنى ، والكلام ، كما تقدم ، اللفظ والمعنى ، وذلك ما يقارب بالكلام حد الاصطلاح الشرعي الأخص الذي اعتبر مقاصد المكلفين في الكليات والجزئيات كافة ، فالمكرَه يَنْطِقُ بكلمة الكفر عالما عامدا مختارا وهو ، مع ذلك ، لا يكفر ، فكلامه كَلَا كلامٍ إذ الاختيار يَفْسَدُ فالإرادة التي صدر عَنْهَا غير معتبرة إذ لم تسلم من عوارض الأهلية .

    والشاهد أن قياس الغائب على الشاهد محلُّ الإجمال إذ يجوز بل ويجب ، من وجه ، كما الأصول الدلالية الأولى فهي أول يجرده الذهن وليس يَثْبُتُ معنى إلا به ، فكان مِنَ التَّفْوِيضِ فيه ما يُفْضِي إلى التعطيل أَنْ تُصْبِحَ الألفاظُ بلا معانٍ يُدْرِكُهَا العقل ، فَالتَّفْوِيضُ في باب الغيب لا يكون إلا في الحقائق في الخارج لا المعاني التي يدركها الذهن الناصح ، والمعاني مما يجاوز حد النسبة المجملة نسبةَ معنًى إلى ذات توصف بِهِ فإذا طولب المثبِتُ بدلالة أخص تحكي المعنى ، ولو مجردا في الذهن ، لم يحسن يُبِينُ عنها ، وإنما يَرُدُّ ذلك إلى علم الغيب فَبِمَ كان الابتلاء بالتصديق ؟ أن يصدق الإنسان بمعان لا يدركها وشرط التكليف ، كما تقدم في مواضع ، أن يكون معلوما إن في الخبر أو في الإنشاء ، وَإِنِ اقْتُصِرَ في الخبر أن يكون ذلك مما يَثْبُتُ فِي الذهن مجردا فلا تكليف به يجاوز إلى الحس كما الإنشاء بأمر ونهي ذي ماهية مخصوصة في الاصطلاح فإن له من تأويل تال في الخارج وهو إيقاعه كما أَرَادَ الشارع ، جل وعلا ، كما في الخبر أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يَتَأَوَّلُ القرآن إذ يُكْثِرُ يقول : سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي تَأَوُّلًا لِأَمْرٍ قد نَزَلَ أَنْ : (سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ، فالتكليف الخبري لا يجاوز حَدَّ الاعتقاد تصديقا بالمعنى المجرد في الذهن ، وإن كان ثم آثار في الخارج كالإحسان فهي من لوازم الاعتقاد لا من حَدِّهِ المطلق في الذهن ، فيكون من اعتقاد العبد أن الرب ، جل وعلا ، يَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَيَرَى ما يفعل ويعلم ويحصي ما يكون من طاعة أو معصية ، فَكَانَ من تقديرٍ أول ما سُطِرَ في لوح تقدير محكم فلا يُنْسَخُ ، وهو ما لأجله الحمد يجب إن وَجَدَ الفاعل في نفسه من الخير ما يَنْفَعُ ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، جل وعلا ، بشرى في الأولى لا ينفك صاحبها يتحرى في القصد والنية فلا يكون العاملَ الناصبَ وليس ثم بَعْدًا إلا العذاب الحارق أن لم يَنْصَحْ في القول والعمل ، ومن وجد بَاعِثَ طاعةٍ وطاقةَ فعلٍ فآنس من النفس إقبالا ومن البدن احتمالا فَلْيُسَارِعْ قَبْلَ الفترة ، فإن النفس قُلَّبٌ لا تَثْبُتُ عَلَى حال ، فكل أولئك من الاعتقاد الباطن فَلَا يَظْهَرُ ، وإن ظَهَرَتْ آثاره ، فيكون من ذلك باعثُ فعلٍ أو كفٍّ في الخارج ، مع كمال المراقبة والاجتهاد في تحرير النِّيَّةِ والقصدِ ، فالله ، جل وعلا ، يعلم السر وأخفى ، والاعتقاد ، لو تدبر الناظر ، تَصْدِيقٌ يجاوز العرفان المجرَّدَ إذ به يرجح المصدِّق الإثباتَ تَرْجِيحًا مخصوصا فلا يقتصر على التجويزِ العقلي المحض وإنما الإيجاب جزما ، وبه الفرقان بين العرفان المجرد والتصديق المحقق ، فالأول يشبه أن يكون من التجويز العقلي المحض كمن لا ينكر وجود الخالق ، جل وعلا ، وإن لم يثبت ، فالأمر محل نظر ! ، وَإِنْ أَثْبَتَ فَإِثْبَاتًا مجرَّدًا لا يجاوز حد الصانع أو العلة الأولى التي صَدَرَ عَنْهَا الكون بلا علم ولا حكمة ولا غاية من الخلق ، فليس إلا الإيجاد المجرد وليس ثَمَّ من وصف الأول إلا فاعل مطلق بشرط الإطلاق قد اجتهد الناظر أَنْ يُجَرِّدَهُ حَتَّى بَلَغَ به العدم فهو إثبات بمعنى النفي إذ يُثْبِتُ مَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الخارج ، فليس إلا العدم إذ القول بالمطلق من كل وجه فلا وصف له يميزه من غَيْرٍ ولا حقيقة له تجاوز الذهن فَيَثْبُتُ لَهَا من الوجود في الخارج ما يَزِيدُ ، ذلك مما لا يحتمله عقل يَنْصَحُ إلا فرضا محضا لا يجزئ في إخراجه من العدم إلى الوجود ، فحصل من التجويز العقلي أو الإثبات المجرد في الذهن حَصَلَ من ذلك ما يُضَاهِي المذهب الرُّبُوبِيَّ المحدَث الذي رام الانعتاق من الكهنوت المبطَل فَوَقَعَ فِي باطل أعظم إذ انصرف عن المعاني الرسالية ، ولو مبدلةً ، إلى أخرى حداثية مركزها الإنسان الذي طغى بما حصل له من أسباب الحس ، فكان انصرافه إلى ذاته أن يصيرها إلها يُسْتَبْدَلُ بإله الكنيسة الذي صَادَرَ العقل بما اقْتَرَحَ من المحال الذاتي الذي يخالف عن العلم الضروري ، وليس ذلك بداهة إلا العقل البشري المحدَث : عقلَ الكهنة الذين اقترحوا من الدين والشرع ما به حفظ الرِّيَاسَاتِ والحظوظ ، وإن كَسَوْا ذلك لحاء المشروع بل والمقدَّس ، وذلك لفظ ذو دلالة أخص في البحث الحداثي إذ يَلْمِزُ به الإرث الديني كافة ، حكاية اعتقاد لا ينصح فليس بمقدس وإنما قَدَّسَهُ الأتباع تقليدا لرءوس الديانة ! ، فَوَجَبَ نَقْدُهُ بل وَنَقْضُهُ ، وتلك دعاية المغلوب المنهزِم الذي حصلت له نسبة أولى إلى الوحي المنزَّل : نسبة المولد ، فالفكرة قد صُنِعَتْ عَلَى عين الغالب فلا ينفك يَتَّبِعُ سَنَنَهُ ، وإن دخل جحر الضب ، فَكَمَا نَبَزَ الغالب نَصَّهُ أَنَّهُ المقدَّس دعوى لا دليل عليها ينصح بل البحث المتجرد في الروايات والأسانيد يقطع بالخطإ بل والاختلاق ، فكما صنع الغالب ذلك فهو واجب الوقت على المغلوب وإن كان له من المقدس وحي محفوظ قد سَلِمَ من القوادح التي لم يسلم منها الكهنوت المبدل ، بل وَسَبَقَ أهلُه أن يُحَقِّقُوا إسناده وَمَتْنَهُ بقواعد محكمة قد فَاقَتْ ما اقترح الجيل المتأخر من قواعد الإثبات والنقد لمرويات الدين والتاريخ ، فكان من المنهزِم ما لا ينقضي منه العجب حكايةَ النقل بلا تحقيقٍ ، فَكَمَا سَلَكَ الغالب تلك الجادة فهي الحق المطلق وإن كان ذلك في ظرف تاريخي يخصه إذ خاض من صِرَاعٍ مع الدين المبدل ما منه جمع النبوات قد سلم بما حُفِظَ له من الكتاب الخاتم والشرع الناصح ، فكان التقليد لِلْغَالِبِ استحضارا لِمَا لم يكن في سياقه ، فَقَدْ كان في سياق الغالب لِظَرْفٍ مِنَ التاريخ قد اشْتُهِرَ ، وليس ذلك مما في النبوة الخاتمة قد حصل إلا استثناء في الجيل المتأخر بما كان من غُلُوٍّ في التقليد وَتَعَصُّبٍ للأئمة المتبوعين ، ولو كانوا من أولي النظر والتحقيق من جيل أول من العلماء لهم من السبق والفضل ما لا يُجْحَدُ ، فَتَقْلِيدُهم التَّقْلِيدَ المطلقَ وإن في مسائل قد عُلِمَ يَقِينًا أنهم لم يصيبوا فيها الحق ، بل والتكلف لهم في مواضع أَنَّ ما خالف عن قولهم من الأدلة ، ولو محكمة ، فهو دائر بين التأويل والنسخ ! ، كل أولئك ليس من دين النبوات في شيء ، بل قد جاء له يَذُمُّ إن في الاعتقاد أو في العمل مع ما تقدم في مواضع من نصوص الصدر الأول من حملة العلم المنزَّل أَنْ قَدْ نهوا عن التقليد فلا يُقَلَّدُ إلا الوحي المعصوم وما كان من قول أو اجتهاد فَإِلَيْهِ يُرَدُّ فهو المعيار تأولا لنصوص قد تواترت في الحكم ، فـ : (إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ، فَعَظُمَتِ الشبهة في الباب أن جاء أقوام قد صَيَّرُوا التقليد في الدين فضيلة وعزيمة وليست إلا الرخصة لمن لا يطيق الاجتهاد مع انتفاء العصمة في حقِّ أَيِّ أحدٍ بَعْدَ قَبْضِ صاحبِ الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا ما كان من إجماع الأمة فلا تجمع على خطإٍ ، فلا تخلو الأرض من قائم بحجة الوحي الناصحة وإن نَدَرَ فلا يَدْرُسُ وَيُمْحَى أثره من الأرض بل هو شاهد الصدق أَنَّ شهادة الأمة الخاتمة صادقة جارية في الخلق كافة ، فلا يكون التقليد إلا رخصةً لمن لا يعلم كيف يستنبط الحكم بنفسه ، فهو ، مع ذلك ، يجتهد لا في الاستنباط وإنما في الاختيار أن يختار من يفتيه بالحق ، ولو غلبة الظن ، لا أن يختار من يفتيه بما يواطئ هواه وذوقه ، فشرطه أن يتجرد في طلب الحق فهو يجتهد في تحرير النية والقصد ، وذلك أول ، ثم يجتهد تاليا في اختيار من يفتيه ، ويجتهد ثالثا أن يقتصد في المدح وفي الذم فلا يقلد الإمام تقليد المعصوم ، فليس ذلك بجائز في النقل ولا في العقل ، وإلا لكان رَدُّ الأمر إليه كما قد رُدَّ إِلَى الوحي في الآي آنف الذكر : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ، والرد إلى الله ، جل وعلا ، ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الرَّدُّ إلى الوحي آيا وخبرا ، وهو ، عند التدبر والنظر ، رَدٌّ إلى مرجع واحد يجاوز من خارج ، وهو المعصوم إذ قد صدر عن الغني الحميد ، تبارك وتعالى ، وهو المبرَّأُ من الفقر والجهل ، السالم من كل عيب ، فهو السلام القدوس وَصْفَ نَفْيٍ يسلبُ النقص ولا يكون المدح تاما إلا أن يُشْفَعَ النَّفْيُ بِضِدٍّ ، بل بكمالِ ضِدٍّ ، فَيُنْفَى عنه ، جل وعلا ، النقص مطلقا ، ويثبت له الكمال المطلق ، وهو ما عنه الوحي يصدر مرجعا يفصل بين الخصوم ويشفي وساوس الصدور بما تعتمل من أسئلة غيب لا يُنَالُ جوابها إلا من مشكاة وحي ، فوجب أولا ، كما تقدم مرارا ، وهو مما عمت به البلوى حتى صار الضروري يفتقر إلى إثبات نظري ! ، وجب أَوَّلًا الإثبات أن ثَمَّ حاجة تمس لدى كل من يعقل وينصح أن يكون ثم مرجع محكم يجيب عن سؤالات المبدإ والمصير ، ويسن من الأحكام ما به صلاح الحال والمآل فإليه يرجع الخلق ولا يجدون من الحرج ما يجدونه إذا احتكموا إلى البشر ، فلا يسلمون من الهوى والحظ وهو ما تظهر آثاره في حكوماتهم ، وَإِنْ تَرَاتِيبَ إداريةً بها المصالح الدنيوية تَنْتَظِمُ ، فيكون من سَنِّ الأحكام ما يداهن أصحاب الجاه والثروة كما الحال في الجيل المتأخر فإن الأمر قد جاوز نقض المرجعية الرسالية العليا ، ونقض الأحكام المنصوصة ، فكان نقض المصالح التي تَعُمُّ ولو تَرَاتِيبَ يجتهد فيها العقل ما لا يجتهد في الشرعيات الخالصة ، لا جرم كان من احتياط الأصوليين في هذا الباب الجليل ما أبان عن عقل في الاستنباط قد بَرَعَ بما أَحْكَمَ من القيد شرطا في المصالح أن تكون ظنية راجحة فالقول بالقطع يَتَعَذَّرُ في مواضع الاجتهاد ، وأن تكون ضرورية أو حاجية فَثَمَّ حرج في فواتها يَعْظُمُ وقصرها على الضروري وحده يحجر الواسع وَيُفَوِّتُ ما اعتبر من المصالح ، وأن تكون عامة ، وهو محل الشاهد ، فلا تُسَنُّ مداهنة لقبيل يملك من الأسباب ما به يُؤَثِّرُ ، ولو ناعما يخدع ، كما النظم الأرضية المحدَثة قد اشتكت في هذا الجيل بعد أن تَبَجَّحَتْ قَبْلًا أنها قد بلغت الغاية في التحقيق في مسائل الحكم والسياسة ، فدائرة الاجتهاد في المصالح أوسع والنسخ فيها أرحب إذا طَرَأَ من العارض ما استوجب على تفصيل في باب المصالح .

    فعمت البلوى في انحياز الخلق أن وضعوا من الأحكام ما يداهن قبيلا قد استجمع الأسباب ومنها المال ، كما كبار المرابين في هذا العالم وقد ندر الحلال الطيب فلا يكاد يسلم من غبار الربا الذي يكدر ، فاستجمع أولئك الأسباب وكان من الرغب والرهب ما حَمَلَ كَثِيرًا أَنْ يُدَاهِنَ فَسَنَّ لأولئك من الأحكام ما يواطئ مصالحهم وإن ضاقت وأضرت بِغَيْرٍ أكثر ، وذلك مما خالف عن القياس المحكم أن يُحْتَمَلَ ضررٌ أدنى دَفْعًا لآخر أعلى لا عكسه أن كان لِفِئَامٍ هم أقل ، كان لهم من أسباب القوة والثروة ما به الملك والدولة ، فكان المال دُولَةً بَيْنَهُمْ ، وكان السلطان دُولَةً بينهم ، وكان سَنُّ الأحكامِ دولةً بينهم فمن غلب فهو يضع من الشرع ما يواطئ هواه وحظه وإن نَفَعَ غَيْرًا فَتَبَعًا لا أصلًا ، إذ الأصل ما يصلح القوي الغالب ويزيد من ماله وجاهه وَيُعْظِمُ من قوِّتِهِ وسلطانِه ، ولو نَهْبًا وَبَطْشًا ، فالمال والقوة هما رَافِدَا اللَّذَّةِ في جيل الحداثة المتأخر وذلك ثالوثهم المقدس إذ استبدلوه بثالوث الكهنوت المبدَّل ، فحل الإنسان محل الله ، جل وعلا ، فَقَدْ بَلَغَ الأولُّ سِنَّ الرشد فلا وصي ولا ولي ، وإنما دفع إليه الكون فهو سيده ومالكه يَتَصَرَّفُ فيه بما يواطئ هواه وحظه وإذ قد جبل على الشح والأثرة وحب المال والسلطان ، حَلَّ أو حَرُمَ ، فلا ينفك يظلم غيره إن آنس في نفسه قوة وآنس في غَيْرٍ ضعفًا ، فيكون من شرعة الغاب حكم يفصل على قاعدة البقاء للأقوى وذلك مما سُنَّ له من الفرضيات المتوهمة ما صار نظريات محكمة ، وإن لم يخل التطور ، وهو المقال الغالب على المركز في جيل حَدَاثَتِهِ المتأخر ، وإن لم يخل من دراسة ظاهرية للأنواع تحمد ، مع قوانين يؤيدها الحس لا التطور من الكائن البدائي إلى القرد إلى البشر بداهة ! ، فكان من قولهم : إِنَّ البقاءَ للأقوى ما يؤيده الحس الظاهر في أجناس النبات والحيوان ، وتلك وإن كانت حية إلا أنها ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، لم توهب ما وُهِبَ الإنسان العاقل المكلَّف من روحٍ تَلْطُفُ فهي تجاوز هذا القانون الصارم الذي يسوي بين الإنسان وسائر الأعيان ، فإن الإنسان يملك من العقل ما يحول بينه وبين القتل على قاعدة البقاء للأقوى ! فلا يطيق أعباء الضعيف فَوَدَّ لو أصابته صاعقة تحرق لتريح الخلق من حمله ! ، بل كان من مُثُلٍ في الماضي وفي الحاضر قد تجرد فِيهَا بَعْضُ البشر من خاصة الإنسان فَتَأَوَّلُوا قانونَ التطورِ التَّأَوُّلَ القياسي فكان قَتْلُ الضعفاء والعاجزين والمرضى فلا تطيقهم الأمة القوية الساعية أن تسود الدنيا ، فما انتفاعها بهم في سلم أو حرب ؟! ، فليسوا إلا حملا يَثْقُلُ وقتلهم من هذا الوجه يحمد ، إِنِ القتلَ المباشر أو آخر على قاعدة : من لا يعمل لا يأكل ! ، وإن كان عاجزا لا يقدر ، وذلك ، كما تقدم ، انحطاط بالإنسان أَنْ صَارَ شَيْئًا كسائرِ الأشياء في دوافعه وانفعالاته ، لا جرم نَهَجَ بَعْضٌ ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، نَهَجَ بَعْضٌ في دراسة السلوك الإنساني ما نهج قبلا في دراسة السلوك الحيواني في الدوافع والاستجابة للمؤثرات من خارج ، وكان من إنزال الإنسان جملة وتفصيلا منزلة الحيوان ، فالأخير مجال البحث والتجريب وما استنبط من قواعد في السلوك فهي تجري على الإنسان مطلقا ، وقد يصدق بعض منها فلا يخلو الإنسان من دَوَافِعِ غَرِيزَةٍ تأرز إلى المحسوس كما الحيوان ، وتلك قد تصدق فيها طرائق البحث والتجريب ، ولكنه ، من وجه آخر ، قد امتاز من الحيوان بروحٍ تَلْطُفُ لا يعلم كُنْهَهَا إلا من خلقها ، جل وعلا ، فوجب ردها إليه فلا تستوي بداهة هي والحيوان الأعجم الذي لا يعقل ولا ينطق فَلَمْ يُكَلَّفْ كما الإنسان الذي كُرِّمَ وَفُضِّلَ فَأَبَتِ الحداثةُ إلا أن تُبْطِلَ هذا الفارق الرئيس الذي به امتاز الإنسان من الحيوان وإن شاركه في خصائص في الجسد مع امتيازِ الإنسانِ فيها ، أيضا ، فهو الخلق المستوي المكرَّم ظاهرا وباطنا ، ولكن التكريم الباطن أعظم بما تقدم من مادة روح تلطف فلا تنفك الحداثة تجتهد في الحط منها والإزراء بها أَنْ تُسَوِّي بَيْنَهَا وَبَيْنَ روحٍ أدنى لحيوان لا يتحرك إلا استجابة لدافع غرائزي مطلق ، فلا تجاوز انفعالاته المحسوسَ المدركَ في عالم الشهادة إذ لا يؤمن بالغيب بداهة إذ لا يطيق عقله القاصر دركَه فعقله لا يدرك إلا المحسوس في الخارج ، فَرَامَتِ الحداثة أَنْ تَنْزِعَ من الإنسان هذه الخاصة الشريفة مناط الفصل في الحد بين الإنسان وسائر الأنواع ، وإلا فَثَمَّ من جنس التعريف الأعم ما يشترك فيه الإنسان والقرد ! ، فكلاهما كائن ، وكلاهما حيوان بالنظر في التشريح المحسوس مع امتياز الإنسان ، كما تقدم ، أَنْ قد عَمَّ التكريم باطنه وظاهره ، لا جرم أطلق العامل في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ، فإطلاقه قد استغرق التكريم والتَّفْضِيلَ باطنا في الفكرة وظاهرا في الخلقة ، فكان من الإسناد إلى ضمير الجمع في "كَّرَّمْنَا" و "فَضَّلْنَاهُمْ" ، كان منه حكاية التعظيم والمدح حمدًا لله ، جل وعلا ، أَنْ خَلَقَ الإنسان على أكمل هيئة في الباطن جنانا يدرك من لطائف المعنى ما يجاوز غرائز الحس ، فَلَهُ دوافع كدوافع الحيوان في الجسد ، ولكنه زَادَ أخرى أَشْرَفَ بِمَا يكون من عقلٍ يَنْصَحُ فَيَطْلُبُ من العلوم والمعارف ما به التصور يصح فيكون من صورة الإرادة وهي حكم أول محله الجنان في المبدإ ، وما تلا من قول وعمل في الخارج فهو له يصدق ، عمل الاختيار بإرادة تجاوز ما تقدم من الغرائز ، مع أخرى لا تسلم من أوصاف مذمومة شُحًّا وَأَثَرَةً وطغيانًا بما استجمع من سبب ، فالوحي يأطر كُلًّا على جادَّةٍ تَنْصَحُ فلا بد لهذه المدركات العليا التي تجاوز أخرى دنيا في الحيوان ، لا بد لها من شرعة ومنهاج ، وهو ما يبين عن حاجة الخلق إلى الشرع أولا ، فإذا رُدَّ إليهم فكلٌّ يرجح ما واطأ الهوى والذوق لِمَا جُبِلَ عليه من أَثَرَةٍ وَشُحٍّ وطغيانٍ بما استجمع من أسباب القوة فذلك دافع في الجبلة قد رُكِزَ وإن تَوَهَّمَ صاحبه أنه خلو منه بما يكون من زهد في الجاه والثروة هو إلى العجز أقرب ! ، فدليله إِنْ صَدَقَ أَنْ يُبْتَلَى بِرِيَاسَةٍ وَثَرْوَةٍ ، لا سيما إن كان من فَقْرٍ وَضَعَةٍ ، فكان أمسا محل السخرية والتهكم بما حَقُرَ من الشأن والهيئة ولم يكن من محضن أول يحوطه أَنْ يَنْشَأَ على طريقةٍ تُحْمَدُ بها يَنَالُ التقوى وما يكون من حفظ لصاحبها أن توضع المحبة والهيبة في قلوب الخلق لمن كان له مِنْهَا حظ ، فذلك قانون يَطَّرِدُ في الخلق جَزَاءً وِفَاقًا بل هو الفضل والمنة من ذي الجلال والعزة ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنْ خَلَعَ عَلَى أوليائه من المحبة والوقار ما أغناهم عن المال والسلاح ، فالناس يمتثلون لهم بلا سيف يضرب أو ذهب يُنْثَرُ ، فكان من ذلك تأويل المحبة الربانية أن تظهر آثارها في الشهادة ، فلا يعلم كلٌّ من نفسه أَحَسُنَ منه الْخُلُقُ أم ذلك الزهد كَرْهًا ! ، كما قال أبو الطيب وهو يرد العفة إلى العلة ! ، فـ :
    الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ******* ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ .

    وإن لم يُسَلَّمْ له في كُلٍّ ، فَثَمَّ من الخلق من خالف عن الجادة ، جادة الشح والأثرة والطغيان فكان منه صحيحُ إيمانٍ قد استوى حال الرياسة وحال العزل بل هو في الرياسة أرهب إذ قد كُلِّفَ ما لا يطيق بَشَرٌ إلا أَنْ يُسَدَّدَ فلا يخطئ إلا فيما ندر ، ولا يكون ذلك إلا أن تُهَذَّبَ هذه النفس بآداب تقمع الطبع ، فلو استرسل صاحبه لم يطق إلا الطغيان إذا قدر ، فَيَفْجُرُ في الخصومة ويظلم في الحكومة مع ما تقدم من بلوى أعم إِنْ كَانَ محلُّه قَبْلًا عَبْدَ لهازمٍ وقفا ! ، فإذا صار له الأمر فقد آذن الله ، جل وعلا ، الجمع بعقاب يَعُمُّ فلا يسلم عزيز من بطشه ، فهو فوقهم كما أبو الطيب يهجو ويذم :
    جاز الأُلى ملكت كفاك قدرهم ******* فعرفوا بك أن الكلب فوقهم .

    فعلموا أن الكلب فوقهم وعلموا عِظَمَ ما أفحشوا وأجرموا ، فذلك البلاء الذي نَزَلَ بذنب يَعْظُمُ ولا يُرْفَعُ إلا أن يراجع الخلق الوحيَ علما وعملا ، فيكون من الجمع ما ينصح فهو يتأول الأمر أن : (لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وهو المجموع المصنوع على مكث بعد تَقَادُمِ عهدٍ بالنبوة فقد درس منها كثير ونشأ على ضدها كثير ، فصارت المحدثة سنة ، وصارت السنة محدثة ، كما أثر عن ابن عبد العزيز رحمه الله على رأس المائة الثانية فكيف بالحال بعد أجيال تعاقبت ، وقد صارت المحدثة أَظْهَرَ وصارت السنة أَخْفَى ، فليس ثم إلا النبوة رَدًّا لعجز الكلام إلى صدر تقدم ، فالنبوة أول قبل الشروع في فروع الأحكام والمصالح ، فإذا لم يَسْتَشْعِرِ الخصم المجادَل أن النبوة حتم لازم لِتَفْصِلَ في خصوماتِ علمٍ وعملٍ لا زالت في انْتِشَارٍ فلا يحسم مادتها إلا إجابات الوحي عن سؤالات الخلق إن نَصًّا أو مَقَاصِدَ وهو ما استغرق الحال والمآل ، لا سيما الأخير فإنه الهاجس الذي أَرَّقَ العقلاء جميعا فَمَا بعد الموت وانقضاء الأجل أكان من الخلق عَبَثٌ بلا حكمة كما قال بَعْضٌ من باب الرَّاحَةِ وإلقاءِ التَّبِعَةِ ، فلا يطيق أعباء التكليف ، فلم يجد بُدًّا إلا أَنْ يُنْكِرَ مرجع التشريع لِيَحْيَى كما يَهْوَى ، وَيُبَرِّرَ ما يَقْبُحُ من سلوكٍ يجافي عن العقل والفطرة ، فلا ينفك الجاحد في الإلهيات يخرق البدائه والأعراف فضلا عن الشرائع والأحكام فما جحد المرجع إلا لِيَتَوَسَّعَ فِي لَذَّاتِ النَّفْسِ والجسدِ فلا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ ، وكان مِنْ لَذَّةٍ تَخْدَعُ أَنْ ظَنَّ في الجحود حَسْمًا لسؤالاتِ الفطرةِ والمصيرِ ، فإذا حصلت له راحة تَعْرِضُ أَنْ تَوَقَّفَ العقلُ أن يَسْأَلَ ، فلا يَنْفَكُّ بَعْدَ زَوَالِ السكرةِ يسأل تاليا وَيُلِحُّ في السؤالِ ، فلا يكون إلا ضنك أعظم وَحَرَجُ صَدْرٍ يُؤْلِمُ ، وَإِنْ حَسُنَتِ الصورة فما تحجب من الحقيقة قَبِيحٌ يَفْجَعُ ، كما قد عُلِمَ من سير أولئك وتراجمهم وإن كان لهم من الرياسة في الخلق حظ ، فلا يشتغل النَّاسُ إلا بما يظهر ، ومن يسجل الوقائع وَيُؤَرِّخُ فهو يُبِينُ عَمَّا قَبُحَ من حال أولئك وما كان من سوء الخاتمة والمصير ، مع فِتْنَةٍ به لم تنقطع فهي الجارية ! ، فلم يَزَلْ شؤمُه في الأرض ، فإذا لم يُسَلِّمِ الخصمُ المجادل بحاجة الخلق إلى النبوة مُخْبِرَ الصدق في سؤالات الغيب وَحَاكِمَ العدلِ في سؤالات الشهادة ، إذا لم يُسَلِّمْ بذلك فالجدال معه في الفروع والشبهات مَضْيَعَةُ وقتٍ وَجَهْدٌ بلا طائل ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِالنَّافِعِ من أصولِ الخلاف لا فُرُوعِهِ ، فالنبوة أبدا تجيب عن سؤالات الخلق إن بالنص أو بالاستنباط ، إن بالأحكام أو بالمقاصد ، إن بالأعراف أو بالمصالح ، وشرط المصلحة ، كما تقدم ، ألا تكون خاصة تُقْصَرُ على قَبِيلٍ بها يَنْتَفِعُ وإن أَضَرَّ بِغَيْرٍ أكثرَ أن كان الأضعف فلا بقاء له كما نص قانون التطور ! ، وتلك بلوى قد عمت الخلق كافة أن غابت النبوات فَوُجُودُهَا في العالم سبب به رحمة تستغرق المخالف والموافق ، وكل أولئك مما غفل عنه المهزوم أو تغافل ! مسارعةً في تَقْلِيدِ الغالب فما أصلحه إذ نَبَذَ الكهنوت المبدل فهو يصلح الأول وَإِنْ نَبَذَ الوحي المحكم قياسا مع الفارق لا ينفك الناظر في الحال يجد من الشبهة ما يُؤَرِّقُ أَنْ كَانَ من الفتنة بما نال الخصم من أسباب القوة والرفاه ، أَنْ كَانَ منها ما يَعْظُمُ نَظَرًا ساذجا لا ينظر في جذور الإشكال ، وأسباب التخلف والتدهور في كلٍّ ، مع ما قد عَظُمَتْ بِهِ البلوى في الجيل المتأخر أن لم يَفْقَهِ المقلِّدة سنن الوحي فلم يكن منهم اجتهاد في نَوَازِلَ تطرأ بل كان الجمود والتعصب ، وكان من كيد الخصم أَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إلى الوحي لا إلى أَتْبَاعِهِ من جيلٍ تَأَخَّرَ قَدْ جهل النص والمقصد ، فَصَارَ المذهب عنده حَكَمًا لا يُخْطِئُ ، فَضَاهَى الكهنوت من هذا الوجه ، مع القدر الفارق بداهة ، فإن أصحاب المذاهب المتبوعة في دين الرسالة لم يكونوا على طريقة الكهنة والأحبار في دين الكنسية المبدَّل أَنْ صَيَّرُوا قولهم في الدين نصا يُحْكِمُ وَيَنْسَخُ فلم يقل ذلك أصحاب المذاهب المعتبرة ومن جاء بَعْدًا من المحققين ، وإن انْتَسَبُوا إلى الأئمة فنسبة المجتهد أو المتبع لا المقلِّد المتعصب ، وإن كان ثَمَّ مِنْ أجيال تأخرت مَنْ تَكَلَّفَ في الاعتذار لقولِ الإمام حتى نسب كلَّ نَصٍّ يخالف عن فتواه أنه المؤول أو المنسوخ ، فليس ذلك بداهة بحكم على الوحي المعصوم ، خلاف آخر في الكهنوت إذ قد نُسِخَ الأصلُ وضاع الكتاب ولم يأخذه العلماء بقوة بل بَدَّلُوا فيه وَحَرَّفُوا وصار لهم من ذلك جاه ورياسة وثروة فلا تسلم إلا أَنْ يَكْذِبُوا فِي الشَّرْعِ ، وَلَوْ أَضَلُّوا الخلقَ كَافَّةً ، فَلَئِنْ كَانَ ذلك في بَعْضٍ من الأمة الخاتمة ، فليس المطرد ، ولو كَثُرَ ، فالحجة باقية لم تُنْسَخْ بما حُفِظَ من الوحي المنزل ، وإن حُجِبَ الخلق أو أكثرهم عنه بما كان من عُجْمَةِ لسان تَقَصَّدَهَا الغالب ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، أَنْ يَصِيرَ الوحي ألفاظًا تُتْلَى أَمَانِيَّ كما صنع أهل الكتاب الأول ، فـ : (مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ، فلا يَفْقَهُ القارئ ما يقول فقد صار صوتا يَتَبَرَّكُ بتلاوته وإن لم يحط بِرِوَايَتِهِ وَدِرَايَتِهِ ، والحجة ، مع ذلك باقية بما قام في كل جيل ، ولو آحادا ، قد تحملوا الوحي لفظا ومعنى وجاهدوا فيه حق الجهاد فهم ظاهرون على الحق لا يضرهم من خذلهم .

    فكان من التغافل عن كل أولئك بالقفز دفعة إلى قياس ساذج لا يحقق محل النِّزَاعِ ولا يحسن ينظر في الأسباب والجذور ، وإنما تعجل الحكم على قاعدة هوى يميل بصاحبه فلا يعدل ، فَعَنْ خُصُومَةِ النُّبُوَّةِ قد صدرَ وإن تظاهر أنه المحقق المنصف ، فلا ينفك يحمل في الصدر غِلًّا تفضحه الكلمات ولو اجتهد في زُخْرُفِهَا ليتوسل بها إلى نقض الوحي ولو بآي منه ! أن يضرب المحكم بما تشابه ويجتزئ من النصوص بما يشهد له ، وإن شهد آخر بضد ، فلا يحسن يَعْدِلُ لمرض في الجنان قد أَعْضَلَ ، فـ : (إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فلا يحسن ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، لا يحسن يميز الفاعل الصالح مَعًا مِنْ آخر هو الفاعل ولكنه لا يصلح إذ ثم من ذات الهوية والمرجع ما لا يقبل ، فما أصلح الخصم ولو نَبَذَ الدين المبدل فهو يصلح الذات وإن نَبَذَتِ الدين المحكم ! ، قياسا مع الفارق قد عظمت به الشبهة ، مع ما كان تاليا من حال الخصم بعد الانعتاق من ربقة الكهنوت فَلَئِنْ حصلت له طفرة لا تجحد في المحسوس فلا زالت سؤالات المعقول تُطْرَحُ ، ولا زال المصير لديه غامضا يُجْهَلُ ! ، وقد ذهبت السكرة وجاءت الفكرة التي تُؤَرِّقُ الضميرَ في مسائل الغيب والحكم ، وهو ما يكتمه التابع المنهزم لئلا يفتضح أمره فليس إلا المقلد لمن غلب ، صح قوله أو فسد ، فاغتر الغالب بما حصل له من طفرة في الحس ، وزعم أنه المجتهد المنعتق من ربقة التقليد لما أُثِرَ من شريعةِ كهنوتٍ لا تَنْصَحُ في هذا الجيل المحدَث فقد اجتهد العقل ، فاستبان له أنها على ضد ، فهي الخطأ الْبَيِّنُ ، فَرَاحَ يَنْقُدُ وَيَنْقُضُ ، ولم يجد لذلك مثالا ينصح إذ كان أبدا عن النبوات الصحيحة المحفوظة بمعزل مع كِبْرٍ في نفسه أَنْ يَنْقَادَ لغيره فقد صَيَّرَ نفسه الإله فكيف يخضع لتابع في الأطراف وإن كان عنده من الجواب عما يسأل بما حُفِظَ من الوحي المنزَّل فلا ينفك يستحضر آلامه في قيد الكهنوت ويقيس مع الفارق ، بل ويسعى في نَقْدٍ مماثل ظَنًّا أن الوحي الخاتم كدين الكنيسة المبدل ، أو هم يعلم أنه الحق المطلق وإنما يأبى الانقياد لحظ نفس مستحكم ، فأيا كانت حاله فقد أعرض عن الذكر فلم تكن إلا المعيشة الضنك وإن كان ثم طفرة في الحس إذ لم يجب بَعْدُ عن سؤالات الدين وهي سؤالات ضميرٍ يَتَأَلَّمُ إذ لم يَبْلُغْ بَعْدُ غايةً بها يسكن ، وإن بلغ غاية بها الجسد يَلَذُّ وَيَسْتَمْتِعُ ، فَظَنَّ فيها ما يجزئ عن الدين والوحي وكانت سكرة إذ تَحَرَّرَ من قيد الكهنوت ، ثم لم تلبث الفكرة أن جاءت فلم تجب أسباب الحس عن سؤالات المصير من الغيب ، وما كان من المبدإ وما يكون من حكمة في هذا الخلق أيكون العبث فلا حساب ولا جزاء ، وإنما لعب ولهو أو خلق ثم نسيان فقد خلق الإله الخلق لا بالعلم والحكمة وإنما بِعِلَّةٍ فاعلة مجردة من الوصف لا تعلم لم خَلَقَتْ فلا غاية ولا حكمة ، فَرَدَّ ذلك إلى الإنسان الذي صَيَّرَ ذاته المركزَ وما سواه فأطراف وإن وحيا فلا يقبل منه إلا ما يواطئ معياره في التأويل وما يلائم هواه في التحسين والتقبيح ، وكل أولئك من شؤم التعطيل في الإلهيات إذ لم يثبت الإثبات المجزئ في حصول تصور ينفع فهو بين جاحد منكر أو مجوِّزٍ التجويز العقلي المحض فهو الحائر ، أو ثالث لم يثبت إلا الإثبات المجرد بلا أَثَرٍ في الخارج يظهر كما المذهب الربوبي آنف الذكر إذ احتال أن يخرج من القيد بلا إنكار يصرح ، وإن أنكر تاليا بل وفجر في خصومة الدين ثأرا من باطل فَلَيْسَ ذَلِكَ دينَ السماء الناصح الذي سَلِمَ مِنْ نَقْدِ الحداثة ما لم يسلم دين الكنيسة ، بل ما نقدته إلا وقد استعملت معيار النقد المحكم في حفظ الوحي الخاتم روايةً ودرايةً ! ، وبضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، فَلَوْ تجرد الخصم ونصح لأثبت ما قد جاء به الخبر وَقَبِلَ قبولَ الرَّاضِي المنقاد مع ما يكون من التسليم والإذعان ، فكل أولئك مما تظهر آثاره في الخارج وإن لم يكن ثم تكليف مخصوص في الجوارح ، فالجوارح لا تُكَلَّفُ بِالتَّوَكُّلِ مِثَالًا فذلك عمل الجنان وإنما تُكَلَّفُ الأركانُ بِبَذْلِ ما تطيق من الأسباب ، وكذا التكليف في الإلهيات فَإِنَّ إثبات المعاني جمالا وجلالا مما به الجنان يعمر بمعان تنصح لا تنفك آثارها في الجوارح تَظْهَرُ ، فيكون من استقامتها على الجادة الحكمية في الشرعيات أَنِ اسْتَقَامَ الجنان على الجادة الخبرية في الإلهيات فاعتقد الاعتقاد الجازم أن ثم رَبًّا يَرَى وَيَسْمَعُ .... إلخ من الصفات ، فأحدث له ذلك من معنى الرهبة ما به يَنْكَفُّ ، كما اعتقد الاعتقاد الجازم أن ثم رَبًّا كريما يُثِيبُ فأحدث له ذلك من معنى الرغبة ما به يَفْعَلُ ، فكيف تحصل له هذه الأحوال الشريفة وهو يجري النصوص الخبرية إجراء الألفاظ بِلَا مَعَانٍ ، فَيُنْزِلُ المستعمَل مِنْهَا مَنْزِلَةَ المهمَلِ ! ، ويصيرها أوعية لا شاغل لها ، فهي فارغة وذلك أول في الوسواس ، إذ ما خَلَا فَلَا بُدَّ له من شاغل فإذا اجتهد الناظر في التجريد أَنْ يُفْرِغَ الجنانَ من الأحوال كافة فذلك ما لا يكون أبدا إذ الإرادة لا تَنْفَكُّ تحصل ، فإن لم تحصل بالخير حصلت بِضِدٍّ ، كما التصور الأول ، فالاجتهاد إنما يَنْصَحُ فَيُوَاطِئُ مُرَادَ الشرعِ المنزَّل إذا كان في تَفْرِيغِ القلبِ والجوارحِ من خطرات السوء وأقوال الفحش وأفعال الفجور لا أن يكون الْكَفُّ امْتِنَاعًا بلا اعتقاد وعمل يشغل المحل ، فلا يكون التكليف بالكف مرادا لذاته وإنما يُرَادُ لِضِدٍّ أن يُخَلَّى المحل من الكدر فَيُحَلَّى تاليا بالطاعة من تصديق وقول وعمل ، فإذا بالغ المتجرد وَتَكَلَّفَ فاجتهد أن يُفْرِغَ النفس من الأحوال كافة ، فَطَرَدَ كُلَّ وَارِدٍ ، ولو خيرا يُرَادُ لذاته ، فلا ينفك المحل يَقْبَلُ أَيَّ وَارِدٍ ، فإذ لم يشغل بحق فضد من باطل ، كما اطرد مرارا من خاصة النفسِ أنها المتصوِّرة لا المجرِّدة ، الفاعلة لا التاركة ، فلا بد لها من اعتقاد وقول وعمل ، ولو اعتقدت الباطل بل ولو اعتقدت السلب ، فذلك في نفسه اعتقاد لا تنفك آثاره تظهر في الأقوال والأعمال ، ولو إفسادًا في الأرض وسفكا بغير حق ، فلا مانع يحول دونه إذ ليس ثم مرجع من خارج الحس يجاوز ، وليس ثم إيمان بثواب وعقاب يجاوز هذه الدار ، فما كان مصلحة مجردة بمعيار المادة ولو أفضى إلى إفناء أمم وشعوب ، فإن مصلحة الذات تَقْضِي بذلك وَلَوْ أَنْ تَسْتَرِيحَ فَهِيَ ، كما يَقُولُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، تَلْتَذُّ بإيلام الآخرين وإلحاق الأذى بهم ! ، فذلك في نفسه سبب يجيز القتل والسفك فليس ثم مرجع يجاوز من خارج ، وإنما المرجع من الذات التي تُحَسِّنُ وَتُقَبِّحُ بما ألقي إليها من وسواس قد صادف نفسا شاغرة لم تشتغل بالحق فكان من عقابها الناجز أن تشتغل بضد ، فَجَزاَءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةٌ ، ومن السيئة الإعراض عن الحسنة ، لا جرم كان التحريم في نفسه وإن مُرَادًا لذاته فلا ينفك يحكي آخر هو الأصل ، وذلك الفعل : فعل الطاعات وهو ما يعمر المحل فإن عمرانه لا يكون بالكف ، ولو كفا يُحْمَدُ وَيُرَادُ لذاته مِنْ تَرْكِ المحرم من الاعتقاد والقول والعلم ، فإذا جَرَّدَ الناظر المحلَّ مِنْ كُلِّ وَارِدٍ لم يأمن أن يعاود الشر الْكَرَّةَ لِيَشْغَلَ هذا المحل الفارغ فلا يحول دونه إلا أَنْ يُشْغَلَ بِضِدِّهِ من ناصح الاعتقاد والقول والعمل فتعمر الأركان جميعا بما يعصم مِنْ ضِدٍّ يُفْسِدُ ويمرض ، ولا يكون ذلك ، ردا لعجز الكلام على صَدْرٍ تَقَدَّمَ ، لا يكون ذلك بالتفويض الذي يثبت نسبة مجملة في الإلهيات ! ، نسبة معنى إلى ذات دون نظر يجاوز في معنى يُرَادُ لذاته تكليفا بالتصديق والتدبر دون خوض في حقيقة أو كيف في الخارج ، فالابتلاء بالغيب أن يصدق الجنان بحقائق لا تدرك بالحس فهي مما غُيِّبَ فلا يُشْهَدُ ، وهي ، مع ذلك ، من الجائز فلا يمتنع ، فَلَا يَقِيسُ غائبا على شاهد بالنظر في الحقائق في الخارج ، وإنما يقيس بالنظر في المعاني المطلقة التي يجردها الذهن أصولَ دلالاتٍ وأجناسَ معانٍ لا يحصل إفهام إلا بإثباتها وإلا صار الكلام كله صوتا أو لفظا مهملا إذ لا يدرك العقل معناه وإن أثبت أن له معنى ! ، وذلك مما يَفْتَحُ ذرائع التأويل ، ولو باطنيا يخالف عن أصول الاستدلال المنقول والمعقول ، فما يحول دونه واللفظ قد أُفْرِغَ من معناه تفويضا يقارب التعطيل ، فَوَجَدَ المؤَوِّل المحلَّ شَاغِرًا فشغله بما يواطئ هواه وذوقه من معنى ، ولو خالف به عن أصول المعاجم الدلالية وقرائن الكلام السياقية ، بل وَقَرَائِنِ الضرورة العقلية ، فخالف عن الأدلة كافة ، فبأي حجة يجادل من تلك حاله ؟! إلا فَضْحًا لما بطل من قوله إلزاما له بِلَوَازِمَ لا تواطئ نقلا ولا عقلا ولا فطرة ولا حسا ! .

    والله أعلى وأعلم .


  12. #12
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان من قياس الغائب على الشاهد في الإلهيات محل إجمال يفتقر إلى بَيَانٍ وَتَفْصِيلٍ ، فالجهة قد انفكت إذ ثم من ذلك ما يجوز بل ويجب كما تقدم في المعاني المجردة التي لا يحصل إفهام أول إلا بها ، ومنه ما يمتنع ، وهو محل الشاهد في باب الإلهيات والمرجعيات الدينية التي تستغرق العلوم والأعمال كافة ، فامتنع في القياس الصريح أن يجاوز الناظر الحد الجائز في الباب ، فَيَقِيسَ في الحقائق إذ شرطه العلم بها علما يجاوز التصور المجرد ، وليس ذلك مما يَسْلَمُ لصاحبه في الإلهيات ، فهي من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الرب المهيمن ، جل وعلا ، فكيف ساغ في العقل الصريح أَنْ تَقِيسَ حقيقة غائبة لم تُدْرِكْهَا بالحس على أخرى تُدْرِكُهَا ، فشرط الحكم التصور ، والعقل لم يتصور الفرع المقيس من الغيب بادي الرأي ، ليحكم عليه حكم المشهود ، فيرده إلى ما يدركه بالحس ، فغير المحسوس وإن كان له وجود يثبت وإن لم يدركه الحس الظاهر إذ عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود في نفس الأمر كما قرر أهل الشأن ، فغير المحسوس لا يُرَدُّ إلى المحسوس وإن اجتمعا في الجنس الدلالي المطلق الذي يجرده الذهن ، فالجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، وبه استقر القانون آنف الذكر أن ثم قدرا فارقا بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق ، فالخالق أول له الوجود الكامل جلالا وجمالا ، فَلَهُ من ذلك الأسماء الحسنى فهو الجليل المجيد ، وهو الغني الحميد ، جل وعلا ، وهو مرجع العلم والعمل في النبوات إذ منه قد تَنَزَّلَتِ الكتبُ الرساليةُ فإنه ، تبارك وتعالى ، لا يفتقر إلى أحد ، فلا يفتقر إلى سبب من خارج به يستكمل ما فاته ! ، بل كماله الأول : كمال مطلق عنه قد صدرت الأسباب كافة ، وبعلمه وحكمته كان التقدير والتكوين والتدبير ، فخلقت المحال وتعاقبت عليها الأحوال بما جرى من أسباب على سنن من الحكمة قد أُتْقِنَ ، ومشيئة في الإيجاد تَنْفُذُ ، فلا يفتقر ، جل وعلا ، لسبب به يكمل ، فكماله الكمال الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، الأزلي والأبدي فهو الأول والآخر بالذات والاسم والوصف والفعل والحكم على حد الكمال المطلق ، ولا يفتقر إلى صاحبة ولا ولد ، كما المخلوق ، فَالْفَرْدَانِيَّةُ في حق الخالق ، جل وعلا ، كمال مطلق إذ بها الاستغناء عن الأسباب يَثْبُتُ ، وَالْفَرْدَانِيَّةُ في حق المخلوق نقص إن في التكوين أو في الطبع فمن له صاحبة من البشر خير مِمَّنْ لا صاحبة له ، ومن له ولد أكمل ممن لا ولد له ، وذلك إنما يجري مجرى الغالب ، فهو تفضيل مجموع على آخر ، لا جميع على مثله ، فثم ممن لا زوج له من البشر وهو خير من كثير لهم نساء واحدة واثنتان وثلاث وأربع ، وإنما ذلك قليل في مقابل أصل يطرد قد كثرت آحاده في الخارج فصك في المعيار قَانُونًا وَإِنْ أَغْلَبِيًّا لا يصدق في آحاده كافة ، فكان من وصف الغني الحميد ، الفرد الصمد ، كان منه ما لا يكون في حَقِّ البشر ، فهو يَنْتَفِي لما قد جبلوا عليه من النقص والفقر والجهل وبها ، وإن كانت صفات دنيا ، بها يدرك الناظر المتدبر القدر الفارق ضرورة تلجئ بين الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث ، وهو ، أي وصف الرب ، جل وعلا ، مما لا يجوز في حق البشر ، بل حصوله لهم ، لو فُرِضَ ، مما يفسد الأحوال ، بل ثم من ذلك شاهد في الخارج ، فإن الكبر والعظمة مثالا مما يفسد الخلق فمحالهم الناقصة لا تحتمل هذه المعاني الجليلة فيصيبهم منها طغيان وتجبر يفضي إلى الظلم وهو سبب رئيس في فساد الأولى والآخرة فَبِهِ تعطيل الأديان وفساد العمران كما الحال في الجيل المتأخر تَشْهَدُ ، ومنه ما تقدم من الربا ، فإنه سبب به الطغيان بما يكون من الاستئثار والاحتكار وصيرورة المال دُولَةً بَيْنَ الأغنياء فَبِهِ تأويل يصدق ما جبلت عليه النفس إذ تطغى ، فـ : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ، فكان من ذلك عموم يستغرق فتلك فطرة تكوين تعم ، من وجه ، إلا أن يأطرها العبد على جادة من الوحي تحكم ، وثم من عناوين التوكيد القياسي : التوكيد بالناسخ وهو ، كما تقدم في مواضع ، أم الباب فَلَهُ الصدارة مطلقا في بابه : التوكيد اللفظي ، وفي التوكيد عامة إذ المعنوي دون اللفظي ، فإذا تقدم الناسخ الأقوى فقد تَقَدَّمَ الأضعف من توكيد المعنى من باب أولى ، وثم لام ابتداء أُخِّرَتْ فلا يحتمل المحل اثنين ، فكان من القياس الناصح أن يقدم الأقوى ويؤخر الأضعف ، وثم من التوكيد معنى : اسمية الجملة ، مع إطناب في الخبر أَنْ حُدَّ جملةً ، فكان من تكرار الإسناد ما اقْتَرَنَ إذ الرَّابِطُ ضمير قد استتر في العامل "يَطْغَى" ، فذلك فاعل اللفظ ومرجعه فاعل المعنى : المبتدأ الذي صُدِّرَ به الكلام "الإنسان" ، فَثَمَّ تكرارُ الإسنادِ فاعلَ لفظٍ هو النص ، وآخر من المعنى وهو اللازم ، فمعنى الفاعلية في المبتدإ ليس نَصًّا وإنما هو لازم في المعنى ، إذ يُسْنَدُ الخبر إلى المبتدإ إسنادَ الفعلِ إلى الفاعل ، لا جرم كان من حَدِّ الخبرِ إذا اشْتَبَهَ فلم يَمْتَزْ من المبتدإ ، أن يكون المشتَقَّ لا الجامد إذ قد ضُمِّنَ معنى يُجَوِّزُ إسنادَه إلى المبتدإ : المسنَدِ إليه ، سواء أكان المعنى صريحا ، كما يقال : محمد كريم ، أم كان الخبر جامدا فَلَا يخلو ، مع ذلك ، من تأويله بالمشتَقِّ ، كما يقال : محمد بحر ، فذلك التشبيه البليغ على تقدير : محمد كالبحر في كرمه أو في علمه ، فلا يخلو من إجمال آخر يَفْتَقِرُ إلى قرينةِ سياقٍ أو بساطِ حالٍ ، إذ البحر يحكي السعة وهي مما يصح إطلاقه في الكرم الذي يَتَوَسَّعُ صاحبه في الإنفاق أو في العلم الذي يتوسع العالم في طلبه وَإِقْرَائِهِ وَتَدْوِينِهِ وتدريسِه .... إلخ ، فكان من الإجمال في قولك : محمد بحر ، كان منه أول قد أبان عنه التشبيه البليغ الذي يجري ، من وجه آخر ، مجرى المجاز ، مجاز الإيجاز بالحذف ، حذف أداة التشبيه ووجه الشبه ، وكان من الإجمال ثَانٍ وهو احتمال التشبيه إذ يحتمل سعة الإنفاق أو سعة العلم ، فهو يفتقر إلى قرينة تُرَجِّحُ ، ومحل الشاهد منه أن قولك : محمد البحر ، أو : محمد هو البحر ، فَصْلًا بالضمير "هو" إذ يَمِيزُ بَيْنَ الخبر والنعت ، أن هذا القول مما يحمل فيه البحر أنه الخبر الذي يُسْنَدُ إلى المبتدإ إذ المعنى فيه يظهر ما لا يظهر في الاسم الجامد الخالص محمد بالنظر في دلالته العلمية الشخصية لا في دلالته الاشتقاقية : اسم المفعول من حَمَّدَ ، فذلك مما لا يجري في أعلام البشر فدلالتها الوصفية لا تَقْرِنُ دلالتها الْعَلَمِيَّةَ خِلَافَ الأسماء الحسنى فكان من قواعدها المحكمة أنها أعلام وأوصاف جَمِيعًا فلا تَنْفَكُّ دلالتها الوصفية تَقْرِنُ نظيرتَها الْعَلَمِيَّةَ ، فاسم الحميد ، وهو محل شاهد تقدم ، اسم الحميد علم على الذات القدسية ، وذلك محل اشتراك مع الأعلام البشرية في دلالتها على مُسَمَّاهَا في الخارج ، ولكنها تَزِيدُ إذ لا تَنْفَكُّ تحكي أخرى وهي الوصفية ، فإنها تدل على معنى الحمد المطلق إذ دلالة "أل" فِيهَا دلالة عهد خاص بما استغرقته من المعنى ، فالحمد التام المطلق لا يكون إلا لواحد ، فكان من "أل" : الاستغراق المعنوي للمحامد كَافَّةً ، الذاتية والفعلية ، المعنوية والخبرية ، وهو ما رَفَدَهُ بدلالة العهد الخاص ، بل قد زاد بالنظر في صيغة الاشتقاق : "فَعِيل" ، فاحتملت الحميد من المحمود بالمحامد الجالبة للثناء والمدح كافة ، واحتملت الحامد فهو يحمد عباده إذا أحسنوا حَمْدَ الغني الذي لا يفتقر ، فحصل من ذلك اشتراك في الدلالة وإن كان المثال المشتق واحدا ، إذ ثم من المعاني الصحيحة الصريحة ما احتمل بل حِمْلَانُهُ عَلَيْهَا جَمِيعًا في باب الثَّنَاءِ على الله ، جل وعلا ، مما يُحْمَدُ ، وبه اسْتِئْنَاسٌ لمذهبٍ يُجَوِّزُ العموم في دلالة اللفظ المشترك ، فَكَانَ القدرُ الفارقُ في هذا الباب أَنَّ الأسماء المشتقة في حق الخالق جل وعلا : أعلام على الذات القدسية وأوصاف تقوم بها ، وأنها في حق المخلوق : أعلام مجردة لا دلالة لها تجاوز دلالة الاسم على المسمى في الخارج ، وإن جاز الاقتران فقد يكون محمد عَلَمًا على مُسَمَّاهُ في الخارج وهو ، مع ذلك ، محمود في خصاله ، فذلك في حق المخلوق جائز ، وفي حق الخالق ، جل وعلا ، واجب .

    فَإِذَا سُمِّيَ إنسانٌ بِحَمِيدٍ ، وَقِيلَ في الإخبار عنه : حميد البحر ، أو حميد هو البحر ، فذلك مما يَحْسُنُ فِيهِ تقديمُ العلم الشخصي "حميد" ، فَصُدِّرَ به الكلام إذ لا وجه لاشتقاق فيه يجاوز فيكون هو المسند المعنوي إلى ذات بل هو الذات وإن سُمِّيَتْ بِاسْمٍ مشتق قد احتمل من دلالة المعنى ما يُسْنَدُ ، فَقَرِينَةُ السياق في هذا الموضع لا تشهد بذلك إِذْ صُدِّرَ به الكلام عَلَمًا شخصيا لا وصفا معنويا ، خلاف ما لو قيل : محمد حميد ، فإن الإخبار به عن علم شخصي يمدح صاحبه بالحمد ، ذلك مما صيره في هذا الموضع : وصفا مشتقا لا علما شخصيا جامدا ، فَرَجَّحَ السياق في هذا الموضع : دلالة الاشتقاق على دلالة العلمية ، كما رجح في آخرَ تَقَدَّمَ : حميد البحر ـ أو حميد هو البحر ، دلالةَ العلمية الجامدة إذ أُسْنِدَ إليه اسم البحر إسناد الخبر إلى المبتدإ ، ولا يكون ذلك ، كما تقدم ، إلا بِالْتِزَامِ تأويلٍ آخر يحمل البحر الجامد على معنى مشتق ، وَلَوِ اشْتِقَاقَ الْقُوَّةِ لَا الفعلِ ، بما احتف به من قَرَائِنَ في السياق أَنْ كَانَ هو الخبرَ ، مع عُرْفٍ في اللسان قد اشْتُهِرَ ، فهو يُرَجِّحُ في البحر معنى السعة المحمود إِنْ فِي الكرم أو فِي العلم ، فكان من هذا الاشتقاق في مقابل جمود الاسم العلم "حميد" ، كان من هذا الاشتقاق وَجْهُ تَرْجِيحٍ معتبرٍ ، وإن متأوَّلًا لا منصوصا عليه ، وبه قُدِّمَ الاسم العلم الجامد ثم أُتْبِعَ الاسمَ المشتق بالقوة إذ أُسْنِدَ إليه إسنادَ الوصف إلى الموصوف أو الفعل إلى الفاعل ، فكان من دلالة المبتدإ "حميد" : دلالة الفاعل المعنوي كما تقدم من حد المبتدإ في المعاني ، فهو فاعل المعنى إذ يُسْنَدُ إليه الخبرُ كما يُسْنَدُ إلى الفاعل الفعلُ ، فَكَانَ من الخبر مسند إلى المبتدإِ يضاهي الفعل الذي يُسْنَدُ إلى الفاعل ، ولم يخل الإخبار في قولك : حميد البحر ، لم يجل من إيجاز قياسي في باب التشبيه فهو من مجاز الحذف عند من يجوز المجاز في اللسان ، إذ تقدير الكلام كما تقدم : حميد كالبحر في السعة ، فحذفت أداة التشبيه وحذف وجهه ، وَبَقِيَ ما تقدم من إجمال في وصف السعة فَقَدِ احتمل كما تقدم الكرم أو العلم ، فكان من قرينة السياق أو بساط الحال أو العهد الخاص الذي استقر في الأذهان من حال "حميد" ، فقد اشتهر بالكرم أو بالعلم أو بهما مَعًا إذا دل السياق عليهما جميعا ، فيكون من ذلك شاهد آخر على العموم في دلالة اللفظ المشترك بل قد يزيد باللازم ثالثا فلا ينفك واسع الكرم يكون في أحيان تكثر ، وإن لم يطرد في كل أحد ، لا ينفك يكون شجاعا ، فاحتمل وصف البحر معنى الشجاعة ، ولو لازما تاليا ، ومن ينكر المجاز فإنه يقول بأن هذا الحذف في باب التشبيه البليغ مما اطرد في لسان العرب فَلَهُ من عُرْفِ الاستعمال المطرد والحقيقة العرفية ، كما تَقَدَّمَ في مواضع ، مقيد يَقْضِي في الحقيقة اللغوية المطلقة .

    فالقول : حميد البحر أولى من عكس أن يقال : البحر حميد ، إذ الأول مشتق ولو بالقوة دليلا على الكرم أو العلم أو الشجاعة على تفصيل تقدم ، فالأولى أن يَتَأَخَّرَ مُسْنَدًا لا أن يَتَقَدَّمَ مُسْنَدًا إليه إلا على وجه يدل على معنى يلطف كما التشبيه المعكوس ، فقد بلغ حميد من الكرم غاية صيرته هو المعدن ، فالبحر به يشبه لا عكس .

    فَكَانَ من فاعلية المعنى في "الإنسان" ما رَفَدَ فاعلية اللَّفْظِ في "يَطْغَى" وهي : الضمير المستتر جَوَازًا في العامل ، وثم من المضارعة في "يَطْغَى" ما به استحضار المعنى مع ديمومة واستمرار فذلك مما اتصل زمانُه طَبْعًا قَدِ اسْتَقَرَّ في الجبِلَّةِ الأولى فلا يسلم منه إلا من حَمَلَ النفس على جادة الوحي حملا ، فألجمها بحكمة من الشرع تأمر وَتَنْهَى ، فذلك وصف من رام الجنة مأوى ، فـ : (أَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ، فَثَمَّ مِنَ التَّفْرِيعِ مَا أفادته "أَمَّا" وَثَمَّ من الخوفِ أول وهو الباعث ، وذلك ما رُفِدَ تاليا بالمسبَّب أَنْ يَنْهَى النفس عن الهوى فيأطرها على جادة الوحي المحكم ، فلا يكون ذلك وهو الحكم ، إلا وثم أول من التصور بما يكون من الخوف ، وهو ما استوجب العلم كما قال بعض من حَقَّقَ فَمَنْ كَانَ بالله أعلم كان له أخشى وَأَرْجَى ، فَهُوَ أخشى بما قد علم من وصف جلاله وأرجى بما قد علم من وصف جماله فجمع الخوف والرجاء ، وذلك حد الاعتدال في الاعتقاد فلا غلو ولا جفاء ، فلا غلو كغلو الخوارج إذ قد عبدوا الله ، جلا وعلا ، بالخوف وحده ، ولا جفاء كجفاء المرجئة إذ قَدْ عَبَدُوا الله ، جل وعلا ، بالرجاء وحده ، وثم من عبده بالحب الذي غلا فيه فجازف في الدعوى حتى أُثِرَ عنه من النظم والنثر ما يفجع ، وَإِنِ اعْتُذِرَ لِبَعْضٍ أنه مما قَالَ في حال سكر وغيبة ، وليست تلك ، بداهة ، حالَ كمالٍ تُحْمَدُ ، فَشَرْطُ التَّكْلِيفِ العقلُ ، وهو وصف كمال مطلق فلا تمدح غَيْبَتُهُ وإنما بها يعذر المكلف إِنْ نَطَقَ بما يفحش ويهجر من الكلام ، وتلك ، كما تقدم في مواضع ، مما استحضر في الجيل المتأخر وليس بدعا من المحدَثة ، بل هي في كلِّ جيلٍ تَظْهَرُ ، وإن اختلفت الأسماء زُخْرُفَ قَوْلٍ يَخْدَعُ فالمسَمَّى واحد يُبْطِنُ ما لا يَظْهَرُ من اسمه إذ يحكي إلحادا وإباحية لو صُرِّحَ بها لمجتها النفوس بما استقر فيها من عناوين الفطرة ، ولو مجملةً ، فكان من اسم الحرية في الفكرةِ ذَرِيعَةٌ قد اتُّخِذَتْ لِلطَّعْنِ في الشرعة المنزلة ، ومنها حرية المال الذي يَتَّجِرُ ، ولو ربا به يحتكر الغني المال مقدمةً أن يضع من المراسيم الحاكمة ما به يأطر الجمع الكثير على مرادِ واحدٍ يشح ويبخل ، وتلك جِبِلَّةٌ فِيهِ تَرْسَخُ فلا يحسم مادتها اعتدالا لا يغلو في ضد فيخمدها ، لا يحسم مادتها إلا وحي قد تَنَزَّلَ فهو مرجع من خارج النفس يجاوز ، فلا تَتَوَجَّهُ إليه تهم الشح والبخل والأثرة التي طُبِعَتْ عليها النفوس كَافَّةً ، فجاء الوحي بما يُهَذِّبُ هذه الطبائع الجبلية فيأطرها على جادة تنصح ، فلا غلو يَزِيدُ في تَعَاطِيهَا حتى تصير في نَفْسِهَا غايةً ، ولو فضولَ مباحٍ لَا يَنْفَكُّ يستدرج صاحبه إلى المكروه وهو ذريعة أخرى وليس بعده إلا المحرم وتلك طبائع النفوس إذا كَثُفَتْ وَتَبَلَّدَتْ أَنِ اشْتَغَلَتْ بمدارك الحس فيصيب الجنان من ذلك ضعف وغفلة إذ مادته اللطيفة تطلب الغذاء من أعلى ، وحيا يَتَنَزَّلُ فهو يُهَذِّبُ الطبائع ويأطر العلوم والإرادات ، وهي المبادئ في أيِّ حركة ، يَأْطِرُهَا عَلَى جادة تَنْصَحُ قد سلمت مما تقدم من الهوى والحظ ، فلا غُلُوَّ ، كما تقدم ، ولا جفاء على ضد يَغْلُو في تَعَاطِي الرهبانية التي تخالف عن الجبلة البشرية فَلَهَا من أغذية الحس ما يواطئ ماهيتها الكثيفة ، فقطع مادتها يفسد الجسد بل والعقل تاليا بما يكون من خيالات يتوهمها الجائع ! أنها وحي وليست إلا هلاوس وضلالات ! ، فلا يحمد الجفاء فيها كما لا يحمد الغلو ، بل الجفاء فيها ، بِاسْتِقْرَاءِ سِيَرِ الرهبان ، لَا يَنْفَكُّ يُفْضِي إلى ضِدٍّ يُعَاقِرُ الشهوات وإن انْتَحَلَ الزهد والورع رياءً يكذب ، فليست شهوات الجسد محل ذم فَلِمَ ركزها الخالق ، جل وعلا ، في البشر ؟! ، بل ثم منها ما يحمد ، ولو بالنظر في أصولها ، فهي بواعث قد رُكِزَتْ فِي النفوس ولولاها ما عمرت الأرض بما يكون من باعث يروم المقصد ، فَبَعْدَ الدين وهو مقصد الروح العليا ، بَعْدَهُ حِفْظُ النَّفْسِ والنوعِ والمال ، ولا يكون ذلك إلا بِبَوَاعِثِ جِبِلَّةٍ تَسْعَى في الأرض طَلَبًا للكسبِ وبه النفس تَنَالُ حَظَّهَا من شهوات الحس مطعوما يحفظها ذَاتَهَا ومنكوحا يحفظ نَوْعَهَا ، وتجارة تحفظ أموالها ، فتلك بواعث لا يمكن لعاقل أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهَا فهي في أصلِ جِبِلَّتِهِ قَدْ رُكِزَتْ وَإِنِ ادَّعَى ضِدًّا فَلَا تَزَال حاله بما رُكِزَ فِيهِ من الفقر الذي يَفْضَحُ ، بل قد يكون من الزهد في هذه الحال دعوى تَقْبَحُ فَصَاحِبُهُ يُبَالِغُ بل ويزعم الانخلاع من الماهية البشرية فيروم أخرى لا تُنَالُ بِكَسْبٍ أو رياضة إذ تَلَاعَبَ به الوسواس فأوحى إليه نُبُوَّةَ كسبٍ وما تلا في القياس أن يطلب من الوحدة والاتحاد بالحقيقة العليا ما يَكْشِفُ حُجُبَ المعارف ويخرج صاحبه من دين الظاهر إلى آخر يبطن لا شيء فيه يَقْبُحُ أو يَحْرُمُ فكل قَدْ حَلَّ ، ولو فَوَاحِشَ تَنَالُ من الدين بل وعقائد تَنْقُضُ أصلَهُ ، فَمُقَارَفَتُهَا في هذ الحال هير عين التحقيق ! ، فَهِيَ دليل وصول إلى غاية ليست العبادة والتأله كما الوحي قد تَنَزَّلَ أَنْ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وإنما الاتحاد ذريعة إلى الفجور والتهتك أَنْ ثَقُلَتْ تكاليف الوحي وتلك ، من وجه آخر ، ذريعةُ آخرَ وإن بِاسْمٍ يُنَاقِضُ : إلحادًا لا ينفك بَعْضُ مَنْ سَلَكَ جادته يُقِرُّ أنه ذريعةٌ إلى التحلل من التكاليف التي تَشُقُّ فَإِذَا انْعَتَقَ الإنسانُ من ربقته فَقَدْ نَالَ مِنَ الحرية ما به يَفْعَلُ أَوْ يَتْرُكُ ، يَنْتَحِلُ أَوْ يَنْتَبِذُ ، فلا يجد من الحرج والضيق ما يجده صاحب التكليف الظاهر فَقَدْ بَلَغَ هو ، أَيْضًا ، باطنا من التأويل ، ولو حَدَاثِيًّا في هذا الجيل ، فمادته لا تغاير في أصولها تأويلات الباطن الذي اتخذ الظاهر الديني ذريعةً إلى باطن يَنْقُضُهُ ، فكلٌّ قَدْ رَامَ الانعتاق من ربقة التكليف ، وإن سلك بَعْضٌ جادة دينية وآخر جادة حداثية تخالف عن الدين بل وتطعن في أصوله ونصوصه ! ، وهي ما يُعَزِّزُ في النفس خاصة الطغيان آنفة الذكر إذ يجاوز الإنسان الحدَّ فَيَطْلُبُ ما ليس له ، أن يَكُونَ له من السيادة ما به يَتَأَلَّهُ إذ هو الإنسان الكامل ، أو الإنسان الإله ، وتلك مادة تداولتها الأديان الغالية والمذاهب الحادثة ، فلا ينفك الجميع يسلك جادة الغلو في الإنسان المحدَث سواء اتخذ الذريعة الدينية كما الرياضة الغالية التي تهيئ المحل أَنْ يَقْبَلَ آثار العلم اللَّدُنِيِّ إلهاما يضاهي النبوة ، بل يزيد عليها ، ولو بدلالة اللازم إذ لا واسطة في الإعلامِ بالحقائق كما النبوات إذ الملَك واسطة فيها ، فكان من طريق أخرى تضاهي وهي عالية في إسنادها فلا وسائط ! إذ الجنانُ فِيهَا يَتَلَقَّى من المعدن الذي يَتَلَقَّى منه الملَك ، وإن كان ثَمَّ واسطة مَلَكِيَّةٌ في النبوات الفلسفية ! فَهِيَ التخييل الذي يُصَوِّرُ المعاني النازلة من سماء العقل والذوق بما يمارس صاحبهما من رياضات النبوة ! طولَ فكرةٍ مع سهر وجوع وخلوة ، فيكون من الوحي ما يَنْزِلُ من العقل فَيُخَيَّلُ لصاحبه في الخارج من يكلمه بالخطاب الذي صدر من باطنه فهو معدن الوحي إذ قد تَلَقَّى العلم من المشكاة العليا بَعْدَ أَنْ تَهَيَّأَ المحل ونصح ، وتلك ذريعة غُلُوٍّ قد انشعب فمنه الديني إذ الحقيقة الرسالية قد اتحدت بالمحل الأرضي ، فالبداية إرادة يَرُومُ بِهَا الملهَم أن يجاوز ظاهر الشرع المنزَّل فتلك ديانةُ تَقْلِيدٍ لا تُحْمَدُ ، والمحقق ، كما اصطلح بَعْضٌ ، أو صاحب الحقيقة الرسالية التي نُعِتَتْ في الدرس الرياضي المتأخر باسم صاحب الشريعة الخاتمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فصارت الأول الذي عنه الكائنات جميعا تصدر : وحدةَ أعيانٍ إذ الجوهر واحد وإنما الأعراض في الخارج تختلف جلالا وجمالا لا يميز حَسَنًا مِنْ قَبِيحٍ ، فكلٌّ عن عين واحدة قد صدر ، وإنما حكى كلٌّ بالمظهر ما كَثُرَ وذلك مقام الفرق ، وكان من الجمع ما قَلَّ بل هو الواحد المفرد إذ الجوهر القديم واحد في الماهية وإن اختلفت الصور الخارجية وتلك ، كما تقدم في مواضع ، مقالة فَلْسَفِيَّةٌ أولى تجحد مقال الوحي في أصل الخلق ، فليس ثم حدوث بعد عدم ، وإنما الجوهر قديم لم يَزَلْ ، وليس ثَمَّ إعجاز في الخلق به الماهيات تَنْقَلِبُ فَتَفْنَى واحدة وَتَحْدُثُ أخرى مِنْهَا ، بل المادَّة في الدرس الفلسفي قديمةٌ لا تُسْتَحْدَثُ مِنَ العدم ، باقيةٌ لَا تَفْنَى وإنما يَعْرِضُ لها من الصور ما اختلف وهي في نفسها واحدة بالعين ، بسيطة لا تَتَرَكَّبُ مبدأَ أمرها ، كما اقترح مقال التطور بَعْدًا إمعانا في التَّحَكُّمِ بلا دليل ، فكان منه الفرض المحض فلا دليل من نقل ولا عقل ولا تجريب قد جعله الحجة أن يَنْقُضَ قصة الخلق الأولى ، وإن لم يعدم شُبُهَاتٍ يَرُومُ بِهَا ترويج المقال المتهافت الذي لا يقل سفها عن مقال العقول التي صدر عنها الكون كما اقْتَرَحَ الدرس الفلسفي الأول ، فكان من هذا التطور بلا عِلَّةٍ إلا العلة المجردة من الوصف فهي كَلَا شَيْءٍ ، فلا عِلْمَ وَإِنْ تَلَطَّفَ بَعْضٌ فَأَثْبَتَ العلم الكلي ولو مداهنة أو مقاربة من مقال النبوات لئلا يجحد مقاله المحدَث من له أدنى مسكة من نقل أو عقل ، فلا علم ، كما تقدم ، ولا حكمة ولا قدرة لهذه العلة الأولى الفاعلة ، وإنما عدم قد صدر عنه الكون إذ رَجَّحَ وجوده بذاتٍ مجردة من الوصف ، وذلك ، لو تَدَبَّرَ الناظر ، الترجيحُ بلا مرجح وهو مما يخالف عن القياس المحكم ، فالجائز لا بد له من مرجح من خارج وإلا كان التحكم في الإيجاب أو في المنع ، وَثَمَّ ما تلا من مقال التطور فلم يجهد كما جهد الأولون أَنْ يُخَرِّجُوا المقال على جادة أقرب إل الوحي لَعَلَّهَا تخدع بَعْضًا ، فلم يجهد مقال التطور ما جهد الأولون وإنما أنكر تصريحا وجعل الأمر خبط عشواء فلا حكمة ولا قدرة ، وإنما صار الإنسانُ هو العاقلَ صدفةً ، فليس ثم اصطفاء ولا تكريم ، بل محض صدفة إذ الأصل واحد من كائن بسيط غير مركب ، فما امتاز به الإنسان من بَقِيَّةِ الأنواع ؟! ، وإنما حملته الصدفة وحدها أن يكون السيد إذ جعلته العاقل الذي ينطق فلم يكن كذلك مبدأَ أمره ، لا صورةً هي أحسن تقويم كما نص الذكر الحكيم ، ولا عقلا يَفْهَمُ ، ولا لسانا يُفْصِحُ ، ولا علما يحيط بالأسماء كافة كما قص الوحي من تعليم آدم عليه السلام ، فكل أولئك من حديث الخرافة الرسالي الذي قَيَّدَ القياس العقلي أَنْ يُفَتِّشَ في علوم الكون وإن لم يعرف الأصل ولا الغاية ، بل قد اقترح من المقال ما لا يَنْقَضِي العجب منه مع زعمه أنه ينكر الخرافة الدينية الغيبية فإذا بِغَيْبِهِ في قصة الخلق يخالف عن أي معيار في العقل ، ولو جاحدا ينكر .

    فكان من كل أولئك ما المبدأُ فيه وحدة الأعيان الأولى كما اقترح بَعْضٌ من نَظَرٍ ديني قد غلا في الحقيقة الرسالية ورام الاتحاد بها فِرَارًا من التقليد الذي يُلْزِمُ صاحبَه الظاهرَ فهو محجوب عما لطف من البواطن ، فلا ينالها إلا أن يسلك ويجاهد بما يكابد من الجوع والسهر والخلوة وطول الفكرة لا تدبرا في آي الخلق المعجز توسلا إلى نهج شريعة محكم وإنما هي السالبة تخلية تَزْعُمُ ! ، فإذا المحل يشغر والوسواس له يشغل فيخرج بصاحبه عن حد الظاهر وَيَرَى من الخيالات ما يُوحِي إليه بِضِدٍّ يَنْسَخُ الظاهر فَقَدْ بَلَغَ اليقين فانكشفت له الحقائق وصار من أهل الباطن حقيقةً فلا يكلف بالظاهر شريعةً بل تلك دركة لا يليق بذي التحقيق أن يَنْحَطَّ إليها وهو الذي جاهد أن يُفَارِقَهَا ، ولا يكون تاليا إلا تهيئة المحل أن يحل فيه الإله فيكون من الإنسان الإله ما تقدم ، وذلك المسار الديني الذي يَتَّخِذُ الأسماء الرسالية والنصوص السماوية ذريعةً أن يخرج بها عن ظواهرها إلى معان باطنية تَلْطُفُ لا دليل عليها يشهد فهي دعاوى تجازف فَتُخَالِفُ عن قانون النقل والعقل واللسان كافة ، وَطْرُدُهُ في تفسير النصوص يَنْقُضُ ما استقر من بدائه النطق فضلا عن نصوص الشرع ، فذلك اللعب الذي يخالف عن أي معيار حاكم ، وثم المسار الحداثي الذي يؤله الإنسان فهو صاحب الوحي والشريعة وله من العقل مصدر وحي ، فقد حلت فيه الروح الإلهية التشريعية فأحاط بالعلوم وصار أهلا أن يضع المعيار : معيار الحسن والقبح ، ولو هوى وذوقا ، فهو يُشَرِّعُ بالأمر والنهي إذ قد بلغ الحلم فانتقل من طفولة الكهانة إلى مراهقة الأديان إلى بلوغ الحداثة التي اتخذت العلم ذريعة أَنْ تَنْقُضَ حقائق الغيب الرسالي المحكم وإن نالها من التبديل والتحريف ما عظم شؤمه إذ منح الخصم ، كما تقدم مرارا ، ذريعة القدح في الأصل ، لا السعي في البحث طلبا لحق رسالي خالص هو الحجة الباقية على الخلق كافة ، فلم يكن العقل وقد اغتر بظاهر من العلم قد حصل ، وهو مع ذلك جائز يحتمل ، فلا يقطع به صاحبه ، بل البحث فيه لم يَزَلْ يَنْسَخُ بعضه بعضا بما يُكْشَفُ يوما بعد آخر من العلوم والمعارف فالتجريب ، في الجملة ، لا يفيد اليقين ، إلا بعد تكرار يطول حتى يستقر القانون مع احتماله النقض ، ولو جوازا في العقل ، وإنما غايته الظن الغالب مع اقتصاره على ما يدرك بالحس الشاهد فلا يطيق نظرا في إلهيات أو غيبيات إذ تلك أخبار لا تُتَلَقَّى إلا من ناقل يعلم ويفصح وينصح ، فكان من وصف الوحي وحملته ، عليهم السلام ، أنهم الأعلم والأفصح والأنصح ، وهو ما استوجب البحث في دلائل النبوة والوحي مع نظر يقارن فهل أجاب العقل الحدثي عن سؤالات المبدإ والمصير فأورث الإنسان العالم بالحس طمأنينة في القلب ؟! أو هو لا زال يبحث بعد زوال سكرة الظهور على الكهنوت المبدَّل ، فلم يَنْتَقِلْ إلى مرجع من العلم ينصح ، بل إلى عقل قد اضطرب فلا يعلم علم اليقين مع اقتصاره على أدوات التجريب في المحسوسات وهي مما يسد الكفاية في الأبدان لا في الأديان ، فلئن حصل به رفاه في الحس فلا زال الجنان يفتش عن الحق ، فغذاؤه لا يكون بالمحسوس فذلك غذاء البدن الكثيف ، فَثَمَّ من الروح اللطيف ما يطلب غذاء أَنْصَحَ من ألفاظ الوحي المنزل الذي جحدته الحداثة فَرَاحَتْ تُطْعِمُ الروح ما يضر ولا ينفع ، فمثلها مثل من يطعم الطفل الرضيع اللحم ، فاللحم في نفسه نافع لا يضر ، ولكن المحل لا يقبله فلا يحتمل هضمه والانتفاع بمادته ، فكذا الجنان إذ غُذِّيَ بشهوات الحس ، وهي مما ينفع بالنظر في الأصل الذي يباشرها مباشرة المباح فلا يزيد فضولا ولا يغشى فجورا فيجاوز الحد المشروع ويقارف منها المحظور المخالف عن الوحي بل قد بلغ من الفحش غاية في الجيل المتأخر فَقَارَفَ ما خالف عن كل معيار يحكم من نقل أو عقل ، وهو لازم يطرد في القياس إذ الضلال لا منتهى له إذا لم يكن ثم مرجع يأطر النفس على جادة حق ، فلم تَزْدَدِ الروح والوحي غذاؤها ، لم تَزْدَدْ إذ غُذِّيَتْ بشهوات الحس ، لم تَزْدَدْ إلا سكرات لا تنفك بعد الفكرة يصيبها من الألم والحسرة ما يفجع فالمرض قد استفحل وليس من شهوات الحس ما يسكن ، فيكون من الضنك ما يعظم تأولا لمعيشة من أعرض عن الوحي ، وذلك أمر تشهد به الحال في الجيل المتأخر ، فأبى الإنسان الانقياد إلى مرجع يجاوز من خارج إن باسم الكهنوت الغالي أو ضد من الحداثة يجفو ، وهي ، مع ذلك ، لا تنفك تخدع بما تَقَدَّمَ من عنوان الحرية في الفكر ، وهو اسم يكسو الإلحاد لحاءَ يَجْمُلُ ، وكان من اسم الحب عنوان فواحش قد عمت بها البلوى ، إِذْ ثَمَّ عناوين ضرورة قد أجمع عليها العقلاء كافة ، فوجب الاحتيال أن تُكْسَى لحاء يخدع ، فَتُسَمَّى بِغَيْرِ اسمِها ، كما الخمر والربا محل الشاهد ، فقد استحدث له من عناوين التجارة والمضاربة والمرابحة ما يسوغ ، فكان من الحب عنوان يجمل بما فطرت عليه النفوس مِنْ مَيْلٍ وَرَغْبَةٍ فِيمَا يُوَاطِئُ الجبلَّة ، فصار ذريعة إلى دعاوى تجازف في الإلهيات ، وبها أُوِّلَتِ النصوص وَحُرِّفَتْ ، فَأُبْطِلتْ شَعَائِرُ الأمر والنهي وَعُطِّلَتْ غَرَائِزُ المجاهدة والدفع ، فلا معيار يحكم فهو بين الحسن والقبيح يفصل ، وَمَا تلا من حب الحسن وبغض القبيح ، والأمر بالأول والنهي عن الثاني فيكون من الشريعة ما يصدق العلم الأول ، فَثَمَّ تَصَوُّرٌ ، صَحَّ أَوْ فَسَدَ ، لِمَا حَسُنَ أَوْ قَبُحَ ، وثم تال من أمر أو نهي ، فذلك الحكم تاليا بعد التصور ، كما تقدم من خوف به نهى العاقل نفسه أَنْ تَتَّخِذَ الهوى والذوق مَرْجِعًا ، فالتصور قد أوجد في النفس خوفا يُحْمَدُ إذ صاحبه قد أحسن يَتَدَبَّرُ نصوص الجلال من الإلهيات ، والخوف قد أَوْجَدَ تاليا من لازم يوجب الكف والاجتناب فمن خاف شيئا اجتنبه ، صَحَّ تَصَوُّرُهُ أَوْ فَسَدَ ، لا جرم كان تصور هو الأنصح في خبر النبوات ومنه الإلهيات وهي عَلَى أَنْحَاءٍ منها الجلال ، محل الشاهد ، وهو المادة النافعة في باب الخشية التي تحصل في الجنان تَصَوُّرًا به الْإِرَادَةُ تَنْصَحُ فهي تَنْهَى النَّفْسَ عن الهوى ، وذكره ، من وجه ، يجري مجرى الخاص الذي يُرَادُ بِهِ عام يستغرق أسباب الفساد كافة ، فذلك جنس تحته أنواع فَثَمَّ الهوى الذي يُفْسِدُ العلم ، وهو ما عم ، من وجه آخر ، فالأهواء والمحدثات منها الْعِلْمِيَّةُ ومنها الْعَمَلِيَّةُ ، ومنها ما صَرُحَ في المخالفة كما أهواء الباطن التي تَنْقُضُ الشرائع كافة ، ومنها أهواء تُعَطِّلُ وإن تَذَرَّعَتْ أنها تُأَوِّلُ ، ومنها ما دُونَ ذلك في التأويل وإن كان لها منه حظ فهي أقرب إلى الحق ، ومنها ما كان في العمل محدثاتٍ من الذكر والرياضة ، قد عمت بها البلوى ، كما تَقَدَّم ، في باب من الباطن قد أفسد المحل بما كان من غلو في رهبانية لم يأمر بها الوحي ، ولا يُطِيقُهَا عامة الخلق وبها اسْتَزَلَّ الوسواس أَقْوَامًا لهم من صدق الديانة حظ وإن لم تخل النفس من حظ في طلب ولاية ورياسة قد فُتِنَ أصحابها إذ قلت العلوم وضعفت الفهوم وإن كان ثم ما حَسُنَ من القصود في مواضع فلا يجزئ ذلك إلا في الاعتذار عن صاحبها لا تصحيح ما سلك من جادة تحيد عن الحق ، فالقصد الحسن لا يصلح ما فسد من العمل ، وثم الهوى الأعم وهو ما استغرق المعاصي كافة ، ومنها الربا محل الشاهد فلا ينفك المتأول له إباحةً وهل على ضِدٍّ ، لا ينفك إن رام تخريجه على أصل من الديانة يَنْصَحُ ، لا ينفك يَلْتَمِسُ له من الحجج والتأويلات البعيدة ما يَعْلَمُ لَوِ اسْتَفْتَى النفس أن ذلك من الإثم إذ حاك في الصدر ، وإنما اجتمعت الشبهة والشهوة فحصل من الفساد ما عظم .
    فَثَمَّ الهوى وهو سبب فساد أول وهو مما يَتَوَجَّهُ ابتداء إلى التصور ، وَثَمَّ الذوق الذي يُفْسِدُ الإرادة ، فَذَكَرَ واحدا في قوله تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) ، وَحَذَفَ آخر إذ قَدْ دَلَّ المذكور على المحذوف فهما مما اقترنا في الدلالة ضرورةً ، كما الليل والنهار ، والحر والبرد ، وبه قُدِّرَ المحذوف في الآية : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، فَتَقِيكُمُ الحرَّ والبردَ ، فحذف شطر القسمة الثاني إذ قد دل عليه الأول ، بَدَاهَةً ، وبهما استكمال القسمة الناصحة في التصور ، فكان من نهي النفس مُسَبَّبٌ تال عن مسبَّب أول وهو الخوف ، فهو سَبَبٌ من وجه لما تلا من نهيِ النفسِ عن الهوى ، وهو ، من آخر ، مسبَّب عَمَّا تقدم من التصور فما كان خوف إلا وقد تَصَوَّرَ الجنانُ جلالَ الوصف الإلهي وما كان من علم يحيط وقدرة تَنْفُذُ وعقاب شديد يُؤْلِمُ ، فذلك مما يواطئ القياس الصريح في الباب : بابِ السَّبَبِيَّةِ وما يكون من تَسَلْسُلٍ محكَمٍ إذ التصور أول وما كان من الحكم فهو تَالٍ يُصَدِّقُ ، فكان من ذلك مجموع أول قد تَرَاكَبَ ، وهو ما عم فاستغرق ، فاسم الشرط "مَنْ" في قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) : نص في العموم قد استغرق ، وإن تَغْلِيبًا فلفظه المذكر لا مفهوم له ، بل قد خَرَجَ مخرجَ الغالب ، وثم من قرينة العموم في خطاب الشارع ما استغرق كل محلٍّ صح تكليفه بتصديق أو امتثال وذلك ما استغرق الذكور والإناث كافة ، فكان من ذلك مجموع مركب يجري مجرى السبب الذي تقدم ، وهو الخبر ذو الدلالة الإنشائية إذ يحكي الأمر أن خَفِ الله ، جل وعلا ، وَانْهَ النَّفْسَ عن الهوى تَنَلْ ما جاء بَعْدًا من الجواب الذي اقترن بالفاء إيجابا ، في قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ، فذلك المأوى جَنَّةُ خُلْدٍ لَا تَفْنَى ، فكان من الإطناب بالفاء في "فَإِنَّ" ، وهي مما يستصلح به اللفظ ، من وجه ، إذ هي الرابطة بين الشرط والجواب الاسمي ، وذلك موضع تجب فيه الفاء ، ولا تخلو من دلالة تعقيب وفور وذلك أوقع في النفس وآكد في الدلالة ، مع سَبَبِيَّةٍ بِهَا اطَّرَدَ البابُ وَانْعَكَسَ ، فَمَا تَقَدَّمَ من السبب المركَّب : خوفا ونهيا ، مَا تَقَدَّمَ فَهُوَ سَبَبٌ فِيمَا تَلَا بَعْدًا من جَنَّةٍ هِيَ المأوى ، فكان من الفاء في نَفْسِهَا حكايةُ سَبَبِيَّةٍ ، ولو لم تكن نصا فيها ، وكان من آخر إذ دخلت على الناسخ "إِنَّ" فحصل بهما مجتمعين من دلالة التعليل ما لا يحصل بأحدهما مُنْفَرِدًا ، فَثَمَّ من قوة الاجتماع ما قد رَفَدَ الناسخ بدلالة تعليل ثانية بعد أولى من التوكيد هي النص بما استقر أولا من دلالة الوضع ، فكان من القرينة ما رَجَّحَ في المعنى زيادة بها صار الناسخ نصا في التوكيد وظاهرا راجحا في التعليل بالنظر في دلالة الظاهر المركب فهو مما ائْتَلَفَ من الألفاظ والسياق الجامع ، أو هو المؤول إِنْ قُصِرَ الظاهرُ عَلَى أصلِ الوضع الأول ، إذ الناسخ نَصٌّ في التوكيد فَمَا زِيدَ من التعليل فإنما زِيدَ بالتأويل ذِي القرينة وهي الفاء التي دخلت على الناسخ "إِنَّ" فَزَادَتْهُ فِي الدلالة ، فكان من التأويل ما نَصَحَ إذ له من القرينة ما اعْتُبِرَ ، وَثَمَّ مِنْ تَوْكِيدٍ تال في الجواب : جواب الشرط ، ثم منه اسمية الجملة ، مع ضمير الفصل "هو" ، وتعريف الجزأين "الجنة" و "المأوى" ، فذلك من القصر بتعريف الجزأين ، كما قرر أهل الشأن ، ولا تخلو "أل" في "المأوى" من احتمال يَتَفَاوَتُ ، فَإِمَّا أَنْ تُحْمَلَ على الاستغراق المعنوي لوجوه الدلالة فهي المأوى الكامل ، وذلك ما يَزِيدُ فيها دلالة العهد الأخص إذ ليس يكمل من هذا الجنس إلا الجنة ، وذلك مَا يُجْرِي "أل" فيها ، أيضا ، مجرى العهد الخاص ، فهي الجنة المخصوصة ، جَنَّةُ الخلدِ ، وثم من أجراها مجرى النيابة لفظا ، فَهِيَ تَنُوبُ عن ضميرٍ محذوف قد تأخر على تقدير : فإن الجنة هي مأواه ، فلا يجتمع على اللفظ الواحد مُعَرِّفَانِ ، ولا يتصل الضمير بالكلمة إن صُدِّرَتْ بالأداة "أل" ، فذلك مِمَّا يُثْقِلُ اللَّفْظَ ، وليس ثم زيادة في المعنى المعقول لِأَجْلِهَا يُحْتَمَلُ ثِقَلُ المبنى المنطوق ، بل أحدهما يجزئ عن الآخر فَدَلَّ المذكور المتقدِّم من الأداة "أل" على المحذوف المتأخر من الضمير ، أو قد نَابَ عنه ، إن شئت دِقَّةً ، فكان من التركيب شرطا وجوابا ما اطرد وانعكس في الدلالة ، فمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن له من الجنة وعدا يَصْدُقُ ، وذلك المنطوق ، ومن لم يكن منه ذلك بل كان على ضد يخالف فَلَهُ من الوعيد ما يطابق طباق الإيجاب في الدلالة أو هو من مقابلة تستغرق شطري القسمة ، طردا وعكسا ، وَعْدًا وَوَعِيدًا ، وقد نَصَّ السباق قَبْلًا على المفهوم إذ : (مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) ، وهو ، أيضا ، مما جرى في التعليل مجرى التركيب ، فإن الطغيان أول وهو مما يفسد التصور ، كما في الآي المتقدم : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) ، فكان من الطغيان سبب في فساد التصور أَنَّ الْغِنَى يحصل بأسباب بها يَسْتَغْنِي الطاغوت ، فإن ذلك ، في نَفْسِهِ ، دليلٌ على ضِدٍّ فَهُوَ ينقض الدعوى إذ لا يطلبُ الكمالَ إلا الناقصُ ، ولا يعالج أسباب الغنى من خارج إلا من ثَبَتَ له الفقر وَصْفَ ذَاتٍ لَا يُعَلَّلُ ، وذلك وصف المخلوق المحدَث ، وهو ما احتمل آخر ، أن يكون الطغيان هو المسبَّب لِمَا تَلَا من اجتماع أسبابٍ قد غَرَّتْ صَاحِبَهَا فَفَسَدَ تصوره وَظَنَّ في نفسه الغنى المطلق الذي لا يكون إلا لِلرَّبِّ المهيمن ، جل وعلا ، فيكون من الاستغناء المتوهم بأسباب من خارج الذات تَشْهَدُ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، بِضِدٍّ من الفقر الذاتي الذي لا يُعَلَّلُ ، فيكون من هذا الاستغناء سَبَبٌ لِمَا تَقَدَّمَ من الطغيان ، على تقدير : إن الإنسان ليطغى إذ يَرَى نَفْسَهُ قد استغنى ، فدلالة "إذ" في هذا التقدير : دلالة تعليل ، وثم من عامل الرؤية في قوله تعالى : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) : رؤيةُ العلمِ التي تَتَعَدَّى إلى المفعولين ، أو هي رؤية الظن ، ولو فاسدا متوهما ، فإنما يحكي اعتقادَ صاحبه ، صَحَّ أَوْ فَسَدَ ، فكان من الاستغناء بالأسباب ، المحسوسة والمعقولة ، ومنها ما تقدم من المال الذي يغر صاحبه فيفسد منه التصور ويكون من الدعوى ما يجازف كما كان من قارون إذ جَحَدَ شُكْرَ المنعِم بما حصل له من المال حتى صَارَ مضرب المثل في الغنى ، فلم يشفع ذلك أن يكون مضرب آخر من الشكر ، بل كان على ضِدٍّ يجازف في الدعوى إذ نَسَبَ الأمر إلى نفسه طغيانا واستغناء ، فـ : (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ، وأول القول ينقض آخره ، فَقَدْ حذف الفاعل وبنى العامل "أُوتِيتُهُ" للمفعول ، فقد آتاه المال فاعل هو الْمُؤْتِي ، فكيف يستقل بالغنى ، وإنما قُيِّدَ بالحال "عَلَى عِلْمٍ" ، أنه محل يستحق ، فلا بد من مانح يُعْطِي ، ولو جَحَدَ الْمُعْطَى العطيةَ وَنَسَبَهَا إلى مواهب وملكات في التجارة والكسب فَمَنْ منحه هذه المواهب ؟ ، فلا بد من أول يَرْجِعُ إليه ، وإن جَحَدَ ، فَمَقَالُهُ ، كما تقدم ، يفضح ، وذلك من طغيان المال وَبَغْيِ صاحبه إذا استغنى ، وهو مما تكرر في كل جيل ، كما المتأخِّر الذي اجتهد في الجمع والكنز ، مع بخل به كان المنع وجحود به كان الكفر ، فجحد شكر المنعم بالمال ، وَعَطَّلَ ما سَنَّ له من الأحكام ، إذ استباح الربا بَلْوَى قد عمت في كل جيل بما جُبِلَتْ عليه النفوس من الشح والأثرة ، إذ : (أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، فذلك باعث أول في النفس به تفسير الربا ظاهرةً في الكسب والتجارة قد عمت به البلوى كما تقدم ، مع استرسال في الطبع فلا يأطره المرابي على جادةِ حَقٍّ ، بل ثم تال من لَوَازِمَ تَقْتَرِنُ : حب الجمع وإخضاع الخلق تألها وتجبرا في الأرض فذلك الطغيان بما حصل لصاحب المال المرابي من كَنْزٍ به احتكر الأرزاق وذلك ، كما تقدم ، تأويل الطبع ضرورة قد استقرت في الوجدان مع انتفاء المانع الذي يأطرها فليس إلا الوحي تصورا وامتثالا فِي باب الإلهيات إِذِ الغنى والحمد المطلق فلا يفتقر صاحبه إلى سبب من خارج ، ذلك مما امتاز به الخالق ، جل وعلا ، من المخلوق الحادث ، فَحَسُنَ من ذلك وصف جلال كما الكبرياء والعظمة ، فالموصوف بهما رَبًّا يخلق ويرزق وَيُدَبِّرُ ، ذلك الموصوف مما يُثْنَى عليه الثناء المطلق ، ومنه الثناء بالجلال فهو يليق بكماله المطلق ، فَالْفَرْدَانِيَّةُ ، كما تقدم ، لا تحسن إلا في حق واحد قد انْفَرَدَ بالكمال المطلق فلا يفتقر إلى سبب من خارج ولا يستوحش لِيَتَّخِذَ صاحبة أو ولدا ولا يخشى فقرا ليمسك ويبخل أو يُرَابِي ليجمع المال ويكنز ، فكل أولئك من أثرة وشح قد تَنَزَّهَ عنها الرب ، جل وعلا ، ضرورةً في الوجدان قد جاء الوحي لها يصدق وَيُبِينُ ، فجاء بما يفصل فطرةَ إيمانٍ مجملة ، فَالْفَرْدَانِيَّةُ والكبرياء والعظمة والجبروت والقهر والغنى المطلق كل أولئك من جلالٍ يَلِيقُ بالخالق ، جل وعلا ، لا المخلوق الناقص فمحله يضعف أن يحتمل آثار الجلال والغنى المطلق فلا يَنْفَكُّ يَطْغَى إلا أَنْ يَتَأَوَّلَ هذا الجلال تَأَوُّلَ العابد الخاضع ، لا المتألِّه الطاغي الذي يجاوز الحد فيفرح بما أوتي من مال أو جاه أو رياسة أو ظاهرِ علمٍ ، ويكون من الغرور ما يفدح إذ قد آنس في نفسه قوة ، ولو من خارج فهي ، كما تقدم ، شاهد بضد من الدعوى فهو الفقير الضعيف الجاهل ، وإن بَذَلَ مَا بَذَلَ من أسباب الغنى والقوة والعلم إلا أن يسلك بها الجادة فيكون منها سبب به يَتَعَبَّدُ تصديقا وامتثالا لما قد تَنَزَّلَ من الوحي آيا وخبرا ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، نَجْدُ الخيرِ الذي يُهْدَاهُ المسدَّد فضلا من الرب المهيمن ، جل وعلا ، ويطابقه في المبنى ويقابله في المعنى إذ بهما استيفاءٌ لأجزاء القسمة في الخارج ، قسمة الهداية الكونية ، يطابقه في المبنى ويقابله في المعنى نَجْدُ الشَّرِّ الذي يُهْدَاهُ المخذول عدلا ، فكان من ذلك عموم قد استغرق فذلك الخلق : خلق الخير وخلق الشر جميعا ، وهداية كلِّ محلٍّ لِمَا يُوَاطِئُ حكمةً بها التقدير الأول في الغيب وما يكون من تأويل تال في الشهادة ، وهو مناط جلال إذ به استغراق المقادير كافة ، فحسن ، من هذا الوجه ، إسناد العامل إلى ضمير الفاعلين المجموع في قوله تعالى : (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) ، فَتِلْكَ مَئِنَّةُ تَعْظِيمٍ تحسن في موضع الجلال إذ استغرق الخلق والتقدير ، فكان من خلق الأعيان وتقدير الأحوال بما يواطئ كل محل ، كان من ذلك آي علم وحكمة وقدرة ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الإسناد إلى ضمير الجمع تَعْظِيمًا ، من وجه ، وتكثيرا من آخر ، لا الذوات فالذات القدسية واحدةٌ لَا تَتَعَدَّدُ ، وإنما الصفات فَهِيَ كثيرة تقوم بها قيام الصفة بالموصوف ، إِنْ جلالًا أو جمالًا ، وبها الإثبات لما قد علم ضرورة من الكمال المطلق الذي ثَبَتَ لله ، جل وعلا ، أزلًا وأبدًا ، وثم من الإجمال في النجدين ما قد أُبِينَ عنه في موضع آخر من التنزيل ، فقد : (أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ، فكان من الإلهام ما يواطئ هداية التكوين كلٌّ لما يلائم حكمةً وقدرةً بهما الثناء بأوصاف الكمال المطلق على ذي الجلال والإكرام ، تبارك وتعالى ، وكان من الفجور والتقوى ما به تأويل النجدين فقد استغرق من القسمة الشطرين ، فَثَمَّ مَنْ هُدِيَ نَجْدَ الخيرِ فَأُلْهِمَ التَّقْوَى فضلا ، وثم مَنْ هُدِيَ نَجْدَ الشر فَأُلْهِمَ الفجور عدلا ، وكان من وصفه طغيان ومجاوزة للحد أن لم يكن ثم قيد من الوحي ، وهو ما أفسد تصوره إذ لم يجاوز الأولى فقد آثرها ، كما في آي النازعات شطرا أول ، فـ : (أَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) ، فكان من ذلك ، أيضا ، سبب قد تَرَكَّبَ ، فَثَمَّ الطغيان الذي يُفْضِي بصاحبه أَنْ يُؤْثِرَ الحياة الدنيا فيكون من فساد تصور أول أَنْ ظَنَّ الاستغناء بالأسباب ومنها المال الذي يجتهد في جمعه واحتكاره بما يُرَابِي ويزيد باطلا بلا عوض ، أو كسبا بما لا يشرع ، فليس ثم إطار يحكم ، إذ قد صار الكسب في نفسه غَايَةً تُطْلَقُ ، فَهِيَ باعث النفس أن تَتَحَرَّكَ طلبا لِلَذَّةٍ لا تجاوز الشهادة ، فَذَرَائِعُهَا ما يُجْمَعُ مِنَ الأسبابِ مالا وقوة ، وذلك إيجاز في العبارة يحكي معيار الحداثة في التصور إذ لا مرجع من خارج يجاوز ، فكان من التَّصَوُّرِ : أسبابُ الحس من المال والقوة وغاياتُ النفس إذ حُجِبَتْ عَنْهَا شمس الرسالة ، فَلَيْسَ إلا اللذة العاجلة حِسًّا أو معنى فهي لصاحبها تخدع إذ بها العقل يُغَيَّبُ بما كان من سكرةٍ تُذْهِبُ الفكرةَ ، فكرةَ العبودية التي لا يصلح الإنسان إلا بها فَمَتَى خَرَجَ عَنْهَا ، كما ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مَتَى خَرَجَ عنها فقد فَسَدَ وأفسدَ ، فالبلوى به تَعْظُمُ ، فلا تَصَوُّرَ ولا حكمَ يَنْصَحُ ، وإنما تصورٌ قاصر لا يجاوز الأولى فهي الغاية التي آثرها ، وَحُكْمٌ به يطغى ويجاوز الحد إن في المعقول طلبا لرياسة بل وَتَأَلُّهٍ أو في المحسوس من مال يجمع وسبب قوة يُمْلَكُ لا ليدفع الصائل ويفتح الأمصار غازيا بِرَسْمِ الوحي لِيَتَأَوَّلَ حكومةَ الرشد العامة ، عدلا به صلاح الأرض ، وأنصحه ما قد نَزَلَ به الوحي إذ قد بَرِئَ ، كما تقدم في مواضع عدة ، من وصمة الفقر والجهل والنقص ، فلا يُتَّهَمُ بِحَظٍّ يروم استيفاءه أو كمالٍ يطلبه بعد نَقْصٍ فَلَهٌ منه المطلق أزلا وأبدا .
    فكان من ذلك حكومة عدل تُؤْمَنُ ومرجعها الوحي المنزل على ضد من حداثة مرجعها الوضع المحدث وهي عن الفقر والجهل والنقص تصدر ، فلا يكون منها إلا فساد في التصور والحكم وإفساد يُجَاوِزُ وبه البلوى تَعُمُّ الأرض كافة ، فَيُبْتَلَى الخلق بمن يفسد الأديان والأبدان ويخرب العمران ويضيع البلدان كما الجيل المتأخر يشهد إذ قد عُطِّلَ الوحي أن يحكم ، فكان من الطغيان في آي النازعات ، فــ : (أَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) ، كان منه ما أطلق فاستغرق المحسوس والمعقول كافة ، وكان من تال يجري مجرى المسبَّب ، فإيثار الحياة الدنيا لا يكون إلا عن طغيان ، كما أن الطغيان لا يكون إلا عن فساد أول في التصور يجافي عن حد الإيمان المجزئ ، وبهذا المجموع المركب سبب هو الشرط ، وبه حصول المسبب وهو الجواب الذي أُكِّدَ بالناسخ "إِنَّ" فَجَرَى فِي حده مجرى الجواب المتقدم : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ، وكان من عاقبة الطغيان آخر يشاطره القسمة في الخارج مع طباق في الألفاظ بين الجحيم والجنة ، فمن طغى وآثر ، فـ : (إِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) ، وذلك ، أيضا ، خبر لازمه الإنشاء ، إنشاء النهي عن الطغيان وإيثار الحياة الدنيا ، مع طرد وعكس يفيد بالمنطوق والمفهوم ، وإن أطنب تاليا بالمفهوم عكسا في قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ، وذلك ، كما يقول صاحبُ "الموافقات" رحمه الله ، مما اطرد في نصوص الوحي : جَمْعًا بين المتقابلات من وعد ووعيد ، من إباحة وحظر ، من أمر ونهي ، من إيجاب وتحريم ...... إلخ ، فَاطَّرَدَ في النصوص كافة : الخبرية والإنشائية .

    والله أعلى وأعلم .


  13. #13
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    والنهي عن الربا : نهي عن أكل المال بالباطل ، وذلك ما خُصَّ بالذكر ، كما تقدم في آي التحريم المصرح ، وما كان من أخبار تعضد إذ أبانت عما أُجْمِلَ في التَّنْزِيلِ من أجناس الأموال الربوية ، وكان من بُيُوعٍ مخصوصة نهى عنها الشارع ، كان منها بَيَانٌ ثان لا يحصر الآحاد في الخارج ، وإنما هي مُثُلٌ لعام قد استغرق وعليها يقيس أهل الشأن قياسَ الأصول الأخص ، وآخر أعم ، وهو قياس المعاني التي أُنِيطَتْ بها الأحكام فالعبرة بها لا بألفاظ ظاهرها الصحة قد استوفت الماهية الشرعية مع استبطانها حيلة بها تُسْتَبَاحُ المحارم ، بيع العينة مثالا ، وما اصطلح تاليا أنه المرابحة وليست من ذلك في شيء فهي إقراض بزيادة مع صيرورة المبيع ذريعة فهو قنطرة يجاوز بها المتبايعان صورة الربا الظاهر إلى آخر يبطن ، مع ما كان من بَيْعِ ما لم يقبض فلا يدخل ضمانَ البائع قبل التصرف ..... إلخ ، وذلك باب واسع ولأجله كان سد الذرائع ، وَإِنْ مُبَاحَةً ، لئلا تفضي إلى المحرم ، على تفصيل في ذلك ، فلا يكون ، في المقابل ، تحجير الواسع ، فإن الذريعة لا تكون في نَوَادِرَ كالنهي عن بيع العنب سدا لذريعة اتخاذه خمرا ، أو النهي عن بيع السكين سدا لذريعة القتل أو ذَبْحِ ما يحرم من المأكول فلا يطهر بالتذكية ...... إلخ ، فكل أولئك من نادر لا حكم له ، كما يقول أهل الشأن ، فلا يرجح فيعتبر إلا أن يكون ثم من القرينة ما يرفد ، كبيع السلاح في الفتنة ، أو بيع العنب لأهل محلة قَدْ علم من حالهم اتخاذه خمرا يشربونها أو يَبِيعُونَهَا ، فيرجح المرجوح النادر في هذه الحال ويصير الراجح إذ حصل ظن غالب بأمارات من خارج ، أو يقين جازم وهو ما يصير المرجوح من الراجح ، فلا يباع السكين لمن عُلِمَ أنه يقتل بما يكون من أماراتِ شَرٍّ في عينه ، وإن لم يكن الزمان زمانَ فتنةٍ ، أو أنه يذبح المحرم بما اطرد من حاله ... إلخ ، فكان من سد الذرائع أصل يستصحب في أبواب الفقه كافة ، وهو ما يكثر في المعاملات ما لا يكثر في العبادات ، إذ الأخيرة مدارها التوقيف خلاف الْأُولَى فإن الأصل فيها الإباحة ، وذلك مما يستصحب حتى يَرِدَ الدليل المحرِّم ، ومنه ما يكون بالنص ومنه آخر بالقياس في معقولات المعنى من البيوع وسائر المعاملات ، وإن كان ثم من المذاهب ما تَوَسَّعَ في الأخذ بالظاهر فلم يعتبر الذرائع في مواضع تكثر ، فالحكم بالصحة يثبت إذا استوفى العقد أركانه دون نظر في دوافعَ تَبْطُنُ ، فالعبرة ، كما يقول أهل الشأن ، باللسان الأعم وعرف المتعاقدين الأخص وألا يكون في العقد ما يحرم لذاته ، كمن تبايعا بَيْعًا صورته الصحة توسلا إلى محرم ولم يكن ثم شرط لهذا المحرم ، فلا يفسد العقد ، كما أُثِرَ عن بعض الأئمة المتبوعين ، لا يفسد إلا بالعقد نفسه ، فلا يفسد بشيء تَقَدَّمَه ولا تأخره ، وله يضرب المثل بمن استبطن نكاحَ امرأةٍ ولم يكن له فيه غرض إلا أن يقضي الوطر ثم يطلقها وتلك صورة المتعة المحرَّمة فما لم يكن ثم تواطؤ قبل العقد يجري مجرى التصريح او كان ثم نص في العقد وذلك الشرط الفاسد ، فما لم يكن ثم شيء من ذلك وإنما استبطنه في نفسه ، أو كان التواطؤ بلا تصريح فعلم كلٌّ من الثاني ما يريد ، ولم يكن النص وهو مناط الحل والحظر في أحكام الدنيا فالعبرة فيها بالمباني الظاهرة لا بالقصود الباطنة ، فما لم يكن كلُّ أولئك فالعقد صحيح في أحكام الدنيا وإن أَثِمَ العاقد بالنظر في النية والقصد فذلك حكم الباطن الذي يحاسب به في الآخرة ، وليس مناط الفقه وهو الحكم العملي الظاهر ، ليس مناطه ما بطن من النوايا والقصود إلا أن ينص عليها في العقود ، وثم من قال إن العبرة بالمعاني والقصود لا بالمباني والحروف لا سيما إن كان ثم من قرينة الحال ما يشهد فلا يشترط النص المصرح ، فالعقد فاسد ، وإن في أحكام الدنيا ، سدا لذريعة التلاعب بالأحكام الشرعية خلاف الأول الذي قصر الأمر ، كما تقدم ، على ظاهر العقد ، فَثَمَّ حكم الإجزاء في الدنيا ، ولا تلزم منه البراءة في الآخرة إذ ثم من النية والقصد ما يَخْفَى فِي مواضع ، وهو شطر في العمل الصالح ، فَهُوَ الْأَخْلَصُ وَالْأَصْوَبُ ، كما الآي المحكم ختامَ الكهف : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ، فالعمل الصالح لا يكون إلا أن يُوَاطِئَ الماهية المشروعة ، وَهِيَ الماهية الأخص التي تُجَاوِزُ ، كَمَا تَقَدَّمَ في مواضع عدة ، الحقيقة اللغوية الأعم ، فثم أخرى اصطلاحية في حد الشارع ، جل وعلا ، ولأجلها نَزَلَ الوحي ، ولها اسْتُعِيرَتْ حَقِيقَةُ اللسان المطلقة أَنْ زِيدَ في حدِّها فصارت الشرعية المقيَّدَة ، وإخلاص العمل ، وهو شطر ثان في القسمة ، ألا يكون شرك في النية والقصد ، فَثَمَّ حكم الإجزاء في أحكام الدنيا أَنْ يَقَعَ العمل صحيحا في الفقه ، وثم آخر في قبول العمل وإجزائه في حصول الثواب تحقيقا لا تعليقا ، فإن وعد الثواب أو وعيد العقاب في النصوص مما عُلِّقَ على قول أو عمل فمعه الحكم وعدا أو وعيد يَدُورُ ، وذلك مما اطرد في الأخبار والأحكام كَافَّةً ، فَعُلِّقَ الحكمُ على العلة ، وَعُلِّقَ الثوابُ على الطاعة المجزئة في الخروج من عهدة الشرع أَنْ تُوَاطِئَ ماهيته المخصوصة التي لا تُنَالُ بالنظر في الجنس الدلالي المطلق إلا من مشكاة الوحي المنزَّل ، وإن كان الأمر أوسع في المعاملات مِنْهُ في العبادات ، فماهيات العبادة أخص إذ لا تُنَالُ إلا بالتوقيف من كل وجه ، خلاف المعاملات فإنها وإن افتقرت إلى مرجع الوحي من خارج ، فافتقارها أعم إذ يجري فِيهَا القياس ما لا يجري في العبادات ، فالنص على ماهية الظهر أربع ركعات بما كان من بَيَانِ صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولا وعملا ، ذلك مما لا تقاس عليه صلاة أخرى إذ مناطه التوقيف حكما أَعَمَّ وماهية أَخَصَّ ، وأما النص على تحريم الربا عامة ، وتحريم العينة خاصة ، فذلك مِمَّا احتمل مَنَاطَ تَعْلِيلٍ أعم يجاوز المنصوص لا كَمَا الظهر أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، فالأصل أن العبادات تَوْقِيفِيَّةٌ لا تُعَلَّلُ ، والمعاملات معقولة المعنى فهي تُعَلَّلُ ، فكان من القياس في المعاملات ما اسْتَوْجَبَ تَحْرِيرَ المناط الأخص ، وشرط الصحة المجزئ في أحكام الدنيا أَنْ تُوَاطِئَ الماهية المخصوصة إِنْ عِبَادَةً أو معاملةً ، وليس يجاوز الناظر ما تَقَدَّمَ العملَ مِنَ النية والقصد ، فذلك محل أخص لا يَعْلَمُهُ إلا الله ، جل وعلا ، وهو مناط القبول وذلك من الغيوب التي تَخْفَى فَلَا اطِّلَاعَ لمخلوقٍ على ما اسْتَكَنَّ في القلوب من إخلاص أو رِيَاءٍ ، فكان من شرط القبول المجزئ في أحكام الآخرة : إخلاص في النية والقصد لا يتناوله الفقه بمعناه الاصطلاحي المتأخر ، اصطلاح الحكم العملي وإن كان ثَمَّ أول أعم فالفقه في الدين يستغرق الأقوال والأعمال كافة ، ما بطن منها وما ظهر ، لا جرم كان من تصنيف الأولين باسم الفقه مدونات في الاعتقاد ، كما الفقه الأكبر مثالا قد اشتهر ، فذلك الفقه في مسائل الإيمان في مقابل أخرى هي مسائل العمل أو الإسلام على القسمة المشهورة في حديث جبريل ، عليه السلام ، فَقُصِرَ الفقه الاصطلاحي المتأخر على الماهيات الشرعية الظاهرة ، فالأمر لو تدبر الناظر على أنحاء : فَثَمَّ من يعمل العمل غَيْرَ مجزِئٍ لا في الماهية ولا في القصد ، وذلك أَسْوَؤُهُمْ ، كَمَنْ يُصَلِّي بلا وضوء عالما عامدا ، فَيَصْدُقُ فِي صورةِ الفعلِ أنها صلاة فذلك وجود في الحس أعم ، ولا يلزم منه آخر أخص في الشرع ، فالماهية المشروعة أخص من الماهية المحسوسة ، فكل ماهية مشروعة مجزئة فَلَهَا بداهة وجود في الحس ، ولا عكس ، وذلك من العموم والخصوص المطلق .
    وثم من يعمل العمل مجزئا في الماهية لا في القصد ، فيخرج من عهدة الشرع في أحكام الظاهر ، وليس يكون حكم في الْأُولَى على ما بطن من النوايا والقصود إلا أن يظهر منها ما يوجب الأخذ ، فَثَمَّ من الإجزاء وَبَرَاءَةِ الذمة في أحكام الدنيا ما يحصل بالفرض المسقِط دون نظر فيما تلا من قبول يجزئ في أحكام الآخرة فليس يُطْلَبُ في إثبات الصحة الاصطلاحية ، فإنها ، كما تقدم ، صحة العمل أَنْ يُوَافِقَ الماهية المنصوصة ، وما كان بَعْدًا فَلَيْسَ يخاطب به الخلق إذ لا يعلمه إلا الخالق ، جل وعلا ، بل ثم من الحكومات في الدنيا ما أُنِيطَ بِوَصْفٍ ظاهر يَنْضَبِطُ وإن كان له سبب فهو مما يَخْفَى فِي العادة وإن أَطَاقَ الْخَلْقُ دَرَكَهُ فَلَيْسَ مما يَغِيبُ في الحس ، كما يضرب أهل الأصول المثل بِوَطْءِ الرجلِ امرأَتَه ، فَهُوَ سبب العلوق وإثبات النسب وهو وإن كان مما يدرك بالحس إلا أنه في العادة يخفى بل ذلك الواجب نقلا وعقلا ! ، فكان من إناطة الحكم ، حكمِ النسب ، بِعِلَّةٍ تَظْهَرُ وهي العقد ، فهو يجزئ في إثبات النسب إلا أَنْ يَنْفِيَهُ الزوجُ ملاعنةً .

    وثم من يعمل العمل مجزئا في القصد مخالفا عن الماهية المشروعة فالأصل ألا يجزئ إلا في أحوال مخصوصة ، كالجاهل الذي يعمل بقدر ما بَلَغَهُ من العلم ، فمثله كمثل من عمل بالمنسوخ إذ لم يبلغه الناسخ مع انْتِفَاءِ الوصف المذموم تفريطا في دَرَكِ الحق أو اشتغالا بما هو أدنى مع تَيَسُّرِ العلم طلبا أو سؤالا ، وهو مما به العذر يَتَفَاوَتُ التَّفَاوُتَ المعتبر ، فلا يستوي في دار الإسلام وغيرها ، كما لا يستوي في دار السنة وغيرها ، بل ولا تكون الدور على حد سواء في العذر وإن اشتركت في وصف الكفر ، فإن دور الكتابيين أقرب إلى الوحي ، فكان لهم من امتياز في مواضع كما نكاح نسائهم ، وكان من آخر هُمْ فِيهِ الأدنى فلا يعذرون ما يُعْذَرُ مَنْ لَيْسَ له كتاب فلا عهد له بالنبوة والوحي ، فَلَئِنْ كَانَ أدنى في أحكام فلا يجوز نكاح نسائه كما الكتابي ، فهو ، مع ذلك ، يعذر ما لا يعذر الكتابي ، إذ الأول ليس له أول من العلم الرسالي ، ولو مُبَدَّلًا محرَّفا ، فالجنس ، جنس النبوات قد ثبت لدى الكتابِيِّ ، وهو ما يحمل صاحبه أن ينظر في دعوى النبوة الخاتمة فقد آمن بمثلها وعنده من معيار الحكم ، ولو في الجملة ، ما يوجب الاشتغال بتحرير الأدلة ، إن المسلك النوعي الأعم : جنس النبوات المطلق ، أو المسلك الشخصي الأخص : آحاد الدعاوى فيميز الصحيح من الكاذب كما مَازَهُ أعيانٌ من يهود ، ابن سلام رضي الله عنه مثالا ، فَثَمَّ أَمَارَاتٌ ، وثم دليل الوحي الخاتم بعد قبض صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فالكتابي يعلمُ منه ، أيضا ، الجنس العام المنزل ، التوراة والإنجيل ، فَيَسْهُلُ عليه الأمر ما لَا يَسْهُلُ على مَنْ لا كتاب له ، بادي الرأي ، ولا علم له بِنُبُوَّةٍ ، وإن كان من آثار التوحيد ، كما يذكر بعض من حقق ، وإن كان من آثاره ما الناظر يلمح في مواضع تدق من الكتب الأرضية المحدثة أو هو مما نَقَلَتْهُ عن نُبُوَّةٍ قد خلت ، فلا تنفك ، من هذا الوجه ، تدخل في عموم قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) ، وذلك العموم المستغرق إذ النكرة "أُمَّةٍ" قد وردت في سياق النفي ، وذلك نص في الباب : باب العموم ، كما قرر أهل الشأن ، وإن الظني الغالب فكان من دلالة "مِنْ" : تَنْصِيصًا على العموم ، كان منها مَا زاد في الدلالة فَصَيَّرَهَا نصا لا يحتمل فذلك العموم المحفوظ الذي لا يُخَصَّصُ ، مع قصر بأقوى الأساليب : النفي وأداته "إِنْ" والاستثناء وأداته "إِلَّا" ، وهو بالنظر في العموم المؤكد المحفوظ ، هو بهذا النظر : قصر الحقيقة ، وإن خُصَّ ذلك ، من وجه آخر ، فإن معنى النذير أعم ، فهو دون الرسول وإن كان عنه يصدر ، فهو يحمل مادة الوحي لا برسم المرسَل بل المنذِر الذي يصدق في الجمع المكلف كله ، ولو الجنَّ ، كما في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ، وثم ، كما تقدم من استقراء الأديان كافة ولو أرضيةً محدَثَةً ، ثم ما يحكي آثارَ توحيدٍ ، ولو دَارِسَةً ، فلا تخلو أن تكون مَادَّةَ نُبُوَّةٍ قَدِ احْتَمَلَهَا نَذِيرٌ أو كان منها الدليل على نُبُوَّةٍ أولى ، وإن لم تُقَصَّ ، فـ : (رُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، أو هي آثار ميثاق توحيد أول قد أخذ في عالم الغيب على ذُرِّيَّةِ آدم كَافَّةً ، فذلك مما يجوز تخصيصه ، من هذا الوجه ، بقوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مما جاوز بِعْثَةَ الرسول شخصًا ، فَثَمَّ آخر وحيا لا سيما الخاتم فهو الحجة الباقية وإن شُرِطَ له ، أيضا ، حصول البلاغ المجزئ فلا يكون ذلك بلوغَ الذِّكْرِ المطلق لَا سيما إن بَلَغَهُ محرَّفا بما يكون من لغو الخصم ، فـ : (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ، فَثَمَّ من النهي "لا تَسْمَعُوا" ما به المحل يشغر من الحق ، ولا يكون ذلك ، ولو من باب التلازم الضروري في العقل ، لا يكون ذلك إلا أَنْ يُشْغَلَ بِضِدٍّ مِنْ بَاطِلٍ ، فكان احترازهم بالأمر بعد النهي ! أَنِ : (الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ، ومنه اللغو زُورًا يملأ المحل ، ومنه شبهات تقدح في صحة الوحي ، فهو الجنس العام الذي يَسْتَغْرِقُ مَا يُفْسِدُ التَّصَوُّرَ والإرادةَ كَافَّةً ، وَإِنِ انْصَرَفَ فِي هذا السياق إلى ما يُفْسِدُ التصور مما يكون من شبهات تبطل ، وإن كان من أخرى شهواتٍ ما يُفْسِدُ المحل فلا يقبل آثار الحق إذ تَضَلَّعَ من الباطل ، فمثله ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، مَثَلُهُ كمن تَعَاطَى الخبيث من المطعَم حتى امتلأ ، فهو يَزْهَدُ في غيرٍ ، ولو طَيِّبًا ، إذ تضلع من ضده ، فكذا الشبهات والشهوات إذا استولت على النفوس فلا يكون ثم محلٌّ لِضِدٍّ من الحق ، ولو وافق المنقول والمعقول ، إذ سكرة الباطل قد غَيَّبَتْ فكرةَ الحقِّ ، سواء أكانت سكرة شبهة أم شهوة ، فكان من اللغو في الوحي المنزل ما به امتناع البلاغ المجزئ ، على تفصيل في ذلك فهو محل قد أُجْمِلَ والحقُّ فيه قد ضاع بَيْنَ مَنْ أَفْرَطَ ومن فَرَّطَ ، فاشترط في البلاغ أن يجزئ في إقامة الحجة ، فَلَيْسَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، بلاغ الذكر المنطوق أو بلاغ الخط المكتوب وليس يحسن الناظر لسان الوحي ، فلا يكون بلاغ إلا بلسان القوم ، سواء أَتَعَلَّمَهُ المبلِّغ فذلك ، من وجه ، مما يجري مجرى الفرض الكفائي أم تعلمه المبلَّغ فلا تخلو حاله من إيجاب ، ولو في الجملة ، لا سيما إن كان ثم من ذكر النبوة الخاتمة ما بَلَغَهُ وهو كتابي أو باحث عن الحق بما حصل في نفسه من شك وحيرة فلا يحسم مادتها إلا الحق فوجب عليه من تحريه ما لا يجب في تحري المعاش ، وإن واجبا ، فإن المآل أشرف ومناطه من الروح أعلى فوجب من تحري مادته مَعَادًا ما لا يجب من تحري مادة البدن معاشا ، فوجب من البلاغ ما يجاوز حَدَّ الذكر المجرد إلى درك المعنى مكتوبا أو منطوقا سواء أتعلم المبلِّغ لسان المبلَّغ : فَرْضَ كفاية على أتباع الرسالة أم تعلم المبلَّغ لسان الوحي أم كان ثم لسان يشترك فيه المبلِّغ والمبلَّغ ، فالبعث ، كما تقدم ، مما يجاوز بَعْثَ الشخص فَقَدْ قُبِضَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولو كان وجوده في الحس مناطَ الحجة لبطلت بعد انقضاء جيله ، وهو ، ولو تَنَدُّرًا ، مما يصحح مذهب التاريخانية التي تروم حجب الوحي وقصره على جيله ، فلكلِّ جيلٍ من البنية ما استوجب التفتيش فيها دون نظر في سباق أو لحاق ، فيكون من التجريد ما يخالف عن القياس الصريح فلا يكون حكم يجزئ ولو في ظاهرة حس أو معمل إلا أَنْ يُسْتَقْرَأَ تاريخُها ، لا جرم كان من البحث في العلوم كافة ما اصطلح أنه تاريخ العلم ، والوحي أولى أن يكون من مادته ما يُؤَرَّخُ وَيُدَوَّنُ ، وإن كان ذلك أخص في الباب فليس التأريخَ الذي يَتَعَاطَى مع الظواهر المحدَثة دون رَدٍّ إلى مرجع يجاوز من خارج ، فَثَمَّ من استصحابِ المرجع المحكم في دراسة تاريخ الشرع المنزل ، فذلك تاريخ البعثة لا السلوى في مجالس السمر ! ، وإنما الحجة على جميع البشر ، فهو بحث في دلائل النبوة نَوْعًا وَشَخْصًا ، وبحث في أصل الخصومة في المرجع والمصدر ، وبحث في حجية الوحي مرجعا يجاوز من خارج ، ومبحث العموم في الحجية الذي استغرق المسائل كافة ، العلمية والعملية .
    فكان من امتناع العذاب ما حُدَّ بالغاية في قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، التخصيص المتصل بالغاية ، فَحُدَّ بالغاية وهي بعث الرسول على التفصيل آنف الذكر ، فهو بعث يجاوز الشخص إلى الوحي ، وشرطه قيام الحجة الصحيحة الصريحة مع انتفاء المانع ، وهو ، كما تقدم ، مما يَتَفَاوَتُ إذ الدور في وصفها تَتَفَاوَتُ وَإِنْ جَمَعَهَا وصفٌ أعم يخالف عن دين الحق ، فهي على دركات ، وكلما انحطت الدركة بُعْدًا مِنَ الوحي والنبوة كان العذر آكد ، إذ الجهل أعظم .

    والشاهد أن ثم من يعمل العمل مجزِئًا في القصد مخالِفًا عن الماهية المشروعة فالأصل ألا يجزئ إلا في أحوال مخصوصة ، كالجاهل الذي يعمل بقدر ما بَلَغَهُ من العلم ، أو يكون ثم من العمل المحدَث ، وذلك موضع يدق قد ذكره بَعْضُ من حقق فأنصف ، فيكون من العمل المحدَث ما هو باطل بالنظر في الماهية الشرعية قياسا ولكن قصد العامل قد خَلُصَ فَكَانَ من آثار العمل ما يَنْفَعُ لا أنه مشروع في نفسه وإنما احتفت به قرينة من خارج بما كان من قَصْدٍ حسن قد عُذِرَ صاحبه لا أن العمل صحيح فهو محدَث أبدا حَسُنَ قصد العامل أو سَاءَ ! ، وإنما كان عذر العامل بما نصح من قصده مع جهل بالماهية المشروعة فصار من العمل ما يَنْفَعُهُ وحده لما تقدم من قرينة من خارج قد احتفت بالعمل فذلك مما لا يطرد فَيَتَعَدَّى إلى كُلِّ أحدٍ فيحتج تال يضاهيه في صورة العمل المحدث : أن فلانا قد عمله فحصل له من النفع ما يعظم ، فذلك إنما حصل لمعنى باطن لم يحصل لتال قد ضاهاه في الصورة المحدثة دون أخرى باطنة قد نصح فيها القصد بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يطرد في العمل المشروع ، فيكون من صورته في الخارج ما استوى ويكون من قصد العاملين ما اختلف ، سواء أكانت القسمة على قصد صحيح وآخر فاسد ، أم كانت بين صحيح وأصح ، فَتَفَاوَتَ الخلق في القبول والرد ، بل كان تفاوت أخص في القبول ، وذلك رابع في القسمة آنفة الذكر إذ ثم من استوفى الشرطين : صحة العمل إذ وافق الماهية الشرعية المخصوصة وصحة القصد ، وَإِنْ تَفَاوَتَ ، وليس ذلك ، كما تقدم ، مما يدرك بالحس الظاهر ، لا جرم أنيط حكم الإجزاء في الدنيا خروجا من عهدة الشرعة ، أنيط بالصورة الصحيحة المجزئة إذ تواطئ الماهية الشرعية المنزلة ، وما كان من قصد باطن فليس من التكليف تَفْتِيشٌ في القلوب فَلَمْ يُؤْمَرْ صاحبُ الشرعِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يشق عن الجنان ليرى ما به من إيمان أو نفاق أو رياء إلا أن يُظْهِرَ صاحبُه من ذلك ما يستوجب الأخذ .

    وكذا الحال في حكومات الفقه ، وهو ما يَرُدُّ عجز كلام إلى صدره ، فإن الشريعة قد أنيطت بظواهر تدرك ، لا جرم كان من اقتصار بعض المذاهب على صحة العقد الظاهر وإن كان ثَمَّ قصد فاسد ما لم يُنَصَّ عليه في العقد ، فهو صحيح مع الإثم ، بل ثم من صَحَّحَهُ وَإِنْ نُصَّ فيه على الشرط الفاسد ، فالعقد صحيح والشرط باطل كما حكى الماوردي الشافعي في "الحاوي" عن أبي حنيفة رحمه الله ، في نكاح المحلل ، فَلَهُ في الباب قسمة قد اشتهرت في الأصول وبها ماز الباطل من الفاسد ، فالباطل ما لا يستدرك إذ أصل العقد باطل ، والفاسد مما كان أصله صحيحا فالنكاح ، بادي الرأي ، مشروع ، وإن كان من الشرط ما بطل ، فيبطل الشرط ويصحح العقد ، إذ متى أمكن تصحيح العقد بإبطال الشروط الفاسدة فذلك عند الحنفية ، رحمهم الله ، أولى على القسمة آنفة الذكر : قسمة الباطل والفاسد ، خلاف الجمهور إذ سَوَّوْا بَيْنَ الباطل والفاسد إلا في مسائل مخصوصة في الحج والنكاح ليس منها نكاح المحلل ، فمثله ، لو تدبر الناظر ، كمثل خطبة الرجل على خطبة أخيه ، فإذا أَتْبَعَهَا بالنكاح ، فالعقد صحيح عند الجمهور ، وإن أَثِمَ بما كان من خطبة على خطبة أخيه إذ استوفى عقدُ النكاحِ الشروطَ الظاهرة وإن دخله الإثم والتحريم فمن خارج لا من العقد نفسه فعقد النكاح ، كما تقدم ، مشروع في الأصل ، وبه فرقان آخر يميز المحرم لذاته ، وهو الباطل عند الحنفية رحمهم الله ، من المحرم لغيره ، وهو الفاسد عندهم وإن كان باطلا عند الجمهور ، فما حرم لغيره فهو صحيح في نفسه وإن أثم الفاعل بما قارف من المحرم ما لم يَنَلْ من أصل العقد فيكون محرما لذاته ، كما العقد على المحارم مثالا فهو بادي الرأي محرم لذاته بل هو سبب في نقض الإيمان كله إذ استباح بالعقد ما قد علم ضرورةً من الدين أنه محرَّم ، وأما العقد بعد خطبة على خطبة أخيه ، فذلك مما حَلَّ عند الجمهور ، فليس من المحرم ولو لغيره ، إذ عقد النكاح قد امتاز من الخطبة فليست عقدا وإنما هي وعد ، لا جرم كان قول الجمهور في هذا الموضع أن العقد صحيح مع الإثم ، ولو عند الحنابلة رحمهم الله وهم ممن لا يقول بانفكاك الجهة إذ ليس ثم بادي الرأي جهة تجمع الخطبة والنكاح ، فَالْأُولَى ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وعد لا يلزم ، والثاني عقد يلزم ، خلافا لمن قال باتحاد الجهة عملا بالظاهر ، وهو قول الظاهرية ، وإن لم يعتبروا في مواضع النَّوَاَيا والقصود عملا بظاهر العقد إذا صح فهو المعتبر في أحكام الفقه ، فقد اعتبروا في هذا الموضع إذ ثم نص يُصَرِّحُ ، وإن لم يكن في محل العقد ، على التفصيل آنف الذكر ، لا جرم لم يوافقهم الشافعية ، رحمهم الله ، في ذلك مع أنهم أقرب المذاهب إليهم في الأخذ بظواهر العقود دون نظر في النوايا والقصود ، على تفصيل في ذلك ، فالشريعة الظاهرة قد أنيطت بماهيات وأحكام منصوصة لا بِنَوَايَا وقصودٍ تخفى ، فإناطة الأحكام الفقهية بها تكليف بما لا يطاق إذ من ذا الذي يعلم ما في نفوس العباد إلا من خلقهم ، جل وعلا ، فكان النهي إذ : "نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلاَ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الخَاطِبُ" ، فاطرد في البيع كما الخطبة وهو مما عم فاستغرق قياسا سائر العقود من الإجارة ونحوه ، فالقياس في النهي : النهي أن يستأجر الرجل على إجارة أخيه ، وهو ، أيضا ، مما انفكت فيه الجهة ، فعقد البيع أو الإجارة صحيح مع الإثم إذ الحرمة ، كما تقدم ، من خارج العقد .

    وهو ، أيضا ، مما يطرد في عقود ظاهرها الصحة وباطنها رِبًا يَتَذَرَّعُ طرفاه أن يأكلوه بصورة ظاهرها الصحة وباطنها البطلان ، فَثَمَّ من يطرد الباب أن صورة العقد قد صحت في حكومات الفقه فهو صحيح مع إثمٍ يَنَالُهُ إذ أَكَلَ الربا وَإِنِ احتالَ بِعَقْدٍ صحيح بالنظر في الأركان والشروط ، وثم من قال إن الحرمة من داخل فهو من المحرم لذاته إن في المنصوص كما العينة أو ما قِيسَ على المنصوص من صور الحيل المحدثة التي عمت بها البلوى في الجيل المتأخر ، فكان النهي العام كما في الخبر أَنْ : "لا تَرتكِبوا ما ارتكبَ اليهودُ فتَستحِلوا محارمَ اللهِ بأدْنى الحيلِ" ، فذلك من النهي الذي يفيد التحريم بالنظر في أصل الوضع الأول في اللسان ، ولا ينفك يحكي العموم كما قال أهل الأصول والبيان ، إذ تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل "تَرْتَكِبُوا" ، وثم من الإجمال ما به التشويق ، فأجمل بما ارتكبت يهود عامة ، ثم خص ما كان من استحلال المحارم بأدنى الحيل ، فلا يخلو السياق من ذم مركب ، فاستحلال المحارم بادي الرأي مما يُذَمُّ ، فحسنت ، من هذا الوجه ، إضافتها إلى اسم الله ، جل وعلا ، تعظيما لها لا يخلو من أخرى فهي من إضافة الوصف إلى الموصوف إذ المحارم أحكام شرعية قد نَزَلَ بها الوحي ، وهو من كلام الله ، جل وعلا ، وكلامه من علمه ، فكل أولئك من وصفه ، عز وجل ، وذلك ، أيضا ، آكد في ذم من يستحلها إلا لضرورة هي الاستتثاء الذي يقدر بقدره ، وثم آخر في الذم إذ قيد بالحال "بأدنى الحيل" ، فلم يكن الاستحلال فحسب وإنما بأدنى الحيل حكاية الاستخفاف بحق الله ، جل وعلا ، وذلك من القبح بمكان بل هو من نواقض الإيمان استباحة للمحرم واستخفافا بحق الرب المهيمن ، جل وعلا ، ما لم يكن ثم عذر يعتبر لجاهل لا يعلم على التفصيل آنف الذكر .

    والله أعلى وأعلم .


  14. #14
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان من نهي عن أكل الربا ما حد خاصا في مواضع ، وعاما في أخرى ، وثالثا يجري مجرى الخبر كما تقدم من وصف يهود في سياق ذم مبدؤه ما كان من النقض ، نقض الميثاق الأول ، فـ : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ، فكان من المصدرية في النقض ما يدل على المعنى المجرد في الذهن ، وهو آكد في تَقْرِيرِ المعنى ، إذ الاسمية ومنها المصدرية ، تلك الاسمية حِكَايَةُ الثبوتِ والاستمرارِ ، فكان من النقض جناية قد استقرت ، وهو ما عَمَّ من وجوه ، فكانت الإضافة إلى الضمير المجموع في "نَقْضِهِمْ" حكاية عموم قد استغرق ، وهو ما به الجناية قد عظمت فتلك حال الجيل الأول من يهود ، إلا فئاما قد آمنت فلا يخلو العموم ، بداهة ، من تخصيص ، ولو آمَنَ قَلِيلٌ ، فـ : (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، فكان من تقديم الخبر صناعة في النحو إذ المبتدأ "أُمَّةٌ" نَكِرَةٌ فِي لَفْظِهِ ، فلا يجوز الابتداء بها ، وإن كان من وصفها تاليا ما خَصَّصَهَا ، فكان التخصيص بالوصف وهو الجملة "يَهْدُونَ" ، وذلك مما قارب بالنكرة حَدَّ التَّعْرِيفِ وإن لم يَبْلُغْهُ فالتخصيص بَيَانٌ ، ولو بعضا ، فَلَيْسَ بَيَانَ التوضيحِ كما التعريف الذي يُسَوِّغُ الابتداءَ مطلقًا ، خلاف التَّنْكِيرِ فلا يكون الابتداء إلا لِعِلَّةٍ كما استقرأ أهل الشأن ، ومنها أَنْ تُوصَفَ إِنْ بالمفردِ أو بالجملةِ ، كما في هذا الموضع ، فكان من الجملة المضارعة "يَهْدُونَ" ما به النكرة قد خُصِّصَتْ ، ولا تخلو من استحضار الصورة ، فذلك معنى يحسن ومن العدل والإنصاف أَنْ يُبْرَزَ ، ولو كان ثم خصومة مع قَبِيلِ يهود قد استحكمت إذ المجموع الغالب على ضِدٍّ ، فَهُوَ على باطل وضلال وَقَدْ عَلِمَ الحق فحاد عنه قَصْدًا ، فكان من الرَّبِّ ، جل وعلا ، أَنْ غَضِبَ ، فذلك حد المغضوب عليه إذ يعلم الحق ويحيد عن جادته قَصْدًا ، فأكثرهم قد ضَلَّ ، وَبَعْضٌ قَدْ هُدِيَ ، وتلك الأمة من قوم موسى عليه السلام ، وهي الجماعة من البشر ، فمادة "أُمَّةٌ" مطلق يحتمل كَثِيرًا وَقَلِيلًا ، والسياق هو القرينة التي تُرَجِّحُ ، فكان من الأمة : مادة الجمع ، وهو مَا أُطْلِقَ فِي الذِّهْنِ ، وله في الخارج آحاد تصدق ، إذ يكون من هذا الاجتماع معقول ، كما اجتماع الساعات والأيام في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ، فَادَّكَرَ بعد ساعات وأيام قد اجتمعت ، وكذا اجتماع الخلالِ التي تحمد حتى يكون الواحد أُمَّةً ، فذلك من التشبيه البليغ على تقدير : إن فلانا كالأمة من البشر إذ قد جمع من الخلال المحمودة ما كَثُرَ ، فحذفت أداة التشبيه وهي الكاف ، وحذف وجه التشبيه ، وهو ما أُفْرِدَ به الخليل ، عليه السلام ، فكان الأمة القانت ، وهو ما حكاه الوحي النَّازِلُ ، فـ : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، وذلك ما أُجْمِلَ "أُمَّةً" ثم كان بَيَانُهُ بالأخبار المتعاقبة من القنوت طاعة ، والحنيفية وبها العدول عن الشرك إلى التوحيد وهو ما أكد تاليا على حد التلازم ، فـ : (لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وذلك آكد في الدلالة إطنابا بالكون المنفي ، وهو أَبْلَغُ في الباب من القول في غير التنزيل المحكم : ولم يشرك ، أو : لم يك مشركا ، فَثَمَّ من زيادة "مِنْ" الجارة إذ لم يكن من معدن الشرك بل هو على ضِدٍّ تال في السياق ، فـ : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ، فَهُوَ من معدن الصالحين ، وذلك ، أيضا ، آكد في الدلالة من القول في غير التنزيل : وإنه صالح ، فكان من التوكيد بالناسخ واسمية الجملة وما زِيدَ من لام الابتداء المؤخرة أو ما اصطلح أنها المزحلقة ، ما زِيدَ منها فاتصل بالخبر "لَمِنَ الصَّالِحِينَ" ، فَأَطْنَبَ فِي بَيَانِ الأمة الجامعة للخلال المحمودة ، فَثَمَّ القنوت والحنيفية والشكر ، وَبَعْدَهُ اسْتِئْنَافٌ تَالٍ به زيادة المدح ، وهو ، أيضا ، مما يدخل في الحد : حد الأمة الجامع لخلالِ الحمدِ ، فكانت المنة الربانية اجتباءً واصطفاءً ، ولازمه ما تلا وهو المبيِّن ، لازمه ما تلا من الهدى ، وهو ما أُطْلِقَ فَاسْتَغْرَقَ البيانَ والإرشادَ وما تلا من توفيق وإلهام فذلك مما كان من الخليل ، عليه السلام ، بداهةً ، وَمِنْ ثَمَّ كان الإطنابُ بِوَعْدٍ قد استغرق الأولى والآخرة ، وهو ما حَسُنَ معه إسناد العامل إلى ضمير الجمع المتكلم في "آتَيْنَاهُ" ، ولا يخلو العامل : عامل الإيتاء أن يجاوز الإعطاء ، فالإيتاء مِنْحَةٌ لَا تُرَدُّ ، وهو ما يُرَجِّحُ في الحسنة عهدا أخص وهو النبوة ، فذلك تَكْلِيفٌ لا اعتذارَ فِيهِ ولا تَنَصُّلَ ، ولو وَرَعًا وَخَشْيَةً ، وَمِنْ ثَمَّ كان من الختام ما تَقَدَّمَ وصف الصلاح في الآخرة ، فاستغرق السياق شطري القسمة في الخارج : الدنيا وفيها الحسنة ، والآخرة وفيها الاصطفاء بدرجة الصالح ، وهو ما لا يخلو من دلالة العموم المستغرق وذلك ، أيضا ، ما قَدْ عَمَّ وجوه المعنى وآحادَ مَنْ وُصِفَ بِهِ في الخارج .
    فكان من وصف الخليل ، عليه السلام ، أنه الأمة الجامع لخلال الخير ، فـ : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهو ما أُكِّدَ بالناسخ "إِنَّ" فذلك الخبر المصدق ، والاسمية كذا تؤكد ، وثم من الخبر إطنابٌ بجملَةٍ صُدِّرَتْ بِالنَّاسِخِ ، ولا يخلو من دلالة الوصف الدائم ، فتلك دلالة "كان" إذ تفيد ديمومة الوصف في الزمن الماضي ، وذلك وضعها الأول في المعجم ، وقد يُزَادُ فيه مِنَ المعنى أَنْ جَاوَزَ الماضِي إلى الحاضر والاستقبال فَعَمَّ أجزاءَ الزمان كافة ، بل مِنْهَا الأول والآخر مطلقا ، وصف الله ، جل وعلا ، في نحوِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فذلك مما جاوز ، بداهة ، وضع المعجم الأول ، حكاية الماضي ، فَثَمَّ مِنَ القرينةِ وهي وصف الأولية والآخرية في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، فذلك المطلق الذي استغرق وجوه المعنى ، فتلك الأولية والآخرية المطلقة ، فكان منها أولية الذات والاسم والوصف كمالا مستغرِقا لِمَا حُمِدَ من المعاني التي تقوم بِذَاتِ الله ، جل وعلا ، فتلك قَرِينَةٌ رَفَدَتْ "كَانَ" آنفة الذكر فأفادت العموم الزماني المستغرق أَزَلًا وَأَبَدًا وَمَا بَيْنَهُمَا ، فالكمال في حَقِّ الله ، جل وعلا ، واجب ضروري في النقل والعقل كَافَّةً ، وهو ما عنه هذا الخلق قد صدر ، لا صدورَ الاضطرار معلولًا عن عِلَّةٍ مجرَّدَةٍ من الوصف مُعَطَّلَةٍ من الثَّنَاءِ والحمدِ ، مع ما انضاف إلى هذا المقال من القول بقدم العالم في الأزل إذ قَارَنَ العلة في الوجود وإن تَقَدَّمَتْهُ في الرتبة ، وذلك ما صَيَّرَ واجب الوجود لذاته : علَّةً فاعلة بالذات فهي توجب بذاتها إذ ليس ثم وصف به توجب من كلمة تكوين تصدرُ أو مشيئة تَنْفُذُ ، فكان من التعطيل ما ألجأ المعطِّل إلى هذا الاقتراح المجرد الذي يَتَحَكَّمُ فِي الباب وكأنه شَهِدَ ما كان أولا من الخلق ، وليس إلا التخرص والظن ، والصحيح أَنَّ الفعلَ الرباني ذُو علة ليست الذاتَ المجرَّدةَ ، وإنما ما قام بها من أوصاف الكمال المطلق ، وذلك القيام الأول المطلق ، إِنْ جَلَالًا أَوْ جَمَالًا ، وبهما ، كما تقدم مرارا ، إثبات الكمال المطلق ، فَشَطْرَاهُ في قسمة العقل : الجلال والجمال الذي ثبت أولا : أولية الإطلاق فلا يُضَاهِيهِ غَيْرُهُ ، لا في الوجود ولا في الرتبة إذ كان أولا ولم يكن شيء لا كما اقترحت الحكمة الأولى أن الأولية : أوليةُ الرُّتْبَةِ فقط فالوجود مشترك إذ العالم قديم كما خالقُه ، جل وعلا ، وذلك الشرك في الوصف وبه نَقْضُ التوحيد الذي جاءت به الرسالة ، فمنه توحيد الذات والوصف ، ومنه الأولية ، محل الشاهد ، فَقَدْ نَقَضَهَا مقالُ الحكمةِ الأولى ، وهو ما صار بَعْدًا ذريعةً إلى اتحاد وحلول قد تَفَاوَتَ ، فكان منه مقال قديم قد صَرَّحَ : وحدة أعيان وأبدان ، وكان منه تال قد تَلَطَّفَ ، وهو إثبات مطلق أول عنه العالمُ قد صدر ، وَفِيهِ قَدْ حَلَّ هذا المطلق ، ثم تَجَسَّدَ بَعْدًا ، فكان من ذلك ذَرَائِعُ تَوَسَّلَ بِهَا المثال السياسي المحدث : مِثَالُ الدولة التي جاوزت حد الإدارة والترتيب فكان لها ما جاوز من التحسين والتقبيح وما تلا من تَشْرِيعٍ يَأْمُرُ وَيَنْهَى ، فَقَدْ حَلَّ فيها المطلق الأول فَصَارَتْ مِثَالَهُ الشاهِدَ في الخارج ، وهو ما به اسْتَجَازَتِ الطغيان فَتَوَسَّعَتْ فِي الأحكامِ ، وصارت المرجع المجاوز من خارج ، فَهِيَ مثال الأول المطلق ، وهو خارج العالم ، وَإِنْ عِلَّةً فَاعِلَةً تَقَدَّمَتْهُ فِي الرُّتْبَةِ ، فَلَهَا امتياز منه يصدق فيها أنها المرجع المجاوز من خارج تماهيا مع المعاني الرسالية ، وإن خِدَاعًا ، فهذا أول كأول الرسالة قد جاوز من خارج ، وهو الخالق الفاعل ، فتجسد في الأرض ، كما تجسد قَبْلًا في مقال التثليث وهو مقال ديني ، فَتَجَسَّدَ في ناسوت المسيح عليه السلام ، فكذا التجسد في ناسوت الدولة وإن كان إلى المعنى أقرب منه إلى الحس ، فليس كتجسد اللاهوت في ناسوت المسيح وهو المحسوس في الخارج ، وكان من تال ما اقترح بَعْضٌ من حلول الروح التشريعية في آحاد من الخلق ، كما الوحي قد أخبر إِذِ : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، فكان من الإكليروس آحَادًا أو جمعا ، ما صار المرجع المجاوز من خارج فقد حَلَّ فيه لاهوت التشريع ، وهو ما اتُّخِذَ ، أيضا ، ذريعة لما تَقَدَّمَ من مثال الدولة فلها من الهيئات المجموعة من البشر من يضع الأطر والكليات وعنها يفرع الجزئيات ، فَثَمَّ من روح اللاهوت ، وإن حَدَاثِيًّا ، ما لا يخلو ، ولو لَازِمًا ، أَنْ يَدَّعِيَ الحلولَ ، ولو لم يعتقده الاعتقاد الاصطلاحي الأخص ، فَقَدْ حَلَّ فِيهِ واجبُ الوجودِ الأول بما له من وصف التشريع والحكم ، وإن كان له ، كما تقدم ، وصف هو إلى العدم أقرب ، مطلقًا بِشَرْطِ الإطلاقِ ، فكان من مقالٍ باطنٍ أول ما جَعَلَ ذلك ذريعة أَنْ تُطْلَقَ الأوصاف الإلهية على الإمام في الأرض ، فقد صار هو الإله الذي يحكم ، فحلت فيه صفات التشريع والحكم المطلق وصار هو المرجع المجاوز من خارج بما يوحي إلى الجمع من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وأحكامِ إباحةٍ وحظرٍ تُسَوِّغُ ما قال فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) ، و : (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مما الْتَزَمَهُ بَعْضُ مَنْ غَلَا في مقالِ الاتحاد فمدح فرعون فقد أدرك من سر الاتحاد ما لطف فكان هو مثال الجلال في الأرض ! ، وكل أولئك ، لو تدبر الناظر ، من شؤم العدول عن الاصطلاح الرسالي السالم من الاحتمال المجمل ، فالاحتمال مما يفتح الذرائع إلى وجوهٍ تَبْطُلُ ، وإن لم يقصدها المتكلم ، فالكلام يحتمل صحيحا ، كما اسم الواجب ، واجب الوجود لذاته ، فذلك اسم لا يخلو من حق ، ولو مجملا إذ اصطلاحه في الحكمة قد غَمُضَ ، وَالْأَوْلَى العدول عنه إلى الوصف الرسالي المنزل : وصف الأول الواجب ابتداء بكمال مطلق قد استغرق ما به أَثْنَى الله ، جَلَّ وَعَلَا ، عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فذلك الباب الخبري الذي لا يُتَلَقَّى إلا من الوحي الرِّسَالِيِّ ، فكان منه جملة وافرة من النصوص ، وبها كفاية في الباب قد أغنت عن اصطلاح الحكمة الأولى ، كما واجب الوجود لذاته ، وَإِنْ صَحَّ المعنى ، فالواجب الأول الذي قد كَمُلَ في ذاته ووصفه فلا يفتقر إلى غيره ، وليس ثم سبب من خارج يرفد ، فَكَمُلَ بذاته واسمه ووصفه وفعله وحكمه ، وكل أولئك مما قام بذاته ، فلم يستكمل بِسَبَبٍ من خارج ، بل الأسباب كلها عَنْهُ تَصْدُرُ : صدورَ المخلوق عن الخالق ، فالمشيئة هي المرجِّح ، وبها السبب يُوجَدُ من العدم ، وبها السبب يَفْعَلُ فِي الخارج بما رُكِزَ فِيهِ مِنْ قُوَّةِ التأثيرِ بما يواطئ أولا في التقدير ، وهي ، مع ذلك ، تأويل يَنْصَحُ إِذْ بها السبب يخرج من القوة إلى الفعل ، فالمشيئة الربانية وَقَدْ تَقَدَّمَهَا تقديرٌ أول محكم في العلم المحيط الذي استغرق الكليات والجزئيات كَافَّةً ، خِلَافًا لِمَا كَانَ من الحكمة الأولى من إِثْبَاتِ العلم الكلي المجمل دون آخر جُزْئِيٍّ يُفَصِّلُ ، مع أول هو إلى العدم أقرب فذلك ، كما تقدم في موضع ، المطلق بشرط الإطلاق أو قد قارب فلم يكن من إثبات الوصف إلا المجمل ، وهو ، لو تدبر الناظر ، إلى النفي والذم أَقْرَبُ ، وذلك من شؤم الخروج عن الجادة ، جادة النبوة والوحي أَنِ اسْتُبْدِلَ اصطلاحُ الحكمة المحدث بآخر هو الأنصح من اصطلاح الرسالة المنزل ، فَثَمَّ من الواجب الأول ما صح في المعنى وإن حدث الاصطلاح ، كما القديم مثالا ، فإن التقدم فيه مما احتمل المطلق والمقيد ، فالقديم المقيَّد هو ما كان أولا في بابه وليس مع ذلك الأول المطلق ، فذلك عهد خاص لا يجاوز في الإثبات واحدا هو القديم المطلق ، وَذَلِكَ في اصطلاح الرسالة يكافئ : الأول المطلق ، وهو الله ، جل وعلا ، فَصَحَّ من هذا الوجه : الإخبار عنه أنه القديمُ القدمَ المطلق فلا شيء عليه يَتَقَدَّمُ ، وباب الإخبار أوسع من باب الوصف المنصوص ، كما أن باب الوصف بالنظر في المنقول أوسع من باب الاسم فَلَيْسَ لكلِّ وصف اسم يواطئ بل ثم من الباب أفعال وأوصاف لم يأت الذكر الحكيم منها بأسماء وإن جَوَّزَ بعض الاشتقاق على تفصيل في الباب فقد اشترط في الوصف أن يكون الكمال المطلق وإن كان الأولى في الباب الاقتصار على المنصوصِ في باب الأصل فيه التوقيف فهو أعظم الغيوب فلا يُدْرَكُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاةِ الوحيِ المنزَّل ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ الإخبار به في الباب يُطْلَقُ في الأوصاف ، فإن مادة القديم قد صَحَّ معنَاهَا في الباب على التفصيل آنف الذكر ، إذ ثَمَّ مِنْهَا المقيد كما في قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) ، ومنها المطلق الذي يكافئ في الدلالة : اسم الأول ، فكان من الْقِدَمِ مادة تصح في المعنى ، ولكنها لا تحمل من الثَّنَاءِ ما يُحْمَدُ كما اسم "الأول" ، فامتاز الخبر الرسالي في هذا الباب خاصة ، وفي الغيبيات عامة ، بل وسائر المسائل الدينية ، امتاز بأسماء تحمد بِهَا بلاغ المعنى البلاغ التام ، مع ثَنَاءٍ يَلِيقُ بذي الجلال والإكرام ، جل وعلا ، فاسم الأول يفيد من الثَّنَاءِ ما لا يفيده اسم القديم ، أو واجب الوجود بذاته أو العلة الفاعلة .... إلخ من الاصطلاح المحدث إن في الكلام أو في الحكمة الأولى ، فَلَئِنْ صَحَّ استعمال الاصطلاح المحدث فذلك من الضرورة التي تقدر بقدرها ، فيخاطب به ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، يُخَاطَبُ به من لا يَفْقَهُ غَيْرَهُ لا سيما في مواضع الْحِجَاجِ الملزِم ، ولا يطلق القول به ، وإنما هو الإخبار ، والإخبار ، كما تقدم ، أوسع باب في الإثبات والنفي ، مع قَيْدٍ يوجب الاستفهام فلا يسلم لمن أثبت أو نفى حتى يستفصل المخاطَب عَمَّا أراد القائل من هذا الاسم الذي أخبر به ، أَقَصَدَ الحقَّ فهو يثبت وإن حسن العدول عنه إلى المكافئ الدلالي في الاصطلاح الرسالي فهو الأولى ، أم قَصَدَ غَيْرًا فهو يُنْفَى ، مَعَ قَدْرٍ فَارِقٍ آخر يدق ، وله عَنْوَنَ أهل الشأن بالاشتقاق : اشتقاق الاسم من الوصف ، فإن من شرطه الذي يميزه من الإخبار المجرد ، أن يكون الاشتقاق من وصف منصوص لا من معنى يطلق وإن صح له في الدلالة وجه معتبر ، وأن يكون هذا الوصف مما يحمد الحمد المطلق فلا يحتمل النقص ، ولو احتمالا ، فكان من الأولى في الباب الاجتزاء بما نَزَلَ من وحي السماء ، فذلك باب توقيف خبري ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، أصل يَطَّرِدُ فِي نُصُوصِ الوحي كَافَّةً ، الخبرية والإنشائية ، فهي المرجع المجاوز من خارج ، وبه حُسِمَ الضلالُ في العلم والعمل كَافَّةً .

    فَمُدِحَتْ أُمَّةٌ من قوم موسى ، عليه السلام ، مُدِحَتْ أَنْ هَدَتْ بِالْحَقِّ ، وذلك المضارع وبه استحضار لمعنى يحمد ، فـ : (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، وثم من القيد بالحال "بِالْحَقِّ" : فذلك دليل الملابسة ، على تقدير : يهدون حال كونهم مُحِقِّينَ أو مُتَلَبِّسِينَ بالحق ، مع دلالة تعليل ، فالباء نَصٌّ فيه ، فَيَهْدُونَ بِسَبَبٍ هو الحق الرسالي الذي نَزَلَ عَلَى موسى ، عليه السلام ، وذلك العموم المستغرق ، فَثَمَّ حق خبري يَصْدُقُ وثم آخر إنشائي يَعْدِلُ ، وهو ما خُتِمَتْ به الآية ، فَقُدِّمَ الظرف "بِهِ" وحقه التأخير ، حكاية ما اطرد فِي مَقَالِ الْبَيَانِيِّينَ إذ تقديم ما حقه التأخير مَئِنَّةُ حَصْرٍ وَتَوْكِيدِ مع المضارعة آنفة الذكر ، إذ بها استحضار المعنى ، مع اتصال زمان يستغرق ، فإن ذلك مما صدق بَعْدًا في يهود لم يشهدوا رسالة التوراة إذ تَتَنَزَّلُ ، ومنهم الحبر ابن سلام رضي الله عنه مثالا ، وذلك ما يصدق في كل من آمن من يهود ، إذ هَدَى بالحق خَبَرًا يَنْصَحُ الاعتقاد ، وبه عَدَلَ في الأحكام ، ولا يكون ذلك إلا أن يصدق ميثاق الكتاب الأول ، وهو الميثاق العام الذي تقدم : (إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، فكان منهم أمة صدقت الميثاق الأول وتأولته أَنْ صَدَّقَتْ بالوحي المحكم آيا وخبرا ، فآمنت بالملزوم واللازم كَافَّةً ، الملزومِ الأول من الميثاق التوراتي ولازمِه إيمانًا بالوحي الخاتم إذ بَشَّرَ به الكتاب السابق ، وهو ، لو تدبر الناظر ، فَرْضٌ في الباب يطرد ، فمنه حق خاتم فَرْضُهُ الطاعةُ تَصْدِيقًا وَامْتِثَالًا ، وهو ما أُطْلِقَ في مواضع من التنزيل ، كما قَصَّ الوحي من وصف من آمن ، فـ : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ، فَثَمَّ القصر بالأداة "إِنَّمَا" وهو دليل في الباب يحكي التوكيد ، وإن كان في الباب الأدنى ، فذلك من البداهة بمكان ، فهو شرط في حصول الإيمان المجزئ ، ولو المطلقَ الأول ، وثم كينوية تحكي ، كما تقدم ، ديمومة الوصف في زَمَنٍ قد انْقَضَى ، وثم من القرينة : قرينة التكليف وهو ما يعم المحال والأحوال كافة ، وَإِنْ مباحاتٍ لا يتناولها التكليف بادي الرأي ، فكان من ذلك قرينة جاوزت بالكينونة الماضية فهي تستغرق الحاضر والاستقبال ، وزيادتها في نفسها حكاية أخرى في الدلالة بما اطرد من قَوْلِ الْبَيَانِيِّينَ إذ الزيادة في المبنى مَئِنَّةُ أخرى في المعنى ، فكان قولهم السمع والطاعة إذا دُعُوا إلى الله ، جل وعلا ، ورسولِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتلك دعوة إلى الوحي آيا وخبرا ، وبه الحكم في مواضع الخلاف كافة ، إِنِ الاعتقادَ أو القول أو العمل ، فحكومة الوحي قد استغرقت المسائل كافة ، فأطلق العامل "لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ" فَتِلْكَ حكومة قد عَمَّتْ ، والإطلاق فِيهَا قَدِ اسْتَغْرَقَ وجوهَ المعنى ، وهو الحكم المطلق مِنْ خَارِجٍ إذ يقضي في الخصومات الدينية ، الخبرية والإنشائية ، والإطلاق ، من وجه آخر ، قد اسْتَغْرَقَ وجوه الاختلاف ، فيحكم الحكم المطلق من خارج ، ويحكم في المسائل كافة ، فلا يكون من الجمع المؤمن إلا أن يسمع ويطيع ، وذلك من عطف التلازم إذ السمع أولا فهو مبدأ التكليف دَرَكًا لمسموع رسالي : خَبَرِيٍّ أو إنشائي ، ومن ثم تكون الطاعة ، ومعناها قد عَمَّ فَجَاوَزَ إذ ينصرف ، بادي الرأي ، إلى طاعةِ الأحكامِ العملية ، فَثَمَّ من الدلالة ما استغرق الأخبار ، فالطاعة في الأحكام : امتثال ، وفي الأخبار : تصديق ، وثم من الختام وصفٌ يمدح ، ولا يخلو العطف في هذا الموضع أن يكون عطف مسبَّب على سَبَبِهِ ، فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ من المبادرة سمعا وطاعة : سَبَبٌ فِيمَا تَلَا من وصف الفلاح ، وهو ما حُدَّ على وجوه من التوكيد تحسن في مواضع الحض ، فَثَمَّ الاسمية في قوله تعالى : (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، وهي في الباب قياس فلا تخلو من ثبوت واستمرار ، وثم القصر بتعريف الجزأين "أُولَئِكَ" و "الْمُفْلِحُونَ" ، وَثَمَّ الفصل بالضمير "هُوَ" فهو يميز الخبر من الوصف ، ولا يخلو في نفسه أن يُؤَكِّدَ ، ولا تخلو إشارة البعيد في "أولئك" أن تحكي زيادة في المدح فالبعد فيها مئنة علو في الدرجة ، فاجتمع فيها علو المشيرِ ، جل وعلا ، وعلو الْمُشَارِ ، فذانك وجهان في الدلالة قد اشْتَرَكَا في الجنس الدلالي المطلق : جنس العلو مع اختلاف المتعلَّق ، ولكلٍّ وجهٌ في الدلالة يحمد ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الجمع إذ لا تَعَارُضَ بل كلٌّ يَرْفِدُ السياقَ بِزِيَادَةٍ ، وبه ، كما تقدم في مواضع عدة ، به يستأنس من يجوز دلالة العموم في اللفظ المشترك ، وثم من عنوان الفلاح ما حُدَّ اسما قد استغرق ، سواء أَحُمِلَتْ "أل" عَلَى بَيَانِ الجنس واستغراقِ آحاده أم كانت الموصولة إذ دخلت على اسم قد اشتق ، فتأويلها من هذا الوجه : وأولئك هم الذين أَفْلَحُوا ، فَثَمَّ صلة قد أطلقت مادتها فاستغرقت وجوه الفلاح كافة ، مع عموم قد استغرق الآحاد ، فتلك دلالة الواو : واو الجمع .
    ومن ثم كان من الشرط تَالٍ قد أطنب ، فـ : (مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ، فكان من الطاعة ما قد عَمَّ الله ، جل وعلا ، ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتلك ، كما تقدم ، طاعة الوحي آيا وخبرا ، وكان من الخشية أولا وهو ذريعة لِمَا تَلَا من التقوى ، فلا تكون إلا أَنْ تَسْبِقَهَا الخشيةُ ، ولا تكون الخشية إلا أَنْ تُسْبَقَ بِتَصَوُّرٍ يَصِحُّ ، فيكون من الخبر ، خَبَرِ الإلهياتِ جلالا ، يكون منه سبب يحمل على الخشية ، وذلك مما انفرد به الله ، جل وعلا ، خلاف الطاعة التي استغرقت ، كما تقدم ، اللهَ ، جل وعلا ، ورسولَه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ومن ثم كان الجواب المصدَّر بالفاء في قوله تعالى : (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) ، وتلك حكاية فَوْرٍ وَتَعْقِيبٍ وهو آكد في الحض بما ذكر من وصف يُثْنِي بخير ، فَثَمَّ معنى أعم وهو مطلق العطف كما الواو والأداة "ثُمَّ" ، وثم معنى أخص وهو الفور والتعقيب آنف الذكر ، وثم دلالة السببية ، فلا تخلو منها فاء وإن لم تكن نصا في الباب ، مع أول يجب في الاصطلاح : فاء الربط التي تقرن الجواب بالشرط في أحوال مخصوصة منها أن يكون الجواب جملة اسمية ، كما في هذا الموضع ، وما قِيلَ في الفلاح آنفا يقال في الفوز تاليا ، فقد حُدَّ ، أَيْضًا ، حَدَّ الاسمية مع القصر بتعريف الجزأين "أولئك" و "الفائزون" وضمير الفصل "هو" ، وإشارة البعيد في "أولئك" تعظيما للمشير والمشار إليه ، مع عموم "أل" في "الفائزون" : حكاية العموم المستغرق لوجوه المعنى ، وآخر قد استغرق آحاد الفائزين في الخارج ، فلا فَوْزَ في هذا الباب إلا لمن امتثل ما تَقَدَّم من السمع والطاعة والخشية والتقوى ليكون الفلاح والفوز ، فلا يخلو السياق الخبري من لازم إنشائي يحض أَنِ : اسمعوا وأطيعوا واخشووا واتقوا لِتَنَالُوا وعد الفلاح والفوز ، وذلك الطرد ، وثم آخر يلازم مَفْهُومًا يُخَالِفُ ، فَمَنْ لم يمتثل ما تَقَدَّمَ فليس إلا الخسران ، وهو ما استوجب النهي عن أضداد من الإعراض والعصيان والأمن اغْتِرَارًا والفجور ، فَثَمَّ طرد وعكس حكايةَ منطوقٍ ومفهومٍ ، وهو ما اطرد في نصوص الوحي خبرا أو حكما ، وهو ، من وجه آخر ، حكاية التلازم ضرورة بين لازم وملزوم ، إذ إثبات الشيء يستلزم نَفْيَ ضِدِّهِ ، كما أن الأمر بالشيء يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عن ضده .

    والله أعلى وأعلم .


  15. #15
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وذلك عنوان قد اطرد في مواضع عدة من التنزيل المحكم ، وهو الأصل الديني الأول توحيدا ، فمنه توحيد المرجع المشرع ، طاعة لله ، جل وعلا ، وطاعة للمرسَل صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ، وهو مما يجري مجرى التلازم الضروري بين شَطْرَيِ الشَّرْطِ والجوابِ ، فتوحيد المرسِل ، جل وعلا ، لا يكون إلا بِتَصْدِيقِ مَنْ أَرْسَلَهُ إذ يحمل منه رسالةَ خبرٍ أو حكمٍ ، فالإيمان بالله ، جل وعلا ، إبمان بكلامه ، وكلامه وحي يَتَنَزَّلُ ، فالملَك يحمله والرسول يُبَلِّغُهُ ، ومادته الخبر والإنشاء ، كلمات الصدق والعدل ، فكان من ذلك ما استوجب الإيمان بالرسول الملكي ونظيره البشري ، وما تحمله كلٌّ إذ يبلغ فهو واسطة بين اثنين ، فالملَك : واسطة بين الله ، جل وعلا ، والرسول الأرضي ، والرسول الأرضي واسطة بين الملَك وَمَنْ قَبْلَهُ فِي سِلْسِلَةِ الإسناد فهو رَبُّ الأرض والسماء ، جل وعلا ، وذلك أصل الإسناد إذ هُوَ الأول فَلَيْسَ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَعَنْهُ الكلم الخبري والإنشائي يصدر صدورَ البدءِ المطلق ، فلا أول إلا هو أَوَّلِيَّةَ الأزلِ في الذات والاسم والوصف والفعل والحكم ، وإن كان من آحاد الأفعال ما يحدث إذ يُنَاطُ بِمَشِيئَةٍ تُرَجِّحُ ، وهي أَثَرُ القدرةِ ، ولا تَنْفَكُّ تَأْرِزُ إلى أول من العلم والحكمة ، فذلك المناط العدمي في الأزل ، إذ ليس ثم إلا الله ، جل وعلا ، فما سواه فَهُوَ عَدَمٌ لَمَّا يُوجَدْ ، فَلَهُ وجود القوة بما تَقَدَّمَ في العلم الأول ، وليس يوجد بالفعل إلا أن يكون تَالٍ يُرَجِّحُ من قدرة ومشيئة بها الخلق الأول يُتَأَوَّلُ فَيَخْرُجُ مِنَ القوَّةِ إلى الفعلِ ، من العدم إلى الوجود ، فيكون من آحاد الأفعال في الخارج تَأْوِيلٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الأوصافِ ، أوصافِ الأفعال إذ نوعها يقدم ، وآحادها في الخارج تحدث بما يصدق ما كان أولا إذ تَأْرِزُ إلى علم أول يحيط ، فكان من طاعة الرسول الذي يُبَلِّغُ واسطةً بين الحق ، جل وعلا ، والخلق ، كان منها أول هو الشرط ولازمه جواب يحرض ، فـ (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ، إذ طاعة الله ، جل وعلا ، هي المبتغَى الأول لدى كلِّ أحدٍ يُكَلَّفُ ، فَثَمَّ التلازم بَيْنَ الشرطِ والجوابِ ، فإن كلام الوحي الذي يُطَاعُ هو ما يُبَلِّغُهُ المرسَل عن المرسِل ، جل وعلا ، والمرسلَ ، كما تقدم ، اثنان في الواسطة وإن أُفْرِدَ لفظه ، فَثَمَّ الرسول الملكي المغيَّب الذي يَتَحَمَّلُ كَلِمَ الوحي عن الرب المهيمن ، جل وعلا ، وَيَنْزِلُ به على قلب الرسول الأرضي المشهود ، وهو الواسطة بين الحق ، جل وعلا ، وسائر الخلق ، فدلالة "أل" في "الرَّسُولَ" ، من هذا الوجه ، تحتمل ، فهي تحتمل العهد الخاص ، وهو صاحب الشرع الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وتحتمل ، من آخر ، عموما يستغرق ، إِمَّا العموم الأعم الذي يستغرق الرسل كافة ، فهو يستغرق رُسُلَ الملَك وَرُسُلَ البشر ، عليهم السلام جميعا ، سواء أكان الملَك نازلا بكلم تكوين نافذ أم بآخر من التشريع الحاكم ، وَثَمَّ من العموم آخر لا يجاوز رسل البشر لقرينة الطاعة وهي تكليف ولا يكون إلا بِتَشْرِيعٍ خَبَرِيٍّ يُصَدَّقُ وإنشائِيٍّ يُمْتَثَلُ ، فكان من الطاعة قَرِينَةٌ تصرف الرسالة إلى التشريعية الأخص ، رسالةِ الأمر والنهي ، وهي مَا خُتِمَ بالكتاب المهيمن ، وذلك مِمَّا يُوجِزُ دلالة العموم في عهد خاص هو الرسول الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من العموم ما استغرق ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو مما خُصَّ بالعقل فتلك الطاعة في الشرع لا في أمر من أمور الدنيا ، كما في حديث بريرة ، رضي الله عنها ، فَقَدْ تَشَفَّعَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمغيث ، رضي الله عنه ، فكان من الاستفصال في مقام الإجمال ما أبان عن ماهية الطاعة الواجبة ، الطاعة في الشرع لا في أمر الدنيا ، فَلَمْ تَقْبَلِ الشفاعة أَنْ كانت في أمر دنيا لا في أمر دين فلا خيرة لها ولا لأحدٍ إن كان الأمر واجبا في الشَّرْعِ ، فَثَمَّ من عنوان الطاعة ما قد عَمَّ إذ أُطْلِقَ العامل "يُطِعِ" ، فاستغرق وجوه المعنى فتلك الطاعة التامة التي يُبَادِرُ صاحبها فلا يتأخر ، فآية الطاعة أَنْ يَنْشَطَ المكلَّف في التصديق والامتثال ، وذلك وجه عموم آخر يجاوز المتبادر من الطاعة إذ تَنْصَرِفُ إلى الأعمال امتثالا ، وهو ما يستغرق الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ ، فالعموم يجاوز الطاعة في الأعمال امتثالا إلى آخر في العلوم تصديقا ، فَثَمَّ طاعة تامة يُبَادِرُ صاحبها فهو يصدق ويمتثل ، وذلك التَّرْتِيبُ الناصح في القياس إذ التصور يسبق الحكم ، فَثَمَّ طاعة في العلم بِهَا التصديق وهو الأول تَصَوُّرًا ، وَثَمَّ تَالٍ من الحكم فهو فَرْعٌ عَلَيْهِ يَلْزَمُ ، فيكون من طاعة الأعمال ما يُصَدِّقُ ، وهما ، من وجه آخر ، قسيمان لمعنى ديني يجزئ وهو الإيمان فَحَدُّهُ في الاصطلاح : القول والعمل ، فالقول تصور ، والعمل حكم ، وَبَيْنَهُمَا تلازم ، من وجه ، إذ الحكم ، كما تقدم ، فرع عن التصور ، وَتَقَاسُمٌ من آخر إذ بهما حصول الحقيقة الإيمانية المجزئة في بابها ، فكان من الطاعة ما عَمَّ إِنْ عمومَ المعنى ، أو آخر يستغرق آحاد التكليف الخبري أو الإنشائي ، وَثَمَّ من العموم أول ، وهو عموم الشرط ، وهو ، كما قَرَّرَ أهل الأصول ، نص في الباب ، باب العموم ، فجاوز المتبادر من وضعه الأول في المعجم إذ يحكي القسيم المؤنث في باب النوع ، وجاوز الواحد في قسمة الأفراد في الخارج فالتكليف قد اسْتَغْرَقَ الجمعَ كَافَّةً ، فكان من طاعة الرسول الذي بُعِثَ بمادة الخبر والحكم ، كان من طاعته سبب في حصول الغاية : طاعة المرسِل ، جل وعلا ، وبهما تأويل الشهادة التوحيدية : فَثَمَّ توحيدُ المرسِل ، جل وعلا ، ألا معبود بحق إلا هو ، وَثَمَّ شطر تال وهو توحيد المرسَل صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي بُعِثَ بالكلمات التوحيدية الصادقة وأخرى هي التشريعية الحاكمة ، والأخيرة ، لو تدبر الناظر ، لا تخلو من عنوان توحيد ، وإن كانت من مسائل التكليف في العمل ، فَثَمَّ توحيد المرجع الحاكم ، فكان من الرسالة ما جاوز العقول فحكم فيما اختلفت فيه من الأمور ، فالشطران قد تلازما إِنْ طاعةً أو توحيدا ، على تأويل : من يُوَحِّدَ الرسولَ لا أن يكون من ذلك عبادة ، فذلك ، بداهة ، مما انْتَفَى فِي النَّقْلِ والعقلِ كَافَّةً ! ، فـ : (لَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، فَثَمَّ من النَّفْيِ ما استغرق إذ تسلط على المصدر الكامن في الفعل "يَأْمُرَكُمْ" ، فلا يَأْمُرُكُمْ أَيَّ أَمْرٍ ، فذلك مما انْتَفَى في النقل والعقل ، وثم من الإطناب حكايةٌ تَسْتَغْرِقُ أجزاءَ الزَّمَانِ ، من وجه ، ولا تخلو من مضارعة بها استحضار الصورة ، مع إطناب تَالٍ إذ ثم من "أَنْ" ومدخولها "تَتَّخِذُوا" ، ثم منهما تأويل المصدر على المفعولية الثانية فتقدير الكلام : ولا يأمركم اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، على القول إن "أَمَرَ" مما يَتَعَدَّى إلى المفعولين كما في البيت المشهور :
    أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ******* فقد تركتك ذا مال وذا نشب .
    وثم من قدر الباء محذوفا على تأويل : ولا يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، فيجري ذلك مجرى المجاز عند من يثبته في اللسان والوحي ، فذلك مجاز الحذف ، وهو ما اصطلح خاصة أنه الحذف والإيصال ، إذ اطَّرَدَ في حَذْفِ الجارِّ الداخل على المصدر المؤَوَّل من "أَنْ" ومدخولِها .
    ولا يخلو الإطناب آنف الذكر : الإطناب بالحرف المصدري "أَنْ" وما دخلت عليه من العامل "تَتَّخِذُوا" ، لا يخلو من زيادة في المعنى فهي تحكي أولى في المبنى مع دليل آخر يزيد في المعنى ، وهو الاستغراق الزماني حاضرا واستقبالا ، فذلك من المحكم غير المنسوخ بداهة ، فلا يُتَصَوَّرُ نسخُه إذ يخالف عن قياس العقل المحكم ، فَإِنَّ عبادةَ غيرِه ، جل وعلا ، ذلك مما يُجَافِي الْحُسْنَ الضروريَّ فِي العقل ، فَشُكْرُ المنعِمِ مما حَسُنَ ضرورةً في العقل والفطرة ، وضدُّه من الجحود والكفران يَقْبُحُ ، وهو ما قد جاء الشرع له يُوَاطِئُ ، فَإِنَّ في العقل قوة تحسين وتقبيح معتبرة لا سيما في العلوم الضرورية كما المسائل التوحيدية ، فكان من الحسن والقبح في الشرع ما واطأ أولا قَبْلَ ورود الوحي ، فالوحي لا يأتي بمحالات في العقل وإنما يأتي بمحارات لا يُدْرِكُ العقل ماهيتها في الخارج ، وإن أَدْرَكَ مِنْ مَعَانِيهَا الواجب ، كما أسماء الله ، جل وعلا ، وصفاته وأفعاله وأحكامه ، أو الجائز كما سَائِرُ الْغَيْبِيَّاتِ ، فَإِنَّ الوحي فيها لا يخالف عن المعقول الضروري ، فكان من عنوان التحسين والتقبيح في الملة الخاتمة : جَامِعٌ محكَم قد استغرق الشرع والعقل كافة ، فالمبدأ تحسين وتقبيح في العقل بما رُكِزَ فِيهِ من قُوَّةِ النظر الضروري ، وهو مُعْتَبَرٌ في التعليل لا أنه يجزئ في إنشاء التشريع الحاكم ، فلا يكون الإنشاء إلا بِنَصٍّ من الشرع ، فالشرع مُنْشِئٌ والعقل مُعَلِّلٌ ، وذلك العنوان الجامع في بابه : باب التحسين والتقبيح ، خلافا لمن قال إنه عقلي كلُّه فَجَفَا الشرع أو قال بِضِدٍّ فالتحسين والتقبيح شَرْعِيٌّ كلُّه فَجَفَا العقلَ ، فكان من الجائز أَنْ يَأْمُرَ الله ، جل وعلا ، بالشرك أَنْ تُتَّخَذَ الملائكة والنبيون أَرْبَابًا من دون الله ، جل وعلا ، فَلَوْ أَمَرَ بِهِ لكان حسنًا ! ، وذلك إبطال لما استقر ضرورة في الوجدان ، ولكنه لم يَأْمُرْ فكان قبيحا من هذا الوجه وحده ، والصحيح أن الوحي قد جمع دلالة النقل المصحَّح وأخرى من العقل المصرَّح ، فَلَمْ يكنِ الأمرُ باتخاذهم أربابا ، بل كان ضد من النهي ، وهو ما استفيد من النفي في قوله تعالى : (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) ، فدلالته تلازما في العقل إثباتُ ضِدٍّ من النهي ، فلا يأمركم بكذا ولازمه النهي عنه ، وهو ما أُتْبِعَ بالاستفهام الإنكاري الإبطالي : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، فذلك مما امتنع ضرورة ، وكان من الطباق ، ولو غير تام ، بين الكفر والإسلام ، فالتام منه بَيْنَ الكفر والإيمان ، أو بَيْنَ الشرك والإسلام ، فكان من الطباق ما يزيد المعنى بَيَانًا إذ بضدها تَتَمَايَزُ الأشياء ، ولا يخلو السياق من دلالة تأويل تَلْطُفُ ، إذ دَارَ المعنى في قوله تعالى : (أَنْ تَتَّخِذُوا) ، دَارَ بين عدم الحذف فَيَتَعَدَّى الفعلُ "يَأْمُرَكُمْ" إِلَى المفعولين ، فَدَارَ بَيْنَ عَدَمِ الحذفِ والحذفِ على تقدير الباء ، فلا يأمركم باتخاذ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا ، فَرَجَحَ الأول إذ هو الأصل في اللِّسَانِ ، فالأصل فيه عدم الحذف ، وذلك الراجح ، فَعَدَلَ عنه إلى المرجوح ، وهو الحذف بما اشْتُهِرَ في لسان العرب أن الفعل "يَأْمُرُ" مما يَتَعَدَّى إلى المفعول الثاني بواسطة هي الباء ، وكان من ذلك تأويل في الاصطلاح المتأخر إذ هو ، كما تقدم في مواضع ، العدول عن الراجح إلى المرجوح ، ولا بد من قَرِينَةٍ تشهد ، فكان من تَالٍ تأخر في قوله تعالى : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، ومحل الشاهد منه تَعَدِّي الفعل بالباء فِي "أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ" ، كان منه دليلُ تَرْجِيحٍ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَذْفِ الباء في شطر أول من الكلام ، فَتِلْكَ القرينةُ فِي التَّأْوِيلِ آنفِ الذِّكْرِ ، وإن كان فِيهَا مِنْ خلافِ أولى في اللِّسَانِ إذ دَلَّ المتأخر المذكور على المتقدم المحذوف ، والأصل عكسٌ : أَنْ يَدُلَّ المذكور المتقدِّم على المحذوف المتأخر ، إذ يَثْبُتُ فِي الذهن أولا ويكون منه مرجع إِلَيْهِ يَأْرِزُ المتأخِّرُ لا أن يكون من الإجمال في المتقدِّم ما يَفْتَقِرُ إلى تَالٍ يتأخر ، وإن صح ذلك حال التجريد فمناط الأمر حصول الدليل الشاهد تقدم أو تأخر فَلَئِنْ لَمْ يَثْبُتْ مرجعٌ أول من متقدم فقد ثَبَتَ تَالٍ من متأخِّرٍ .

    والشاهد أن التوحيد الذي به تأويل ما تقدم من الطاعة في قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ، أَنَّ هذا التوحيد هو الواجب الأول والأصل المحكم لما تَلَا من اعتقاد وقول وعمل ، فَمَنْ يُوَحِّدِ الرسولَ فَقَدْ وَحَّدَ المرسَل ، جل وعلا ، وتوحيد الرسول بَدَاهَةً ليس عبادته فذلك مما نُفِيَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، إذ يخالف عن الأدلة كافة : النقل والعقل والفطرة والحس ، وإنما توحيده أَنْ يُتَّخَذَ ما جاء به الوحي مرجعًا لا غيره ، فلا يشرك المكلَّف به مرجعا آخر من الأرض يحدث ، فمن كان منه ذلك فَقَدْ وَحَّدَ الله ، جل وعلا ، وذلك ما عم لا كالأول ، فَعَمَّ تَوْحِيدَهُ ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنْ يُتَّخَذَ كلامُه الذي نَزَلَ ، أَنْ يُتَّخَذَ مَرْجِعَ التصور والحكم في مسائل الديانة كافة ، وتوحيده أن يكون المعبود وحده بحق ، فذلك ، لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ ، عنوانٌ يستغرق المسائل الدينية كافة ، الخبرية والإنشائية ، فَمَرَدُّ الجميعِ إلى شهادة التوحيد ، وَهِيَ شَطْرَانِ قَدْ تَقَدَّمَا ، توحيد المرسِل ، جل وعلا ، وهو توحيد العبادة والطاعة بما كان من وحيٍ قد جاء بكلمات الصدق الخبرية وكلمات العدل الإنشائية ، وتوحيد المرسَل صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتصديقه فيما أخبر وطاعته فِيمَا أَمَرَ واجتنابِ ما قد نهى عنه وَزَجَرَ ، فَثَمَّ التلازم الضروري الذي يستغرق المسائل كافة ، ومنها الربا محل الشاهد ، فَثَمَّ من مراجعة العناوين الدينية الأعم مَا يُبِينُ عن أصول جامعات ، ومنها الطاعة المطلقة فلا يَتَوَقَّفُ الناظر فيها إذ قد آمن بأول من دعوى النبوة ، فإذا ثبتت لدى المستدل بما كان من أدلة في الباب قد كثرت ومنها ، كما تقدم في مواضع عدة ، منها ما تَنَاوَلَ المسلك النوعي : إثبات الجنس الأعم : حاجة الخلق إلى النبوات إذ بها صلاح الحال والمآل ، بل وصلاح الدنيا في أمور المعاش والرزق ..... إلخ ، فإن النبوات قد حررت معنى العدل وبه قيام السماوات والأرض ، وأي عدل أعظم من التوحيد أَنْ يُصْرَفَ واجبُ الشكر لمن يستحق ، وهو المنعم ، وأي ظلم أعظم أن يُشْكَرَ مَنْ لَمْ يُنْعِمْ وَيُجْحَدَ فَضْلُ مَنْ أَنْعَمَ ، فكان من ذلك ما استوجب النظر والتدبر في آي التكوين : الآفاقية والنفسانية فهي ، من وجه ، تحكي دليل الاختراع والإبداع لا على مثال سابق ، وهي ، من آخر ، تحكي دليل العناية بما كان من إتقان الخلق وجريان الأسباب بالرزق بما يصلح الحال والمآل كافة ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فقد وجب ضرورة من العدل أَنْ يُشْكَرَ الخالقُ المنعِم ، جل وعلا ، فذلك أصل في العدل وما بعده في الخبر والحكم له تَالٍ ، ومنه الربا ، محل الشاهد ، فإن العدل في الاقتراض أَنْ يُرَدَّ المثل بآخر ، فلا يزيد في القسطِ ما يَظْلِمُ المقترِض وهو ما يَتَسَلْسَلُ إذ يظلم المقترِض غيرَه بما يكون من صَنْعَةٍ أو نحوه فَيَزِيدُ في ثمنِها لِيَرُدَّ منه قسط الربا الجائر ، فيكون من التضييق في المعايش بما يكون من الغلاء الزائد لِجَبْرِ ما زاد من الربا ، فكلٌّ يظلم غيره فلا يكون ثم عَدْلٌ ، فَيَتَسَلْسَلُ الظلم بين العامة فمن زاد أولا لِيَفِيَ بِقِسْطِ الربا ، فهو يجهد تاليا ، والتالي إذ بَذَلَ من السعر ما غلا ، فهو يظلم في صنعته إذ يزيد في ثمنها لِيُعَوِّضَ ما بَذَلَ من زيادةٍ أولى ..... إلخ ، فيزيد السعر وتضيق المعايش وليس يَنْتَفِعُ إلا المرابي فهو أول في الظلم بما يكون من الغلاء ، وهو أصلُ الإسناد الْمُسَلْسَلِ ، وهو الرابح الأكبر إن لم يكن الأوحد وَإِنْ أَضَرَّ بغيره بما يحتكر من الثروة إذ ماله أبدا في زيادة بما يكون من ربا ، ومال الجمع في نقص بما يُبْذَلُ من قسط الربا ، وذلك الشؤم الذي يذهب بقيمة المال ، إذ السعر في ازدياد ، فَعَمَّ الشؤم المرابي ، فإنه يشتري كما الخلق فيجد من زيادة في السعر ما هو له أصل ، فهو أصل في التضييق الذي يَنَالُه كما غيره ، وإن لم يجد من أَلَمِهِ ما يجد الجمع ، فتذهب بَرَكَةُ الماِل ويغلو السعر فهو أبدا في ازدياد .

    فكان من الدليل أولا : مسلك النوع في إثبات النبوات فالحاجة إليها تمس ليصلح الحال والمآل ، ولو أمورَ المعاش على التفصيل آنف الذكر ، وثم آخر من مسلك الشخص كما نبوة الختم أن ينظر في دلائل أخص فإذا حصل منها ما يجزئ ، فقد كُفِيَ المؤمن بِهَا المؤنة ، فَتَقْلِيدُهَا في هذه الحال عَيْنُ الاجتهادِ إذ نَظَرَ أولا نظر المستدل الناصح فلما استبان له من المسالك النوعية والشخصية ما يشهد بصحة الدعوى الرسالية ، لَمَّا استبان له ذلك هدَى بيانٍ وإرشادٍ ، ثم كان تَالٍ من توفيق وإلهام فَسُدِّدَ أن يصدق ويؤمن ، وهو ما استوجب الطاعة في المسائل كافة ، الخبرية والإنشائية ، المنصوصة والمعقولة بما يكون من قياس يصرح وهو الأخص ، واجتهاد أعم فهو يستغرق وجوه الرأي المعتبرة في الشرع ، فحصل من تلك الطاعة ما عم ، وكان من تقليدها ما يجزئ في حصول الغاية وهي الجواب : (فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ، فطاعة الرب الخالق ، جل وعلا ، أن يُفْرَدَ وحده بمنصب الإله الشارع ، تلك الطاعةُ لا تكون إلا بطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد بُعِثَ بكلمات التكليف خَبَرًا وَإِنْشَاءً ، فَثَمَّ من الإطناب ما وَاطَأَ العقلَ المصرَّح إذ مَهَّدَ بالسببِ وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين يدي المسبَّب وهو طاعة الله ، جل وعلا ، فذلك من باب التلازم الضروري في القياس بين السبب والمسبَّب أو العلة والحكم ، أو المقدمة والنتيجة ، أو المراد لغيرِه فهو يُفْضِي إلى آخر يُرَادُ لِذَاتِهِ ، وإن كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المرادِ لِذَاتِهِ ، من وجه ، لا جَرَمَ كَانَ من سُنَّتِهِ ما اسْتَقَلَّ بالتشريع كما الذكر الحكيم ، وإن لم يجاوز ذلك اسم الوحي الذي استغرق الخبر كما الآي ، وإن كانت الأخيرة آكد في الباب إذ الوحي فِيهَا قَدِ اسْتَغْرَقَ المبنى والمعنى كافة ، خلاف الخبر فالوحي فيه قد تَنَاوَلَ المعنى دون المبنى ، وَمَرَدُّ الجميع ، آيا وخبرا ، مردُّه ، لو تدبر الناظر ، طاعة الله ، جل وعلا ، فهو الحاكم المشرِّع بما قد تَنَزَّلَ من الوحي علما وعملا ، فكان من شطر ثَانٍ في الشرط ما يحكي التلازم بَيْنَ شطريه ، وهو ما صدر بالفاء إيجابا ، فهي الفاء الرابطة بين الشرط وجوابه في أحوال مخصوصة ، كما المذكور إذ صُدِّرَ الشرط بالأداة "قد" : أداة التحقيق في قوله تعالى : (فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ، فوجب دخول الفاء ، ولا تخلو من آخر يُلْهِبُ وَيُهَيِّجُ : دلالةِ الفور والتعقيب أَنْ يُسَارِعَ المكلَّف ، ولا تخلو من ثالث يحكي السببية ، إذ الشرط من جوابه كما السبب من مسبَّبِهِ ، فلا تخلو الفاء من دلالة السببية وإن لم تكن نَصًّا فيها ، ولا يخلو التحقيق من دلالة تَزِيدُ ، وذلك شطر خبري أول حالَ الطاعة ، وهو ما رُفِدَ بِتَالٍ به استكمال القسمة على حد المقابلة بين الجمل ، فـ : (مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ، والتولي يطابق الطاعة في اللفظ ، وإن غير تام ، فالتام منه بين الطاعة والعصيان ، أو الإتيان والإدبار ، فحصل من هذا الطباق إيجابا بين الألفاظ المفردة ما يَرْفِدُ المقابلة بين الجمل المركبة ، وكما الطاعة قد استغرقت الباطن والظاهر ، التوحيد والتشريع ، فكذا المطابِق من التَّوَلِّي ، فاستوفى السياق شطري القسمة مقابلة بين الجملتين ، وله من الدلالة الإنشائية آخر يقابل بين أمر ونهي ، فَثَمَّ الأمر أَنْ : أطيعوا الرسول فتلك الذريعة إلى طاعة الله ، جل وعلا ، وهو المرسِل ، وثم النهي أن لا تقارفوا ضِدًّا من التولي والإعراض .

    والله أعلى وأعلم .


  16. #16
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان من وصف يهود ما جاوز استباحة الربا آنف الذكر ، فقد نَقَضُوا الميثاق الرسالي إن واجب وقتهم أن يؤمنوا بالتوراة إيمانا يجاوز التصديق المجرد إلى آخر من الامتثال فهو دليل التصديق فعلا وَتَرْكًا يستغرق الحكومات الدينية كافة ، مَا بَطَنَ مِنْهَا وَمَا ظَهَرَ ، ما كان من الاعتقاد وهو أول وإن في العصيان العملي فلا يخلو من استباحة ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ ، فَثَمَّ من الشهوة ما يجحب مدارك العرفان في الجنان فيكون من الفعل ما يغلب صاحبه إذ ضعف المحل بما اسْتُفِزَّ به من لذة تطرأ وإن كان ثم تاليا من الألم مَا يَرْجُحُ ، وإن لم يبلغ حد الاستباحة المحضة فذلك اعتقاد يجاوز إذ يَنْقُلُ صاحبه عن أصل الدين الجامع ، فتلك الشبهة التي تقدح في الملة ولا تنفك ، كما يقول بعض من حقق ، تُغَذِّيهَا الشهوة ، فيكون من اجتماعهما ما يفسد المدارك كافة ، فكل يفسد محلا ، فالشبهة تفسد المحل العلمي تَصَوُّرًا ، والشهوة تفسد المحل العملي حُكْمًا .
    فَثَمَّ ، كما تقدم ، دليل التصديق فعلا وَتَرْكًا يستغرق الحكومات الدينية كافة ، الاعتقادية ، على التفصيل آنف الذكر ، والقولية والعملية ، ومنها الحكومات المالية ، والربا منها ، وهو المحرَّمُ وإن استباحوا منه أَكلا لأموال الخلق يبطل ، كما الجيل المتأخر إذ يفتش رأس المال المرابي عمن يقرضه لا إحسانا ، وإنما تَرَبُّحًا بزيادة خالية من العوض إلا دخول المال فِي ذمة المقترض مع إلجائه أَنْ يَحُدَّ من معيار النقد مَا يزيد في أَرْبَاحِ المرابي ، فيزيد في قسط الربا مع خفض القيمة ، قيمةِ النقد ، وَإِنْ أَضَرَّ بالخلق ، فإنهم من يدفع أقساط الربا بما يُسْتَقْطَعُ من أموالهم باسم الضريبة والمكس تارة ، أو الإتاوة التي تحمل أسماء الغرم زجرا لمن خالف عن نظم التراتيب والإدارة ، وإن كانت أخرى بها يتكسب صغار الجباة فَثَمَّ من سيف السلطان باسم الشرع المبدل أو المؤول أو القانون المحدَث ، ثم منه ما يرهب التجار والصناع ، فَيَبْذُلُونَ من الإتاوة ما يُدْفَعُ به الصائل ، فلا يندفع إلا بأكل السحت مظالم تُمْحَقُ بِهَا بَرَكَةُ المالِ ، إِنِ العامَّ أو الخاصَّ ، فذلك مما عَمَّ فاستغرق السلطان جميعا من الرأس إلى القاعدة ، فالخلق من يتحمل هذا العبءَ : عبءَ الربا والفساد ، فمن يدفع أقساط الدَّيْنِ هو الجمع الذي يعمل ولا يأكل ! إلا الفتات الذي يقيم الصلب لا اختيارا يَزْهَدُ وإنما اضطرارا يُلْجِئُ ، فيدفعه من الجباية تَارَةً ومن الإتاوة أخرى ، وما يجمع فهو قسطُ ربا يُسَدَّدُ لا مالُ عَامَّةٍ يُبْذَلُ لهم إذا احتاجوا في شئون الحياة وذلك ، لَوْ تَأَوَّلَ له متأوِّل ولو بعيدا لا ينصح فهو يقول إنه التكافل جَمْعًا من الخلق كافة ثم إنفاقا يعمهم كلهم ، فَلَوْ خُرِّجَ على هذا الوجه ما استقام عليه المثال الفاسد الذي لا يَعْدِلُ ، ولو في ظلم الجباية ! ، إِذْ يُكَلَّفُ الأدنى ما لا يُكَلَّفُ الأعلى ، فمن يبذل هو من يحتاج إلى المال العام ولا ينال منه ما يسد مهمات الحياة إلا فتاتا لا يسد الرمق ومآله الاضمحلال ، ولو على مكث ، إذ قسط الربا يأتي على معظم الجباية ولا يَزَالُ يَزْدَادُ عاما بعد آخر بما يكون من إسراف في الاقتراض تذرعا بالحاجة إلى المال الذي يُحَسِّنُ معاش الخلق وليس يُنْفَقُ إلا فِيمَا يَفْحُشُ ثمنه وَيَقِلُّ نَفْعُهُ فلا يستمتع به إلا الغني نافلةً فلا يضره فواته ولا يضلعه الثمن وإن غلا ، وليته يبذل ثمنه فيكون من الجباية ما يُؤْخَذُ منه أضعافا فهو غني يستفيد من هذا الترتيب الجائر فَلْيَبْذُلْ له عوضا ولو من باب الشكر ! ، وإنما يحظى بامتياز وإعفاء تذرعا أنه صاحب عمل واسع قد استحق الدعم والتشجيع بما يكون من التخفيض ! ، وإنما يُجْبَى العامة لسدادِ ربا لا يجد نفعه إلا الخاصة إن استمتاعًا بما يُشَيَّدُ من عمارة وزخرف ، أو إنشاء فهم من يتولى ذلك بأموال القرض الذي يدفعه عامة الخلق بما تقدم من جباية لا تزال تتكرر فَتُضَخُّ في سداد القسط الذي يزيد بما يكون من توسع في العمران والزخرف زينة لا تَنْفَعُ إلا بعضا يستمتع وآخر يشيد وهكذا الأمر في تكرار ، وليس يبذل قسطه إلا العامة ، مع آخر تَقَدَّمَ من ربا آحاد من المقرضين ولأجلهم يُهَيَّئُ المجال بما تقدم من تخفيض النقد وإن أضر بعامة الخلق بما يكون من غلاء السعر في بلاد لا تكتفي بذاتها بل لا تنفك تستجلب أكثر حاجاتها من خارج ، فالنقد الذي تستعمل لا ينفع خفضه إلا إذا كان لها من الإنتاج والتجارة مع الخارج ما يَرُوجُ لَا أَنْ يكون لاجتذابِ مُرَابٍ يفتش عن القسط الأكبر من الربا مع خفض القيمة فذلك مما يعظم رباه ، وهو ما يعم المرابي في الداخل ! ، مع آخر من خارج ، وإن كان ذو الربا في الداخل يرابي بنقد البلد ذي القوة المتراجعة بما يكون من خفض مع زيادة في الصك تزيد في المعروض فتقل قوته في الشراء واستيفاءِ الحاجة ، وليس يتحمل العبء في هذه الدائرة المشئومة ، ليس يتحمل العبء إلا العامة فهم أضعف حلقاتها ، وليس يَنْتَفِعُ إلا الخاصة من المرابين إن من داخل أو من خارج ، وإن كان من ربا الخارج ما هو أفحش إذ يُرَابِي بِنَقْدٍ أقوى ويستوفيه مع قسط رباه المرتفع ، يستوفيهِ بأصلِ نقدِه لا بِنَقْدِ الداخل المتراجع ، فالجمع الأكثر يعمل ويتجر ، ويدفع القسط الأكبر من الجباية التي يدفعها السلطان المرابي لمن يقرضه إن هيئاتٍ تَعُمُّ أو أفرادا من خارج أو من داخل ، فلا يجد من يتحمل العبء الأكبر لا يجد من العائد في دين أو دنيا ما يعدل ، وإنما الحال فساد في الدين وضنك في المعاش ، وذلك مما قد عمت به البلوى في الجيل المتأخر أن صار المرابي الأكبر هو السلطان بما له من حكم ينفذ وأدوات بها يتحكم ويسيطر فَيَسُنُّ من القانون والتشريع وإن خالف عن الحكم الرسالي المنزل بل والصالح العام المعتبر في أي حكم يعدل وإن أَرْضِيًّا يحدث .


    فكان من يهود مثال يُبِينُ ، بل هم في الباب أصل بما استحلوا من الربا ، وذلك السحت الذي أكلوه كما ذكر الوحي في مواضع ، فـ : (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فكان من المضارعة في "تَرَى" حكاية حال لم تنقطع ، ولا يخلو السياق من استحضار لِلصُّورَةِ قد عم كثيرا ، وذلك من العدل في الحكم ، فلا يخلو أي جمع من أفاضل ، وَإِنْ قَلِيلًا ، فـ : (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، فكان من السياق مُقَابَلَةٌ بَيْنَ شطرينِ ، من يُؤَدِّي وهو الأمين ، ومن لا يُؤَدِّي وهو الخائن ، فاستغرق السياق أجزاء القسمة في الخارج ، وذلك خبر يعم فيجاوز المذكور من أهل الكتاب ، وهو مما اطرد في كل أمة ، ففي كلٍّ الأمين والخائن ، ومحل الأول المدحُ الباعث على الامتثال أمرا بأداء الأمانة ، كما النص قد أبان في مواضع أخرى من الوحي ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، وآخر يَنْهَى عن الخيانة وهي محل الذم الباعث على الترك ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، فَفِي كل أمة ، كما تقدم ، الأمين والخائن فَلَيْسَ ذلك بحكر على أمة يهود ، فالوصف والحكم الذي يصدر عنه أمرا بالأمانة ونهيا عن الخيانة ، ذلك مما عَمَّ فَاطَّرَدَ في كل أمة ، وَإِنْ تَفَاوَتَ القدرُ ، فأمة يهود بما كان من بهتانهم فالغالب فيهم الخيانة إذ نَقَضُوا أولا ميثاقَ الديانة وتلك خيانة تَعْظُمُ بل هي في الباب الأعظم ، فما بعدها أيسر ! ، وذلك من قياس الأولى ! ، فَمَنْ فَعَلَ الأعلى فَعَلَ الأدنى وهو ، كما تقدم ، الأيسر فكان من بهتانهم الذي غلب وَبِهِ اسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الرسل ، عليهم السلام ، فكيف بأموال الخلق ، فكان منهم قَلِيلٌ أَدَّى وكثيرُ لَمْ يُؤَدِّ ، وذلك الخبر الذي استغرق إثباتا ونفيا يحكي ، من آخر ، طباق السلب بين "يُؤَدِّهِ" و "لَا يُؤَدِّهِ" ، وبه امتياز في الدلالة إذ بضدها تتمايز الأشياء ، وثم من الدلالة الإنشائية ما يُلَازِمُ ، أمرا بالأداء ونهيا عن ضد ، فذلك تلازم آخر في الدلالة إذ الأمر بالشيء يَسْتَلْزِمُ النهي عن ضده .
    فَقَضَى العدل ألا يكون الحكم عاما يستغرق استغراق الحفظ فلا تخصيص فذلك مما يندر في الْخَلْقِ أن يكون الجمع كافة على دين واحد من الأخلاق والطبائع ، بل لا يَنْفَكُّ كُلُّ قَبِيلٍ يجمع أخلاطا تَتَفَاوَتُ في الوصف ، وإن غلب عليه وصفٌ كما يهود فهم قوم بهت يجحدون الحق ويأكلون السحت ، وذلك العام الذي استغرق من جملة ما استغرق : الربا المحرَّم ، فلا ينفك الْقَبِيلُ الإسرائيلي يُخَصَّصُ ولو بآحادٍ تَقِلُّ وَتَنْدُرُ ، فـ : (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، فكان منهم أمة وذلك دليل يستغرق الواحد وهو أمة في نفسه بما استجمع من الخلالِ المحمودة كما الخليل ، عليه السلام ، مثالا ، فالدليل يستغرق الواحد وما زَادَ ، فكان منهم أمة قَلَّتْ أو كَثُرَتْ ، وَإِنْ رَجَحَ في الجيل المتأخر الْقِلَّةُ بل وَالنُّدْرَةُ ، فَهُمْ أَقْسَى الخلقِ قُلُوبًا كما وصفهم التنزيل المحكم في آي البقرة : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، فكان من شطر أول : استعارة مكنية ، إذ حذف المشبَّه به وهو الحجارة ، وَكَنَّى عنه بوصف من أوصافه وهو القسوة ، وهو ما كان في مشتق لا جرم كانت الاستعارة تَبَعِيَّةٌ لا أصلية ، وثم التصريح بعد الكناية فهو التشبيه المجمل ، في قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) ، إذ ذَكَرَ المشبَّه ولو مُضْمَرًا في "هِيَ" ، ومرجعه قد تقدم ، وهو القلوب ، وذكر المشبَّه به وهو الحجارة التي صَرَّحَ بها بعد أول من استعارة مكنية ، وذكر الأداة : كاف التشبيه وهي نص في الباب ، وقد يُقَالُ ، مِنْ وَجْهٍ ، إِنَّ في التشبيه وَجْهًا يُفَصِّلُ ، فقد ذكر القسوة تاليا إِضْرَابًا انْتَقَلَ بِهِ من الأدنى إلى الأعلى إمعانا في الذم ، فكان منهم في كُلِّ جيل ، وَإِنِ النَّادِرَ أو هو قَلِيلٌ ، كان منهم : (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، فكان منهم ابن سلام الحبر ، رضي الله عنه ، فـ : (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، فمنهم ، وتلك مَئِنَّةُ تَبْعِيضٍ ، ولا تخلو مِنْ بَيَانِ الجنسِ المدخولِ ، مع ابتداءِ غَايَةٍ ، فمنهم وهم المبدأ : (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، فَوُصِفَتْ وهي النكرة ، وهو ما سَوَّغَ ما تلا من الحال إذ تُبِينُ عن الهيئة : (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، فَثَمَّ من الحال المتراكبة : التلاوة حال السجود ، وهو في الشرعة الخاتمة مما لا يجوز ، كما في الخبر : "ألا إني نُهيتُ أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا" ، وفي رواية : "ألَا وإنِّي نُهِيتُ أنْ أقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا، أوْ سَاجِدًا" ، فذكر القرآن في ثَانٍ وبه بَيَانُ ما أُجْمِلَ من المحذوف في السياق الأول إذ نُهِيَ عن القراءة وهي وإن انصرفت إلى القرآن ، بادي الرأي ، إلا أن ذلك ظاهر راجح فلا ينفك يحتمل ، ولو بعيدا ، فكان من ذكر القرآن في تال ، كان منه بَيَانٌ يجري مجرى النص الذي يَقْطَعُ ، فدلالته لا تحتمل كما الظاهر ، وثم من اسم القرآن : اسْمٌ عَلَمٌ عَلَى مُسَمًّى خاص معين ، فدلالة "أل" ، من هذا الوجه ، دلالة العهد الخاص ، فهو الكتاب المعهود الذي تَنَزَّلَ بآي محكم به التحدي المعجِز إِنْ نَظْمًا أو معنى ، وبه التعبد قراءةً مخصوصة في الصلاة ، وهي ما قُيِّدَ بالقيام مبدأَ الركعةِ ، لا جرم كان الخلاف أَيُرَادُ القيام رُكْنًا لذاته أم لغيره فَيُرَادُ لأجل القراءة ، وهي الركن القولي المراد لِذَاتِهِ قراءةً خاصة هي أم الكتاب فذلك الفرض وما تلا فهو الندب ، عَلَى تَفْصِيلٍ في الإسرار والجهر ، وهو ما تَنَاوَلَتْهُ كُتُبُ الفروعِ ، فكان من النهي ما صُدِّرَ بالأداة "أَلَا" وهي الاستفتاحية فلا تخلو من دلالةِ التَّنْبِيهِ الذي يشحذ الأذهان وَيَسْتَدْعِيهَا وذلك آكد في بَيَانِ المعنى وَتَرْسِيخِهِ ، وثم من تَالٍ هو التوكيد لفظا وهو أم الباب نسخا ، فكان من "إِنَّ" المصدَّرُ في السياق ، وله من ذلك الموضع المحكم فَلَا يُنْسَخُ ، فَلَا شَيْءَ مِنَ البابِ : باب التوكيد ، لا شيء مِنْهُ يَتَقَدَّمُ الناسخ "إِنَّ" ، وبعده الاسمية ، فتقدير الكلام قبل دخول الناسخ : أنا نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ القرآنَ ، وَثَمَّ من الإطناب ، أيضا ، تكرار الإسناد : الضمير المبتدأ والفاعل الذي أُظْهِرَ واتصل بعامله في "نُهِيتُ" ، فمرجع التاء : تاء الفاعل الذي حدت حَدَّ المتكلم ، فَضُمَّتْ فِي نُطْقِهَا ، مَرْجِعُهَا : ضمير المتكلم المتقدِّم "أَنَا" ، فكان التكرار من هذا الوجه : فاعل المعنى وهو المبتدأ ، فهو نص في الابتداءِ ظاهرٌ في الفاعلية ، وفاعل اللفظ وهو تاء الفاعل في حد المخاطب في "نُهِيتُ" فهي نص في الباب ، وثم من الحذف أول ، وهو حذف الفاعل إِذْ قَدْ عُلِمَ بَدَاهَةً ، فلا يَأْمُرُ وَيَنْهَى في حكومات الدين المنزَّل ، لا يكون ذلك إلا من الرب العزيز المهيمن ، جل وعلا ، فَحَسُنَ الإيجازُ من هذا الوجه ، وكذا حَذْفُ الوصل على تقدير : نهيت عن أن أقرأ القرآن ، فحذفت "عَنْ" وذلك مَوْضِعٌ قِيَاسِيٌّ في النحو قَدِ اصْطُلِحَ أَنَّهُ الحذفُ والإيصالُ ، فالتقدير : نُهِيتُ عَنْ قِرَاءَةِ القرآن راكعا أو سَاجِدًا ، وبهما ، وكلاهما حَذْفٌ ، بهما يستأنس بِهِ مَنْ يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فذلك مجاز الحذف أو الإيجاز ، ومن يُنْكِرُ فهو يُجْرِي ذَلِكَ مجرى معهود متداول في اللسان ، وَثَمَّ من النهي ما قَدْ عَمَّ ، بادي الرأي ، إذ تَسَلَّطَ النهي على المصدر المؤول ، ولا يخلو الإطناب به من زيادة أخرى في المبنى تحكي ما يضاهي في المعنى ، مع مضارعة بها استحضار المعنى ، من وجه ، وديمومة واستمرارٍ ، من آخر ، فتلك دلالة المصدرية إذ تُمَحِّضُ ، على تفصيل ، تُمَحِّضُ المضارع للاستقبال ، وذلك ، بداهة ، ما لا يُرَادُ مطلقا ، وإلا كان الحكم بتحريم القراءة مطلقا ! ، وهو مَا لَا يُعْقَلُ فلا يواطئ المعلوم الديني المتواتر فهو الضروري الذي يدركه كلُّ أحدٍ له من هذا الدين حظ ، بل الكتاب هو الأصل الذي لا يحصل دين يجزئ إلا بإيمان به مجمل وَقَدْرٍ من آيِهِ وَسُوَرِهِ بِهِ تَصِحُّ الصلاة وهي ركن الديانة الثاني ، فكان من ذلك ما استوجب القيد احْتِرَازًا ، كما يقال في قوله تعالى : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) ، فَلَوِ اقْتَصَرَ على النفي لاختل المعنى بل وانعكس إلى ضِدٍّ ، فكان من الحال "لَاعِبِينَ" في هذا السياق ، كان منها عمدة في الدلالة ، وإن كان الأصل في الحال أنها فضلة في النحو ، وكذا يقال في الخبر آنف الذكر : "ألَا وإنِّي نُهِيتُ أنْ أقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا، أوْ سَاجِدًا" ، فكان من ذلك القيد الذي يُبِينُ عن مواضع النهي فهي مواضع ذل ، والقرآن عَزِيزٌ في الوصف والشأن ، فأطنب بالركوع ثم السجود تَرْتِيبًا في الموضعِ ، من أول إلى تال في اصطلاح الشرع فَمَاهِيَّةُ الصلاةِ فيه توقيف يحكي صلاة أخص في الدليل أركانُها : القيام فالركوع فالرفع فالسجود فالجلسة ..... إلخ ، فذلك نهي في الشريعة الخاتمة هو النَّاسِخُ إن حمل الآي آنف الذكر على الظاهر المتبادر : (يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، فَيُقَالُ إِنَّ ذلك مما كان جائزا في شرعتهم ثم نُسِخَ تَالِيًا في الشرعة الخاتمة ، أو يقال ، وهو الأليق في النظر ، يقال إن السجود في هذا السياق ليس السجود في الاصطلاح الشرعي المخصوص بَيَانًا لماهية الصلاة الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا التوقيف ، وإنما السجود في هذا الموضع حكاية الخضوع والتذلل وذلك مما يحسن حال التعبد قِرَاءَةً وَقِيَامًا ، أو يقال ، كما ذكر بَعْضُ مَنْ أَعْرَبَ ، يُقَالُ إِنَّ ذلك من المجاز المرسل : مجاز الجزئية إذ أطلق جزءا من العبادة وهو السجود وَأَرَادَ كُلًّا وهو الصلاة ، وذلك ، أيضا ، مما به يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، ومن يُنْكِرُ فهو على أصل قد تَقَدَّمَ أَنَّ ذلك معهود في اللسان المفصِح ، أو ثم وجه يُخَرَّجُ به السياق على الحقيقة بما تقدم من حملان السجود على المعنى اللغوي الأعم ، معنى الخضوع والتذلل ، وإن أجاب آخر إِنَّ ذَلِكَ ، أيضا ، مما يخالف عن الراجح حَالَ تَعَارَضَتِ الحقائقُ : الحقيقة اللغوية الأعم وهي في هذا الموضع الخضوع والتذلل ، والحقيقة الاصطلاحية الأخص وهي السجود المعهود في الشرع ، فَتُقَدَّمُ الشرعية ، وذلك صحيح في النظر المجرَّد ، ولكنه ليس يطرد في كل موضع فَلَيْسَ الأصلَ العام المحفوظ في بابه ، بل ثم مواضع قد رَجَّحَ فِيهَا السياق المرجوحَ من الحقيقة اللغوية الأعم على الرَّاجِحِ من الحقيقة الشرعية الأخص ، فذلك وَإِنِ احْتُمِلَ في الحدِّ تأويلا إذ السياق هو القرينة إلا أن منكر المجاز لا يسلم فتلك الحقيقة أو الظاهر المركب من اللفظ المفرد البسيط وما احتف به من قرينة السياق ، وهو المجموع المقترِنُ وَبِهِ حصول الكلام المفهِم معنًى يحسنُ السكوتُ عَلَيْهِ ، وهو حقيقة في سياقه فلا مجاز ولا تأويل فذلك الظاهر المركب من المفرد والسياق وبهما جَمِيعًا حصول الغاية من أيِّ كلامٍ ، فحصل من ذلك عنوان التذلل والخضوع ، فـ : (هُمْ يَسْجُدُونَ) ، وتلك الحال التي حُدَّتْ اسمية وهي ، كما تقدم في مواضع ، حكاية الثبوت والاستمرار ، وإن كان الأصل في الحالِ أَنَّهَا مما يَعْرِضُ وَيَزُولُ فإذ حدت اسمية فذلك دليل أخص في الباب إذ كَثُرَتِ الحال فكأنها الوصف الثابت المطرد فَحُدَّتِ اسميةً من هذا الوجه ، وبعده كان الإطناب في الحال ، فكان منها أنهم : (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وذلك مما يجري مجرى السبب ، فالإيمان بالله واليوم الآخر سبب في سِبَاقٍ من القراءة والخضوع ، وآخر في لحاق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة ، والمسارعة في الخيرات عامة ، فمنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذلك من عطف العام على الخاص إطنابا يزيد في الدلالة ، وَثَمَّ من الختام حكاية الاسمية في قوله تعالى : (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ثَمَّ من ذلك دليل ثبوت واستمرار وهو ما يحسن حال الحكم إِنْ بِالْمَدْحِ أَوْ بِالذَّمِّ ، فـ : (أُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وهو ، من وجه ، مما يجري مجرى التعاطف بين العلة والحكم ، فما تقدم من القراءة والسجود والإيمان بالله ، جل وعلا ، واليوم الآخر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمسارعة في الخيرات ، ما تقدم سبب في تال من الحكم ، فـ : (أُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ولا يخلو من مفهوم يخالف فمن لم تكن فيه تلك الخصال وآكدها الإيمان الأول فهو شرط صحة لما تَلَا من اعتقاد أو قول أو عمل إذ التوحيد الرِّسَالِيُّ أصل الأصول كَافَّةً ، فمن لم تكن فيه هذه الخصال ، على التفصيل آنف الذكر ، فهو من الفاسدين ، ولا تخلو الاسمية مما تقدم من الثبوت والديمومة ، مع تصديرها بالإشارة إلى البعيد حكاية التعظيم وإن احتملت في مواضع ضدا من التحقير ، كما في قوله تعالى : (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ، وهو ما يُجْرِي الإشارةَ مجرى الأضداد وهي من المجمل الذي يفتقر إلى الْبَيَانِ فَكَانَ من السياق دليلٌ يُبِينُ إِذْ رَجَّحَ التعظيمَ في هذا الموضع قرينةُ المدح بما تقدم من أوصاف وأفعال تحمد ، خلاف آخر من أوصاف تُذَمُّ في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ، فهي سبب في تَالٍ من وصف يذم به الختام في قوله تعالى : (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ، ولا يخلو كلاهما من إنشاء أمر ونهي ، نهي عن الخصال المذمومة وبه تخلية المحل من وصف السوء فَيَسْلَمُ صاحبُه من حكم الخسران ، ثم أمر بالخصال المحمودة وبه تحلية المحل بوصف الصلاح ، وثم من الإطناب بالظرف "مِنَ الصَّالِحِينَ" في قوله تعالى : (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، ثَمَّ مِنْهُ ما يزيد ، أيضا ، في الدلالة ، دلالة الثناء والمدح ، فكأنهم من معدن الصلاح ، فَلَيْسُوا صالحينَ فحسب ، فكانت "مِنْ" ، مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، كانت دليلَ بَيَانٍ لجنس المدخول ، وحكاية ابتداء لغاية وتبعيض ، فحصل منها ، كما تقدم في مواضع عدة ، حصل منها دليل لمن يجوز العموم في دلالة اللفظ المشترك ، وهو مما يحسن إِثْرَاءً للمعنى عامة ، وَبَيَانًا أخص لوجه من الدلالة أَلْطَفَ ، وهو ما تَقَدَّمَ من التوكيد فهم من المعدن نفسه ، معدن الصلاح ، وذلك آكد في الباب من القول في غير التنزيل : وأولئك صالحون ، ومن ثم كان إطناب آخر به الاحتراز فَمَا فَعَلُوا من الخير وهم على الكتاب الأول فَلَنْ يكفروه فإيمانهم بالخاتم إيمان بالأول إذ بَشَّرَ بِهِ ، فكان لهم من الأجر اثْنَانِ كما في الخبر : "ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ : رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ........ الحديث" ، فكان من ذلك شرط وهو نص في العموم ، فـ : (مَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، مع آخر إذ تَسَلَّطَ الشرط على المصدر الكامن في الفعل "يَفْعَلُوا" ، وَعَلَى آخر وهو النكرة "خَيْرٍ" ، والنكرة في سياق الشرط نص في العموم ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، مع زيادة "مِنْ" تَنْصِيصًا على العموم وذلك آكد في الوعد ، وثم من دلالة الفعل ، أيضا ، ما يجاوز ، فيدخل فيه الاعتقاد والقول ، أو هو نائب عن جنس أعم من العمل ، فمنه الفعل والترك ومنه الباطن كما التصديق والإقرار ، وإن كان الأصل في الاعتقاد إلا أنهما لا يخلوان من دلالة عمل أخص في الجنان وبهما الترجيح آية القبول والرضا ، والحب والبغض والإرادة والرجاء والخشية والتوكل والاستعانة والاستغاثة .... إلخ ، ومنه الظاهر الذي يستغرق قَوْلَ اللِّسَانِ وأعمالَ الجوارحِ ، وفي كلٍّ فِعْلٌ وَتَرْكٌ ، نُطْقٌ وَصَمْتٌ في اللسان ، وَفِعْلٌ وَتَرْكٌ في الجوارح وهو الأظهر ، فكل أولئك مما يدخل في عموم الشرط وذلك ما استغرق أعمال الديانة كافة ، اعتقادا يبطن وقولا وعملا يظهر ، وثم من الجواب ما اقترن بالفاء في قوله تعالى : (فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، وذلك موضع من جملة مواضع قد وَجَبَ فيها اقتران الجواب ، جواب الشرط ، بالفاء ، فهي مما به استصلاح اللفظ مع ما تَقَدَّمَ في مواضعَ عدة من التعاطف مع سَبَبِيَّةٍ لا تخلو منها فاء وَيَرْفِدُهَا في هذا الموضع ما كان من اقْتِرَانٍ بَيْنَ الشرطِ والجوابِ فهو من جنس الاقترانِ بَيْنَ العلَّةِ والحكمِ ، فما تقدم من فعل الخير علة لحكم به الاحتراز فلا ظلم ، وإنما الفضل ألا يُكْفَرُوا الخيرَ الذي قَدَّمُوا ، ولو شاء الله ، جل وعلا ، لَرَدَّهُ ، ولو شاء لهداهم إِلَى ضِدٍّ منه ، فكان من ذلك زيغ عن الحق وما ظلمهم الرب ، جل وعلا ، فذلك إِلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ هدى فضلا وإن شاء أضل عدلا ، فمن وجد خيرا فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، جل وعلا ، ومن وَجَدَ غيره فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه ، وثم من دلالة النفي ما قد عَمَّ وهو مما جرى تأبيدا لا أن "لَنْ" نَصٌّ فيه وإنما احتملته في مواضع ولم تحتمله في أخرى كما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، وذلك مما ينقطع في الآخرة إذ : (نَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) ، فالسياق ، كما تقدم مرارا ، أصل في الباب إذ به بِيَانُ مَا أُجْمِلَ ، وَدَرَكٌ لِمُرَادِ المتكلِّم ، فَقَرِينَةُ السياق هنا تشهد أَنَّ مَا عَمِلُوا من خير فهو محفوظ لا يَضِيعُ ، لا جرم كان الختام بالعلم المقيد : العلم بالمتقين الذين أَخْلَصُوا القصدَ وفعلوا الخير ، فـ : (اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، وإلا فَالْعِلْمُ قد عَمَّ فاستغرق كل شيء ، فـ : (اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وَكُلُّ أولئك مما قد عَمَّ في الدلالة وإن نَزَلَ على سبب مخصوص من أهل الكتاب ، فَثَمَّ من العموم ما جاوز السبب ، وذلك الأصل في الباب إلا أَنْ تَرِدَ قرينةُ تخصيصٍ تَقْصُرُهُ عَلَى عَيْنِ السبب أو صورته ، فدلالة العموم في خطاب التكليف قرينة تجاوز بالحكمِ الممدوحَ من أهل الكتاب خاصة ، لا جرم كان الأمر بفعل الخيرا عاما في مواضع أخرى من التنزيلِ تُصَرِّحُ ، فـ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، فكان من آي آل عمران آنف الذكر : (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، كان منها خَبَرُ وعدٍ صادق ، وهو ما استوجب الإنشاء أمرا بما به وصف المدح يُسْتَجْلَبُ ونهيا عن ضد به الذم يُسْتَدْفَعُ ، وكل أولئك ، كما تقدم ، من إنصاف الوحي ولو حُكْمًا على خصم عنيد قد قَسَا منه القلب ، فذلك الأصل ، وهو العام ، ولا يخلو ، مع ذلك ، من تخصيص يجري مجرى الاستثناء ، فـ : (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، و : (مِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ، و : (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، وإن كان المستثنَى قليلا أو نادرا فَلَهُ حكمه الذي يصدق في آحاده كافة ، آحاد المستثنى ، ولو بَعْضًا ، وإلا فالأصل ، كما تقدم ، كَثِيرٌ يغلب ، كما محل الشاهد من أكلِهم السحت ، فـ : (تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، فَنَصَّ على كَثِيرٍ لا كُلٍّ يستغرق الآحاد جميعا ، وكان من المضارعة ما به استحضار الصورة تسجيلا للجناية ، عَامًّا من مسارعة في الإثم والعدوان ، ثُمَّ خاصا وهو محل الشاهد من أكلِهم السحت ، وذلك ما خُصَّ منه الأكل بالذكر إمعانا في الذم بها يحكي من شَرَهٍ وَجَشَعٍ ، وإلا فالمراد أعم فيجري ذكر الأكل ، من هذا الوجه ، مجرى الخاص الذي يُرَادُ به عام ، أو من هو الاستعارة إذ نَابَ الأكل عن الأخذ ، على تقدير : وأخذِهم السحتَ ، وهو مما يذم به صاحبه أن يصير الغاية والمقصد فذلك ما ينحط به إلى دركة الحيوان أو دونَها ، فـ : (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) ، وكان من المصدر في "أَكْلِهِمُ" حكايةُ إثباتٍ فَجَاءَ بالأصل في الاشتقاق ، وثم من عموم السحت ما استغرق المحرم كافة ، ومنه أكل الربا محل الشاهد ، فهو يدخل في عموم السحت الذي يذهب بالبركة ، كما قال أهل الشأن ، فهو يُهْلِكُ وَيُبِيُر وهو يسحت الطاعات وَيُذْهِبُ بَرَكَتَهَا ، ومن ثم كان الذم القياسي في قوله تعالى : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، وهو ما صُدِّرَ باللام ابتداء ، فَهِيَ مُؤَكِّدُ لَفْظٍ قد زاد في الدلالة ، مع كينونة ماضية تحكي العموم المستغرق لما تَقَدَّمَ من ظرفِ زَمَانٍ أول ، وذلك ، أيضا ، آكد في تسجيل الجناية ، فَهُوَ آكدُ من القول في غير التَّنْزِيلِ : لَبِئْسَ ما عملوا ، وهو ما زِيدَ فيه بَعْدًا فِي قوله تعالى : (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، وفيه الحض الذي لا يخلو من إزعاج وزجر ، على تقدير : فَهَلَّا نهاهم الربانيون والأحبار ، فلم يكن منهم ما يجزئ في فَرْضِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو ما حَسُنَ فِيهِ ، أيضا ، الختام بِذَمٍّ قياسي مُؤَكَّدٍ بما كان من لام ابتداء تُصَدَّرُ ، وقد قال بعض إِنَّهَا لام ابتداء مخصوص : ابتداءِ الجوابِ : جوابِ القسمِ المقدَّر على تَأْوِيلِ : والله لَبِئْسَ ما كانوا يعملون ، وَمَا قِيلَ في الأول : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، يُقَالُ في الثاني : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، فهو آكد في الدلالة من القول في غَيْرِ التَّنْزِيلِ : لَبِئْسَ مَا صَنَعُوا ، وَفِي كلٍّ شاهد حذف قياسي في اللسان : حذف عائد الصلة المفعول على تَقْدِيرِ : لَبِئْسَ ما كانوا يعملونه ، وَلَبِئْسَ ما كانوا يصنعونه ، وبه ، أيضا ، يستأنس من يجوز المجاز في اللسان والوحي ، فذلك من مجاز الحذف ، ومن ينكر فهو أبدا على أصل أول أن ذلك مما اشْتُهِرَ في اللسان وَاطَّرَدَ .
    ولا يخلو قوله تعالى : (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) ، لا يخلو من دليل يَلْطُفُ لِمَنْ صَيَّرَ التَّرْكَ من جملةِ الفعلِ ، فهو فعل الكف ، إذ خُتِمَ بفعل الصنع ، والصنع لا يكون لعدم ، بل ذلك الفعل ، وَلَوْ كَفًّا ، كما تقدم ، وهو مما يُقَالُ فِيهِ ، أَيْضًا ، إن دلالته تَعُمُّ فَتَسْتَغْرِقُ فَتُجَاوِزُ المذكورَ من أهل الكتاب ، وإن كانوا سَبَبًا نَزَلَ عليه الآي ، فلا يخصصه ، وإنما الدلالة تَعُمُّ ، بادي الرأي ، حتى يَرِدَ دليلُ تخصيصٍ بِعَيْنِ السببِ أو صُورَتِهِ ، وذلك الخبر الذي يحكي إنشاءً ، فهو خَبَرُ ذَمٍّ يحكي النهي عن تلك الخصال التي استوجبته أَنْ : لَا تُسَارِعُوا في الإثم والعدوان ، ولا تأكلوا السحت ولا تقولوا الإثم ولا تتركوا شعيرة الأمر والنهي ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي من آكد شعائر الدين التي بها يعز ويظهر .

    والشاهد أن يهود خاصة إلا قليلا مِمَّنَ آمن فَصَدَّقَ بالكتابِ الخاتم كتابَه الأول الذي بَشَّرَ بما أَتَى بَعْدَهُ ، أَنَّ يهود خاصة قد نَقَضُوا الميثاق الرسالي ، ومنه ميثاق يَنْهَى عن أكل السحت والربا ، فنقضوا الميثاق الرسالي كافة إِنْ وَاجِبَ وقتهم أو ما تلا إذ أُخِذَ عليهم الميثاق أن يؤمنوا بالنبوة الخاتمة فذكرها في كتبهم قد سُطِرَ ، وكانوا قَبْلًا بها يستفتحون على من كفر ، فيطلبون بها الفتح على الخصم ، ثم كان من تَالٍ يُنَاقِضُ أن كفروا بما آمنوا به أولا حسدا من عند أنفسهم أن صارت النبوة في غيرهم ، فكان من الاستفهام ما ينكر ويوبخ : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) ، وكان من العهد الخاص ما أبان عن المحسود وهم أتباع الرسالة الخاتمة ، فَتِلْكَ دلالة "أَلْ" في "النَّاسَ" ، وَثَمَّ مِنَ الفضلِ : فضل آخر مخصوص ، فذلك فضل النبوة الخاتمة ، ومن ثَمَّ كان التذكير بمنة عامة قد استغرقت فدخل فيها بَنُو إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم ، فهم من آل إبراهيم ، عليهم السلام جميعا ، فكل نُبُوَّةٍ قَدْ تَلَتْ نُبُوَّةَ الخليلِ ، عليه السلام ، فهي منه تخرج أُبُوَّةً تَخُصُّ ، كَمَا أُبُوَّةُ نوحٍ ثانية تَعُمُّ البشر ، وأبوة آدم عليه السلام فهو الأب الأول إذ خُلِقَ مِنَ العدم ، وكان من التسوية والنفخ كلمةُ تكوينٍ قد نَفَذَتْ ، وبها كان استخلاف الجنس المكرَّم ، ومنهم بنو إسرائيل فَقَدْ بُعِثَتْ فيهم نُبُوَّاتٌ تَكْثُرُ وعمدتُها النبوة الموسوية جلالا وختامها النبوة العيسوية جمالا ، وكان من الميثاق حجةٌ أقيمت أَنْ يُؤْمِنُوا بالخاتمة وهي الكاملة ، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي إسماعيل الذبيح ، عليه السلام ، فكان الحسد أَنِ انْتَقَلَتْ مِنْهُمُ النبوةُ ، فكان الختام فلا نسخ ، كان في بني العم من العرب أحفاد الذبيح إسماعيل ، عليه السلام ، فَثَمَّ من تقرير المنة تاليا في الآية ، وهو ما حَسُنَ فيه الإسناد إلى ضمير الفاعلين في "آتَيْنَا" حكاية تعظيم يحسن في الباب : بابِ النُّبُوَّةِ فهي المنة الرَّبَّانِيَّةُ العظمى إذ عُدِنَتْ فِيهَا مادة السعادة والنجاة كَافَّةً ، وبها صلاح الأمر ، قولا وعملا ، وذلك جماع الدين المجزئ : اعتقادا وقولا وعملا ، فَحَسُنَ ، من هذا الوجه ، الإسناد إلى ضمير الفاعلين حكاية التعظيم ، مع الالتفات من الغيبة في قوله تعالى : (آتَاهُمُ اللَّهُ) إلى التكلُّم في قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنَا) ، وذلك ما يحسن فيه الإسناد إلى المتكلِّم تَقْرِيرًا لِمَا به قَدِ امْتَنَّ وَأَنْعَمَ ، مع مادة إيتاء فهي ما لا يقبل الرَّدَّ ، فتلك منة لا تُرَدُّ ، وتكليفٌ لا إقالة فيه ولا استقالة ، وإنما وجب على المختار المصطفى بما وُهِبَ من مادتها الناصحة ، وَجَبَ عليه من بَلَاغِهَا وَبَيَانِهَا ما لا تَبْرَأُ الذمة إلا به ، فـ : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ، فكان من الشرط ما حُدَّ نادرا في "وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ" ، فذلك ، لو تدبر الناظر ، مما يجري مجرى الفرض وإن لم يكن الجائز في حق الرسل عليهم السلام أن يكتموا فَلَا يُبَلِّغُوا كسلًا أو خيانةً أو حَظَّ نَفْسٍ في رياسةٍ لا تكمل إلا أن يُكْتَمَ مِنَ الحقِّ ما يَنْقُضُ ، فذلك ، بداهة ، مما لا يتصور في حق الأنبياء عليهم السلام .
    فكان من حسد الناس وهم الأمة الخاتمة على ما أُتُوا من فضل النبوة المهيمنة الجامعة ، وثم من الختام توكيد بما اطرد من التحقيق إذ دخلت "قد" على الماضي "آتينا" ، في قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فكان من عموم المنة ما استغرق الكتاب والنبوة ، فالحكمة ، في قول ، هي النبوة ، وَعَطْفُهَا على الكتاب من هذا الوجه : عطف سبب على مسبَّب فَبِهَا كان الوحي بِمَا تَنَزَّلَ من الكتاب ، وهو ما عَمَّ الْكُتُبَ كافة إذ آل إبراهيم هم كل مَنْ جَاءَ بعده من الأنبياء ومن آمَنَ من أقوامهم واتبع ، فـ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ، فَدَخَلَ في حَدِّهِ كلُّ نُبُوَّةٍ تَلَتْ ، ودخل في الكتاب كل كتاب نَزَلَ ، وإن كان من الخاتم ، كما تقدم مرارا ، المحفوظ المهيمن فهو حاكم فيما تَقَدَّمَ ، وذلك مما به قد تحمل "أل" في "الحكمة" على عهد آخر خاص فتكون حكمة النبوة الخاتمة بما روي عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آثار القول والفعل والتقرير ، وثم من الختام إيتاء الملك ، وهو ما كُرِّرَ عامله في قوله تعالى : (وَآتَيْنَاهُمْ) ، لِطُولِ الفصلِ ، أو تَنْوِيهًا يميز الحكمة من الملك ، فقد أُوتِيَهُ بَعْضٌ برسم النبوة كما داود وسليمان عليهما السلام ، وإن لم تخلُ نُبُوَّةٌ من معنى أعم وهو الحكم الملزم في الشأن كافة ، فقها أو سياسة أو حربا ...... إلخ ، فيصدق في كُلِّ نبوة أنها ملك من هذا الوجه ، وإن لم تكن ملك التصرف المطلق كما كان لداود وسليمان ، عليهما السلام ، فَكَانَ من حكم النبوة الخاتمة ما يَلْزَمُ في كل موضع ، وهو ما استغرق الشأن كَافَّةً ، وَحَدُّهَا كما في الأثر أنها عبودية ورسالة ، فـ : "يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ،: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا»" ، فالملك يعطي بالنبوة العطاء المطلق ، فـ : (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، والرسول قاسم فلا يعطي ويقسم إلا حيث يُؤْمَرُ ، فـ : "وَاللَّهِ، مَا أُعْطِيكُمْ، وَلَا أَمْنَعُكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُهُ حَيْثُ أُمِرْتُ" .

    والله أعلى وأعلم .


  17. #17
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فكان من النداء الذي توجه إلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أن : "يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ،: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟" ، وهو نداء البعيد تعظيما لمقام المخاطب ، وإن ذكره بالاسم المجرد ، اسم "مُحَمَّد" ، فذلك لمقام الاختيار إذ كان التَّخْيِيرُ بَيْنَ النبوة والملْكِ وذلك مقام داود وسليمان ، عليهما السلام ، والرسالة والعبودية وهي مقام الأفضل دون انْتِقَاصٍ لآخر مفضول ، فكان من هذا السؤال ما جَلَّ ، فهو يُبِينُ عن درجات من النبوة تَتَفَاضَلُ وبها حَدَّ الوظائف في العطاء والمنع ، وهو مناط الإطلاق أو القيد ، فاقتضى ذلك بَعْثًا أخص ، مَلَكًا مع الروح القدس الذي تقدم في المقام ناصحا أَنْ : "تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ" ، وذلك أمر الإرشاد والنصح ولا يخلو من دلالة الالتماس إذ صَدَرَ من مُسَاوٍ ، فصدر من جبريل ، عليه السلام ، وهو والنبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في درجة واحدة ، ولو بالنظر في الجنس الأعم ، جنس الرسالة ، وإن كَانَ ثَمَّ اختلاف في القيد ، رسولا مَلَكًا وآخر بَشَرًا ، مع آخر إذ ثم الخلاف المشهور بين البشر والملك أيهما أفضل ؟ ، فَلَوْ قِيلَ إِنَّ الملَك أفضل مطلقا ، ولو من الأنبياء عليهم السلام ، فضلا عن صالحي البشر ، لَوْ قِيلَ ذلك فَأَمْرُ جبريل ، عليه السلام ، وإن احتملَ النصح والإرشاد فلا يخلو من دلالة تَزِيدُ وإن لم تَبْلُغْ حَدَّ الإيجاب المطلق فذلك في الوحي مما لا يكون إلا للرب المهيمن ، جل وعلا ، ولو قِيلَ إِنَّ البشر أفضل مطلقا فَإِنَّ الأمر من أدنى إلى أعلى ، لا دعاءً فليس طلبَ حاجةٍ فذلك الشرك الذي تَنَزَّهَ عنه روح القدس ، عليه السلام ، بداهة ، فهو المرسَل بضدِّه توحيدا هو دعوة الرسل كافة فكيف يُقَارِفُ من ضده ما يُبْطِلُ أصلَه مع ما انضم إليه من قرينة العصمة ، عصمةِ الملَك فعبادته اضطرار لا جرم لم يكلف بالمعنى المتبادر من الابتلاء بالأمر والنهي وما يُنَاطُ بِهِ من المدح الجالبِ للوعدِ ثَوَابًا ، أو الذَّمِّ الجالبِ للوعيدِ عِقَابًا ، وإن صدق فيه أنه المكلف فَبِالطَّاعَةِ مطلقا ، فـ : (لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) ، و : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، فإن قيل إن البشر أفضل مطلقا فذلك خطاب أدنى إلى أعلى في مَقَامِ نُصْحٍ وإرشادٍ خالص ، وكذا إِنْ قِيلَ إِنَّ التَّفْضِيلَ إنما يكون لِصَالِحِي البشرِ على الملك ، سواء أكان مطلقا أم بالنظر في المآل فصالحو البشر ، كما يقول بعضُ مَنْ حَقَّقَ ، أفضلُ خلاف الحال فالملائكة أفضل ، فَلَوْ قِيلَ إن صالحي البشر أفضل ، فكيف بصاحب الشرع المنزل صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو أفضل الأنبياء ، والأنبياءُ أفضل البشر ، فهو بِنَاتِجِ القياس من المقدمتين آنفتي الذكر ، هو أفضل البشر ، كما الخبر قد وَرَدَ على لسان خَيْرِ الخلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ : "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ" ، فيكون أفضل من الملائكة من باب أولى إذ صالحو البشر أفضل منهم فكيف بأفضل البشر بل وأفضل الخلق ؟! ، ولو قيل إنهما ، كما تقدم ، على حَدٍّ واحد بالنظر في جنس الرسالة وإن اختلف نَوْعُهَا مَلَكًا وَبَشَرًا ، فَلَوْ قِيلَ ذلك فهو ، أيضا من الإرشاد والنصح المحض .
    وتفضيل البشر على الملَك أو ضده ، هو ، لو تدبر الناظر ، من مُلَحِ العلم فلا يضر الجهل به ، بل الإطناب فيه قد يضر إذ يَشْغَلُ الإنسان عما هو أولى ، فَثَمَّ من الأفضل ما هو واجب الوقت ، وإن لم يُقَلْ إن المقابل في مسائل الديانة مَرْذُولًا فذلك مما يقبح فلا يجوز ، بل التزامه في مواضع ، إذ ثم من يقول وهو لا يدري ما اللازم ، فلا يكون لازم مقاله لازما حتى يلتزم ، فالتزام اللازم أن ثم من مسائل الديانة مرذول أو مقبوح ، ذلك مما يخرج صاحبه من حد الديانة بالتفصيل والجملة ، وإن وجب الاحتراز في هذه الحال لا سيما وقد يكون من حمية القائل وإن أخطأَ بل وأفحش ! قد يكون من تلك الحمية ما يجاوز الحَدَّ دَفْعًا لِمَا قد عَمَّتْ به البلوى في الجيل المتأخر من الإغراق في الفروع حتى بلغ ذلك حد الإمعان في نادر لا حكم له أو محال لا يقع إلا فَرْضًا فتلك المبالغة في فِقْهِ التقدير لا كما كان حال أصحابه أولا إذ كان من تقديرهم ما يَنْفَعُ ، ولو في الجملة ، على الخلاف المشهور بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أهلِ الحديث ، فكان من أهل الرأي اقتراح في مسائل لم تقع ، ولكنها ، مع ذلك ، جائزة تحتمل ، فَلَهَا حَظٌّ من النظر معتبر ، وبحثها يَنْفَعُ إذ بها ، كما أُثِرَ عن أبي حنيفة رحمه الله ، بِهَا يُعِدُّ الفقيهُ عُدَّتَهُ فَيَسْتَبِقُ النَّازِلَةَ ، ولو نظرا أعم لا يشترط فيه حصولها خاصة ، بل حصول جِنْسٍ مِنْهَا بِمَا له من معنًى جامعٍ يَسْتَغْرِقُ ، فذلك مِنْ تَقْدِيرٍ قَدْ نَفَعَ ، فلا يصدق فيه أنه من التكلف طلبا لما لا يُعْلَمُ ، كما بَحْثٌ في الإلهيات قد أفضى بأصحابه إلى التمثيل أَنْ طَلَبُوا حَقِيقَةَ غَيْبٍ لَا يُدْرَكُ ، وكان من ضِدٍّ مَنْ عَطَّلَ أَوْ فَوَّضَ ، وحال المفوِّض في هذا الباب أدق بما تَوَقَّفَ فيه حيث لا يحسن التَّوَقُّفُ فإنه قد رَامَ الخروج من خلاف التعطيل وَضِدٍّ من التمثيل فقال بالتفويض خروجا من الخلاف ولبيس بخارج إذ الباب لا يسلم لصاحبه إلا أَنْ يَتَتَبَّعَ آثارَ المعاني بما استقر في لسان التَّنْزِيلِ المحكم فلا يدخل ذلك في النهي عن اقْتِفَاءِ ما لا يعلم من الغيب ، وإنما المعاني المجردة في الذهن مما يعلم ولا يَلْزَمُ مِنْهَا تمثيلٌ أو تَشْبِيهٌ يُذَمُّ بل هي حتم لازم حتى يحصل الإثبات النافع وما يكون منه إذ يَتَنَسَّكُ المثبِت للمعنى بما تضمن الباب من أسماء الجلال والجمال كافة ، ولا يتكلف ما زاد مما لم يؤمر به إذ لا يطيق ، فلا يطيق حد الحقائق في باب الإلهيات في هذه الدار ، وإن أدرك منها بعضا في دار الجزاء إن كان من أهل النعيم ، فتلك رؤيةٌ بلا إحاطة ، فلا يحيط المخلوق بالخالق ، جل وعلا ، لا في الأولى ولا في الآخرة ، بل : () ، فيكون من إذنه في دار الشهادة إحاطة بالمعاني التي جاءت بها نصوص الإلهيات إن الجلال أو الجمال ، ويكون من إذنه في الآخرة ما ثَبَتَ مِنْ رُؤْيَةِ التَّنَعُّمِ بلا إحاطة ، فالنصوص ذات دلالات تُدْرَكُ وبها التكليف يُنَاطُ أَنْ تُصَدَّقَ ، فلم تأتِ لِتُتْلَى ألفاظا مجردة من الدلالات ، فَتَصِيرَ قَوَالِبَ قد شَغَرَتْ ، فذلك ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ ، سَلْبٌ لِدلَالَاتٍ قَدِ اسْتَقَرَّتْ ضرورةً في اللسان والوحي ، وذريعة تُفْتَحُ إلى التأويل كَافَّةً إِنِ البعيدَ الباطل بل والباطن الفاحش الذي يخرج عن أصول الوضع اللساني الأول بما استقر منه ضرورة في الوجدان ، وجدان المتكلم والمخاطَب حتى صار ذلك من آكد العلوم الضرورية فتلك المقدمات اللفظية التي تُصَاغُ في جُمَلٍ مُرَكَّبَةٍ ، فيكون من دلالة اللفظ بما استقر في الوضع اللساني الأول ، وضع المعجم المفرد وهو أول ما يُطْلَبُ فِي هَذَا الباب ، بابِ الكلامِ المفيد مَعْنًى يَحْسُنُ السكوتُ عَلَيْهِ وَتِلْكَ الغايةُ مِنَ النُّطْقِ فَلَيْسَ أَصْوَاتًا لا دلالة لَهَا فهي تُزْعِجُ السَّامِعَ بلا فائدة ، بل لها أول في الدلالة بما استقر من دلالات المعجم ، فتلك المفردات التي تَدُلُّ عَلَى الشخوصِ والأعلامِ والأجناس الدلالية المجردة في الذهن ، فلا وجود لها في الخارج يجاوز حتى تُقَيَّدَ بموصوف تَقُومُ به قِيَامَ المعنى بالذات ، فذلك قَيْدٌ فِي الخارجِ ، وَثَمَّ آخر في النطق أَنْ تُقَيَّدَ بالسياقِ الذي يَرْفِدُهَا بقرينة تَزِيدُ ، فيفيد اللفظ بالتركيب ما لا يفيد بالإفراد إذ المفرد ذو دلالة في الذهن مجردة لا تجاوز حكاية المعنى المفرد من جنس عام لا يفيد معنى يحسن السكوت عليه فلا يكون ذلك إلا بالتركيب والقيد الذي يَتَرَاوَحُ ، كما يذكر أهل الشأنِ ، من نحو به يستقيم المعنى الأول ، فتلك أولى الدلالات الكلامية المفيدة وثم تال بما يكون من عُرْفِ لِسَانٍ أَخَصَّ فَهُوَ المتداول في الكلام وذلك المشهور من الاستعمال بما لَطُفَ مِنْ كِنَايَاتٍ وَاسْتِعَارَاتٍ وَوُجُوهٍ من المعاني تَلْطُفُ وأخرى من البيانِ تَنْصَعُ بِمَا يكون من خَيَالٍ خَاصٍّ فلكلِّ لسان من ذلك حظ ، ولسان الوحي كما شهد الخصم الذي يُنْصِفُ ، لسان العرب هو الأوسع في مادة اشتقاقه التي تُسْتَخْرَجُ بها من المادة المعجمية الواحدة مشتقاتٌ لسانية تَكْثُرُ بما استقر من أَوْزَانِ الاشتقاق التي تفيد معان تزيد على الأصل ، المصدر المعنوي المجرد في الذهن ، فذلك يشبه ، من وجه ، قسمة الأجناس الكلية فهي في الذهن تُجَرَّدُ وتحتها أنواع وآحاد تَكْثُرُ ، فالجنس العام المطلق هو المصدر وتحته أَنْوَاعٌ صِيغَتْ على مُثُلِ اشتقاق مخصوصة يُفِيدُ كُلٌّ منها معنى يَزِيدُ على المصدر بما كان من قياسه في ميزان الاشتقاق : اسم فاعل أو اسم مفعول أو مثال مبالغة أو اسم تفضيل ..... إلخ ، ولكلٍّ منها في النحو عمل مخصوصٌ ولها في المعاني وظائف تَفْتَرِقُ وإن اجتمعت في الأصل ، فَثَمَّ من انشعابها في الدلالة مع بقاء الأصل في النطق والرسم ، ثم من ذلك ما يزيد في ذخيرتها ، فَثَمَّ من زيادات الاشتقاق في لسان العرب ما ليس في آخر ، مع تَغَايُرِ التراكيب الأولية والثانوية بما استقر من قانون نَحْوٍ محكم لا ينفك يستغرق وجوها من الأداء تقديما وتأخيرا ... إلخ مع ما لها من دلالات معنوية تَزِيدُ وَمَا يَأْتِي بَعْدًا من وجوه من الْبَيَانِ والتحسينِ ، وتلك غاية الكلام بعد أول من أداء المعنى الأولي الذي يحصل بألفاظ ذات دلالات في المعجم منها الجامد ومنها المشتق ، وما يكون من ائْتِلَافِهَا في نَسَقٍ وَاحِدٍ يَنْتَظِمُهَا فيكون من قرينة التركيب السياقي ما يُسْتَصْحَبُ فِي دَرَكِ المعانِي الأخص ، معاني الكلام المركب إذ الألفاظ تفيد بالتركيب في النطق والكتب ما لا تفيد بالإفراد والتجريد في الذهن ، فمن ذلك ، وهو محل الشاهد ، من ذلك في الإلهيات ما يَتَنَاوَلُ المعاني المطلقة دون خَوْضٍ فِي حَقِيقَةٍ أَوْ كَيْفٍ ، فَلَيْسَ طَلَبُهَا يُذَمُّ ، وَلَيْسَ التَّفْوِيضُ يَتَنَاوَلُهَا ، وإنما التَّفْوِيضُ يَنْصَحُ في الماهيات المقيدة في الخارج فهي من الغيب الذي لا يُدْرَكُ في هذه الدار ، خلاف ما تَقَدَّمَ من المعاني المعجمية المفردة وما كان من تَالٍ فِي البيانِ بما يكون من قَيْدٍ في الكلام ، فكل أولئك حتم لازم في النطق إذ لَا يُفِيدُ الكلام إلا بإثباتها فطلبها يحمد وَهُوَ مَنَاطُ التكليفِ أَنْ تُصَدَّقَ وَيُمْتَثَلَ من لَوَازِمِهَا جلالا وجمالا ما يَنْفَعُ ، فذلك مما لا يدخل في النهي أن : (لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، وهو ما يحمل على التحريم بالنظر في دلالة الوضع الأول في اللسان ، فإن النظر في دلالات اللسان المتداولة يجد من الاستقراء الغالب ما يَشْهَدُ لِلنَّهْيِ أَنَّهُ مَئِنَّةُ تحريم يوجب الكف وَالتَّرْكَ فَوْرًا ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أن يكون على التَّرَاخِي إذ يفوت المراد لو تَرَاخَى المنهي في الامتثال فكانت المقارفة للمحرم حتى يأتي وقت النهي ، فليس له وقت بالنظر في دلالة اللسان المجردة ، وإن كان لبعض المنهيات وقت مخصوص كما أوقات النهي عن الصلاة ، ووقت الصوم إذ يُنْهَى فيه عن الأكل والشرب والنكاح ، فالأصل فيه الفور والديمومة إلا أن يكون ثم دليل نسخ أو آخر يُخَصِّصُ أو يُقَيِّدُ ، وذلك ، كما تقدم في مواضع ، أصل يستصحب أولا فلا يُطْلَبُ دليلُه ، فلا يقال وما الدليل أن الأصل في النهي التحريم ، ولم لا يقال إن الأصل فيه الكراهة ؟! ..... إلخ من الاعتراضات العقلية التي دونها أهل البيان والأصول فَلَمْ يخل الباب من خلاف إذ لا يُدَّعَى الإجماعُ أن النهي يدل على التحريم بل ذلك الراجح المعتبر في اللسان والأصول ، ولا يُدَّعَى أن النهي لا يستعمل إلا في التحريم بل له استعمالات أخر فالقول إنه يفيد التحريم إنما كان بالاستقراء الغالب لموارد النَّهْيِ فِي اللسانِ ، فَيَجْرِي مَجْرَى الظاهر مع احتمالِ ضِدٍّ مرجوح فلا يُقَالُ إِنَّهُ النص في بابه ، بل هو الظاهر المتبادر الذي يوجب العمل وإلا تَعَطَّلَتْ أغلب المسائل ، فالظن الراجح يجزئ في العمل إذ هو الغالب ، وإن لم يكن القاطع ، والأغلبي من الدليل يجزئ في بابه ، كما الاستقراء الأغلبي فإنه يفيد كما يقول النظار : الظن الراجح المجزئ في الاستدلال وإن كان ثم احتمالُ ضِدٍّ ، وإن مرجوحا أو معدوما لا أنه المحال وإنما هو الجائز المحتمل ، ولو الاحتمال البعيد الذي يفتقر إلى دليل قوي ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا بَعُدَ المعنى فإنه يفتقر إلى دليل أقوى يَجْبُرُ كَسْرَهُ ، فهو المرجوح الأبعد لا الْبَعِيدُ ، وإن لم يكن المحال الذي يجاوز المعقول فإنه لا يَسْرِي إلا إذا هُدِمَ قانونُ الاستدلال كَافَّةً ، وصار طلب الدليل على التأويل مُسْتَنْكَرًا ! ، فذلك علم لدني أو باطن لا يُتَلَقَّى إلا من مشكاة تجاوز العقل ، وإن شئت دقة فقل تُنَاقِضُ بدائه العقل ، لا كما النبوات التي أمدت العقل بمادة ناصحة من المحارات التي لا يدركها إذ تجاوز مداركه في عالم الحس ، ولا تخالف في نفس الآن عن قواعد استدلاله المحكمة ، فإن المغيب ، كما تقدم في مواضع ، ليس المعدوم ، إذ المعدوم هو المحال ، وإن صَدَقَ فِي المغيَّبِ في علم التقدير الأول أنه معدوم لا العدم المقابل للوجود ، وإنما العدم المؤقت حتى يكون ثم دليلُ إيجادٍ يُرَجِّحُ إذ هو الجائز المحتمل ، فكان من جوازه مبدأ الأمر ما خالف عن المعدوم المحال ، فإما أن يقال إن القسمة : محال وجائز وواجب ، وهي المشهورة المتداولة لدى النظار ، وإما أن يقال إن القسمة : معدوم يستغرق كل ما لم يكن في الخارج ، سواء أكان ابتداء من المحال الذي لا يجوزه العقل ولو احتمالا وإنما الغايةُ فَرْضٌ محض في الجدال والنقض فذلك معدوم مطلق وهو مما يُؤَبَّدُ فَلَا يَثْبُتُ احتمالٌ لوجوده ولو مرجوحا يُضَاهِي المؤول البعيد فليس بمحال كما نظيره الباطن الذي يجاوز فيه المتأول المعنى المتداول إلى آخر لا يحتمله اللفظ ولو بَعِيدًا يُهْجَرُ فَلَيْسَ إلا العبث واللعب ! ، وإن افتقر البعيد إلى قرينة أقوى لَهُ تُرَجِّحُ في مقابل ظاهر راجح كما تقدم من النهي آنف الذكر ، فالأصل الراجح فيه التحريم وهو مَا يُسْتَصْحَبُ أولا ، فلا يسأل عن الدليل ، وإن لم يبلغ حد القطع ، فذلك الظاهر الراجح إذ احتمل أضدادا تدور كما استقرأها أهل البيان والأصول من الكراهة والإرشاد ..... إلخ ، فهي أضداد للتحريم ولكنها لا ترجح فهي المرجوحة التي لا تُسْتَصْحَبُ بل العدول إليها انتقال عن الأصل الأول فلا يكون إلا وثم دليلٌ ناقلٌ يُرْتَضَى ، فَإِنْ جَاءَ به المخالِف فَمَعَهُ زيادةُ علمٍ تُوجِبُ الانتقالَ إلى قوله ، والخلاف فِي جعلها الأصل في باب النهي ، الخلاف في ذلك يَضْعُفُ فالراجح وإن لم يخل من نظر يعتبر ، فالراجح أن الأصل في النهي هو التحريم ظَاهِرًا يَرْجُحُ لَا نَصًّا يَجْزِمُ ، لا جرم احتمل التأويل إذا كان ثم قرينة معتبرة ، كما العام في الأصول مثالا يضاهي فهو ظاهر في الدلالة ، فَيُسْتَصْحَبُ أَصْلًا في العمل حتى يَرِدَ دَلِيلُ التخصيص الذي يُخْرِجُ آحَادًا من العام ، ولكنه لا يُبْطِلُ حجية العام إذ تَسْتَغْرِقُ ما عَدَا صورة التخصيص ، فالعام المخصوص ، كما يقول أهل الأصول ، حُجَّةٌ فِيمَا عَدَا صورةِ التخصيصِ ، فكان من النهي : ظاهر في التحريم يَرْجُحُ ، وهو ما يُضَاهِي ، أيضا ، الاستقراء الأغلبي الذي يُفِيدُ ظَنًّا يَرْجُحُ في مقابل الاستقراء التام الذي يفيد جَزْمًا يَقْطَعُ ، فالاستقراء الأغلبي يُؤَسِّسُ لقاعدةٍ تُسْتَصْحَبُ في الاستدلال حتى يَردَ دليل صارف عنها ، فلا يجزئ في العدول عنها احتمال مجرد من الدليل إذ الأصل قد ثَبَتَ بدليلٍ ، ولو احتملَ ، فكان من استقراء كلام العرب وهو معدن النظر في مبحث الدلائل ، وهو الذي به قد نَزَلَ الوحي الخاتم فلا يحسم مادة الاختلاف في الاستدلال الديني : الخبري أو الحكمي ، لا يَحْسِمُهَا إلا الرجوع إلى لسان العرب استنطاقا واستنباطا ، فالاستنباط وهو الأخص إذ يطلب من المعنى ما لا يدرك إلا بالنظر المدقق إِنْ ظَنًّا يَرْجُحُ أو علما يجاوز ولكنه لا يَبْلُغُ حَدَّ الضرورة كما المتواتر مثالا في الرواية فهو يُفِيدُ العلم الضروري الذي يحصلُ لكلِّ أحدٍ خَاصًّا أو عَامًّا إذ لا يفتقر إلى نظر ولا استدلال ، فالعلم قد يحصل ضرورة كما المتواتر في باب الرواية ، وقد يحصل نَظَرًا فَيَفْتَقِرُ إلى نظر واستدلال أخص وإن بلغ بهما حد العلم المجاوز للظن الراجح ، فلم يبلغ مع ذلك حد العلم الضروري فهو الأعلى في الاحتجاج كما المتواتر في الرواية إذ يَرْجُحُ الآحادَ إِنِ اخْتَلَفَا وَتَعَذَّرَ الجمعُ ، والظن الراجح في المقابل هو الأدنى كما خبر الآحاد المجرد من القرائن فيفيد ابتداء الظن الراجح إذا اسْتَوْفَى شروطَ الصِّحَّةِ فِي الاصطلاح وذلك مما يُسْتَصْحَبُ ظَاهِرًا يَرْجُحُ حتى يَرِدَ دليل له يَنْقُضُ فَيُبِينُ عن شذوذ أو عِلَّةٍ تخفى إن في الإسناد أو في المتن ، وبينهما ، العلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر ولا استدل كما المتواتر في حد والظن الراجح الذي يستصحب حتى يرد دليل ناقل إلى ضد مرجوح وهو المؤول كما خبر الآحاد الصحيح المجرد من القرائن ، بَيْنَهُمَا : العلم الضروري والظن الراجح ، بَيْنَهُمَا العلمُ النظري الذي لا يحصل دفعةً بلا نظر ولا استدلال كما العلم الضروري ، وهو ، أي العلم النظري ، هو فِي نَفْسِ الآن يجاوز الظن الراجح إذ ثم من القرائن المحتفة ما زَادَ فَبَلَغَ به درجة فُوَيْقَ الظن الراجح ودون علم الضرورة الجازم ، كما المثال في الرواية يُضْرَبُ بِخَبَرِ الآحاد إذا احتفت به القرائن فهو أولا يفيد الظن الراجح فإذا حصل له من القرائن ما زَادَ فَإِنَّهُ يَرْقَى بِهِ فَيَبْلُغُ العلمَ النظري وإن لم يجاوز فيبلغ الضروري فذلك المتواتر الذي لا يفتقر ، بادي الرأي ، إلى نظر أو استدلال .

    فالاستنباط أخص في الدلالة بَعْدَ أول هو الأعم استنطاقا لِلِّسَانِ العربيِّ بما اطرد من نَظْمِهِ وَشَكْلِهِ وذلك أول في الحكاية ، ألفاظا تَنْتَظِمُ حروفَها مَوَادُّ المعجم المفرد ، وهي الوجوه المستعملة فلا عِبْرَةَ بالمهمل الذي لم تَتَكَلَّمْ به العرب فَنَظْمُهُ إذ تصطف حروفه في نَسَقٍ مخصوص ، ذلك مما لم يُعْهَدْ في كلام العرب وإن احتمله تجويزا فلا ينفك يفتقر إلى مرجح من خارج يثبت استعماله ، فلا يكون ذلك في بابٍ توقيفٍ كاللسان ، لا يكون ذلك إلا بدليل أول معتبر من كلام العرب الْخُلَّصِ ، وإن احتمل اللسانُ الاشتقاقَ فتلك صِيَغٌ تَأْرِزُ إلى أصول أولى من مواد المعجم وهي محل الخلاف ، فليس الخلاف في استحداث مشتق لم يكن يُسْتَعْمَلُ ، وإنما الخلاف في استعمال أصل في المعجم لم تنطق به العرب كما النحاة يضربون المثل في حد الكلام بالمهمل "ديز" وهو مقلوب "زيد" .
    فالمبدأُ ألفاظٌ ذاتُ نَظْمٍ مخصوص في النطق والكتب فهي المستعمل بما اطرد في كلام العرب مَعَ ما تقدم من وجوه الاشتقاق التي تَرْفِدُ اللسان بوجوه من النطق تكثر ولكلٍّ من المدلول أخص ، فاسم الفاعل قَارِئٌ يخالف عن اسم المفعول مقروء ، يخالف عنه في الدلالة الأخص ، وإن كان أصل الاشتقاق واحدا من القراءة ، وما كان بَعْدًا من سلك ظاهر يَنْتَظِمُ هذه المفردات بما يواطئ قانون النحو الذي يبين عن المعنى الأولي المتبادر وهو ، كما تقدم ، الظاهر الراجح ، وإن احتمل غَيْرًا هو المؤول ، وذلك ما يكون تاليا من سِلْكٍ يَلْطُفُ فَهُوَ يَنْتَظِمُ هذه الألفاظ بما يُوَاطِئُ قَانُونَ عُرْفٍ أخص هو المتداول في حكاية الألفاظ ومنه العام ومنه الخاص ، فالعرف العام قد اشتهر زمن التكلم وعليه المعول في دَرَكِ مُرَادِ المتكلم فإنه لا يُحَاكَمُ إِلَّا إِلَى عُرْفِ زَمَانِهِ فَلَا يُحَاكَمُ إلى عُرْفٍ تَالٍ قد حدث بَعْدًا ، ومنه العرف الخاص في اصطلاحات العلوم ، فَلَا يَتَبَادَرُ المؤَوَّل ولا يكون المصير إليه أولا يُسْتَصْحَبُ إذ ليس له من الدليل ما يشهد كما الظاهر الذي يَرْجُحُ بادي الرأي ، فالظاهر لا يُسْأَلُ عن دليله فقد كان من الاستصحاب لاستقراء أغلبي لما أُثِرَ من الكلام العربي المحتَجِّ بِهِ ، كان من ذلك ما دل على الظاهر فلم يكن الحكم بِتَرْجِيحِهِ تَحَكُّمًا يَرْجُحُ بلا دليل كما المؤول إِنْ صُرِفَ اللَّفْظُ عَنِ الظاهر الراجح إلى المؤوَّل المرجوحِ تحكما بلا دليل ينصح من منقول أو معقول ، عَلَى تَفْصِيلٍ متى تصح قرينة العقل ومتى لا تصح ، فإنها ، كما تقدم ، لا تصح في باب الغيب إلا دَرَكَ المعنى المطلق فلا تصح صارفة عن ظاهره المأخوذ من لسان العرب ، لا تصح صارفة عنه إلى مؤول إذ لم يُدْرِكِ المستدِلُّ ما يجاوز من حقيقة في الخارج ، لِيَصْرِفَ النَّظَرَ عنها وهي الراجحة ، فغاية ما أدرك هو المعنى المجرد في الذهن : أجناسا دلالية مطلقةً ، وإن كان منه المركب الذي يَنْتَظِمُهُ السياق المنطوق فيكون من ذلك قرينةُ لفظٍ تُعْتَبَرُ في الأخبار فالتأويل فيها أخص لا كالأحكام إذ اتسعت فيها دائرة العقل ما لم تَتِّسِعْ في أخبار الغيب ، فالقياس في الأحكام بداهة أرحب ، وإن كان منها أحكام تَعَبُّدٍ فلا قياس فيها إذ مدارها التوقيف ، فَلَا يُدْرِكُ العقل فيها وجه الدلالة الأخص وإن وجد من آثار الحكمة الأعم ما يَنْصَحُ .
    والشاهد أن القسمة في النظر إما أن تكون ثلاثية : محال وجائز وواجب ، وهي المشهورة المتداولة لدى النظار ، وإما أن تكون ثنائية تَتَرَاوَحُ بين : مَعْدُومٍ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ ما لم يكن في الخارج ، سواء أكان ابتداء من المحال الذي لا يُجَوِّزُهُ العقلُ ، ولو احتمالًا ، على التفصيل آنف الذكر ، أم كان من الجائز المحتمل الذي لَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ ، فَهُوَ في باب التقدير الإلهي : المعلوم الأول الذي يضاهي في الحد : خلق التقدير في الأزل وَمَا صَدَّقَهُ مِنْ سَطْرٍ في لوحِ تَقْدِيرٍ ثَانٍ ، وما يرجح من المشيئة والكلمة المرجِّحة ، كلمة التكوين وبها تأويل هذا المعدوم المؤقت ، بها تأويله في الشهادة موجودا إذ ليس عدمه مؤبدا كما المحال الممتنع ، فالمعدوم المؤقَّت معدومٌ لَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ ، فَإِذَا وُجِدَ فَخَرَجَ إلى عالم الشهادة مُصَدِّقًا لِمَا تَقَدَّمَ من خلق التقدير الأول ، إذا كان ذلك فهو يَنْدَرِجُ في حَدِّ القسيم ، قسيم المعدوم على التفصيل آنف الذكر في قسمة ثُنَائِيَّةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ معدومٍ ، ومشهود وهو ما يدرك بالحس في هذا العالم فلا يُنَاطُ به ابتلاءُ تصديقٍ ، وإنما مناطه الامتثال لأحكام تشريع بها يَنْتَظِمُ أمرُه ، فكان من أحكام الشريعة ما يُنَاطُ بالظواهر ، فلا يجاوز القول بالإجزاءِ في أحكام الفقه ، لا يجاوز ما يظهر من الفعل الذي استوفى مجموعه المركب من المحل والحكم والسبب والشرط والمانع الذي يجب انْتِفَاؤُهُ ، والركن والواجب ..... إلخ من أجزاء بها المجموع الظاهر يثبت ، فلا يبحث الفقه في مواضع السر الذي لا يعلمه إلا الله ، جل وعلا ، إلا أَنْ يَرْشَحَ في الخارج ما يدل على السر الباطن ، وإلا فَهُوَ مِمَّا وُكِلَ إلى الخالق ، جل وعلا ، فما كَلَّفَ الخلقَ أَنْ يَعْلَمُوا الغيبَ ، وإنما كَلَّفَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا به إِذَا ثَبَتَ مِنْ طريقٍ صحيحةٍ تَنْصَحُ ، فهو ابتداء الجائز ذو الطرفين المستويين ، فافتقر إلى مرجح من خارج ، وليس ذلك مما يطيق العقل في مسائل الغيب ، فغايته ، كما تقدم ، التجويز العقلي المحض ، وهو أول يميز ، إذ به فُرْقَانٌ بَيْنَ الغيبِ والخرافةِ ، لا كما تُرَوِّجُ الحداثةُ إذ تُسَوِّي بَيْنَهُمَا لتحجبَ الخلق عن مرجع الوحي المجاوز من خارج ، فَهُوَ غَيْبٌ يخاطب في الإنسان مستودعَ أفكارِه لا مستودع أشيائه ، وذلك قدر فارق رَئِيسٌ بين الوحي والحداثة ، فالوحي يخاطب في الإنسان أشرف ما فيه روحا تَلْطُفُ مع عناية معتبرة بما ينفع من الأشياء فَسَنَّ لَهَا من ذلك الأحكام : أحكام الظاهر ، ولكنها لا تَنْفَكُّ تَصْدُرُ عَنْ تَصَوُّرٍ رسالي أول ، وهو ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، هو أصل حاكم يضبط الحركة في الخارج ، ويأطر نظريات السياسة والحرب والمال على جَادَّةِ حَقٍّ إذ يجاوز بها مدارك الحس فلا يقصر نظره على دار مآلها الفناء وَالْبِلَى فَبَعْدَهَا أخرى تَبْقَى فَلَا تَفْنَى وهي ما يطلبه العقلاء كافة لو كان ثم نظر يُسَدَّدُ ولا يكون ذلك إلا أَنْ يَرْقَى العقل فَيَتَحَرَّرَ من آصار الشهادة ويؤمن بالغيب لا الخرافةِ ، وأما الحداثة فلا عناية لها إلا بالأشياء بل قد جعلت ذلك آيةَ امتيازِها في الخارج وَإِنْ سَلَكَتْ بهذه الأشياء التي تدرك بالحس ، سلكت بها بُنَيَّاتِ طريقٍ فَصَيَّرَتْهَا أدواتِ عَبَثٍ وهدمٍ لحضارة البشر ، وَإِنِ المادِيَّةَ الَّتِي تُوَاطِئُ مِعْيَارَ الشَّيْئِيَّةِ المجردة من وصف الأخلاقية ! ، كما الحال في الأجيال المتأخرة وإن كان من عَمَلِهَا الدءوب في صناعة الأشياء ما يحمد ، بل هو من السبب الذي يُشْرَعُ ، بَلْ وَيَجِبُ تحصيلا لضروري المعاش وعمارة للأرضِ فَأَدَوَاتُهَا وسائل ولها أحكام المقاصد ، فمن رام بها العمارة والإحياء فَلَهَا حكمها ، ومن رام بها الهدم والقتل فَلَهَا حكمها أيضا ، فَذَلِكَ من قانونٍ في القياس الناصح يطرد وينعكس ، فالشيء في نفسه آلةٌ مجردة من القيمة فلا بُدَّ من قيمة أولى تَتَقَدَّمُ وبها الفعل يَحْسُنُ أَوْ يَقْبُحُ ، فيكون من تال من الحكم مَا يُحِلُّ وما يَحْظُرُ ، وذلك قانون عام يطرد في الآلات كافة ، فَلَيْسَتْ تُرَادُ لِذَاتِهَا بل لا بد من قيمة أولى تجاوزها فهي تحكم فيها من خارج وهي المقصد فالوسيلة تَبَعٌ له إن في الوصف أو في الحكم على التفصيل آنف الذكر .
    فمن عمل الجيلِ المتأخِّرِ في صناعة الأشياء ما يُحْمَدُ ، ولكنه لا يكمل إلا إن كان من يُسَيِّرُهَا إنسانا بالمعنى المجاوز لهيئة الظاهر ، فقد حصل له من انتكاسة في الباطن ما انحط به إلى دركة حيوان أعجم بل هو أضل ، كما يَنْقِلُ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فالإنسان إذا سلك الجادة الرسالية فهو يَرْتَقِي في معاريج الكمال فيرجُحُ الملَك ، على التفصيل آنف الذكر في تفضيل صالحي البشر على الملائكة ، وإذا حاد عن جادة الوحي فهو أضل من الحيوان الأعجم وإن جَمَعَ من الأشياء ما جَمَعَ بل قد صارت عليه وَبَالًا إذ لم يكن من الأفكار ما يأطرها إلا أفكار الحس فلا تجاوز الغرائز الطالبة لِلَذَّةٍ تعجل في دار شهادةٍ تَفْنَى فلا دَرَكَ لَهَا يجاوز إلى دار أخرى لَذَّاتُهَا تَكْمُلُ وَتَبْقَى فَكَانَ مِنْ فَسَادِ الأفكارِ مَا حَرَمَ صاحبَه الانتفاعَ الأكمل بالأشياء فلم يجاوز بها ظاهر الحياة الأولى ، بل قد صارت بَعْدًا أداةً بها تخريب الحياة وإفسادُها بِمَا كَانَ من خروجٍ فاحشٍ عن سُنَّتِهَا المحكمة ، فما يستفيد الخلق من الشيء المحدَث إن كان من يستعمله حيوانا أعجم بل قد انحط إلى دركة أدنى فخالف عن بَدَائِهِ الفطرةِ ! ، واضرب له مَثَلًا يَلْطُفُ ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فكان من ذلك مثال في نظرية الرِّزْقِ وما يكون من دوافع لطلبه وما يتقدم من تصور أول عن ماهية الرزق وطرق الكسب والغاية من تَعَاطِي أسبابِه ، فإن الأرزاق في مقالِ الرسالة لَا تَفْنَى فَثَمَّ مِنْ خَزَائِنِهَا ما لا يَنْفَدُ وَإِنَّمَا خُوطِبَ الخلقُ أَنْ يُبَاشِرُوا أسبابَها إجراءً لأحكام الشريعة مع تَوَكُّلٍ به يَنْصَحُ بَاطِنُ الاعتقاد ، وذلك مما يُعَزِّزُ في النفوس خَاصَّةً تُحْمَدُ من إيثار وشركة لا سيما في المجاعات والنَّوَازِلِ كما الخبر يمدح الأشعريين ، فـ : "«إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ»" ، فَإِذَا جَاعُوا جمعوا ما عندهم واقتسموه بالسوية في إناء واحد لا يميز الغني من الفقير ، الحر من الرقيق ، فتلك المشاركة على قاعدةِ التَّكَافُلِ والمعاضدَةِ ، والحداثة في المقابل تَزْعُمُ أَنَّ الموارد محدودة والأفواه مفتوحة فلا بد من تَقْلِيلِ الآكلين ولو بِالْوَأْدِ ما خَفِيَ وما ظَهَرَ ، بل وبالقتل في السلم والحرب ، وما يكون من بَثِّ الأوبئة وافتعال المجاعات فهي خَيْرٌ يَعْظُمُ ، حَصَلَتْ قَدَرًا أو باشر الخلق أسبابها إفسادا في الأرض ولا تخرج مع ذلك عن القدر الأول ، فكل أولئك خير عندهم إذ يخلص الملأَ وَهُمُ الأرقى في سُلَّمِ التَّطَوُّرِ ! ، يخلِّصهم من شوائِبَ دُنْيَا لم يحصل لها من الكمال مَا بِهِ تستحق الحياة إلا خَدَمًا يَتَرَفَّهُ به السادة ، وأداة بِهَا تَعْظُمُ المكاسب بما يكون من عمل الأدنى في مال الأعلى فهو أداة بها يُثَمِّرُ كَنْزَهُ ، مع ما يشتري غيرُه من سِلَعِهِ وَبَضَائِعِهِ ، وما يقترض منه بالربا ، فالمرابي لا بد له من جمهرة تَكْثُرُ من المقترضين إذ صَنَعَ الأزمة التي ألجأتهم إلى الاقتراضِ منه بالربا ليزيد ماله وَيُسْتَنْزَفَ مالُهم وجهدهم في زيادةِ كَنْزِهِ بِلَا جهد ! ، مع احتراز يحد من الكثرة ! ، فَهِيَ أَفْوَاهٌ تطعم وتستهلك ، وضعفها كَمَا التَّطَوُّرُ يَقْتَرِحُ في انتخابِه الجائر الذي يُنَزِّلُ الإنسانَ العاقلَ منزلةَ أيِّ كائنٍ ، ضعفُها كما يقترح هذا الانتخاب سببٌ به تستحق الفناء إذ لا بقاء إلا للأقوى بما استجمع من أسباب القوة والثروة ، وَلَوْ تَوَسَّلَ إليها بأسباب تحرم ، كما يَتَوَسَّلُ محتكرُ المالِ بالربا أن يكثر ماله ولو كثر الفقراء حوله ، فهم ، كما تقدم ، أداة بها يُثَمِّرُ ماله وإن زادوا عن الحد فهم كالذباب الذي يستحق القتل إذ يُؤْذِي الخلق بضجيجه وقذره ! .

    فتلك المفاصلة على قاعدة التقاتل في مقابل ما تقدم من حال الأشعريين فهي المشاركة على قاعدة التكافل ، وشتان إذ المرجع قد اختلف بل وتناقض : حداثة لا تقيم وزنا إلا للأشياء في مقابل الوحي الجامع ، فهو الأفكار التي تأطر الأشياء على جادة هدى وعدل ، ورحمة بها الخلق ينصح ، فالوحي أفكار تَلْطُفُ من أخبارٍ تَصْدُقُ وأحكامٍ تَعْدِلُ ، وذلك ما استوجب ، كما تقدم مرارا ، البحث المدقق في دلائل النبوة والوحي من جواز ذلك أولا إلى تَالٍ يُرَجِّحُ في هذا الجائز طرفَ الإيجاب ، فَلَيْسَ الواجبَ ، بادي الرأي ، كما قال بعض المتكلمين ممن غلوا في تقدير العقل فجاوزوا به حده حتى صيروه مُوجِبًا على خالقه ، جل وعلا ، فجعلوا بَعْثَهُ الأنبياءَ ، عليهم السلام ، جعلوه وَاجِبًا عليه ، فكان منهم قياسُ فعلِه على فعلِ المخلوق وهو عمدتهم في باب المقادير فقد حملهم على نَفْيِ القدر قياسا على أفعال البشر ، وهو ما اطرد في كلامهم على النبوات إذ أوجبوها على الله ، جل وعلا ، والصحيحُ أَنَّهَا جائزة حتى كان من دليلِ الترجيح المثبِتِ رحمةٌ من الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، الذي أَمَدَّ العقل بقياسه المصرح ، أمده بِنَصٍّ صحيحٍ ينصح قد حَسَمَ الخلاف في مسائل التصديق الخبري والامتثال الحكمي ، فكان منه أخبار صادقة تُصَحِّحُ القوة العلمية تصورا ، وكان منه شرائع عادلة تُصَحِّحُ القوة العملية حكما ، فهي الجائزة حتى يكون دليل الإيجاب ، وهي ، مع ذلك ، الدعوى التي تفتقر إلى الدلائل ، فكان من رحمة الله ، جل وعلا ، أن أقام على النبوة دلائلَ تَبْلُغُ حَدَّ التواتر الذي يفيد العلم الضروري الملجئ ، وهي ما تَنَوَّعَ فكان منها نَقْلٌ لمن يُؤْمِنُ بجنسِ النبوات وإنما يَطْلُبُ دليلا أَخَصَّ على آحاد منها كما دلائل النبوة الخاتمة المصدِّقة لما قبلها المهيمنة عليها ، وكان منها عقل لمن لا يؤمن أولا فلا بد من نظر أدق أَنْ يُقَامَ من الحجة الرسالية أولا : حجة النوع أو ما اصطلح ، كما تقدم في مواضع ، أنه المسلك النوعي ، فإذا سَلَّمَ بها كان البحث تاليا في حجة الشخص ، عين النبوة المخصوصة أو ما اصطلح أنه المسلك الشخصي ، فمن آمن بالنوع فجداله أيسر ولو إقامةَ حجةٍ تَنْصَحُ ، خلاف من أنكر النوع ابتداء فلا بد من التدرج انتقالا من إثبات النوع إلى إثبات الشخص ، كما المثل يضرب ، والشيء بالشيء يذكر ، كما المثل يضرب بالمشرك الأول الذي لم يخالف عن فطرة الضرورة توحيدا في الخلق والتدبير فذلك توحيد الرب الخالق ، جل وعلا ، وهو ، كما تقدم في مواضع عدة ، هو المقدمة الضرورية الملجئة في العقل إذ لا يكون حادث بداهة إلا وثم محدِث ، ولا يكون الإحداث إلا أن تَنْقَطِعَ سلسلة الإحداث فَتَبْلُغَ المحدِث الأول الذي لا محدِث له وإلا لم يحدث شيء فلا زال الأمر مُعَلَّقًا بإرادة المحدِث السابق فإذا سَلَّمَ سابق إلى آخر فالأمر لا يَنْتَهِي ولا بد له من نهاية في التأثير حتى يكون الحدوث ، فذلك دليلُ فطرةٍ وعقلٍ ينصح وهو ما أقر به الجيل الأول من المشركين وقد كانوا أَسْلَمَ فطرةً وإن لم يكن لهم من عالم الأشياء ما للجيل المتأخر فقد كانوا أنصح في عالم الأفكار ، ولو خالفوا ، أيضا ، عن قانون عقلي صريح ، فالحداثة المتأخرة قد أَبَتْ واستكبرت فخالفت عن المقدمة الضرورية في باب الخلق والحدوث حتى اقْتَرَحَتْ خَلْقًا بلا خالق ، وإنما موجود قد وُجِدَ صدفةً فكان من خبط العشواء بلا إرادة ولا قصد مَا رَجَّحَ وجوده ، مع ما يَرَى الناظر من إتقانٍ وحكمةٍ ، فذلك مما ينكره العلم الضروري إذ لو ألزم صاحب هذه الدعوى أنه كما اقْتَرَحَ من أول الخلق ، فهو ، أيضا ، يخبط عشواء فلا إرادة ولا قصد ولا علم ومع ذلك تخرج أقواله وأفعاله وكتاباته إن كان من أهل التصنيف والتدوين ، تخرج على معيار محكم ، وإن في الخداع والمغالطة العقلية ! ، فَلَا يَنْفَكُّ المصنِّف وهو يروج لباطل لا ينفك يزخرف كلامه ويحتال بما يظهر من الإنصاف والتجرد والموضوعية والعقلانية مع استعلاء يَتَكَلَّفُهُ ، كَمَا يقول بعض من صنف في خداع الجمهور المخاطَب ، فمن ذلك أن يَكْتَسِيَ المتكلم لحاء العلم والتحقيق فهو يخاطب عقول أطفال لَمَّا تَبْلُغْ بَعْدُ رشدَها فضلا أن تُدْرِكَ ما يُلْقِيهِ من العلوم الدقيقة ! ، وإن كانت خرافات عريقة لو تَجَرَّدَ المخاطَب وتخلص من تأثير المخاطِب فَقَاسَهَا على أي معيار ، ولو معيار الطفل إذا ضُرِبَ فإنه بما يملك من فطرة يَلْتَفِتُ وَرَاءَهُ لِيَرَى مَنْ ضَرَبَهُ ، فَلَا يَرْضَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ الضربة كانت بلا ضارب فكانت المحدَث بلا حادث وهي ضربة ! ، فكيف بهذا العالم ، وإنما تَبَجَّحَ القائل في مقام العالم المحقق ، تَبَجَّحَ بما ضَمَّنَ كلامَه من اصطلاح يدق ومقدمات منها صحيح يكثر فيزدحم عقل المخاطب ويجهد مع ما يكون من التشتت وانصراف الذهن بكثرة المدخلات والحيدة عن الجادة إذا ألزم بما يفضح فيكون من احتياله في الجدال ما يخدع عامة الخلق ممن يسمع ولا يستمع ، فإن المتكلم قد أجاد فَنَّ الاحتيال في الجدال ، فَضَمَّنَ كلامه مقدمات كثيرة واستقراءات صحيحة ثم دَسَّ فيها سما زعافا ، وَلَوْ قَلَّ ، فَهُوَ يُفْسِدُ وَيُهْلِكُ ، فكان من جيل المشركين الأوائل ما سلم مجادِله من هذه المغالطات ، إذ أقر بالملزوم الأول من توحيد الربوبية في الخلق بل والتدبير بما يكون من التسخير ، فـ : (لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، فلئن ناقض فلم يلتزم لازم الملزوم ، فإن لازم الملزوم الأول : ربوبية ، هو : الألوهية توحيدا في التعبد والتأله الذي يستغرق الخبر تصديقا والحكم امتثالا وذلك ما عم الأحكام كافة ، أحكام الفقه وأخرى في السياسة والحرب ، فكان من ذلك التوحيد مجموع مركب قد استغرق المحال كافة ، المحل الباطن بما كان من تصديق ناصح يصحح القوة العلمية الأولى : قوة التصور ، وتشريع عادل يَسْتَغْرِقُ الحكومات كافة ، فحصل من ذلك المجموع الإيماني الناصح ما بطن من العقد وما ظهر من القول والعمل ، وتلك قسمة الإيمان بالنظر في أجناس التكليف اعتقادا وقولا وعملا ، مع أخرى بالنظر في المحال : ما بطن وهو الاعتقاد والعلم مع ما يكون من عَمَلٍ باطن يَنْشَأُ من أوَّلٍ يُصَدِّقُ وَيُقَرِّرُ فهو في الاعتقاد يُرَجِّحُ فيجاوز العرفان المجرد الذي يحصل في أيِّ محلٍّ إِنْ عُرِضَ عليه المقال فاستفاد منه صورة مجردة لا تجزئ في حصول تصديق هو الأخص ، فَلَئِنْ حُدَّ اعتقادًا في الجنان فلا يخلو من عمل ، ولو لَطُفَ ، عملِ الترجيح مع قول هو التوحيد فالاعتقاد المثبِت ، وَلَوْ بَطَنَ ، فَاسْمُ القولِ فيه يصدق ، فَثَمَّ عمل الترجيح في التصديق مع عَمَلٍ أَخَصَّ ينشأ من الحب والبغض وهما مَنْشَأُ كُلِّ حركةٍ في الكون بطنت أو ظهرت إذ به الترجيح في باب الإرادة فعلا أو كفا ، مع أخرى من الرجاء والتوكل ..... إلخ ، فكل أولئك من الأفعال التي تَبْطُنُ ، فاجتمع في الجنان الاعتقاد والقول والعمل ، وكان من الظاهر قولُ لسانٍ وفعلُ جَوَارِحَ تُصَدِّقُ إِنْ بالفعلِ أو بِالتَّرْكِ ، فكان من قسمة الإيمان ، من هذا الوجه ، قول وعمل ، قول الجنان اعتقادا وقول اللسان شهادة ، وعمل قد استغرق المحال كافة : عمل القلب ترجيحا في التصديق الأول مع حب وبغض وإرادة تَتَأَوَّلُ الحب بالفعل والبغض بالترك وما تَلَا من رجاءٍ وَتَوَكُّلٍ ... إلخ ، وعمل اللسان ذكرا وتلاوة ، وعمل الجوارح إذ تصدق ما تَقَدَّمَ قَبْلًا من الاعتقاد والباعث ، فكان من الملزوم الأول : ربوبيةً ، كان منه ما يدل ضرورة على اللازم من الألوهية والتعبد على التفصيل آنف الذكر ، وبه حُوجِجَ المشركُ الأول فإنه قد تحكم إذ أثبت الملزوم الأول دليلَ الضرورة الفطرية والحسية الملجئة أَنَّ لهذا الخلق خالقا ، فَلَزِمَهُ ما تلا من لازم التوحيد في الألوهية تصورا وحكما ، خلاف المحدِث في هذا الجيل إذ كان الجحود الصريح فَصَارَ الجدال أعسر لا أن الحجة أقوى ، وإنما المجادل قد خالف عن بدائه من العقل والفطرة والحس ، فَعَسُرَ جدالُ مَنْ يُنْكِرُ البدائه وهي مقدمات الضرورة الأولى في أي قياس يفضي إلى نتائج ، مع ما يفتضح من حاله بأدنى نظر يجاوز مغالطات المجادل الذي يخاطب الجمهور ، كما تقدم ، خطاب الأطفال فهو يُرَاهِنُ على غفلتهم مع ما يُرْهِبُ به المخاطَب بألقاب واصطلاحات ، وإن ظهر بطلانها لمن استعمل من العقل حدا أدنى من النظر ، وهو ما يَرُدُّ عجزَ كلامٍ إلى صدره ، إذ كان النهي أن : (لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فأولئك إذ تحكموا في حكاية قصة للخلق لا يصدقها طفل ، فلو خاطبوا الجمهور كالأطفال ما ساغ هذا المقال ، فأولئك قد اقْتَفَوْا ما ليس لهم به علم إذ لم يشهدوا هذا الخلق ، فهو من الغيب الذي لا يُنَالُ إلا من مشكاة المخبِر الصادق ، وليس ذلك في باب الإلهيات والسمعيات إلا الوحي النازل ، فاستغرق النهي أولئك إذ خالفوا فَقَارَفُوا المنهي عنه في الذكر المحكم أن : (لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فالخطاب قد تَوَجَّهَ إلى مفرد ، وهو ، من وجه ، يجري مجرى الخطاب لغير معيَّنٍ فيستغرق كل مَنْ يصدق فيه هذا الوصف : اقتفاءُ ما ليس يعلم ، فاستغرق ماهيات الغيب إن الإلهيات أو السمعيات التي لا تدرك إلا بالخبر الصحيح المصدَّق لا جرم كان الاشتغال الأنفع في الباب ما تقدم من استقراءٍ لدلائل النبوات نَوْعًا وَشَخْصًا ، فإذا صَحَّ خَبَرُهَا في غيب فهو المصدَّق إذ لا يدرك العقل ماهيته وإن أدرك المعنى المجرد في الذهن ، واستغرق النهي ، من وجه آخر ، الأحكام غير معقولة المعنى مما يجري مجرى التعبد فهي توقيفية لا يدرك العقل علتها الأخص وإن أدرك منها وجه حكمة أعم ، خلاف ما يدرك العقل معناه الأخص عِلَّةً قد اطرد معها الحكم وجودا وعدما ، كما أحكام الربا محلَّ شاهدٍ تَقَدَّمَ ، فهي مما يشرعُ اقتفاء أدلته لا معارضة وإبطالا بما يكون من شبهات تقدح وإنما اقتفاءَ التصديق والامتثال مع اجتهاد في النصح طلبا للحق بدليله الصحيح ووجههِ الصريح وآخر يستنبط العلة فهو يُخَرِّجُهَا إذ لم يكن ثم نص عليها لا مفردةً ولا في سياق يُنَقَّحُ ، فكان درك العلة بالتخريج وهو مناط نظر أدق على الخلاف المبسوط في كتب الفقه ، مع تال في تحقيقها فيما يَجِدُّ من البيوع ، فالنهي لم يستغرق معقول المعنى من حكومات الفقه ، وإنما استغرق الخبريات المغيبة سابقة أو لاحقة ، فلا يجاوز العقل فيها الْحَدَّ إن في الإثبات أو في النفي ، فغايته أن يجوز ، وليس التجويز العقلي المحض يجزئ في إثبات أو نفي بل لا بد من زيادة هي النص ، واستغرق ، كما تقدم ، ما لم تدرك علته من أحكام التعبد التوقيفية ، فلا يقتفي الناظر آثارها ، فتدخل ، أيضا ، في عموم النهي أن : (لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فكلٌّ قد دخل في عموم الموصول الاسمي المشترك "مَا" ، وثم من الاستعارة ما يجري مجرى الكناية ، فقد شَبَّهَ المعلوم الذي لا يُدْرَكُ بالنظر والقياس فهو محل توقيف لا يثبت إلا بدليل خبري ، شَبَّهَ هذا المعلوم وهو معقول ، شَبَّهَهُ بالآثارِ التي تُقْتَفَى وهي من المحسوس ، وَحَذَفَ المشبَّه به وهو الآثار وَكَنَّى عنها بلازم من لوازمها وهو الاقتفاء ، فكانت المكنية من هذا الوجه ، وثم من الاستئناف بالناسخ : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، وهو ما يجري ، من وجه ، مجرى التعليل فهو جوابُ سؤالٍ قَدْ دَلَّ عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من النهي ؟ ، فكان الجواب : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، فعم مدارك العلم ما ظهر من السمع والبصر فتلك المدخلات المحسوسة وَهِيَ بآلات الحس مجموعة ، وما بطن من الفؤاد فتلك المعالجة التي تُفْضِي إلى مخرَجَاتٍ تواطئ صحيحَ المنقول وصريح المعقول ، وكان من الخبر ما يجري ، أيضا ، مجرى الاستعارة المكنية إذ أشار إليها وهي مدارك لا تعقل ، أشار إليها إشارة العاقل ، فَنَزَّلَهَا منزلة العاقل لمكانها في الاستدلال الناصح ، وحذفَ المشبَّه به من العاقل المشارِ إليه وَكَنَّى عنه بلازم من لوازمه وهو ما اخْتُصَّ به في اللسان من أداة الإشارة .
    فَثَمَّ سؤال قد استغرق في قوله تعالى : (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، وهو ما يوجب النظر والتحري ، وثم ، كما يقول بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ثم من أجرى الباب مجرى الالتفات إذ رجع بالضمير على المخاطب الأول صدرَ الآية أَنْ : (لَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، فالتفت من المخاطب صدرَ الآية إلى الغائب ختامها في قوله تعالى : (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، والقياس لو طرد الخطاب لقال في الختام في غَيْرِ التنزيل : كل أولئك كنت عنه مسئولا ، وذلك منطوق يَنْهَى وله من دلالة المفهوم ضد أن اقْتَفِ ما لك به علم كما تقدم من معقولات المعنى في حكومات الفقه كما الربا آنف الذكر ، وكذا معاني الخبريات التي يجردها الذهن فهي من المطلقات التي لا يستقيم كلام إلا أن تثبت ، فلا يتناولها النهي ، فذلك إنما ينصرف ، كَمَا تَقَدَّمَ ، إلى ماهيات الغيب التي لا تُدْرَكُ بِالْحِسِّ فلا يُعْلَمُ منها إلا المعنى العام الذي يجرده الذهن ، وهو مناط الإثبات فَيَحْسُنُ طَلَبُهُ وَاقْتِفَاؤُهُ فَلَا يُقَالُ إِنَّ ذلك من التكلف المذموم إذ لا يكلف الوحي بغير المعقول ، وإن جاز أن يُكَلِّفَ بغير المحسوس ، وما لا يدرك العقل علته من أحكام التعبد المحض وإن أدرك منها الحكمة ، فَاقْتِفَاءُ ماهية الغيب في الخبريات أو علة ما لا يدرك بالعقل في الحكميات ، ذلك من اقْتِفَاءِ ما ليس ثَمَّ علم به فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ النهي آنِفِ الذِّكْرِ ، وأما إثبات المعاني المجردة لغيوب واجبة أو جائزة ، فلا يستقل العقل بادي الرأي بِدَرَكِهَا إذ تجاوز مداركه ، وإنما الغاية أن يُوجِبَ فيها الإيجاب المجمل كما فطرة التوحيد المنزل ، فَهُوَ أولا مما رُكِزَ في الفطرة ضرورةً لا تُدْرَكُ بِالْحِسِّ فَلَيْسَ ثم من التجريب ما يرصدها ، وليس ثم من الحد الجامع المانع بالنظر في الماهية ، ليس منه ما يطيق حِكَايَتَهَا ، فذلك ما يعجز التجريب أَنْ يَتَنَاوَلَهُ فهو من الروح التي تَلْطُفُ وهي من أَمْرِ الرَّبِّ المهيمنِ ، جل وعلا ، لا جرم كان من اكتسابها ما لا يستقيم في الحد فهي الضروري الذي يَثْبُتُ ، بادي الرأي ، بَلِ الصَّحِيحُ اكْتِسَابُ ضِدٍّ يُخَالِفُ عَنْهَا ، بما يكون من المبدِّل والمحرِّف ، فالفطرة المعقولة في الأديان وثانية هي المحسوسة في الأبدان بما يكون من هَيْئَاتٍ تُوَاطِئُ كُلَّ جِنْسٍ فكان مِنْ إِتْقَانِ صَنْعَتِهَا ما يحكي الإعجاز في الخلق تلاؤما بين الأدوات والوظائف ، فالفطرة المعقولة ونظيرتها المحسوسة ، كل أولئك مما يثبت أولا حتى يكون الدليل المبدِّل أو المحرِّف خروجا عنها كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر إن في الأديان أو في الأخلاق أو في الأبدان والأنواع ! .

    والله أعلى وأعلم .


  18. #18
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    فالفطرة مما يستصحب أولا حتى يرد الدليل الناقل فلا يسأل عن سببها إذ هي الذاتية التي لا تعلل ، وإنما يسأل عما غَايَرَ لم كان ؟! فَثَمَّ دعوى لا تثبت إلا بالدليل الناقل ، إذ تخالف عن الأصل المستقر وهو المستصحب الأول يقينا لا يزول إلا بمثله فلا يزول بشك يطرأ وإن أعجب صاحبه أنه يفكر وينظر ، فتلك علة تستوجب التداوي بالأدلة الناصحة لا الفرح بالمصيبة العظمى أَنْ أُصِيبَتِ الفطرة في مَقْتَلٍ ، فصار الضروري المحكم يفتقر إلى نظر ، وصار التشكك دليل التعقل وإن خرج بِصَاحِبِهِ عن جادة الحق بل والعقل الذي يَزْعُمُ انْتِحَالَهُ فهو يَرُدُّ هذا الشك إلى المسلمات الضرورية فهي مقدمات النظر والاستدلال فإذا تَطَرَّقَ إليها الشك بل والسفسطة فَصَارَ من المعيار النسبي ما لا يجزم بأي شيء ! ، فذلك المؤذن بفساد أي استدلال إذ ليس ثم مقدمات ومسلمات ، فكل شيء يحتمل ، وإن قواطع النقل والعقل والفطرة والحس ، وإن كان عدم الجزم في نفسه اعتقادا أو قولا يُنْتَحَلُ وإن خالف عن المنقول والمعقول كافة فمن زعم عدم الاعتقاد في شيء تحررا من كل قيد وتجولا في كل مذهب فهو كل يوم على مقال وجادة تُسْلَكُ ، فَيُكْثِرُ مِنَ التَّلَوُّنِ طلبا للتَّمَيُّزِ ، وإن امتاز بِبَاطِلٍ يسوء ذكره ، فلا يؤمن عليه أن يضل الجادة التي فارقها اختيارا فلم يكن السؤال عن مُشْتَبِهٍ يطلب صاحبه المحكم الذي يُزِيلُهُ ، وإنما كان تَفَنُّنًا في تشقيق الاحتمالات والفروض وإن تلاعب صاحبها بقواعد المنقول والمعقول ، فهو طالب ظهور في الجدال معجب بِرَأْيِهِ ، فرح بما عنده .
    فالفطرة أصل ، وما كان من تَبْدِيلٍ وتحريفٍ فهو تال بما يَعْرِضُ من صوارف وقوادح فهي الاستثناء ، وَإِنْ حَصَلَ في هذا العالم كَثِيرٌ قد جحد وأنكر فذلك مما لا يقدح في الأصل الأول إذ النظر فيه نظر في الميلاد ، فذلك مناط الدعوى في الخبر أَنْ : "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" ، فليس المناط أن كلَّ أحد على التوحيد حتى يَرِدَ الدليل المبدل ، بل أكثر من الأرض على ضَدٍّ بِالنَّظَرِ فِي حَالِ التَّكْلِيفِ وَقَدِ اكْتَمَلَ الْعَقْلُ : مناط الأمر والنهي ، ولا يقدح ذلك في صحة الخبر إذ المناط ، كما تقدم ، قد اختلف ، وإنما يكون التَّنَاقُضُ والاضطراب إذا اتحدت الجهة ، فإذا اختلفت فلا تَنَاقُضَ ، فمناط الخبر : "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" ، هو الميلاد الأول ، فَذَلِكَ ما ثبت من التوحيد الأول ، وإن مجملا ، فهو ما فَصَّلَتِ النبوة بِأَخْبَارِ صِدْقٍ تُوَاطِئُ المحال العلمية وأخرى من حكومات عدل تَنْصَحُ المحال الإرادية ، وأما ما يَجِدُ الناظر بَعْدًا من ناقض التوحيد بما يكون من التشريك أو التَّثْلِيثِ ..... إلخ ، فهو الناقل عن الأصل بما يكون من دعاية تُبَثُّ ، ولو عَلَى مُكْثٍ ، بما يكون من خطواتِ شَيْطَانٍ يَسْتَدْرِجُ ، وقد كان منه المكر الكبار أن يُصْرَفَ الخلق عن جادة الحق ، ولا يكون ذلك دفعة ، فطبائع الجبلة تأبى ، وإن كان فيها نَجْدٌ لا يَحْسُنُ ، نَجْدُ الشَّرِّ الذي رُكِزَ فِي الجبلة كما ضده ، وذلك مناط الابتلاء بالتوحيد والتشريع ، فكان من مكر الوسواس في الجيل المتأخر ما بَنَى عَلَى أول قد تَرَاكَمَ بما كان من جناية الكهنة على الديانة ، وقد تجسد فِيهَا معنى الفردِ ، فهو الكيان الذي طَغَى بِمَا اسْتَجْمَعَ مِنَ السبب فصار يُبَارِزُ الخالقَ ، جل وعلا ، ولسان حاله أنه إله شارع ، يُشَرِّعُ بالفعل أو بالقوة ! ، فكان من الكهنة مثال واحد هو قليل ذو حظ في جاه ورياسة ، فاستجاز لأجله أن يبدل ويحرف ، وَأَنْ يُؤَوِّلَ مِنَ المنصوص ما يُوَاطِئُ هواه وحظه ، فَقَلِيلٌ في مثال الكهنة ذِي الترتيب والتنظيم المحكم ، وهو واحد وإن بالمعنى الاعْتِبَارِيِّ فَلَيْسَ له من الشخص واحد في الخارج ، فهو الجمع المؤتلف من شخوصِ الكهنة التي يَنْتَظِمُهَا المثالُ المفردُ ، فَذَلِكَ قَلِيلٌ يُوحِي إلى كثير من الأتباع الذين رضوا أن يكونوا مع الخوالف بِرَسْمِ التَّقْلِيدِ : خطة خسف أَزْرَتْ بِالنَّقْلِ والعقلِ والفطرة والحس جميعا ، فأفسدت على التابع مبادئ النظر والاستدلال إذ أسلم قياده إلى بَشَرٍ مثله يحتكر منصب الرياسة الدينية ليحكم الجمع ويهيمن بما انتحل زُورًا مِنِ اسم الوحي ، وإن صَحَّ من النسبة الأصل المطلق ، فلم يكن دينُ الكهنةِ الباطلَ المحض ، وَإِنَّمَا كان مِنْهُ أصلُ نِسْبَةٍ تَصِحُّ وإن قَدَحُوا في جوهر الرسالات فَثَمَّ من الدين المبدَّل ما قد خَالَفَ عن التوحيدِ المنزَّل ، فالمسمى قد حُرِّفَ بل قد زَالَ فكان من التشريك ما نَسَخَ التوحيد غُلُوًّا في مقال التَّثْلِيثِ الَّذِي جَاوَزَ الحَدَّ وَزَادَ في المدح إطراءً يكذب ، فكان من ذلك ما اسْتَغْرَقَهُ النهي في مواضع ، فـ : "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ" ، وذلك من حَذْفٍ يُقَدَّرُ لعامل قد تَقَدَّمَ ، على تأويل : أُحَذِّرُكُمُ الغلوَّ ، فكان من حذف العامل ، العامل "أُحَذِّرُ" المضارع ، وهو ما تَقَدَّمَ فلا مرجع له قبلا ، فكان من دلالة المتأخر ، وهو المعطوف المحذَّرُ مِنْهُ ، كان منه دليل المحذوف المتقدم ، فخالف عن أصل في التقدير إذ يدل المتقدم على المتأخر لا عكسه ، فالقليل أن يدل المتأخر على المتقدم ، إذ الأصل أن يكون المرجع متقدما في ذكره ، فَيُحَالَ عليه المتأخر ، إذ استقر الأول في الذهن مرجعا يُرَدُّ إليه الثاني ، فكان من الأول محكم ومن الثاني متشابه ، وقياس العقل الناصح أَنْ يُرَدَّ المتشابه إلى المحكم ، فَيُرَدَّ المتأخر المحتمل إلى متقدم قد جزم الناظر به فلا يحتمل ، كما الظاهر يُرَدُّ إلى النص ، وكما العام يُرَدُّ إلى الخاص .
    وثم من الأسلوب القياسي في الباب : باب التحذير ، ثم منه ما رجح التقدير آنف الذكر ، تقدير العامل المضارع "أُحَذِّرُ" وهو ، كما يقول بعض مَنْ حَقَّقَ ، هو مما به استحضار الصورة في الذهن ، مع آخر يقدر للمعطوف إذ العطف مانع من التوكيد ، فَقُدِّرَ آخر على حدِّ الأمر أَنِ : احْذَرُوا الغلوَّ ، فكان من عامل المضارعةِ الأوَّلِ "أُحَذِّرُ" ما به استحضار الصورة ، كما تقدم ، وكان من الأمر "احْذَرُوا" مَا بَاشَرَ ذهنا قَدِ اسْتُحْضِرَ بالمضارعةِ ، فتقدير الكلام : أُحَذِّرُكُمُ الغلوَّ فَاحْذَرُوا الغلوَّ ، فيكون من ذلك تعاطف يجري مجرى التلازم ، وثم من قَدَّرَ عاملا واحدا وهو عامل التحذير ، فالتقدير : أُحَذِّرُكُمُ الغلوَّ ، ومن ثم حُذِفَ العامل ، وانفصل الضمير ، ضمير المفعول ، فالعطف دليل المحذوف ، إذ عُطِفَ المحذَّر منه ، وهو الغلو ، وذلك دليل المحذوف المتقدم ، كما التكرار لَوْ قِيلَ : الغلوَّ الغلوَّ ، فأغنى التكرار عن ذكر العامل كما التَّعَاطُفُ ، وذلك ، أَيًّا كَانَ التقديرُ ، ذلك من الخبر الذي يدل على الإنشاء ، فَيُحَذِّرُ صاحبُ الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الغلو ، وذلك ما يدل على إِنْشَاءٍ يُحَذِّرُ من الغلو ، فَاحْذَرُوا الغلوَّ ، وهو ما يحكي آخر من النهي ، إذ الفعل "احْذَرْ" : أَمْرُ تَرْكٍ فَيُضَاهِي في الدلالة النَّهْيَ عن المحذَّر منه ، فلا تغلوا ، فكان من المحذَّر منه وهو الغلو ، كان منه ما أُطْلِقَ في الذِّكْرِ ، فاستغرق وجوه المعنى وآحاد الأقوال والأعمال والاعتقادات ، فالغلو يَسْتَغْرِقُهَا جَمِيعًا ، فكان من التحذير ما استغرق ، فدلالة "أل" : دلالة العموم المستغرق ، وهو ما تَنَاوَلَ الآحاد كافة ، مع بَيَانِ الجنس وهو أول ، فإن "أل" التي تفيد العموم المستغرق لآحاد المدخول ، لا بد أَنْ تُفِيدَ أَوَّلًا بَيَانَ الجنسِ ، وذلك فِي البابِ كالمشترك المعنوي ، فَهُوَ أَصْلٌ يُضَاهِي المصدر : مصدر المشتقات ، فذلك المعنى المجرد الذي تَتَفَرَّعُ عليه المشتقات ذات الدلالات الزائدة ، فَكُلُّ مُشْتَقٍّ يَزِيدُ على المصدر ، فالفعل يَزِيدُ على المصدر : الدلالة الزمانية نصا ، والدلالة على الفاعل لزوما ، إذ الفعل لا بد له من فاعل ، فَكَذَا "أل" التي تفيد العموم المستغرق ، فإنها تفيد أولا بَيَانَ الجنسِ ، وَتَالِيًا من استغراقِ آحاده ، وكذا "أل" العهدية فهي تُفِيدُ ، أيضا ، بَيَانَ الجنسِ ، وهو أول ، والعهد الخاص ثَانِيًا ، فَثَمَّ من التحذير ما تَنَاوَلَ الأصل ، وهو جنس المحلى بالأداة "أل" ، وَتَنَاوَلَ الفروع من العلوم والأعمال والعقود ، بل ذلك ، لو تدبر الناظر ، مما قد عمَّ المسالِكَ والعوائد ، فإن الغلو فيها وسواس يزعج ، فيكون من الاستعاذة ما يدفع ، وذلك وجه عموم آخر ، فإن من الغلو ما يستغرق الأفراد والجموع ، مَا خَصَّ من الأحكام غلوَّ الفردِ في اعتقاد أو قول أو عمل ، وَمَا عَمَّ مِمَّا يستغرق أحوال الجمع ، كما حكومات السياسة والحرب .... إلخ ، فالتقدير : لَا تَغْلُوا مطلقا ، فلا تجاوزوا الحد ، فلا ينفك الْغَالِي فِي دِينٍ أو عادةٍ يُقَارِفُ ضِدًّا بما جبلت عليه النفوس من السآمة والملل ، فَاسْتَوْجَبَ ذَلِكَ الاحترازَ أَنْ يُصِيبَ المكلَّف جادة العدل وهي وسط بَيْنَ الغلو والجفاء ، فإن النهي عن الغلو لا يَصِحُّ ذَرِيعَةً إلى ضد بما يكون من أغيار تَتَقَاذَفُ العبد ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ ضِدٍّ إِلَى ضِدٍّ ، ولا يُحْسِنُ يُصِيبُ جَادَّةَ العدلِ ، فَثَمَّ مَنْ يَنْفِرُ من الغلو ويمتثل النهي ولكنه لا يسلم مِنْ ضِدٍّ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ جفاء وإن شُبِّهَ لصاحبِه أنه التيسير ، وإنما كان الأمر طَبَائِعَ تَتَدَافَعُ ، فالغلو ، باستقراء الأحوال في الخارج ، محضنٌ لِضِدٍّ ، فيكون مِنْ رَحِمِهِ جَفَاءٌ يُقَصِّرُ ، فصاحبه يروم السلامة من الغلو ، وقد يكون من اللائمة ما يخشى الجافي ، فالنفوس تميل إلى التخفيف وقد يبلغ بها التساهل والتفريط ، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم ، فلا غلو ولا جفاء ، وإنما جادة العدل ، وهي الجامعة ، وذلك ما اطَّرَدَ فِي المسائلِ كَافَّةً ، كما الإلهيات مثالا ، فهي الجامعة لجلالٍ وجمالٍ ، وبهما الكمال المطلق فلا يكون إلا بهما ، وآثارهما في الخارج تظهر ، إذ يكون من الجلالِ بَاعِثُ الكفِّ الذي يُخَلِّي المحل من وصف النقص رَهْبَةً وهي بَاعِثَةُ التَّرْكِ ، تَرْكِ المنهيِّ عنه الذي يستجلب آثار الجلال وعيدا ، ويكون في ضد من الجمال الذي يُحَلِّي المحلَّ بوصفِ الكمال رَغْبَةً هي باعثُ الفعلِ ، فعلِ المأمورِ الذي يَسْتَجْلِبُ آثارَ الجمالِ وَعْدًا ، فيكون من ذلك جلال الكف وجمال الفعل ، جلال الوعيد وجمال الوعد ، وذلك كمال لا يحصل إلا بالجمع بَيْنَ أضدادٍ لَا تَنَاقُضًا أو تَعَارُضًا ، وَإِنَّمَا اسْتِغْرَاقًا تَنْفَكُّ فيه الجهةُ ، فَجِهَةُ الجلال فِي حَدٍّ وَبِهَا التَّرْكُ الذي يُخَلِّي المحلَّ ، كما تقدم ، والتخليةُ فِي نَفْسِهَا ليست بِشَيْءٍ ، فهي عدم يسلب المحل فَلَا يَشْغَلُهُ بِإِثْبَاتٍ ، وإنما يَنْفِي عنه محذورا يُطْلَبُ دَفْعُهُ ، فَلَا يُعْمَرُ المحل الذي جُبِلَ على الفعلِ لا التَّرْكِ ، لا يُعْمَرُ بِتَرْكٍ ولا بِسَلْبٍ ، وَإِنَّمَا بِفِعْلٍ وإيجابٍ ، فذلك شاغل يحل في الشاغر ، وَقِوَى الفعلِ له تُبَاشِرُ ، ولا يكون ذلك ، بداهة ، إلا والمحل قد شَغَرَ فَخُلِّيَ مِنْ ضِدِّ الشَّاغِلِ ، فَجَاءَ الأخيرُ والمحل يقبل إذ لا ضِدَّ له يَدْفَعُ ، وذلك ، لَوْ تَدَبَّرَ النَّاظِرُ ، ما قَدْ عَمَّ الشَّوَاغِلَ كَافَّةً ، صَحَّتْ أَوْ فَسَدَتْ ، فَلَا بُدَّ من نَفْيِ ضِدٍّ ، فلا يكون باطل في جنان أو لسان أو أركان إلا وثم من حق يُضَاهِي ما قَدْ زَالَ ، فَوَجَدَ الباطل فُسْحَةً ، ولو جزءا ، كما المباح من التجارات والأموال في مقابل أَضْدَادٍ من الربا والغبن والغش والتدليس ..... إلخ ، فكل أولئك مما يَنْتَقِصُ من الحلال الطيب إذ يكون منه شؤم يذهب بالبركة ، وكلما زاد في المال أذهب من البركة بِقَدرِهِ ، فَقَدْ يكون في المحل الواحد : حَقٌّ وَبَاطِلٌ ، لا من نَفْسِ الجهة في نَفْسِ الآن ، فاتحاد الجهة في هذا الجمع لا يكون ، إذ يستوجب اجتماع نقيضين في محل واحد من نفسِ الوجهِ في نفسِ الآن ، وذلك من المحال في النظر ، وإنما قد يجتمع من الحق شُعْبَةٌ أو شُعَبٌ ، ومن الباطل أخرى ، فليست الأولى ، إذ المسائل تختلف ، فَمِنْهَا العلومُ وَمِنْهَا الأقوالُ وَمِنْهَا الأعمالُ ، ومن كلٍّ مناطات تَكْثُرُ ، ولكلٍّ من الحكم باطل أو صحيح ، فإذا صَحَّ فِي مَنَاطٍ فلا يلزم منه الصحة في غَيْرِهِ ، بل قد يكون الحكم صحيحًا في مناطٍ ، بَاطِلًا في آخر ، فَانْفَكَّتِ الجهةُ وَافْتَرَقَ المناطُ إذ لو اتحد لامتنع الاجتماع ، فلا يكون الشيء صحيحًا باطلًا في نَفْسِ الآن من ذاتِ الوجه ، وإنما قد يكون من تَغَايُرِ الحال ما يُبِيحُ بَعْضَ المحظوراتِ كما الاضطرار والضرورة فهي تُبِيحُ بَعْضَ مَا حُظِرَ ، فَهُوَ حالَ الاختيارِ محرَّم ، فليس الأمر نسخا يَتَوَسَّعُ فِي رفعِ الأحكام ، وإنما الباب قد أُحْكِمَ فَلَهُ في الاختيار حكم ، وله في الاضطرار آخر يبيحُ إباحةَ رخصةٍ تَعْرِضُ لا ذريعةً إلى نسخ يُبْطِلُ ، فذلك من التعليق لا الإلغاء ، فلا يُقَالُ إن الحكم حالَ الرخصةِ قد نَسَخَ الحكمَ حالَ العزيمة ، إذ لو كان ذلك ما رَجَعَ الحكمُ إلى أصله إذا زالت الضرورة ، فالرخصة تَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا ، كما العزيمة تدور مع الاختيار وجودًا وعدمًا ، وذلك انْفِكَاكُ الجهةِ الِّذِي يَنْفِي التَّعَارُضَ أَوِ التَّنَاقُضَ الذي يَتَذَرَّعُ بِهِ بَعْضٌ أن يُبَادِرَ فَيُرَجِّحَ وَجْهًا يَهْوَى أَوْ يَجِدُ ، أو يَزِيدَ فيقول إنه ناسخ لِمَا لا يُوَاطِئُ هواه وذوقَه ، فَيُجْرِيَ التعليقَ آنف الذكر ، تعليق أحكام هي العزائم في مواضع الجلال ، يجريَه مجرى النسخِ ، فلا يرجع الحكم عزيمةً إذا زالت الضرورة ، لا يَرْجِعُ أصلا هو الأول ، وإنما رَفَعَتْهُ الرخصة مطلقا ! ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ من ينسخ الإتمام في الصلاة أَنْ سافر مَرَّةً أو مَرَّاتٍ ، وذلك عارضٌ يُبِيحُ مِنْ رُخْصَةِ القصرِ ما يُقَدَّرُ بالقدر ، ولو كَثُرَ ، بل ولو صار السفر هو الأصل ! ، فهو يُبَاشِرُ مِنْ رُخْصَةِ القصرِ فِي كلِّ سَفَرٍ ، ولا يقول إن الإتمام فِي حَقِّهِ قَدْ نُسِخَ ! ، بل قد رُفِعَ بِعَارِضٍ هو الضرورة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، ولو كَثُرَتْ ، فَمَتَى أَقَامَ أَتَمَّ ، فَلَمْ يَنْسَخْ سَفَرُهُ الطَّارِئُ مَا اسْتَقَرَّ مِنَ العزائمِ إتماما يدور مع الاختيار فلا عارض بِهِ تُسْتَبَاحُ الرُّخْصَةُ ، فإذا كان ثم عَارِضٌ من السَّفَرِ فَثَمَّ رخصةٌ هي القصر ، وَهِيَ ، أيضا ، ما يدور معه وجودا وعدما ، وذلك ما اطرد في الرُّخَصِ كَافَّةً ، رُخَصِ التَّرْفِيهِ بِالتَّيْسِيرِ ، كما القصر آنف الذكر ، وَمِثْلُهُ الفطرُ في السفر ، فَلَمْ يَنْسَخْ بداهةً صومَ رمضان ! ، وإنما هو الضرورة التي تقدر بقدرها ومناط الرخصة اسْتِثْنَاءٌ لا يَطَّرِدُ ، فالفطر رخصة تدور مع السفر أو المرضِ وجودا وعدما ، كما الصيام عَزِيمَةٌ تَدُورُ وُجُودًا وَعَدَمًا مع الإقامة في المصر والسلامة في الجسد .
    وكذا يُقَالُ فِي المرض فهو ، عِنْدَ بَعْضِ مَنْ حَقَّقَ ، هو مناط الرخصة جَمْعًا بين المكتوبات ، ولو في الحضرِ ، وعليه قَاسَ بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ كُلَّ مَا يَعْرِضُ في الحضر فَيُخْشَى مَعَهُ فوات الفريضة فَيَجْمَعُهَا مَعَ نظيرتها تَقْدِيمًا أو تَأْخِيرًا ، وكل أولئك بداهة تَرْفِيهٌ يخفف وليس لأصلِ الحكمِ يَنْسَخُ إذن لجاز لكلٍّ ولو حالَ الصحة والسعة أن يجمع الصلوات بلا عذر ، فقد نَسَخَتِ الرخصةُ ما أُحْكِمَ من العزائم ، وذلك ، لو تدبر الناظر ، مِنْ تَتَبُّعِ المتشابِهِ لا رَدًّا له إلى محكَمٍ ، فالرخص ، من هذا الوجه ، متشابهات تُرَدُّ إلى محكماتها من العزائم ، ولكلٍّ مَنَاطٌ يُغَايِرُ عن الآخر ، مناط الجلال عزيمة في مقابل آخر هو مناط الجمال رخصة ، فَلَا تَعَارُضَ إِذْ قَدِ انْفَكَّتِ الجهة ، فلم يجتمع القصر والإتمام في محلٍّ واحد من وجه واحد في نفس الآن ، وكذا الجمعُ وأداءُ كلٍّ فِي وَقْتِهَا ، بل لكلٍّ مَنَاطٌ يُغَايِرُ عن الآخر سعةً وَاخْتِيَارًا فذلك مناط العزيمة ، وَضِيقًا واضطِّرَارًا فَذَلِكَ مناط الرخصة التي تَعْرِضُ فَهِيَ الضرورةُ الَّتِي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، فلا يجاوز بها المكلَّف فَيُصَيِّرَهَا واجبَ الوقتِ المطَّرد ، وكذا رخصة الإسقاط عِنْدَ بَعْضٍ ، كما تقدم في مواضع من كلام الحنفية رحمهم الله ، فإن استباحة الميتة والخمر في مواضع الضرورة لم ينسخ حُكْمَ التحريمِ بداهة ! ، فيكون من تَتَبُّعِ المتشابه أَنْ يَصِيرَ هو المحكم ! ، ومثله تحريم الإنفاذ ، إنفاذِ الحدِّ في المجاعة أو في دارِ الحرب ، فذلك ، بداهةً ، لا ينسخ الحد ، وإنما هو العارض فإذا زال فالحدُّ ينفذ ، بل استيفاء الشرط وانتفاء المانع حَتْمٌ لازم لحصول مجموعٍ مُرَكَّبٍ به الحد يَنْفُذُ ، فلو تَخَلَّفَ بَعْضُ أجزائه لم ينفذ الحد وإن أُعْمِلَ الحكم في كُلٍّ ، فإن إعماله ، لو تدبر الناظر ، لا يستوجب إنفاذه في كل محل ، بل إعماله يكون بالاجتهاد في إصابة الحق سواء أكان في الإنفاذ حال السعة أو المنع حال الشدة أو العارض المعتبر ، فتأويل الصورة المركبة من السبب والحكم والشرط والمانع وأهلية المكلف ، كل أولئك إعمال يجتهد في إصابة مُرَادِ الشرع فلا يلزم منه واحد في كل موضع ، بل إعماله مَئِنَّةُ حكمة تجتهد في تحقيق المناط في كل محل ، فإن تخلف شرطُه أو وُجِدَ مانعه سقط في هذا الموضع خاصة لا في المواضع كلها ، فعدم تحقيقه في موضع لا يدل بداهة على إسقاطه ونسخه مطلقا فلا يُحَقَّقُ فِي أَيَّ موضعٍ ! ، بل المناط محفوظ محكم ، وإنما التَّشَابُهُ قد يحصل بما يَعْرِضُ للمَحلِّ من عارض يمنع .

    فَإِذَا زَالَ العارض وَرَجَعَ الاختيار جاز لِمَنِ استباحَ المحظور من الميتة أو أَسْقَطَ الواجب من الحدِّ ، جاز له أن يطرد الحكم فَقَدْ نُسِخَ الأصل وانتهى الأمر ! ، فصار الخمر والميتة من المباحِ المطلقِ لَا رُخْصَةً وإنما اسْتَغْرَقَتْ ظَرْفَ التكليف كُلَّهُ ! اختيارا واضطرارا ، والحد قد رُفِعَ لا تعليقا وإنما تحقيقًا قد جاوز الاضطرار إلى الاختيار ! ، وَلَوْ طُرِدَ هذا القول فلم يُرَدَّ إلى المحكم حال الاختيار لبطلت حكوماتِ الشريعةِ كَافَّةً بما كان من إِفْرَاطٍ في الرخصة في مقابل تَفْرِيطٍ يَزِيدُ فَيَتَعَاطَى العزيمة أَبَدًا ، وَيُحَجِّرُ ما وسع من الرحمة جمالا ، فيكون من ضِدٍّ يجاوز إذ يباشر الجلال في كل حال ، فَيُفْرِطُ وذلك مِنَ الْغُلُوِّ الْمَنْهِيِّ عنه فِي مُقَابِلِ مَنْ يُفَرِّطُ فَيَتَعَاطَى الرخصة ، ولو في غير الموضع ، وذلك من الجفاء ضِدًّا يَتَذَرَّعُ بالتيسير ، ولو جَاوَزَ الحدَّ فكان منه التفريط في مقابل إِفْرَاطِ مَنْ غَلَا ، فَالْغَالِي يَطْردُ الحكم أبدا ، ولو كان من مناط الرخصة ما يُيَسِّرُ ، وتلك زيادة لَا تُشْرَعُ ، بل هي ذريعة إلى ضِدٍّ مِنْ جَفَاءٍ يقصر بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَبَائِعِ الخلقِ سآمة وَمَلَلًا ، فصاحبها يَنْتَقِلُ من ضِدٍّ إلى آخر ، مِنْ إِفْرَاطٍ يَغْلُو إلى تَفْرِيطٍ يجفو فهو يطرد الرخصة ويصيرها أصلًا وليست إلا العارض ضرورةً تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ، كما المشقة في بابها فهي جَالِبَةُ التَّيْسِيرِ ، فَلَا يُسْتَجْلَبُ مطلقا ، وإنما يستجلب بما يكون من سَبَبٍ له يجلب وهو ما يعرض من المشقة المعتبرة لا أخرى متوهمة ، فالجافي في الباب تَرَخُّصًا في غيرِ الموضع ، الجافي يُخَالِفُ عن معيار الحكمة أَنْ يَسْلُكَ فِي كلِّ موضعٍ من جادة الحكم ما يُوَاطِئُ ، فيسلك الجلال عَزِيمَةً في مَوْضِعِهَا ويسلك الجمال رخصة في مَوْضِعِهَا ، إذ الجهة ، كما تقدم ، قد انفكت ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا مَا يُوَاطِئُ من الحكمِ ، فَلَا تَعَارُضَ وَلَا تَنَاقُضَ ، ولو كان المحل واحدا ، إذ الجهة لم تَتَّحِدْ ، فالجافي لا يَسْلُكُ جَادَّةَ الحكمةِ أَنْ طَرَدَ الحكمَ في الضرورة فَصَيَّرَهُ الأصل ، فَلَيْسَ ثم اعتبار بما رَجَعَ من الأصل الغالبِ اختيارًا هو مناط العزيمة إِذَا زَالَ العارض المبيحُ للرخصة ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يصح ، بل تلك ، كما تقدم ، رخصةٌ فِي موضعِ جمالٍ بما كان من الضرورة الجالبة لإباحة محظور يُقَدَّرُ بِقَدَرِهِ ، فإذا زالت الضرورة وكان الاختيار وهو الأصل ، فالاستثناء يُرْفَعُ إذ الرخصة مما يعرض ، فليست الحكم المطرد الذي يغلب ، وإن كانت من الشريعة المحكمة ، ولكنها من قَلِيلٍ لا يكون أصلا في بابه ، فالاعتبار بما كَثُرَ وغلب فهو الأصل وَلَهُ من الحكم عَزِيمَةُ اختيارٍ ، وليس ذلك يَنْفِي آخر يَنْعَكِسُ أن يكون مِنْ قَلِيلٍ لا يكثر ، أن يكون منه فَرْعٌ هو الرخصة ضرورة تقدر بالقدر .

    وله في الربا ، وهو محل شاهد ، له من ذلك حظ ، فإن تحريم الربا محكم لا يَتَنَاوَلُهُ النسخ ، وإن كان من ذلك ضرورة تقدر بالقدر بها يستباح الربا لا أصلا يطرد ، وإنما ذلك العارض الذي لا يجاوز استثناءً من أصل محكم ، فلا يكون المتشابه من حال تَعْرِضُ ذريعةً أَنْ يُنْقَضَ الأصل المحكم ، فالنادر لا حكم له ، وذلك أول في الباب ، والقليل ، ومنه الضرورة محلُّ الشاهدِ ، القليل مما يُقَدَّرُ بِقَدَرِهِ ، فَلَهُ اعتبار ، من وجه ، أَنْ جَاوَزَ النادر الذي لا حكم له ، ولا يطرد القول باعتباره مطلقا إذن لصار هو الأصل والاختيار ، لا الاستثناء والإلجاء ، فالمستثنى قَلِيلٌ مِنَ المستثنَى منه ، والمستثنَى فرع لا يقدح في أصله ، فكذا الضرورة في تَعَاطِي الربا ، وهي مما عمت به البلوى في الجيل المتأخر ، فإن من النص أول قد حرَّم رِبَا النسيئة الذي يزيد فيه المقترِض المقرِض بلا عوض ، بل الزيادة فِي مُقَابِلِ النسإِ ، وَحَرَّمَ ربا الفضل ، وتحريمه ، كما قال أهل الشأن ، تحريم الوسائل لا المقاصد كما ربا النسيئة ، فكان من مناط الإباحة في كلٍّ ما يخالف عن الأصل المطرد اختيارا ، وإن تفاوتا ، فَرِبَا النسيئة وهو المحرم تحريم المقاصد فَحُرِّمَ لِذَاتِهِ ، رِبَا النَّسِيئَةِ مِمَّا يُبَاحُ ضَرُورَةً لا حاجةً ، فإن ما حَرُمَ لذاته تحريمَ المقاصد لا يُبَاحُ إلا لضرورة تُلْجِئُ لَا لِحَاجَةٍ تَرْجُحُ ، كما ربا الفضل الذي حُرِّمَ تحريم الوسائل فَيُبَاحُ لحاجة وهي ، وإن كانت خلاف الأصل ، فلا تعدل الضرورة ، فكان من إباحة العرايا مثالا ما نَصَّ عليه الوحي ، فَأُبِيحَتْ فيما دون خمسة أوسق أن يباع الرطب بخرصه تمرا ، وهو النص الذي اقْتَصَرَ عليه بَعْضٌ أن كانت الرخصة التي تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا فَلَا يُقَاسُ عليها إذ هي استثناء بِنَصٍّ فلا يُتَوَسَّعُ فيها قياسا لئلا تكون ذريعة إلى التفريط ومجاوزة الحد في الترخص بما يأتي على الأصل بالإبطال ، فَأَوَّلُهُ تَوَسُّعٌ في غير الموضع ، فيقتصر على عين السبب ، صورة التخصيص التي ورد بها النص ، وَثَمَّ من جعل ذلك التخصيص بصورة السبب لا بِعَيْنِهَ ، فَقَاسَ على الرطب كل ما يَيْبَسُ ، كما الزبيب فَيُبَاعُ العنب بخرصه زَبِيبًا ، مع ما يكون من تفاوت ، فذلك التفاضل المحرم فَأُبِيحَ في هذا الموضع لحاجة تطرأ ، أَنْ يَتَفَكَّهَ صاحب التمر بما حَدَثَ من الرطب أو العنب ، وأن يدخر الجديد إذا صار تمرا أو زَبِيبًا ، فيكون له منه زاد يَنْفَعُ ، وأما النسيئة فلا تُبَاحُ إلا لضرورةٍ تُلْجِئُ ، فلا يشرع التوسع فيها أَنْ تَصِيرَ كالحاجة ، فمناط الحاجة أعم ، في مقابل أخص من مناط الضرورة ، وذلك أصل في الباب وهو المناط في القياس ، وإنما الخلاف في وصف المقِيسِ أهو من الضرورة الملجئة أم من الحاجة أم من الاختيار وإنما يَتَذَرَّعُ القائلُ بالرخصة في غير الموضع لِيَحُلَّ مِنَ الدين عرى تحكم ، فحال الأخير لا تَشْتَبِهُ ، وإنما الاشتباه المعتبر في حال من يُنَزِّلُ الحاجة ، وهي ، في الجملة ، محل اعتبار ، فَيُنَزِّلُهَا القائل منزلةَ الضرورة ، وذلك الخلاف في تحقيقِ المناطِ لا في تَنْقِيحِه أو تخرِيجه ، فالخلاف ، كما تقدم ، في وصف المقيس ، وإن كان منه ما لا يسوغ إذ يجاوز بَعْضٌ بِاسْمِ التَّيْسِيرِ وَسَدِّ الذرائع إلى الغلو ، يجاوز بَعْضٌ بهذا الاسم حَدَّ الضرورة بل والحاجة ، فَيُنَزِّلُ أحوالَ اختيارٍ لا إلجاء فيها ، يُنَزِّلُهَا منزلةَ ضرورةٍ أو حاجةٍ ، فَيَتَوَسَّلُ بذلك إلى نَقْضِ الأصل ، ولو على مكثٍ ، وأهون منه ، وإن لم يَخْلُ من نظر يستوجب الحذر ألا يكون منه أيضا ذريعةٌ بها استباحةُ المحظورِ مطلقا ، وإنما المحظور يُسْتَبَاحُ عَرَضًا بما يكون من رخصة تقدر بالقدر إذ تدور مع السبب وجودا وعدما ، فَرِبَا الفضل يدور مع الحاجة وجودا وعدما ، وربا النسيئة ، في المقابل ، يدور مع الضرورة وجودا وعدما ، وذانك أصلان محكمان ، وإنما يكون التشابه أَنْ يَدْخُلَ أحدُهما في آخر فيكون من الحاجة ، وهي أدنى ، يكون منها ما يستباح به أعلى من المحرم لذاته رِبَا النسيئةِ ، وذلك ما يخالف عن القياس المحكم ، فإنه يوجب استباحة الأدنى بالأدنى ، والأعلى بالأعلى ، فيستباح الأدنى من ربا الفضل بالأدنى من الحاجة ، ويستباح ربا النسيئة الأعلى بالأعلى من الضرورة ، وهو ما يقدر في كلٍّ بقدره ، فالخلاف في هذه الحال أدق ، فإنه ليس في تحرير المناط ، وإنما في تحقيقه في محلِّ النِّزَاعِ ، وهو ما يحكي ، من وجه آخر ، ما اطرد من سُنَّةِ العدلِ فَإِنَّ الرِّبَا مِنَ العقابِ الناجزِ في الخلق إذ أحدثوا من العصيان ما به حَدَثَ العقاب ، مع عَفْوٍ عَنْ كَثِيرٍ ، فتلك من رحمة الرب الكريم الحميد ، تبارك وتعالى ، فـ : (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ، وذلك ، أيضا ، نص في العموم المستغرق ، إذ تسلط الشرط على النكرة "مُصِيبَةٍ" ، وذلك من صيغ العموم المحتملة فأفادت الظاهر الراجح مع احتمال ضِدٍّ من التخصيصِ فَلَا يُصَارُ إليه ابتداء إلا بدليل وإلا فالراجح استصحاب العام ذي الدلالة المستغرقة لأفراده ، وإن ظاهرا لا نصا ، فالراجح استصحابه حتى يَرِدَ الدليل المخصِّص ، فكان من العموم ظاهر وهو ما زادته "مِنْ" دلالة القطع فصار نَصًّا في الباب ، فزيادتها قرينة ترجح ، فكان من التأويل زيادة مبنى تدل على أخرى من المعنى ، فَثَمَّ الجزم فذلك العموم المحفوظ فلا يُخَصَّصُ ، ولو احتمالا ، لِمَا زِيدَ من قرينة التنصيص على العموم ، وثم من جواب الشرط ما دخلت عليه الفاء إيجابا إذ الجواب اسمي وتلك واحدة من جملة مواضع يجب فيها اقتران الجواب بالشرط على تقدير ذكره بعض من أعرب ، فما أصابكم من مصيبة فإصابتكم بما كسبت أيديكم ، فكان من الفاء رِبَاطٌ بَيْنَ الشرطِ والجوابِ ، وكان مِنْهَا مَظِنَّةُ سَبَبِيَّةٍ لا تخلو منها فاء ، مع فَوْرٍ وتعقيب وذلك آكد في التوكيد ، وفي الجواب زيادة العلم ، فما كان العقاب الحادث إلا وثم عصيان محدَث ، فكان من مخالفة الخلق عن شريعة الوحي في الأموال من الزكوات والصدقات والصِّلَاتِ والتجارات المشروعة وبها تكثر الأرزاق وتطيب ، كان من المخالفة ما به عَمَّ الشؤمُ بالتضييق في الأرزاق ، وهو ما فَتَحَ ذَرَائِعَ المحرم ، وذلك قانون يطرد في الأحوال كافة ، فإذا ضُيِّقَ الحلال كان من الحرام ضِدٌّ يَتَّسِعُ ، فَتُفْتَحُ ذرائِعُه إذ سُدَّتْ ذَرَائِعُ الحلالِ ، فإذا لم يكن ثم نكاح يَطِيبُ ، فَلَيْسَ إلا الخبيث ، وتلك بلوى أخرى قد عمت في الجيل المتأخر ، إذ ذاعت الفواحش فَلَمْ يكن ثم من الحلال ما يجزئ فقد عُسِّرَ منه اليسير ، وَيُسِّرَ من ضِدٍّ ما يُذْهِبُ الأخلاق وَيُفْسِدُ الفطرةَ ، وكذا الربا ، محل الشاهد ، فإن سد الذرائع إلى المباح من القرض الحسن مع ما يكون من معنى يزيد إحسانا إلى الخلق رجاءَ الثوابِ من خالقِهم ، جل وعلا ، مع نَظِرَةٍ إلى ميسرة بلا عوض يزيد ، وإنما يروم صاحبه ثواب الكريم ، جل وعلا ، مع العفو والمبادرة بالعطاء لمن كان له فضل مال يَصِلُ به أخاه ويسد من خلته ما يضلع ، فكل أولئك مما به الربا والمكس يَزُولُ ، وإنما شح الخلق وبخلوا فكان من ذريعة الربا والمكس ما يُفْتَحُ ، فلا يُقْرِضُ المقرِض إلا رجاء النفع فليس ثم إخلاص في القصد ، والمقترِض قد تَوَسَّعَ في اللذات ، ولو مباحات ، فكان من فضولها ما يكره وكان منه ذريعة أن يتوسع في الاقتراض بلا ضرورة ولا حاجة ، فليس إلا الترف الذي يفسد الأديان والطبائع ، وهو ما عم شومه في الجبل المتأخر الأفرادَ والدول جميعا ، فكلٌّ يَقْتَرِضُ رجاءَ فضولٍ من اللذات بها يَتَبَجَّحُ ، وإن أفضت إلى قل وعدم ، بما يكون من شؤم الربا وضرره الذي يعم الجمع كافة ، وإن صاحبَ المال الأوفر فلا يزال الخلل في معاش الخلق بما يكون من رباه الذي يفحش ، لا يَزَالُ الخلل يزيد وهو ما يأتي على ماله بالنقص ، بما يكون من غلاء في السعر وكساد في الأسواق فقد استغرق الربا ، أو كاد ، ما بَيْنَ أيدي الخلق من النَّقْدِ فلم يكن ثم ما يُنْفَقُ في الأسواق فينشط البيع والشراء ويكون من الكسب ما به يَنْتَفِعُ الجمع ، فكلٌّ يَصُبُّ في كيس غيره بما يكون من قُوَّةِ شِرَاءٍ بها عمران السوق بِطِيبِ الكسبِ .
    وَابْتُلِيَ الخلق مع ذلك بِجَوْرِ سلطانٍ يُرَابِي ، فهو الأصل ، وكان من آخر يتعاطاه الخلق ! ، فَعَمَّ الشؤم الفردَ والجمعَ بما ضُيِّقَ من أسباب الحلال الطيب ، وهو ، لو تدبر الناظر ، أصل يستغرق المباحات كافة فإذا ضُيِّقَتْ سُبُلُهَا فُتِحَ من ذرائع المحرَّم ما يضاهي فإذا ضُيِّقَتْ سُبُلُ النِّكَاحِ الطيب كان من الفواحش ما يكثر وَيَفْجَعُ ، ومآله أن يَقِلَّ الجمع ويفنى بما يكون من قلة التوالد وعموم الأدواء التي لم تكن في الأسلاف .
    فكان من حكمة التنزيل أَنْ فَتَحَ ذرائع الكسب المباح ، وما شرع من أجناس القروض والتجارات ...... إلخ ، فلا يجد الناس حاجة أو ضرورة تلجئهم أن يَتَعَاطَوا ما حَرُمَ من الربا وعاقبته ، كما تقدم ، إلى قل ، وهو من المأثور في الباب ، فإن كان ثَمَّ من الضرورة ما يُبِيحُ المحرَّم ، فتلك الميتة التي لا تُبَاحُ إلا لضرورة ، وهي ، كما تقدم ، ما يقدر في كلٍّ بقدره ، فالخلاف في هذه الحال أدق إذ لَيْسَ في تحرير المناط ، وإنما في تحقيقه في موضع التَّنَازُعِ ، فيكون من وصف كُلٍّ له وهو واحد ، يكون من هذا الوصف ما يُغَايِرُ ، ويكون له من النظر ما يُعْتَبَرُ ، إذ هو من المشتبهِ أحاجة هو أم ضرورة ، فيكون من ذلك ما يُفْضِي إلى اختلافِ الحكمِ وإن كان المناط واحدا محكما في كلٍّ ، فالخلاف ، كما تقدم ، ليس في تحرير المناط وإنما في تحقيقه ، فيكون من ذلك توسط يسلك جادة العدل فلا غلو في حد ولا جفاء في ضِدٍّ ، وإنما العدل جادة تَتَوَسَّطُ بَيْنَ الغلو والجفاء ، فإياكم والغلو ، وذلك المنطوق ، وله من المفهوم ما يوافق في التحذير والنهي وإن ضاد في الماهية والوصف ، فإياكم والجفاء ، فكلاهما مما يذم ، فكان النص أن : "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ" ، وكان آخر يوافق أَنْ : إياكم والجفاء ، فهو في نفسه يذم ، وهو يفضي إلى ضده بما تقدم من طبائع النفوس التي تمل وتسأم فتنقلب إلى ضد في الفعل والمسلك .

    والله أعلى وأعلم .


  19. #19
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وذلك قانون العدل الذي يسلك جادة تَتَوَسَّطُ فهي بين الغلو والجفاء تنصح ، وبها امتياز حق هو العدل الذي يُسْتَجْمَعُ مِنْ طَرَفَيِ القسمةِ ما هو حق وَيَنْفِي ما زَادَ من غُلُوٍّ أو نَقَصَ مِنْ جَفَاءٍ ، وهما ، لو تدبر الناظر ، مما في الخارج يَتَلَازَمُ ، فلا ينفك الغلو في باب يُفْضِي إلى جَفَاءٍ في آخر ، ولو في العوائد والمباحات ، فمن أكثر من شَيْءٍ أَخَلَّ بآخر ، كما يذكر بعض من حقق مثالا من السفر يَظْهَرُ ، ولو المباح المجرَّدَ ، فمن أكثر من السفر المباح سياحة في الأرض زَهَدَ في السفر المشروع من العمرة والحج ، ومن أكثر من مطعوم زهد فِي غَيْرٍ إذ نَالَهُ من الشبع والتخمة ما به عَافَ المطعوم ، ولو طَيِّبًا يُشْتَهَى ، وذلك أصل يستغرق أبواب الشرع والكون كافة ، وإن كان من نَصٍّ تَقَدَّمَ ما ينصرف ، بادي الرأي ، إلى الدين ، وهو ما جاء خِتَامًا يَجْرِي مَجْرَى التَّعْلِيلِ ، فـ : "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ" ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، جواب سؤال قد دل عليه السياق اقتضاء ، فما علة ما تقدم من التحذير من الغلو وما استلزمه في القياس الصريح من النهي عنه ؟! ، وحكمه التحريم الذي عم فاستغرق أجناس الغلو وآحاده كافة ، إن في العلم أو في العمل ، إن في الشرع أو في العادة ، فالغلو سلوك يحكي فَسَادَ تَصَوُّرٍ يَزِيدُ ، فيكون من الحكم في الخارج ما يُضَاهِي زيادةَ التصوِّر الأولى ، إِذِ الحكم يدور مع التصور وجودا وعدما فمنزلة التصور منه مَنْزِلَةُ السَّبَبِ من المسبَّب ، ولا ينفك يَقْتَرِنُ بِضِدٍّ من جفاءٍ يُقَابِلُ ، فَقَدِ اسْتُنْفِدَتْ طَاقَةُ العقلِ والبدنِ في باب ، صَحَّ أو فَسَدَ ، فلم يكن ثَمَّ بَقِيَّةٌ تُصْرَفُ في آخر ، فكان الجفاء فيه والنقص ، وهو ما قد يُفْضِي إلى ضِدٍّ ، فمن زهد فَبَلَغَ بِهِ الزهد غُلُوًّا يُحَرِّمُ مَا طَابَ من مطعمٍ أو مشرب أو منكح أو مكسب ، وهو محل شاهد في بَابِ الْبُيُوعِ والتِّجَارَاتِ ، فكان من بعض المتزهدة وقد فَشَا الحرام وغلب لا سيما الربا الذي عمت به البلوى في الجيل المتأخر ما لم تَعُمَّ قَبْلًا فقد صار الآن سياسة تَنْهَجُهَا الأمم وَتَسُنُّ لها القوانين والحدود ، بل وَتَلْتَمِسُ لها الأدلة من الوحي ، ولو شبهات تَبْطُلُ إذ تَقِيسُ القياس مع الفارق ، فَتَقِيسُ الرِّبَا عَلَى الْقَرْضِ ، وذلك من القصور في الحد ، فالربا يزيد من القيد أنه القرض الذي يجر النفع ، سواء أكان مالا يزيد أم منفعة تُقَوَّمُ بالمال يشترطها المقرِض ، فلا يَتَبَرَّعُ بِهَا المقترِض طَوْعًا من باب الإحسان في الأداء وإن كان ظاهرها ذلك فلا تَنْفَكُّ تُسْتَخْرَجُ بِسَيْفِ الحياءِ والإكراهِ ، بل ثَمَّ مَنْ تَذَرَّعَ بالمصلحَةِ أنها كُلِّيَّةٌ تَقْطَعُ فَتُقَدَّمُ عَلَى النص إذا حَرَّمَ في دقيق من الفروع ، فَجَاوَزَ النَّصَّ تَذَرُّعًا بالمصلحة ، وهي أمر لا تَعُمُّ به البلوى ، ولو كان الأمر ضرورة تُوقِعُ فِي حَرَجٍ معتبر يجاوز الحاجة فذلك مما يُسْتَبَاحُ به المحرم ضرورة تُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا فحكم الأصل لم يبطل خلاف من يصير ذلك مصلحة معتبرة فيجاوز بها الضرورة إلى الاختيار ، فيكون الربا ثابتا بأصل معتبر في الشريعة ، أصل المصالح التي تُوَاطِئُ المقاصدَ ، والتوسع فِيهِمَا ، كما تقدم في مواضع ، ذريعة بها تُنْقَضُ عرى الأحكام وإن اسْتَعْمَلَ الناقض أصلا من أصول الشرع النازل ، فكان من قول بعضٍ وله في الباب قَدَمٌ تَرْسَخُ ، وقد تَوَسَّعَ مَنْ جاء بعده في تَتَبُّعِ زَلَّتِهِ ، فَوَسَّعَ مَنَاطَهَا حتى صارت حجة في تجاوز الفروع المنصوص عليها تَذَرُّعًا بالمصلحة الراجحة ، لو سلم أن تحريم الربا من الفروع ، فإنه وإن تناوله الفقه في باب البيوع إلا أنه مما جاوز في الوصف حَدَّ المحرم فهو كبيرة قد نَصَّ الوحي أنها من الموبقات السبع مع نَهْيٍ قَدْ تَوَاتَرَ في مواضع من آي الذكر المحكم ، بل ثم وعيد أخص أن يأذن آكل الربا بحرب من الله ، جل وعلا ، وصاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : (إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، وذلك الشرط الذي يجري مجرى الوعيد في شطر ، والوعد في آخر ، فلا تخلو دلالة الأول من تَرْهِيبٍ بالحرب ، والأمر فيها "فَأْذَنُوا" مئنة التهديد على وِزَانِ : إن كنت رجلا فافعل ! ، أو ما كان من تهديد في آي الذكر المحكم : (وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، و : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، فلا تخلو دلالة الشرط الأول في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، لا تخلو من ترهيب بالحرب وهي دليل تحريم ينهى عن الفعل الذي به استجلاب الوعيد من الحرب ، فيجري ، من هذا الوجه ، مجرى الخبر الذي يُرَادُ به الإنشاء ، على تقدير : لا تأكلوا الربا فتأذنوا بحرب من الله ورسوله ، فمن ذَا يطيق ذلك أن يكون خصما لمن أنزل الوحي ، جل وعلا ، ومن بَلَّغَهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وَقَدْ وُعِدَ النَّصْرَ على خصومه كافة في الأولى ويوم يقوم الأشهاد ، وَكَذَا يُقَالُ فِي شَطْرٍ ثَانٍ يجري مجرى الإلهابِ والتَّهْيِيجِ في مقام الحضِّ على المسارعة في التوبة وهي واجب الوقت لمن عَصَى ، بل ومن أطاع فإنه يتوب مما نال طاعته من التقصير ، فالتوبة واجب إِنْ فِي مَعْصِيَةٍ وهو الأظهر ، أو في طاعة فلا تخلو من شَائِبَةٍ تُكَدِّرُ ، فكان الإلهاب والتهييج حَضًّا على التوبة مع احتراز به تَطْمَئِنُّ النفس بما جُبِلَتْ عليه من الأثرةِ وَالشُّحِّ ، فَلَيْسَ من تَوْبَتِهَا أن تَنْخَلِعَ من مالِها ، وإنما لها الأصل دون الزيادة المحرَّمة ، فلا تَظْلِمُ وَلَا تُظْلَمُ ، وذلك من جِنَاسِ اشتقاقٍ قَدِ اسْتَغْرَقَ ، فَحُدِّ لِلْفَاعِلِ تَارَةً والمفعول أخرى مع نَفْيٍ قد تَسَلَّطَ على المصدر الكامن في كُلٍّ ، ولا يخلو من دلالة عموم إذ أطلق فالظلم مِمَّا حَرُمَ كَافَّةً ، وإن انصرف في هذا السياق إلى ظُلْمِ الأخذِ ، سواء أخذ زيادة بها قد ظَلَمَ أو أُخِذَتْ منه فَقَدْ ظُلِمَ ، وَثَمَّ تِكْرَارُ نَفْيٍ في قوله تعالى : (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) ، وبه تَوْكِيدٌ يزيد في الدلالة ، وثم من العموم ما جاوز ضمير الجمع المذكر ، فكان من دلالة التغليب مَا اسْتَغْرَقَ كُلَّ من تَعَاطَى الرِّبَا مِنَ الرِّجَالِ أو النِّسَاءِ ، فلا يقال ، بداهة ، إن ذلك مما اقتصر على الرجال إذ هما في الجملة سواء في أحكامِ الأموالِ وَمِنْهَا الرِّبَا ، فذلك شطر ثانٍ من الخبر يُرَغِّبُ في التوبة ، ولا يخلو من دَلِيلِ إِنْشَاءٍ يَأْمُرُ : أَنْ تُوبُوا إلى الله ، جل وعلا ، التوبة العامة وتوبوا أخرى أخص من أكل الربا ، وتلك توبة التَّرْكِ ، تَرْكِ المحرم ، وهو ما يوجب التكرار والفور ، فَلَا يَنْتَهِي عنه مرة فيصدق فيه أنه قد تَرَكَ المحرم ثم يقارفه بَعْدًا فقد خرج من عهدة الحكم ! ، فذلك، بداهة ، ما لا يتصور ، ولا يترك جنسا ظاهرا لا يطيق له تأويلا يسوغ ، وإن شئت دقة فَقُلْ يُلَفِّقُ ، لا يترك جنسا ظاهرا ويقترح آخر يخفى بما دق من حيل به يَسْتَحِلُّ المحارم كما البلوى قد عمت في الجيل المتأخر فصار الرِّبَا هو أصل التِّجَارَاتِ بين الأمم وصار له في الجمع أعراف تَفْسَدُ قد اشتهرت حتى صارت أصلا آخر في تعاطي الخلق الربا تذرعا بالمرابحة أو نحوه وليست إلا ربا النسيئة وإن احْتَالَ بَعْضٌ بِسِلْعَةٍ أو عَيْنٍ تُشْتَرَى .... إلخ ، وذلك العرف الفاسد فلا اعتبار له في الشرع إذ قد خالف عن النص كما المصلحة أو الاستحسان ... إلخ فكل أولئك مما اشترط له في الأصول ألا يخالف عن النص من الآي والخبر والإجماع والقياس الجلي ، وذلك أصل في أي اجتهاد بِرَأْيٍ أو مصلحة فشرطه ، كما تقدم ، ألا يخالف صاحبه عن النص والإجماع والقياس الجلي ، على تفصيل في ذلك ، فإن القياس الجلي قد يعارض بآخر أخفى وله ، مع ذلك ، قَرِينَةٌ فِي النَّظَرِ مُعْتَبَرَةٌ ، فيكون ذلك من باب التراجح بين الأدلة ..... إلخ ، والشاهد أن ثَمَّ من الفور ما يوجب تَرْكَ الرِّبَا ، وثم من الفور أن يُبَادِرَ ، فتلك دلالة النهي أو الأمر الذي يضاهيه في الدلالة ، فالأمر بالترك يضاهي في الدلالة النهي عن الفعل ، فيسارع المنهِيُّ أَنْ يُقْلِعَ عن المنهِّي عنه فكان من الأمر في آي تَقَدَّمَ ما تَوَجَّهَ به النداء إلى القبيل المؤمن أَنْ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فكان من ذلك ما عم فاستغرق من وجوه ، فكان من الموصول "الذين" حكاية عموم يجاوز القبيل المذَكَّر الذي وُضِعَ له الموصول الاسمي الخاص "الذين" ، فَثَمَّ ، كما تقدم ، تَغْلِيبٌ يجاوز فهو يستغرق كُلَّ محل يناط به خطاب التكليف أيا كان النوع ، فذلك أمر يستوي فيه الأفراد جميعا ، بل ثم من دلالة العموم ما جاوز الجمع المخاطب زَمَنَ التَّنَزُّلِ ، وذلك من المدني أواخرَ البعثة وقد استقرت الحكومات العلمية وكان التفصيل في أخرى عملية ، ومنها حكومات المال في البيع والشراء ، فكان من الخطاب ما جَاوَزَ القبيل المواجَه وهم أول من تَلَقَّى الوحي ، وهم ، كما تقدم في مواضع ، أفقه الناس بمراده إذ شَهِدُوا التَّنَزُّلَ ، وشهوده مَئِنَّةُ فِقْهٍ أَدَقَّ ، كما قال ابن عباس الحبر ، رضي الله عنهما ، وهو يجادل الخوارج فَقَدْ جاءهم من عند أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وفيهم قد نَزَلَ الوحي فهم أعلم الناس به لا من جَهَرَ بالقراءة وهو لا يفقه ، فكان من الغلو ما أهلك ، وإن كان لصاحبه حظ من عبادة وتلاوة فلا تجاوز تلاوة الألفاظ دون أخرى تَفْقَهُ المعاني وَتُحْسِنُ تَضَعُهَا في مواضعها ، فلا تُجْزِئُ التلاوة إلا أَنْ تُشْفَعَ بأخرى أَحَقَّ ، فهي حق التلاوة لا تلاوة المباني نطقا دون أخرى من المعنى فقها ، فيزيد القارئ أن يكون من تلاوة المعنى تَدَبُّرٌ ، ويكون تَالٍ منها في التفقه ، مع حسن قصد في تحري الحق وطلبه وإن خالف عن الهوى والحظ ، فَيُجْرِي الناظرُ أو القارئ الحكم في الموضع الذي لأجله قد نَزَلَ وتلك الحكمة وفصل الخطاب في الخصومات كافة أن توضع المعاني والأحكام في المحال التي تواطئ ، فلا زيادة ولا نقص ، ولا توسع في الاجتهاد يكاد صاحبه يبطل النصوص ويخرق الإجماع المستقر ولا تحجير لِوَاسِعٍ من نَظَرٍ يسوغ لا سيما فيما لم تَرِدْ به النصوص ، وإنما الحكمة أن يوضع كلٌّ في المحل الذي يواطئ ، فيجتمع لصاحبه نقل يصح وعقل يصرح فلا تعارض بينهما إن تحرى المجتهد الحق المنزل ، وللصدر الأول من ذلك درجة تعلو لما تقدم من فصاحة الألسن إذ سلمت اللحن والعجمة وشهود التَّنَزُّلِ فَعَلِمُوا فِيمَ نَزَلَ فَلَمْ يَتَوَسَّعُوا ولم يحجروا الواسع في الدلالة وإنما الحكمة وفصل الخطاب في وضع كلٍّ في الموضع الذي يواطئ ، فكان لهم منه حقيقة اصطلاحية في الشرع تبين عن ماهية أخص ، ماهية الحكم المخصوص وإن نَزَلَ على نُطْقِ عَرَبِيَّةٍ مَعْلُومٍ قد اسْتَعَارَ من الحقيقة اللسانية الأعم أخرى في الاصطلاح أخص ، اصطلاح الوحي في خبره وحكمه ، فلا ينفك يَسْتَعْمِلُ مِنْ لِسَانِ العرب قَوَالِبَ في النطق والمعنى ، في دلالة المعجم المفردة وَمَا انْتَظَمَهَا من سِلْكِ نَحْوٍ وما لطف من دلالات تَرْكِيبٍ قد استعملته العرب في كلامها ، ولو على خلاف النظم المعهود في نَحْوِهَا المأثور ، فَمِنْ إِرْثِهَا مَا سلك الجادة فكان منه قانون يطرد في التقديم والتأخير ، في التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ ، ولكلٍّ خاصة في النحو هي المحل الأول في الكلام وبه يستبين الناظر المعنى الأول المتبادر ، وله أخرى في البيان تحكي معنى ألطف من أَغْرَاضِ التَّنْكِيرِ وَالتَّعْرِيفِ ، والتقديم والتأخير .... إلخ ، فَثَمَّ من الإرث الأول من لسان العرب ما تداولته في كلامها إن على المعيار المطرد في النحو ، أو ما كان من استثناءٍ قد خالف عن الأصل ، فَقَدَّمَ ما حقه التأخير أو أَخَّرَ ما حقه التقديم ..... إلخ ، فكل أولئك وإن خالف عن النظم المعهود فلا ينفك يجد له من لسان العرب المحتج به الشهودَ ، فكان من الإرث الأول حَاكِمٌ فِي بَيَانِ مَا غَرُبَ من المفرد ، وما لَطُفَ من السياق المركب ، سواء أَحَدَّهُ مَنْ جَاءَ بَعْدًا في اصطلاح البيان أنه الاستعارة أو المجاز الذي يخالف عن الحقائق بما يكون من القرائن ، أم صيره من الحقيقة إذ تكلمت به العرب وصار من العرف المطرد وإن خالف عن دلالات المعجم المشتهرة وسياقات العربية القياسية ، فالاستعمال والتداول كَافٍ في الحكم على الألفاظ والجمل أنها من الحقائق لا المجازات ، وإن حقائقَ مُرَكَّبَةً تَأْتَلِفُ من دلالة المعجم المفردة وما احتف بها من قرائن الجمل المركبة ، وذلك ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، ذلك مما زَلَّتْ فيه أقدام وأفهام ، إذ ثم من جَفَا العربية فخرج عن دلالاتها المحكمة وخرج بالألفاظ عن أصولها المعجمية الأولى وهي ما استقر في الوجدان علم ضرورة محكم بما اشتهر من تداول الألفاظ في الكلام ، فخرج بهذه الأصول المعجمية المستقرة إلى وجوه لا تحتمل تَذَرُّعًا بِتَأْوِيلٍ قد صار الذريعة إلى نَقْضِ الأدلة الخبرية والحكمية ، فالبلوى في هذا الباب قد عمت الأخبار والأحكام كافة ، فَلَمْ يَسْلَمْ منها خبر الغيب كَمَبْدَإِ الخلق ، والفرض فيه التسليم لخبر يَصْدُقُ إذ مَنْ ذَا قَدْ شَهِدَ الأمر فيحكي ما قد شهد ؟! ، فالتأويل في هذا الباب يخرج بصاحبه إلى ظَنٍّ وَتَخَرُّصٍ ، بل ودعوى لا دليل عليها يشهد لا من نقل ولا من عقل ولا من حس فآثار الخلق في الخارج شاهدة لما قصه الوحي من الخبر ، وقياس التجريب المحدَث شاهد بما يُدْرَكُ بالحس لما كان أولا من خبر الوحي فكيف بمن اقترح ما يخالف عن بَدَائِهِ العقل وضرورات النقل فَقَصَّ من الخلق خرافة لا تحتمل وجها في عقل صريح أو لسان فصيح فضلا عن نقل صحيح تبجح المتأخر أنه لا يؤمنبه إذ تحرر من ربقة التقليد فهو المجتهد المحقق الذي لا يسلم إلا لما يجد بعقله وإن الهوى والذوق الذي يتحكم في الاستدلال تقليدا لآخر أدنى من الخلق فلا يصدق فيه إلا أنه قد استبدل الذي هو أدنى من ظنونِ الخلق بل وخرافاتهم في مواضع بالذي هو خير من خبر الوحي المحكم الذي كفى صاحبه المؤنة في الباب : باب العلم والعلم ، التصور والحكم بما كان من خبره الصادق وحكمه العادل ، فَرَامَ العقل الاجتهاد وقد أصابه من الطغيان ما أَفْسَدَ النظر بما استجمع من أَسْبَابٍ ظَنَّ بها الغنى عن وحي السماء بل وجعل تلك فضيلة عقلية أن يخرج عن الطريقة الدينية ، فليست إلا الخرافة ، ولم يحسن يميز دين الرسالة المنزَّل من خرافة الدين المبدَّل ، أو قد تَقَصَّدَ ذلك ووجد الذريعة بما جَنَتْ يد الكهنة إذ تناولت الوحي بالتبديل والتحريف بما يواطئ الهوى والذوق ، فَخَرَجَ العقل من تقليدهم ، وذلك حق ، ولكنه لم يحسن الاجتهاد تحريا للحق بدليل محكم ، بل قد دخل في تقليد آخر ، هو مرجع علم يُجَرِّبُ ، وله في بابه أياد بَيْضَاءَ تَنْصَحُ ، ولكنه لم يحرر المنزل الأول ، فجعل غايته أن يناجز الغيب إذ صَيَّرَ مداركه هي مرجع اليقين والجزم ، فما جاوز الحس فهو عدم ، وذلك الجفاء في مقابل غلو الكهنة ، فكان الجفاء في الغيب حتى صار الناظر كالحيوان الأعجم فلا عقل له يجاوز مدارك حسه ، فمن تَقْلِيدٍ إلى آخر وإن زعم صاحبه أنه المجتهد الذي تحرر من ربقة الخرافة ، فمن خرافة الدين الباطل إلى خرافة العلم الزائف ، وقد ألجاه ذلك في مواضع إذ رام الجمع بين الحق والباطل ، ألجأه ذلك أن يَتَكَلَّفَ من تأويل الحق ما يواطئ ما اقْتَرَحَ بالهوى والذوق ، ولو خرافة لا تَنْصَحُ في أَيِّ معيار محكم ، وللمتأوِّلَةِ فيه وجوه لا يَنْقَضِي العجب منها إذ رَامَ صاحبُها ، كما يذكر بَعْضُ من حَقَّقَ ، رَامَ الجمع بين ما لا يجتمع ! ، فتلك متناقضات لا تَأْتَلِفُ إلا على وجوه من التلفيق تسلك بصاحبها حَدَّ التأويل الباطن الذي يتلاعب بالدلالات الأصلية التي تجري مجرى العلوم الضرورية ، ولا ينفك صاحب هذا المسلك يصدر عن اعتقاد أول قد انْتَحَلَ قولا ثم رَامَ يُفَتِّشُ عن دليل يشهد ، ولو متشابها يَتَعَسَّفُ في رَدِّ المحكم به ، بل قد لا يكون له من ذلك المتشابه ، مَعَ بُعْدِهِ حظ ، فلم يأت بوجه من الدلالة يَبْعُدُ ليقال بأن تأويله بَعِيدٌ لا يَثْبُتُ ، وإن احتمله اللفظ ولو عَلَى وجهٍ مهجورٍ لا يُسْتَعْمَلُ ، بل قد جاوز الحد فأتى بما لا أصل له ولو بعيدا مهجورا ، فخرج عن قانون الكلام في المعجم وفي المنطق ، وأفضت الحال إلى لَعِبٍ يُنْتِجُ لسانا جديدا يَنْسَخُ مَا اسْتَقَرَّ من اللسان الأول ، لا جرم عُنِيَ أصحاب هذا المسلك أَنْ يبتوا الصلة بما تَقَدَّمَ من إرث العربية المحكم فضلا عن إرث الوحي المنزَّل بل وقانون العقل الضروري في مواضع ، فَبَلَغَتِ الحالُ جحودا لمعلوم ضروري أو سفسطة قد استوجب صاحبها العلاج ، وهو ما يُصَيِّرُ الجدال عَبَثًا إلا بَيَانَ شُبْهَةٍ قد عمت بها البلوى ، وإلا فالإعراض عن الزُّورِ إماتةٌ له ألا يُبَثَّ في الخلق من مادته ما يُفْسِدُ التَّصَوُّرَ والحكم ، فاقترح أولئك من وجوه الدلالة ما يتحكم في البيان انتصارا لمقال قد اعتقدوا في المبدإ وإن خالف عن أصول من الوحي المنزل ، فالجمع في هذه الحال ، كما تقدم ، جمع بين متناقضين وحكاية انهزام واستسلام لغالب يقترح من الفروض ما يُصَيِّرُهَا الضروري من العلوم ، وإن خالفت عن المنقول والمعقول والمنطوق والمفطور والمحسوس كافة ! ، فلا دليل يشهد لصحة ما يقول إلا أنه الغالب الذي يحمل الخلق على طريقته ولو كرها ! ، فدليله القوة : حق القوة التي بها يُكْرِهُ الخصمَ ولو حمله على ما يخالف الصدقَ والعدلَ ، وإن تَأَوَّلَ له عنوانَ رِيَادَةٍ لِلْخَلْقِ أنه قد جاء بالخير ، وتلك الدعوى التي احتملها كلُّ فاتح باسم فكرة أو شرعة ، فوجب النظر في دليل كلٍّ ، ووجب النظر في آثاره في الأرض كما قَصَّهَا التاريخ شاهدَ عدلٍ لا يكذب وإن استوجب من التفتيش ما به المادة تُحَرَّرُ ، مع معيار في النقد والتفسير يعدل .

    فكان من التأويل ، كما تقدم ، جناية عظمى في تحريف نصوص الوحي ليواطئ ما اعتقد الناظر أولا ، إن في خبري أو في حكمي ، كما الربا محل الشاهد وتكلف التأويلات في تخريج صورة المحدثة على قاعدة من النصوص المحكمة ، ذلك محل تعجب آخر من بلوى قد عمت في الحكومات كما أخرى في الاعتقادات ، مع اقْتِصَارِ المتأوِّل على موضع من النصوص دون آخر ، فَيَقْتَصِرُ على المجمل دون نَظَرٍ في المبيِّن الذي يُزَيِّفُ استدلاله ، مع بتر في السياق الواحد فضلا عن إهدارِ غَيْرٍ إن من الآي أو من الأثر ، كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ ، فإنكار الأخبار وَرَدُّ الآثار مما يُسِّهِلُ الأمرَ ! أَنْ تُجَرَّدَ الآي من بَيَانِ صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ من الحقائق الشرعية الأخص ما يقيد أخرى في اللسان هِيَ الْأَعَمُّ ، والخلق ، كما تقدم ، بين جَافٍ في الحقيقة اللسانية الأعم بما يقترح من تأويلات باطنية تأتي على أصولها بالإبطال ، وَغَالٍ فيها إذ يَتَذَرَّعُ بها أَنْ يَرُدَّ الحقائق الشرعية الأخص التي بَلَّغَهَا صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم وَبَيَّنَهَا لا جرم تحمل أولئك من دعوى أَنَّهُ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يُفَسِّرِ القرآنَ كُلَّهُ بل قد تَرَكَ منه مواضع مفتوحة وهي الأكثر ، فَتَحْتَمِلُ من التأويلات ما يجوز إذ تُرِكَتْ ألفاظها شاغرة من الدلالة ليقترح كلٌّ من الشاغل ما يُوَاطِئُ هواه وذوقه ! ، فالاشتغال بالحقيقة اللغوية أمر يَنْفَعُ في الاستدلال ، ولو دَرَكًا أول لمعنى الكلمة واستعمالاتها في الكلام الفصيح المحتج به وهو ما يُورِثُ المستدل تَصَوُّرًا أول هو المطلق ، ولكنه لا يجزئ وحده حتى يكون ثم نظر أخص في حقائق الشرع المقيدة فهي تستعير حقائق اللسان وَتَزِيدُ عليها من القيد ما يأطرها على مُرَادِ الشرع الخاص ، لا جرم كان من آيِ المحدِثَةِ في كل جيل كما يذكر بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ : كراهة الأخبار والآثار المنقولة عن جِيلِ الرسالة وما تَلَا من قَرْنِ الْأَتْبَاعِ فَأَتْبَاعِهِمْ ، إذ لأولئك من فِقْهٍ أخص بما تقدم من شهودهم الوحي وَعَرَبِيَّةٍ قد سلمت من اللحن ، وهو ما يدحض شبهات المتأوِّلة في كل جيل ، فكان إعراضهم عن الأخبار والآثار ، وكان القدح في صحتها ، ولو بِدَعَاوَى مجملة لا دليل عليها ، أو شبهاتٍ تُرَدُّ بها محكَمَاتُ الرِّوَايَةِ .
    لا جرم كان من العهد الأخص في نداء القبيل المؤمن في مواضع من التنزيل منها الآي آنف الذكر أن : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، كان من ذلك ما اقتصر ، بادي الرأي ، على القبيل المواجه بالخطاب أولا ، فَلَهُ من شهود التَّنَزُّلِ وسلامة اللسان من اللحن المحدَث ، له من ذلك خاصة تميز لا جرم كان تفسيره تاليا في الحجية لتفسير صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَلَهُ ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، له فقه أخص يُقَدَّمُ على المجرَّد من حقائق اللسان وإن كانت ، كما تقدم ، الأول في البيان ، فلا يكون الغلو فِيهَا أَنْ تَصِيرَ وحدَها المرجعَ في التفسير دون نظر في أول من اصطلاح الوحي المنزل وما أُثِرَ عن الجيل الأول ، ولا يكون الجفاء بما تقدم من تأويل باطني يخرج بها عن دلالاتها الضرورية المستقرة في لسان العرب الناصح بما أُثِرَ عن الناظم والناثر ، وهو ، لو تدبر الناظر ، مما يدخل في النهي عن الغلو والجفاء على مَا تَقَدَّمَ من تلازم بَيْنَهُمَا فلا ينفك أحدهما يستجلب الآخر ، والنهي عن أحدهما نهي عن الآخر إذ هما ضدان يَدُورَانِ لمأمورٍ واحد أَنْ يَسْلُكَ الناظر جادة الاستدلال المحكمة عدلا في البيان يأخذ من كلٍّ مادة تنصح ، فيأخذ من الحقيقة اللسانية المطلقة مَادَّةَ بَيَانٍ أول ، ولا يقتصر عليها بل يزيد ما جاء به الوحي ، كما يضرب بَعْضُ من حقق المثلَ بالظلم ، في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، فَثَمَّ من الجيل الأول ما اسْتَشْكَلَ إذ حَمَلَ الظلم في الآية على الحقيقة اللسانية الأعم وهي وضع الشيء في غير الموضع فَيَحِيدُ صاحبه عن جادة العدل وهو ما يصدق في أي ظلم في الخارج ، فكان من الحقيقة الشرعية الأخص مَا أَطَرَ الدلالة في هذا الموضع على الشرك فهو أعظم الظلم ، وقد استدل له صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم بآي آخر من الذكر المحكم ، فـ : (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، فيصدق فيه أنه من تفسير آيٍ من الوحي بآخر منه ، ويصدق فِيهِ ، أيضا ، أنه من تفسير صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أبان عما أُجْمِلَ من الدلالة ، لا إجمالَ اللفظ في المعجم الدلالي المفرد فكلُّ عربي يعلم معنى الظلم بداهة ، ولكنه مِمَّا أَشْكَلَ في سياقه المخصوص في آي الأنعام : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، فاستوجب التفسير والبيان من آي لقمان أَنْ : (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، وتلك الحقيقة الشرعية الأخص التي اقتبست شعبة من الحقيقة اللغوية الأعم وزادتها معنى في الاصطلاح قد أَبَانَ عنه صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكان من بَيَانِهِ ما أزال الإجمال في هذا الموضع ، وهو ما يبطل دلالة من زعم أَنَّ ثَمَّ من التنزيل ما لم يُبِنْ عنه صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فَتَرَكَهُ لَفْظًا بلا معنى ، دليلًا بلا مدلول ، قالبا بلا شاغل ، فهو الشاغر الذي يُضَمِّنُهُ كلٌّ ما يَهَوى أو يَجِدُ ! ، بل تفسيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد تَنَاوَلَ التَّنْزِيلَ كلَّه ، إِنْ تَنْزِيلًا قَدْ بَلَّغَ ألفاظَه نصوصا لا تحتمل ، فتأويلها تَنْزِيلُهَا ، كما يقول أهل الشأن ، وهي جارية على الأصل لقرينة السكوت في موضعِ الْبَيَانِ فَهُوَ بَيَانٌ ، فَلَوْ كَانَ ثَمَّ معنى آخر يَقْصِدُهُ الشَّرْعُ مَا وَسِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسكت عن بَيَانِهِ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، فلا يَتْرُكُهَا صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاغرة من المعنى ، ولو المدلولَ الأول ، لِيَأْتِيَ مَنْ تَلَا فيستدرك على الوحي والنبوة ما فاتهما بما اقترح من تأويل ليس إلا التحكم بلا دليل يَسْلَمُ ، وهو الذي يأتي على أصل الدلالة الأولى في المعجم بالإبطال ! ، فيكون من تَفْسِيرِ اللَّفْظِ ما يبطله ، وشرط المعنى الثانوي الذي يستنبطه الناظر في موضع اجتهاد سائغ ، شرطه أَلَّا يَأْتِيَ على الأصل بالإبطال ، فَيَنْقُضَ ما استقر أولا من دلالات الألفاظ ، فذلك ما لا يسلم لصاحبه أَنْ يَقْتَرِحَ فَرْعًا يأتي على الأصل بالإبطال كمن يقترح لحكمٍ في الفقه عَلَّةً تَأْتِي على أصله بالإبطال ، فالباب واحد ، فَلَمَّا سكت صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم عَنِ الْبَيَانِ في موضع فأجرى ما بَلَّغَ من الألفاظ على ظَوَاهِرِهِ كان ذلك البيان المحكم أَنْ تُحْمَلَ على أصلها الأول في المعجم ، ولما كَانَ ثَمَّ إجمال لم يسعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسكت ، ولو في موضع له من دلالة اللسان ما يظهر كما الظلم آنف الذكر ، إذ قد تَوَسَّعَ المخاطَب في الاستدلال به فأجراه على الجنس الدلالي الأعم بما اشتهر من دلالة المعجم المطلق الذي يدخل فيه كُلُّ ظلمٍ ، فكان من الإشكال في الاستدلال حاجة لَا يَجُوزُ تأخير البيان عن وَقْتِهَا ، فَسَارَعَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَنْ يُبِينَ عَمَّا أُجْمِلَ من حقيقة أخص في الاصطلاح الشرعي قد قَصَرَتِ الظُّلْمَ عَلَى فَرْدٍ من أَفْرَادِهِ وهو الشرك ، فَزَالَ الإجمال بِبَيَانِهِ وكان من ذلك تأويل يُصَدِّقُ ما كان من آي الذكر المحكم ، فـ : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
    وكذا يُقَالُ في مواضع قد أَبَانَ فيها صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن معنى العام الذي يَسْتَغْرِقُ آحادا فَذَكَرَ بَعْضًا في سياق التمثيل لا التخصيص إذ ذِكْرُ بَعْضِ أفرادِ العام لا يخصصه ، وإنما يُبَيِّنُهُ ، كما ذَكَرَ أهل الشأن ، وله المثال بِتَفْسِيرِهِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الرمي بالقوة ، في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) فذلك ، بداهة ، مما لا يَقْصر القوة على الرمي المعهود بالسهام ، بل ذلك مثال يُبِينُ عن عام قد استغرق أجناس القوة كَافَّةً ، بل قد يصح التوسع فيها ، من وجه ، أن تَدْخُلَ فيها قوة الحجة والمنطق في الجدال كما أخرى من الحديد والسنان في مواضع الجلاد وما استحدث من أسباب القتال المحسوسة ، لا أن يكون ذلك نسخا لقتال الحس كما قال بَعْضٌ قَدْ غَلَا في الجمال فأهدر الجلال وَصَيَّرَ الجهاد : جهاد الكلمة وحده فهو يحمل القوة في هذا السياق على قوة الحجة لا أكثر ! ، وذلك تأويل يَبْعُدُ بل هو في سِيَاقِهِ حَدَّ الباطنِ يَبْلُغ إذ يُهْدِرُ مُرَادَ الشارعِ ، جل وعلا ، من ظَاهِرِ أَلْفَاظٍ قد سِيقَتْ في نُصُوصِ جهادٍ بالسيف والسنان .

    فالغلو في الحقيقة اللسانية يُفْضِي إلى طريقة في التأويل باطنية ، فمن نظر في لفظ الصلاة مثالا وَقَصَرَهُ على الدعاء ، فَيُجْزِئُ الدَّاعِي في هذه الحال أن يَرْفَعَ يديه أو يصلي بِقَلْبِهِ أو بِبَصَرِهِ إذ يرفعه إلى السماء ، كما المعهود من اللسان النصراني المتداول أن فلانا يصلي من أجل فلان ، فهو يدعو له بالخير ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الناظر على هذه الحقيقة اللسانية المطلقة لَأَفْضَى ذلك إلى تأويل ركن من أركان الديانة ، فاللفظ وإن كان له من حقيقة اللسان أول معتبر وهو الدعاء إلا أن نَظَرَ الشَّرْعِ أخص وذلك نص فيه ينصرف أولا إلى الحقيقة الشرعية وهي الصلاة المعهودة فذلك الأصل الجديد الذي نسخ الأصل اللساني الأول ، وإن لم يَنْسَخِ المعنى كله بل قد زاده قيدا مخصوصا في الدعاء ، فالصلاة في الشرع صلاة لسانية أخص بما انضم إليها من قيد ، قيد الماهية الاصطلاحية الأخص ، وهي الأصل في نصوص الوحي فلا يُعْدَلُ عنها إلى أصل اللسان الأول الذي صار في هذ الحال هو المؤَّول ، لا يعدل إليه إلا بِقَرِينَةٍ تصرف ، كما الأمر بالصلاة في آي الذكر المحكم : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، فهو ، بداهة ، أمر بالدعاء لا الصلاة المعهودة في الشرع ، وثم من يجري ذلك مجرى المجاز فهو من التأويل صرفا عن وجه إلى آخر ، وَثَمَّ من يجريه مجرى الحقيقة ، إذ اللفظ في كل موضع بما احتف به من القرينة قد اكتسب من المعنى ما هو حقيقة في سِيَاقِهِ خاصة وإن لم يكن كذلك في آخر ، فالسياق ، كما تقدم مرارا ، أصل في درك مراد المتكلِّم .

    فكان من نداء القبيل المؤمن ، كما تقدم من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، كان منه مَا عَمَّ فاستغرق من وجوه ، فاستغرق الجنس المذكر وآخر يطابقه في النوع وهو المؤنث ، واستغرق القبيل المخاطَب خطابَ المواجهة وَمَنْ غَابَ فلم يحضر بل ومن عُدِمَ فَلَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ ، واستغرق المؤمنَ والكافرَ على القول بخطاب الكافر بفروع الشريعة وإن كان الربا ، كما تقدم ، كبيرة تجعل تحريمها من الأصول لا من الفروع ، وثم من نداء الْبَعِيدِ ما به تعظيم المنادِي : الرب العالي ، جل وعلا ، فَلَهُ من المعنى ، كما تقدم في مواضع عدة ، علو الذات والوصف وَلَهُ من ذلك الشأن والقهر وعلو آخر به التَّنْزِيهِ عن مشابهة الخلق بالنظر في الحقيقة والكيف في الخارج وإن كان ثم اشتراك في المعاني المطلقة في الذهن ، ولا يخلو النداء من جهة أخرى تغاير : جهة المخاطَب ، لا يخلو من تَنْبِيهٍ للغافلٍ واستحضارٍ للأذهان ، وهو ما حَسَنُ معه الإطناب بالمجمل من المنادى "أَيُّ" وما تلا من هاء تَنْبِيهٍ ، مع علَّةٍ في نحو الكلام فلا يكون نداء المبدوء بالألف واللام في العربية إلا وثم من "أَيُّ" منادى به التوسل إلى عطف بيان أو نعت أو بدل هو المقصود بالحكم أصالة ، وهو ما اسْتُثْنِيَ منه ، كما يقول أهل الشأن ، اسم الله ، جل وعلا ، فَحَسُنَ نَدَاؤُهُ بلا واسطة فهو القريب إذا دُعِيَ ، قُرْبَ السمعِ والإجابة ، فَحَسُنَ لذلك قُرْبٌ أول في النطق ألا يكون ثم فصل من اللفظ ، وبه رُدَّ على بَعْضِ من حَقَّقَ إذ رَجَّحَ أن اسم "الله" ، جل وعلا ، جامد لا مشتق ، إذ لو كان المشتق لكانت "أل" مئنة تعريف وهي الزائدة على اللفظ ، فوجب النداء أولا للمنادى "أَيُّ" ، فَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ لِاسْمِ اللهِ ، جل وعلا ، خاصة تميز مَئِنَّةَ القربِ في الإجابة التي حَسُنَ معها القرب في تَنَاوُلِ اللَّفْظِ بِلَا واسطةِ منادى ، فهو المشتق من "أله" لا الجامد ، و "أل" فيه دليل تعريف يزيد على أصل المادة ، ولم يكن مع ذلك حاجة إلى منادى يَتَوَسَّطُ في النطق .

    وثم من الموصول بَعْدًا في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، ثَمَّ منه ما يحكي إجمالا آخر به استحضار الأذهان طلبا لِلْبَيَانِ ، فكان من الصلة بَعْدًا "آمَنُوا" : بَيَانٌ فَهِيَ مَنَاطُ النداء على التفصيل آنف الذكر ، إذ تستغرق ما يجاوز اللفظ ، لفظ الجمع المؤمن المذكر ، فتدخل فيه المؤمنات إما تَبَعًا وإما بأصل الوضع بما اكتنفه من قرينة التغليب ، وهو ما يطرد في الأوامر التالية بالتقوى وَتَرْكِ الربا ، فذلك ، أيضا ، ما رَفَدَهُ التغليب بعموم يستغرق كل أحد يُكَلَّفُ ، وهو ، من وجه آخر ، ما يصدق في كل محلٍّ حصل له من الإيمان قدر يجزئ في حصول اسم ديني يَنْفَعُ ، ولو في الدنيا ، عصمةً مع نفاق يَبْطُنُ ، وليس ذلك محل التكليف في الشهادة ، فإنه إنما يتوجه إلى الظاهر وما بَطَنَ فحسابه على الله ، جل وعلا ، إلا أن تَرِدَ قَرِينَةٌ تفضح ما استكن في الباطن من ناقض الدعوى الإيمانية الظاهرة ، فاستغرق الاسم الإيماني : المطلق الأول وهو أدنى ما يجزئ ، وما تلا من درجات تتفاوت حتى تبلغ الإيمان الواجب وما تلا من درجات الاستحباب والندب ، بل اللفظ ، كما تقدم ، يجاوز القبيل المؤمن إلى كلِّ أَحَدٍ صَحَّ تَكْلِيفُهُ ، ولو بالقوة ، فاستغرق الخطاب القبيل المؤمن بالفعل الذي تأول قوة الإيمان بفعل في الخارج يصدق قوة الإيمان التي ركزت في وجدان كل عاقل فهي مناط التكليف الأول ، واستغرق ، أيضا ، القبيل الكافر الذي لم يؤمن بالفعل وإن كان من قوة الإيمان ما رُكِزَ في وجدانه ، فَثَمَّ عقل الفهم الذي يستبين المعنى فيحصل له من العرفان ما به الحجة تُقَامُ ، فيصدق فيه أنه مؤمن ، وإن بالقوة المركوزة مع ما كان أولا من الميثاق ، فآثاره فطرة إيمان يُولَدُ عَلَيْهَا الخلق كافة حتى يكون من المبدل ما يَنْسَخُ ، إن الأصلَ وهو التوحيد ، فيكون من المبدِّل دين آخر يُغَايِرُ يَنْشَأُ عَلَيْهِ المولود أو ما يكون تاليا من ناقض إيمان يأتي على الأصل بالإبطال ، إن اعتقادا أو قولا أو عملا ، أو ما دونه من مَوَاضِعِ عصيانٍ تُجَافِي عن الفطرة التي تدل على الحسن والقبيح دلالة الضرورة المستقرة في الوجدان ، فيدخل الكافر في حد الإيمان ، من هذا الوجه ، فهو مؤمن إيمانَ القوَّةِ المركوزة التي يُنَاطُ بها التكليف ، وإن لم يكن ثم إيمانٌ تَالٍ يُصَدِّقُ ، إيمان الفعل بما يكون من تصديق بالتوحيد وامتثال للتشريع ، وَثَمَّ تَالٍ من الأمر الأعم أَنِ : (اتَّقُوا اللَّهَ) ، ثُمَّ تَالٍ أخص أَنِ : (ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ، وذلك أمر يضاهي في دلالته النهي أن لا تأكلوا الربا إذ أمر الترك يوجب الإقلاع كما النهي عن المحظور ، فكان من الأمر تَالٍ أَخَصُّ ، فَهُوَ يدخل في حد التقوى ، وقد يكون من التمهيد بالتقوى بين يدي الأمر بِتَرْكِ الرِّبَا ، قد يكون من ذلك إطناب بالسبب بين يدي المسبَّب ، إذ التقوى سبب في ترك المحرم ، وثم من الشرط ما يجري مجرى الإلهاب والتهييج حضا على الامتثال ختامَ الآية : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، ولا يخلو من حذف الجواب إذ قد دل عليه سباق تقدم على تأويل : إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله وذروا ما بَقِيَ من الربا ، وهو آكد في الدلالة إذ زِيدَتْ فيه الكينونة الماضية فَأَطْنَبَ بها ولا تخلو من ثُبُوتٍ واستمرار يتناول الزمن الماضي بالنظر في أصل الوضع الأول ، وقد رَفَدَهُ الشرط دلالة الاستقبال ، وهو ، كما تقدم ، آكد في الإلهاب والتهييج ، فلا يحصل هذا المعنى الزائد إن قَالَ في غَيْرِ التَّنْزِيلِ الخاتم : إن آمنتم فاتقوا الله وذروا ما بَقِيَ من الربا ، وثم من دلالة الإيمان ما يتوجه إلى الكمال الواجب ، فإن كنتم مؤمنين الإيمان الواجب فلا تُقَارِفُوا كَبِيرَةَ الرِّبَا ، وقد يتوجه الخطاب إلى الأصل الجامع في حق من استحل الربا وهو المحرم المعلومُ تحريمُه من الدين بالضرورة ، فيكون من ذلك نَاقِضِ إيمانٍ إِذَا اقْتَرَنَ بمباشرة المعصية ، بل إن اسْتَحَلَّهُ وَلَوْ لَمْ يَتَعَاطَاهُ فقد نَقَضَ أصل الإيمان الأول ، فكان من الإلهاب والتَّهْيِيجِ في هذه الحال ما يَتَنَاوَلُ أصلَ الإيمان الأول ، على تقدير : إن كان لكم أصلُ إيمانٍ يجزئ في حصول اسم ديني يَنْفَعُ فلا تَسْتَحِلُّوا الربا وذروا ما بقي منه إن فعلا أو اعتقادا ، وكلا الوجهين ، لو تدبر الناظر ، يصح ، وبه يستأنس من يُجَوِّزُ دلالة العموم في اللفظ المشترك .

    والله أعلى وأعلم .


  20. #20
    لجنة الشورى

    معلومات شخصية

    رقم العضوية : 2814

    الجنس : ذكر

    البلد
    مصر

    معلومات علمية

    المؤهل العلمي : جامعي

    التخصص : ميكروبيولوجي "كائنات دقيقة"

    معلومات أخرى

    نقاط التميز : 8

    التقويم : 66

    الوسام: ★★
    تاريخ التسجيل17/8/2005

    آخر نشاط:07-03-2023
    الساعة:05:39 PM

    المشاركات
    5,188
    العمر
    45

    وَكُلُّ أولئك بداهة مما يجاوز بِتَحْرِيمِ الرِّبَا حَدَّ الفرع الدقيق فهو أصل جليل بما تَضَافَرَ من الأدلة والقرائن ، فَثَمَّ من لعن هو النص ، وتلك من آي الكبيرة ، كما استقرأ أهل الشأن ، فكان من الخبر ذي الدلالة الإنشائية أن : "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُطْعِمَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ" ، فلا يخلو من تَأْوِيلٍ أول هو إنشاء الدعاء أَنِ : اللهم الْعَنِ المذكورين من آكل الربا ومطعمه ..... إلخ ، وإن أُسْنِدَ اللعن إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فإنه في هذا السياق : المبلِّغ المبيِّن عن مراد ربه ، جل وعلا ، فهو من لعن أولئك لما قارفوا من الجرم كَبِيرَةً تَفْحُشُ ، لا جرم كان اللعن ، وَإِنْ وَصْفًا لَا عَيْنًا ، فذلك المطلق الذي لا يجزم الناظر فيه بالتعيين إذ لا بد لذلك من استيفاءِ شَرْطٍ وَانْتِفَاءِ مَانِعٍ لِنَفَاذِ الوعيدِ من لعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله ، جل وعلا ، وذلك وصف يَعْظُمُ ، فلا يكون ، كما تقدم ، إلا جزاء كبيرة يَفْحُشُ جُرْمُهَا وَيُجَاوِزُ ، وإن احتمل ذلك ، من وجه آخر ، لَعْنًا هو الأكبر إذ قارف صاحبه ناقضا لأصل الدين الجامع ، كما في لعن الله ، جل وعلا ، قبيلا قد كفر في آي محكم قد نزل ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) ، وآخر هو الأصغر إذ يَتَنَاوَلُ من قارف ناقضا لكمال الدين الواجب دون أصله الجامع ، كما في الربا محل الشاهد ، وإن احتمل ، من آخر ، نَفْيَ الأصلِ الجامعِ إن كان ذلك على حد الاستباحة لما قد عُلِمَ من الدين ضرورةً تحريمُه ، أو كان من ذلك دليل استخفاف واستهزاء بما تَنَزَّلَ من الأحكام ، وذانك ، الاستباحة والاستهانة ، ذانك ابتداء يَنْقُضَانِ أصلَ الدينِ الجامعِ ، ولو لم يقارف صاحبهما الجرم المتوعَّد فاعلُه ، فكان من اللعن جنس عام على التفصيل آنف الذكر ، وتحته محل شاهد من لَعْنِ أولئك في سياق ربا يحرم ، وهو ما انصرف أولا إلى لعن أصغر إذ قارف صاحبه من العصيان ما ينقض كمال الإيمان دون أصله المحكم ، على التفصيل آنف الذكر ، وهو ، من هذا الوجه ، مما لا يجزم فيه القائل أنه واقع كما لَعْنُ الكافرِ والمنافقِ ، بل هو في هذا الموضع يحتمل ، فَإِنَّهُ من وعيدِ فاعلِ الكبيرةِ ، وصاحبُها ، كما قَرَّرَ أهل الشأن ، تحت المشيئة ، فإن شاء الله ، جل وعلا ، عَفَا فَضْلًا ، أو كان ثم من مانع وعيد ما يَثْبُتُ ، وإن شاء عَذَّبَ عَدْلًا عَذَابًا غَيْرَ مُؤَبَّدٍ إذ لم يكن منه في هذه الحال ما لِأَصْلِ الدِّينِ يَنْقُضُ ، فكل أولئك مِمَّا اطَّرَدَ فِي نصوصِ الوعد والوعيد كافة ، وهو ما تَنَاوَلَ في هذا السياق جمعا منهم مَنْ يُبَاشِرُ ومنهم من يُسَاعِدُ ، فيأثم كما الفاعل إذ قد عاون على الإثم والعدوان ، وهو مما نهى عنه الوحي في محكم الذكر ، فـ : (لَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ، فَنَالَهُ من اللعن ما نَالَ الفاعل ، وشرطه ، أبدا ، العلم الذي به تُقَامُ الحجة ، إذ العذر بالجهل ، ولو في أصولٍ تَعْظُمُ ، العذرُ بالجهلِ يُعْتَبَرُ رحمةً من الخالق ، جل وعلا ، ألا يعاجل بالعقوبة حتى يكون مِنَ النذير بَيَانٌ ، فـ : (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ، وذلك ما قد عم الأصول والفروع كافة ، فَرُسُلُ الوحيِ إن الأول الذي يَنْزِلُ عليه أو مَنْ تَلَا ممن يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ ، ولو الآيَ المنزَّل والخبرَ المصدَّق ، فإذا تناوله من هو أهل أَنْ يُكَلَّفَ بما ثبت له من عقل ينصح ، فقد كلف بالواجب ، فإن خالف فَلَهُ من الوعيد جزاءُ مَا يُقَارِفُ ، كما في هذا الموضع من لَعْنٍ قد حُدَّ مَاضِيًا إما بِنَظَرٍ في علم أول يحيط ، أو هو مما يجري مجرى التوكيد ، فكأنه حتم لازم قد وقع وانقضى فَصَارَ مِنَ الْوَاقِعِ الجازم ، وذلك حكم شرعي لا يكون إلا بتوقيف فلا يجوز لعن بالاجتهاد ، فذلك من التوقيف الذي لا يُنَالُ إلا من مشكاة الوحي ، وهو ، كما تقدم ، حُكْمٌ شرعي إِنْ فِي المطلَق أو في المعيَّن من باب أولى ، فكان من الإسناد إلى الله ، جل وعلا ، ما مَحَّضَ الفعلَ ، فذلك أَثَرُ جلالٍ في القول ، فَثَمَّ من وصف الغضب والسخط لِمَا يُنْتَهَكُ من الحرمات ، ومن آثاره في الخارج ما يكون مِنْ لَعْنٍ وهو الطرد والإبعاد المطلق ، فَذَلِكَ معناه فِي معجم اللسان الأول ، وثم من اصطلاح الشرع الأخص ما قيده إذ قَصَرَهُ عَلَى طَرْدٍ وإبعادٍ أَخَصَّ من رحمة الخالق ذي الحمد والكرم الذي عَمَّ بجمالِه الخلق ، وإن كان من الجلال ضِدٌّ إذ كان من سببه سخطا وغضبا ، كان منه ما اسْتَوْجَبَ ، وتلك ، كما تقدم ، مادة الحكمة أَنْ يُوضَعَ كُلٌّ في المحل الذي يواطئ ، فيوضع الجمال رحمةً في موضعه ، ويوضع الجلال طردا منها وإبعادا ، يوضع في الموضع الذي يواطئ ، وذلك ، كما تقدم ، مما أطلق ، فَثَمَّ من التَّعْيِينِ قَدْرٌ زَائِدٌ ، وهو ما اطَّرَدَ في وعيد أصحاب الكبائر ، وقد نَصَّ الوحي أن الربا منها كما في الخبر أَنِ : "«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»" ، فكان من الأمر الذي احتمل دلالةِ ضِدٍّ من النهي ، فهو أَمْرُ كَفٍّ ، فالمبنى أمر بالاجتناب والمعنى نهي عن المأمور باجتنابه من الموبقات ، فهو في قوة المبنى : اجتنبوا ، وذلك مما استعير لأجله الجنب في دلالة الحس الذي يشهد فإن من أعرض عن شيء فهو يجانبه فيوليه جنبه مَئِنَّةَ إعراض ومفارقة ، ولا يخلو أن يكون من الكناية ، إذ يدل على المعنى اللازم من الكف والمباعدة ، ولا يحول دون الأصل من تولية الجنب في الحس ، وهو في قوة المبنى : انتهوا أو لا تفعلوا الموبقات المنصوصة فهي المنهي عنه لِقَرِينَةِ الوصف ، وصف الموبقة فهو ، بداهة ، لا يكون إلا لمحرم ، فلا يوبق ويهلك إلا المحظور المحرم ، بل ما قد بلغ من التحريم غاية ، فإن المحرم كما الواجب ، فالثاني على دَرَجَاتٍ ، والأول على دَرَكَاتٍ ، فَمِنَ المحرَّم ما هو صغيرة ، وإن بَلَغَ حد الكبيرة بالإصرار ، فتلك قرينة من خارج قد رجحت في الصغيرة حَدًّا يجاوز فهي الكبيرة ، ومن الذنوب ما هو ، بادي الرأي ، كبيرة كما المنصوصات في الخبر ، وإن كان من الاستغفار ما يَجُبُّ وَيَنْسَخُ ، فذلك قانون عام يستغرق الصغائر والكبائر كافة ، فالاستغفار يمحو الجميع مع توبة تَنْصَحُ بِهَا تُبَدَّلُ السيئاتُ حسناتٍ ، وإن كان من الصغيرة فُسْحَةٌ تزيد فَمِنْهَا ما يُغْفَرُ بِلَا تَوْبَةٍ إذ يكون من الحسنات الماحيات ما يَغْفِرُ من الجمع والجماعات ..... إلخ ، كما نصوص وعدٍ تُبَشِّرُ ، فإنها مما يحمل ، من وجه ، على الصغائر وله شرط أخص يطرد في المعاصي كَافَّةً ألا يكون ثم منها ما يَتَعَدَّى إلى حقوق الخلق ، فذلك ما افْتَقَرَ إلى حَدٍّ يَزِيدُ ، حَدِّ الحق المتعدِّي فلا تسلم له توبة إلا يَرُدَّ الحق أو يستبرئ صاحبه طوعا لا كرها يباشر أو آخر بسيف حياء يكافح .

    فكان من الكبائر ما لا تجبه إلا التوبة ، وإلا فصاحبها تحت المشيئة ، فهو من أهل وعيدٍ أَعَمَّ يحتمل الإنفاذ أو التعطيل ، خلاف ما يكون من وعيد أخص ، وعيدِ الشِّرْكِ فَذَلِكَ قَطْعٌ لا يحتمل ، فَنَفَاذُهُ واجب لا يتخلف ، فَثَمَّ من الوعيد ، لو تدبر الناظر ، ثم منه جنس عام يستغرق ، فمنه وعيد التأقيت إِنْ نَفَذَ فذلك وعيد العصاة من الموحِّدِينَ ، وهم تحت المشيئة ، فمنه ما ينفذ ، ومنه ما لا ينفذ لموانع نَفَاذٍ اصطلح أنها موانع نفاذ الوعيد من الحسنات الماحيات أو المصائب المكفرات أو سكرات الموت أو ضَمَّةِ القبر أو ما يكون من عذاب فيه يُطَهِّرُ فهو لعذاب الآخرة يمنع أو شفاعة على درجات قد تناولها أهل الشأن ومنها شفاعة له صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي النص في هذا الباب : باب الكبائر ، فـ : "شفاعتي لأهلِ الكبائرِ مِن أمتي" .
    فصاحب الكبيرة تحت المشيئة ، وعذابُه إِنْ وَقَعَ تأويلُه فهو المؤقَّت فلا يُؤَبَّدُ ، فلا ينفك يَنَالُ من الشفاعة قسطا ، ولو شفاعة الجبار ، جل وعلا ، في الجهنميين وهم عتقاؤه من النار ، وثم من الوعيد آخر وهو المؤبد فلا يتخلف بمانع ولا شفاعة فذلك مما اسْتُثْنِيَ بِالنَّصِّ ، فـ : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) ، فلا ينقطع فهو المؤبد ، وَثَمَّ مَنْ خَصَّ هذا الأصل في الوعيد والوعد ، فإن من الكبائر ما قد خُصَّ فلا توبة وإن لم يكن ناقضا لأصل الملة كما القتل ، فـ : (مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ، لا أَنَّ القاتلَ يكفر إلا إِنِ اسْتَحَلَّ أو كان القتل على قاعدة دين يُبْغِضُ القاتل فيها المقتول لأجل دينه ، إلا أن يكون ثم تأويل يرفع الحكم ولا يرفع الإثم كمن يغلو في تكفير الخلق فهو إن قاتلهم وقتلهم على قاعدة دينية فلا يعتقد أَنَّ ما هم عليه دين حق ، بل ما قتلهم إلا انتصارا للدين الحق كما قد اعتقد ، وإن تحكم في حدِّه ومناجزةِ مَنْ خالف عنه مناجزةَ الكافر أو المرتد ، فمن استحل القتل فهو مارق وإن كان أَعَفَّ الخلق في الدماء ، ومن قَاتَلَ وَقَتَلَ على قاعدة دين بلا شبهة تأويل فهو مارق ، ومن قاتل وَقَتَلَ على قاعدة دين بشبهة فليس يمرق وإن كان يأثم ، بل هو على محدثة في الدين تجاوز كبيرة العمل من القتل والزنى ..... إلخ ، ومحل الشاهد في الباب : مَنْ قَتَلَ كبيرةً مجرَّدة ، فَثَمَّ من صَيَّرَهُ كسائر الكبائر ، وثم من خصه إذ ثم النص ، فهو نافذ فلا توبة ، كما قال ابن عباس حَبْرُ الأمَّةِ ، فليس تقبل له توبة وهو أبدا المعذَّب المخلَّد ، لا خلودَ الكافر الأصلي وإنما خلود الفاسق الملي الذي يطول مكثه في العذاب كما الجهنميون ، فالوعيد في حقه نافذ استثناء من أصل قد تقدم أن أصحاب الكبيرة تحت المشيئة .

    فكان من الأمر بالاجتناب ، وهو ، كما تقدم ، أمر الكف الذي ينهى عن مقارفة المنهيات المجتنَبَاتِ من السبع الموبقات ، وهو ما دل ، بداهة ، على إيجاب يلزم ، إن بالنظر في حد الأمر في معجم الدلالات الأولى ، أو بآخر إذ احتف به من القرينة أن كان من الكبائر ما لا يُتَصَوَّرُ أن الفاعل مخير فيها أن يُقَارِفَ أو يُجَانِبَ ! ، بل لا بد من تَرْكٍ عَلَى حَدِّ الفورِ ، فهي من المحرَّم في الشرع ، مناط الأمر والنهي ، وإن كان من دلالة العقل ما يحكي قُبْحَ هذه الموبقات ، فاجتمع فيها من الدلالة : نَقْلٌ يُصَدَّقُ وَعَقْلٌ يُسَدَّدُ ، وإن كان الشرع هو العمدة فِيمَا زاد من أمر ونهي يلزم ، فهو يواطئ ما استقر أولا في النفس من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، فَثَمَّ من الأمر ما أوجب ، وهو ، من وجه آخر ، مِمَّا زِيدَ فِي حَدِّهِ فهو مَئِنَّةُ الافتعالِ ، وذلك الاجتناب وهو دليل القصد أن يترك فَيُجَانِبَ وَيُبَاعِدَ وذلك في الدلالة آكد في النصح من نهي عن المباشرة والفعل ، فَثَمَّ أمر يجري مجرى سَدٍّ لِذَرَائِعِ المنهِيِّ عنه أن يُجْتَنَبَ فَلَا يُقَارَبُ ، بادي الرأي ، كما في نهي عن الزنى أن : (لَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) ، فلا تقاربوا أسبابه وذرائعه فضلا أن تباشروه ، وذلك نهي قد تَنَاوَلَ الوسائل التي تُفْضِي إلى مَقَاصِدَ تحرم إذ للأولى حكم الثانية ، وذلك ما يواطئ دلالة العقل المحكم إذ كيف تَنْهَى عن الاشتعال وأنت تَضَعُ النَّارَ فِي جوارِ الحطبِ ؟! .
    وَثَمَّ من عموم الأمر بالاجتناب في الخبر آنف الذكر أَنِ : "اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ" ، ثَمَّ مِنْهُ مَا جاوز المذكور في السياق بما استقر أولا من دلالة الواو : واو الجمع فهي دليل الجنس المذكر ، وقرينة التغليب أَبْدًا تُسْتَصْحَبُ فِي نصوصٍ من الشرع المنزَّل بما استقر من عُرْفِ عَرَبِيَّةٍ تُفْهِمُ ، فذلك عموم يتناول كلَّ محلٍّ قد صَحَّ تكليفه ، ذكرا أو أنثى ، وهو ما تَنَاوَلَ كُلَّ مخاطب ، إِنْ من أمةٍ أَعَمَّ ، أمةِ الدعوةِ ، لا سيما وثم أمر بمجانبة الشرك وهو أصل كل موبقة في القول والفعل ، كما التوحيد أصل لِضِدٍّ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ يُقَالُ أو يُفْعَلُ ، فكان من الخطاب ما تناول الجميع إِنْ أمَّةَ الدعوة الأعم أو أخرى هي أمة الإجابة الأخص ، فالأمر يَتَوَجَّهُ إليها من باب أولى ، وإن كان من الموبقة الأولى ما سلمت منه أمة الإجابة الأخص فقد استوفت ضدا من التوحيد الذي يَنْفِي الشرك ، وَإِنْ قِيلَ ، من وجه ، إنها قَدْ تَسْلَمُ مِنْ شِرْكٍ أكبر يَنْقُضُ الأصلَ ويكون مِنْ آحادها مَنْ يَقَعُ فيه ، عَلِمَ أَوْ جَهِلَ ، وذلك ما لا يعم في وصفه الأمة كلها ، فلا تَرْتَدُّ عَنْ دِينِهَا رِدَّةً عَامَّةً تُلْحِقُهَا بِفِئَامٍ من المشركين ، فَقَدْ عُصِمَتْ من ذلك عصمة المجموع ، وإن لم تعصم عصمة الجميع فلا يزال في كل جيل من المشركين والمرتدين ما يزيد تارة وينقص أخرى حكاية قوة لهذا الدين أو ضعفا ، مع أخرى من شرك أصغر لا ينقض أصل التوحيد الجامع وإن نَقَضَ الكمال الواجب وذلك ما قد يتناوله اللفظ إذ أُطْلِقَ ، فإن الشرك كله : كبيرةٌ ، وَإِنِ الأصغرَ الذي لا يَنْقُضُ الأصل الجامع بل قد عَدَّ أهلُ الشأنِ تسميةَ المعصيةِ شِرْكًا ، قد عَدُّوهَا آيةَ كبيرةٍ أخص فلا يطلق الشرك بداهة على صغائر من الذنب ! .
    وَقَدْ يُقَالُ إِنَّ الخطابَ في هذه الحال : تَوْكِيدٌ لا تأسيس كما الحال في أُمَّةِ الدعوةِ الأعم ، فإنها لم تَسْتَوْفِ بَعْدُ شَرْطَ التوحيدِ الأول ، فَأَمْرُهَا أَنْ تُجَانِبَ الشِّرْكَ : تأسيسٌ لأصلِ الدين الجامع توحيدا في القول والعمل ، وَهُوَ شَطْرُ شَهَادَةٍ أولى أَنْ يُخَلَّى المحلُّ من معبودٍ باطلٍ ، ثم يُحَلَّى بآخر هو المعبود وحده بحق ، فهو الواحدُ في ذاته الأحدُ في وصفه في مقابلِ آلهةٍ تَتَعَدَّدُ وشاهد الحال منها يُبْطِلُ لِمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ وَعَجْزٍ وهو ما قد تَنَزَّهَ عنه ضرورةً ربُّ الخلقِ ، جل وعلا ، وذلك مما يستصحب في كل شرك ، إن شرك الربوبية أو آخر أخص وهو ما قد عمت به البلوى في جيلٍ قد تأخر ، فكان من ذلك شركٌ فِي المرجعِ أَنْ أُخِّرِ الوحي المنزل مرجعًا في التصور والحكم ، وهو ما جاوز الحكومات التشريعية إلى أخرى في الوجدان هي العلمية توحيدا هو المبدأ مع تصور لهذا الوجود كافة فهو جواب سؤالاتٍ تحصل في كل نفس بما فُطِرَتْ عليه من طلب الحق ، فلا تسكن إلا إن كان منه ما يُشْبِعُ جوعتَها ، فتلك ، كما يقول بعض من حقق ، جوعة يجدها كل أحد في نفسه ضرورةً تلجئ ، فلا يسلم له حال إلا أن يسدها بما نصح من غذاء الوحي الناصح ، فكان من الشرك ما خالف إذ أُخِّرَ الوحي المنزَّل ، وقدمت الحكمة المحدثة ، في المقابل ، لو صَحَّ أنها حكمة فقد نُزِعَتْ مِنْهَا الحكمة إذ ناجز أصحابها شرعة الوحي المنزل بما اقترحوا من أهواء وأذواق ، فمردها إلى مرجع محدَثٍ في الأرض لا يجاوز العقل والنفس بما يعتريهما من الآفة والنقص ، ولو جبلةً ، فلا يخلو مخلوق محدث من شبهات وشهوات ولأجلهما يَتَأَوَّلُ مَا رُكِزَ في الوجدان من معيارِ حُسْنٍ وَقُبْحٍ أَنْ يُخَرِّجَ مَا يَهْوَى وَيَرُومُ من الأهواء والحظوظ ، أَنْ يُخَرِّجَهَا عَلَى جادة من القياسِ تُحْمَدُ بَلْ وَمِنِ الشَّرْعِ تَنْصَحُ ، فَقَدْ يَتَأَوَّلُ الوحيَ الذي يجحد ! ، فيأخذ منه ويترك ، ويؤمن ببعض ويكفر ببعض ، إذ ثم معيار هو الْحَكَمُ من الهوى والذوق ، لا ما قد نَزَلَ من الوحي حاكما يُهَيْمِنُ في محدَثاتِ الأرضِ من المقالات والشرائع والسياسات ، وذلك قياس العقل إِنْ نَصَحَ أَنْ يَرُدَّ ما تَشَابَهَ من الهوى والذوق إلى ما أُحْكِمَ من الوحي ، إِنِ الخبرَ الذي يُصَحِّحُ قوة العلم والتصور أو الإنشاءَ الذي يُصَحِّحُ قوة العمل والحكم ، فالوحي قد رفد المحال كافة بما يصلح إذ هو رائد صدق ينصح فقد سلم مما لم يسلم منه الخلق من الأغراض والأعراض ، فَثَمَّ من الجبلة شُحًّا وَأَثَرَةً ، وجحودًا وَكِبْرًا ، وطغيانا يَتَأَلَّهُ صاحبه بما استجمع من السبب ، ومنه المال الذي اسْتُجْمِعَ بالربا الذي يحتكر صاحبه سبب القوة لِيَخْضَعَ له الخلق ويذلوا ، فيتأله بما كان من سَبَبٍ ظَنَّ به الغنى وهو ، لو تدبر ، آية الفقر ، فلا يَفْتَقِرُ إلى السبب لِيَسْتَغْنِيَ إِلَّا فقير في المبدإ قد رَامَ الاستغناء فإن حصل فهو المقيَّد فلا ينفك يُوصَمُ بالفقر والضعف وإن استجمع ما استجمع من أسباب الغنى والقوة وإلا فَلْيَدْفَعْ عنه المرضَ والموتَ وسائرَ العوارض ، ولو جِبِلَّةً كما الجوع والعطش والشبق ..... إلخ ، فَكُلُّ أولئك شاهد الصدق بضد ما ادعى من الغنى المطلق طغيانا به يَرُومُ التَّأَلُّهَ فلا يسلم له ذلك فهو المتهم بما تقدم من الصوارف والشواغل فلا تُؤْمَنُ حكومته إذ له هوى وحظ ، وَإِنْ تَحَرَّى مَا تَحَرَّى من العدل ، فلا يسلم أبدا من وصمة الجهل والفقر وبها استبان لدى العاقل حاجة تمس إلى مرجع يجاوز من خارج ، مرجع الوحي الحاكم الذي صدر عن الغنِيِّ الغنَى المطلقَ ، صدورَ الوصف عن الموصوف عِلْمًا قَدْ تَنَزَّلَ كلماتِ تشريعٍ تَصْدُقُ وَتَعْدِلُ .

    فكان من الخبر آنف الذكر أَنِ : "اجتَنِبوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ" ، كان منه : أَمْرٌ بالاجتنابِ قَدْ عَمَّ الخلقَ كَافَّةً ، إِنِ التغليبَ في دلالة اللسان الأولى ، فجاوز المنصوص من ضمير الجمع المذكر لقرينة العموم في خطاب التكليف المنزل وذلك ، كما تقدم ، مَا اسْتَغْرَقَ الذَّكَرَ والأنثَى ، وثم من العموم آخر يجاوز المخاطَب المواجَه إلى من غَابَ ، ويجاوز المؤمن المصدِّق إلى الكافر المكذِّب لا سيما في الأمر باجتناب الشرك فهو أول به الكافر يَنْصَحُ شهادةَ توحيدٍ تجزئ في حصول اسم ديني ينفع ، ويجاوز الموجود زَمَنَ التَّنَزُّلِ وهو المخاطب بالفعل إلى آخر لَمَّا يُوجَدْ بَعْدُ ، فهو المخاطب بالقوة ، فكان من الخطاب ما قد عَمَّ ، وكان من دلالة الإطلاق ما استغرق وجوه المعنى اجتنابا يَتِمُّ فلا يُقَارِفُ الفعل ولا يُقَارِبُ ذرائعَ إليه تُفْضِي .
    وثم ، لو تدبر الناظر ، ثم استعارةٌ لمحسوسٍ حكايةً لمعقول بما كان من الاجتناب ، فإن الجنب مما يحس ، فيعرض به صاحبه ويباعد ، فذلك معنى في الحس يشاهد ، فاستعير لآخر يعقل من مباعدة عن قول أو فعل يقبح ، فاستعير المحسوس لمعقول ، وذلك شاهد به يستأنس من يجوز المجاز في الوحي واللسان ، ومن ينكر فهو أبدا على أصل أول يستصحب وهو أن الاجتناب أول في التصور بما كان من مدلول في الذهن يجرد ، فهو المطلق الذي تندرج تحته آحاد منها المحسوس ومنها المعقول ، ولا يَدُلُّ على المعنى المراد إلا قَرِينَةٌ مِنْ خارج هي قَرِينَةُ السياقِ المركَّب ، فَهِيَ ترفد المفردات المطلقة في المعجم بما يقيدها بمعنى في الخارج أخص ، إن المحسوسَ أو المعقولَ ، فتلك قرينة تأويل معتبر ، وليست من المجاز في الاصطلاح إذ هي بَعْضٌ من ماهية السياق : الظاهر المركب من ظاهر المعجم المفرد وما احتف بها من قرينة سياق يقيد ، وَقَدْ يُقَالُ إن الأمر بالاجتناب هو من باب الكناية إذ لا يمنع المعنى الذي استعير له اللفظ ، معنى الإعراض في الوجدان والخارج لا يمنع من إرادة الحقيقة فَهُمَا مما يتلازم ، فالاجتناب يكون بالإعراض المحسوس كما المعقول فهما مما يتلازم في الدلالة ، فَيُوَلِّي المجتَنِبُ الشيءَ جَنْبَهُ آيةَ صدودٍ ونفورٍ فهو عنه يرغب .

    فكان من الأمر ما أطلق فاستغرق وجوه المعنى على التفصيل آنف الذكر ، وثم من الأمر ما اقتصر في هذا السياق على السبع الموبقات ، لا قصرا يأطر المجتَنَبَاتِ من الكبائر والذنوب على المذكورات ، بل ثم غيرها في نصوص أخرى ، فذكرها في سياق لا يقصر ، ذكرها لا يخصص العموم ، عموم الكبائر ، فلم يكن الحد جَامِعًا مَانِعًا بِقَصْرٍ يأطر النهي على المذكورات كأن يقال : لا تجتنبوا في الباب إلا هذه السبع ، بل ذكرها لا يخصص الأمر ، أمر الاجتناب ، فَتَجْرِي ، من هذا الوجه ، مجرى الخاص الذي ذُكِرَ لا في سياق يحصر ، فَذِكْرُ بَعْضِ أفرادِ العام لا يخصصه ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والنظر ، وثم من الإجمال صَدْرَ الخبرِ ما به التشويق قد ثَبَتَ ، فَشُحِذَتِ الأذهان واستحضرت ، وكان منها سؤال يتبادر ، فـ : "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟" ، فكان من الجواب ما حسن بعد إجمال واستفهام فالنفس آكد في القبول والتدبر إِذْ هِيَ مَنْ طَلَبَ البيانَ لِمَا أُجْمِلَ ، لا أَنْ يُلْقَى إليها بادي الرأي ، فلا يرسخ في الذهن ما يرسخ إذ جاء الجواب بعد سؤال يَسْتَفْهِمُ ، فالجواب بعد السؤال لَا كَمَا يُلْقَى عَلَى الذهن ، بادي الرأي ، فَإِنَّ الاستفهامَ يُحَفِّزُ العاقلَ وَيُنَبِّهُ الغافلَ ، وكلٌّ يطلبُ الجوابَ فَهُوَ بَيَانٌ يَنْصَحُ ، فَيُزِيلُ مَا قَدْ أُجْمِلَ من مادة السؤال الذي يَتَقَدَّمُ ، لا سيما وقت الحاجة ، فلا يجوز تأخيرُ الْبَيَانِ عَنْهَا ، لا أخرى قد يَتَأَخَّرُ فِيهَا الجواب إذ لا حاجة تلجئ ، فيجوز تأخير البيان عن وقت السؤال ، كما في الخبر إذ سأل سائل عن الساعة فأعرض عنه صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُرْهَةً ، فَلَمْ يَعْلَمِ الجمع أَكَرِهَ مَا قَالَ أَمِ اشْتَغَلَ بِمَا هو أولى من واجب وقته ، ثم أجاب أَنْ : "إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" ، فَأَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ السُّؤَالِ أَنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ حاجة تُلْجِئُ ، فالجواب قَدْ يَتَّصِلُ بِالسُّؤَالِ كما في هذا الموضع ، والسائل قد يكون صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فَيُلْقِي السؤالَ أولا وهو ، بداهة ، لا يروم في مقام التشريع الجواب منهم ، إذ يَأْتِيهِ الوحي فَيُبَيِّنُ ، وَهُوَ لِصَحْبِهِ يُبَلِّغُ وَيُبَيِّنُ تَالِيًا فلا يطلب منهم بَيَانًا لِأَمْرِ تَوْقِيفٍ يَأْتِيهِ مِنَ السَّمَاءِ ، بل هم الطالبون لِبَيَانِهِ ، وإنما سَأَلَ مُسْتَحْضِرًا لِلْجِنَانِ مُنَبِّهًا للأذهان ، كما في الخبر : "أَتَدْرُونَ مَا الْعِضَةُ؟ النَّمِيمَةُ، وَنَقْلُ الْأَحَادِيثِ" ، فَذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ يُشَوِّقُ فَلَيْسَ ، بداهة ، يَسْتَعْلِمُ ، وذلك في الدلالة أَرْسَخُ ، فكان من السؤال عن ماهية الفعلِ ، فِعْلِ الْعِضَةِ ، وهو، أيضا ، سؤال عن معنى من الغريب لا يطرد ، وإن كان من المستعمل المتداول ، فيكون من الإغراب في مواضع ما ينفع إذ يطلب الذهن له ما يبين فَيَتَنَبَّهُ وَيَتَعَقَّلُ الدلالةَ ، كما يقال في نحو قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) ، فَثَمَّ من قسمة لا تعدل ، وهي عن معيار الحكمة تجنح إذ يُنْسَبُ الْأَدْنَى إلى الأعلى ، والأعلى إلى الأدنى ، وإن كان في نِسْبَةِ الذَّكَرِ أو الأنثى إلى الخالق الأعلى ، عَزَّ وَجَلَّ ، وإن كان في ذلك ما هو باطل ، بادي الرأي ، نُسِبَ إليه الجنس الأعلى ذكرا أو الأدنى أنثى ، فذلك من قياس مع الفارق ، قِيَاسِ الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق الحادث ، فإن الله ، جل وعلا ، لا يُنْسَبُ إليه ذكر ولا أنثى ، فالقول إن الملائكة إناث أو ذكور ذَلِكَ مروق من الديانة وفجور ، فصاحبه لم يحسن يُدْرِكُ من وصفِ الخالق ، جل وعلا ، إلا ما أدرك من وصف المخلوق المحدث ، فذلك ، وإن في وَصْفِ الكمال المطلق ، ذلك لَا يَصِحُّ ، فَلَوْ قِيلَ إِنَّ كَرَمَ الخالق ، جل وعلا ، كَكَرَمِ المخلوق حدا يجاوز الجنس المجرد في الذهن فكان ثم تال يتناول الماهية في الخارج ، فَلَوْ قِيلَ ذلك فهو تشبيه يُذَمُّ ، وَإِنْ فِي وَصْفِ كَمَالٍ ، فَقَدْ جَاوَزَ صاحبُه الحدَّ ، فكيف بِوَصْفٍ لا يخلو من النقص : اتخاذِ الصاحبة والولد ، وَلَوِ الذَّكَرَ الأعلى ، فلا يخلو من افْتِقَارٍ إلى غير ، وذلك ، بداهة ، ما قد تَنَزَّهَ عنه الخالق ، جل وعلا ، وهو واجب الوجود الأول ، فلا موجود يضاهيه في هذا الوصف إذ قد تَنَزَّهَ عن الافتقار إلى سبب من خارج ، بل كلُّ سببٍ فَإِلَيْهِ يَفْتَقِرُ أَنْ يُوجَدَ وَيَجْرِي عَلَى سَنَنٍ مُحْكَمٍ ، فَثَمَّ قسمة في الخارج لا تنفك تحسم الشبهات في هذا الموضع ، وبها انتفت شبهة الحلول والاتحاد ، إِنِ التصريحَ أو الكناية كما قد عمت بَلْوَى أخرى في جيل قد تَأَخَّرَ أَنْ كَانَ من ذلك حلول واتحاد قد تَنَاوَلَ روحَ التشريع والحكم ، وما تقدم من تصور وعلم ، فَتَحَوَّلَ النظر ، كما يقول بَعْضُ مَنْ بَحَثَ ، تَحَوَّلَ من الله ، جل وعلا ، وهو مركز التصور والحكم في رسالات السماء المنزلة ، ولو تناولها التبديل والتحريف ، فإنها لم تزل تُصَيِّرُ الله ، جل وعلا ، هو الأصل ، ولو الخالق الأول لهذا الكون المتقن المحكم ، وتلك المسلمة الأولى ضرورةً في الوجدان والعقل وبها جُودِلَ مَنْ خَالَفَ في توحيدِ التَّأَلُّهِ أَنْ أُلْزِمَ بما يَلْزَمُ لِمَلْزُومٍ أول قد أَقَرَّ به أَنَّ الخالق ، جل وعلا ، هو الأول الذي صدر عنه هذا الوجود : صدور المخلوق عن الخالق ، وأن ثم من التسخير تدبير يجاوز الخلق ، إِنِ التقديرَ بعلم أول يحيط أو تَالٍ قَدْ تَنَاوَلَ التَّدْبِيرَ ، فَكُلُّ أولئك ملزوم قد استوجب في دلالة العقل الناصح : لَازِمًا هو توحيدِ التأله ، وهو ما افْتَقَرَ إِلَى مرجع من تشريع يحكم من خارج ، وذلك ما يجاوز المتبادر من حكومات النسك الذي يَقَعُ من الفرد عباداتٍ لَا يَتَعَدَّى بها الفعل ، وذلك ما رَامَتِ المذاهب المحدثة ، ولو أولا ، كما منهاج من الحداثة قد انْتَحَلَ اسْمًا يَنْفِي الدِّينَ ولكنه لَا يُضَادُّهُ فَيُجَاهِرُ بالخصومة ، فكان من ذلك مبدأٌ قد مَهَّدَ لِتَالٍ قد أَفْحَشَ في الخصومة ، فَنَاجَزَ الوحيَ وَرَامَ إبطالَ المرجعِ في كلٍّ ، ولو في عباداتٍ لَا تَتَعَدَّى إلى غير ، أو اعتقاد يُجَرَّدُ في القلب ، فكان من ذلك لازم لأصل أول ، إذ كان من ذلك مبدأ قد تحول بالإنسان من خالقه الأعلى ، وما أَنْزَلَ من وحي يَحْكُمُ إلى ذاته وما يكون من تصورات وتشريعات لا مرجع لها من خارج يجاوز ، فمرجعها من ذات الإنسان الذي صار ، كما تقول الحداثة المعاصرة ، معيارَ كُلِّ شيءٍ ، وهو في نفسه المضطربُ بما يَعْتَرِيهِ من أهواءٍ وأذواق وما يَنَالُهُ مِنْ نَقْصٍ قد استقر ضرورة في الجبلة والذات ، فهو معيار يفتقر إلى معيار ! ، وذلك تسلسل لا يحسمه إلا معيار يجاوز من خارج ، فإليه تَنْتَهِي المعايير كافة ، إن في التصور أو في الحكم ، كما أن الأسباب والعلل لا بد أن تَنْتَهِيَ ضرورةً إلى أول هو العلة التامة فلا عِلَّةَ قَبْلَهَا وإلا لَزِمَ التسلسلُ في التأثير وهو ما امتنع ضرورةً في القياس المحكَمِ ، وَلَوِ الْتُزِمَ مَا كان هذا الوجود المحدَث فلا يوجد إلا وَثَمَّ واجبُ وجودٍ أول ، وتلك قسمة الوجود المحكمة استقراء قد تناول أجزاء القسمة كافة ، فإن الوجود لا ينفك بالاستقراء ينقسم قسمةَ النظر المتداولة : الواجب لذاته والجائز والممتنع لذاته ، والممتنع لذاته عَدَمٌ لا وجود له في الخارج ، وإنما ذُكِرَ فِي سياقِ التَّقْسِيمِ العقلي المجرَّد لا ما جاوز إلى الخارج إذ ليس ثم إلا الواجب والجائز ، والجائز أبدا يفتقر إلى مرجِّح من خارج يوجب ، فيكون من وجوده إذا وُجِدَ المرجِّح الموجب ، يكون من وجوده تال في الخارج يُصَدِّقُ ما كان من تقدير أول ، وهو الوجوب لِغَيْرٍ لا لِذَاتٍ ، فهو في نفسه ، بادي الرأي ، جائز يحتمل ، فَعَلَى قيد العدم حَدُّهُ حَتَّى يكون المرجِّح الموجِب وإليه يفتقر ضرورة في القياس المصرح ، فيكون من المرجح من خارج ما يُوجِدُ إِيجَادًا يجاوز التقدير الأول في الغيب ، وما يكون من صورة مجردة في الذهن ، فلا تَنْفَكُّ تطلب المرجِّح الذي يخرجها من الجواز إلى الإيجاب ، وَلَوِ الإيجابَ لِغَيْرٍ فهو ، كما تقدم ، يَفْتَقِرُ إلى غَيْرٍ يُرَجِّحُ ، فيخرجها من العدم إلى الوجود ، وهو ما استوجب موجِبًا أول لا موجب قبله إذ لو فُرِضَ التسلسل تَنَزُّلًا في الجدال مع الخصم ما كان وجود أبدا ، فكلُّ موجودٍ يَفْتَقِرُ إلى آخر قَبْلَهُ تسلسلا لا نهاية له ، فلا يكون وجود إلا أَنْ يَنْتَهِيَ هَذَا التسلسل إلى أول هو واجب الوجود لذاته ، وله من الوصف ما يوجب به غَيْرًا ، فيرجح في الجائز إذ يصيره من الواجب : واجبٍ لِغَيْرٍ لا لِذَاتِهِ ، فَلَيْسَ ثَمَّ إلا واحد له في الباب الأولية المطلقة ، وعنه تصدر الأسباب كافة إذ قَدَّرَهَا وَأَوْجَدَهَا في الخارج على ماهيات مخصوصة تحكي الإتقان والحكمة إذ تَسْلُكُ جَادَّةً مخصوصة من التأثير ، وبها المسببات تَحْدُثُ ، فلا يكون ذلك إلا عن علم أول يقدر ، وأول مطلق يوجب ، وهو الواجب في نفسه أولية لا أولية قَبْلَهَا ، الموجِب لغيره بما يكون من فعله في الخارج ، إذ أوجد الأسبابَ بكلماتِ تكوينٍ تخلق ، ثم أجراها على سنن محكم بكلمات أخرى تُدَبِّرُ ، وكان من ذلك ما حسم المادة الممتنعة أن يكون التسلسل في الأزل ، فامتنع في الخارج ، إذ كان من قسمة الوجود ما أبطل إذ أثبت الأول المطلق فلا أول قبله وبه مادة التسلسل قد حُسِمَتْ ، فذلك الواجب في حَدٍّ ، وهو الخالق ، جل وعلا ، واجب الوجود لذاته الموجِب لغيره ، وثم الجائز في آخر من المخلوق المحدَث فهو على قيد الجواز العدمي حتى يكون ثم مرجِّح موجب من خارج بما يكون من كلمات تكوين تنفذ ، وبه الجائز يصير واجبا لا لذاته وإنما لغيره ، فذلك الواجب لغيره في آخر ، وتلك قسمة الوجود في الخارج : واجب الوجود في حد ، وجائز الوجود في آخر ، وهو ما دل على قانون في العقل قد أحكم ، أن الحادِث لا بد له من محدِث ، فتلك مسلمة ضرورية في العقل ، ولكنها لا تجيب عن سؤال الخلق الأول ، فذلك من غيب لم يشهد ، فكان على حَدِّ الجواز حتى قص الوحي ، وهو المرجع المجاوز من خارج العقل إن في الخبر أو في الحكم ، فـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، وَذَلِكَ أصلٌ يُسْتَصْحَبُ في المرجِع إِنْ علمًا أو عملًا ، خبرًا أو حُكْمًا ، ومنه خبر وعيد في باب الربا آنف الذكر ، ومنه حكم به تحريم الربا قد ثَبَتَ ، وذلك مثال من عام يستغرق كثيرا في الخارج قد تَنَاوَلَ مسائلَ التصوُّرِ والحكمِ كَافَّةً ، تَصَوُّرِ الغيبِ بما كان من خَلْقٍ أول قد أَثْبَتَ منه العقل ضرورةً أولى هي افتقار المحدَث إلى محدِث ، وامتناع التسلسل في المؤثرين أزلا ، فذلك أصل هو مقدمة الاستدلال الضرورية في قصة الخلق الأول ، وثم تال يجاوز إذ لم يشهد أحد هذا الخلق ، وهو ما قد سَلَّمَ بِهِ كُلُّ ذِي عَقْلٍ ، إذ لم يَشْهَدْهُ ، ولم يَشْهَدْ له نظير ، ولم يكن ثَمَّ مَنْ شَهِدَ فَأَخْبَرَ ، فَامْتَنَعَ المرجع من الحس المحدَث ، فلا بد من مرجع من خارج يجاوز ، وهو ما تناول الأخبار والأحكام كافة ، فذلك الغيب الأول الذي أخبرت به النبوات ، وإن أنكرته مقالة الوضع التي جعلت التجريب والرصد معيار اليقين والجزم ، وهو ما اقتصر على الْمُدْرَكِ بالحس ، فَأَنْكَرَ الغيبَ وَتَبَجَّحَ بذلك أَنْ كان العلمُ هو المشهودَ وحدَه ، فلا عِلْمَ يجاوز الحس المحدَث ، ولو تحكما قد قصر المعارف على المحسوسات ، وهي بَعْضٌ مِنَ العلمِ لا كُلٌّ ، فمن العلم ما يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وذلك حق ، ولكن ثَمَّ ما يجاوز الحس فلا يُتَلَقَّى إلا من خَبَرٍ من خارجه ، فذلك خبر الغيب ، فهو يخبر بما لا يُدْرَكُ من المغيَّبَات ، إِنِ الواجباتِ أو الجائزاتِ الممكناتِ ، مع ثالث في المرجع : ما يكون من مُسَلَّمَاتِ وجدانٍ يَعْقِلُ ، وَرَابِعٍ هو : ما من الفطرةِ يَنْصَحُ ، فَتِلْكَ مصادر المعرفة المعتبرة : الخبر والعقل والفطرة والحس ، فكان التحكم أن قُصِرَ العلم على الحس وحده ! ، وهو ما انحط بصاحبه إلى دَرَكَةِ حيوانٍ يَسْفُلُ إذ ليس ثم له من المدرَك إلا ما يُتَنَاوَلُ بالحس ، فَلَئِنْ دَلَّ العقل ضرورة على الخلق الأول بما تقدم من مُسَلَّمَاتٍ تَنْصَحُ ، أن الحادث لا بد له من محدِث ، فلا ينفك يطلب بَيَانًا يَزِيدُ ، وَبِهِ تَفْصِيلُ مَا أُجْمِلَ فِي الوجدان عقلا وفطرة ، وما دل عليه الحس ضرورةً إِذْ يَرَى الآثار في الخارج بما كان من إتقانٍ وحكمةٍ في الخلق ، فلا يكون ذلك إلا بقدرة وعلم ، لا اضطرارا بِذَاتٍ قد عطلت من الوصف فهي ترجح بالذات لا بالفعل ، والصحيح أن الخالق الأول الذي دل عليه الوحي المنزل والعقل المحكم بما وجد من آثار الإبداع في الماهية والعناية الربانية ، فهي تحكي الحكمة والقدرة بما أتقن من الخلقة وأحكم من الصنعة ، فذلك الخالق الأول يخلق بالعلم المقدر أولا وما يكون من قدرة تنفذ وتأويلها ما يكون من مشيئة تُرَجِّحُ ، وكلمة بها الخلق والرزق والتدبير وسائر حكومات التكوين مع أخرى تشاطرها الجنس الأعلى : جنس الكلمة وما كان أولا من العلم ، فتلك كلمات الشرع والحكم ، وبهما تأويل ينصح لجنس من التوحيد هو المجزئ ، توحيد الرب الخالق بكلمات التكوين النافذة ، وتوحيد الإله الحاكم بكلمات التشريع النازلة ، ولأجلهما بُعِثَتِ النبوات ، الملزوم من التوحيد العلمي الذي يُصَحِّحُ التصور ، واللازم من التوحيد العملي الذي يُصَحِّحُ الحكمَ .

    فَكُلُّ أولئك مما صَحَّ في الوجدان وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ يَطْلُبُ بَيَانًا لِمَا قد أُجْمِلَ من ماهيةٍ مخصوصة بها الخلق كان ، فَثَمَّ من الوحيِ ما قد قَصَّ مِنْهَا خَبَرَ صدقٍ ، وبه نَصَحَ التَّصَوُّرُ ، كما آخر من الحكم به نَصَحَ الشرع الذي يجاوز الذات المحدَثة فقد سَلِمَ مما لم تَسْلَمْ منه إذ وَصْفُهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ ، الفقرُ الذاتيُّ الملازِم الذي يحملها على الظلم والبغي ، وَإِنْ تَأَوَّلَ له من المعاني ما نصح ، ومنه المعنى الإنساني الذي صَيَّرَ الإنسان هو المعيار ، أو الهوى والذوق ، لَوْ صَدَقَ فِي القولِ ، فليس الباعثُ طَلَبَ حَقٍّ وإن اجتهد أن يكسو باطله لحاءً من الحق يخدع ! ، فكان من ذلك تَعْظِيمٌ لماهية الإنسان ، ولو تَضَمَّنَتِ الدعوى فَرْضَ تَطَوُّرٍ يَقْرِنُه بالحيوان الإعجم ! ، فَسَمَّى المقال باسم الإنسان ونسب الدعوى إِلَى مذهب بالحرية يُبَشِّرُ ، وَإِنْ أَخْرَجَ العبادَ من عبادةِ كَهَنَةِ دينٍ مبدَّل إلى آخر محدَث لا مرجع له من خارج يجاوز ولا نسبة له إلى نبوة ، لا تَفْصِيلًا وَلَا جُمْلَةً ، كَمَا اقْتَرَحَ أصحابُ الدين الحداثي الجديد الذي حَمَلَ اسم الإنسان وإن انحط به إلى دركةِ حَيَوانٍ لَا يَعْقِلُ ، فمن عقائده الرئيسة ! : فرض التطور الذي يَرُدُّ أصلَ الإنسان المكرَّم إلى أول بسيط لا يَعْقِلُ قَدْ صَارَ الأصل الذي صدرت عنه الأنواع كافة ، فَثَمَّ نسبة هي الأوثق لا الخلق الأول الذي تَفَرَّدَ ، وبه قد كُرِّمَ الإنسانُ وَفُضِّلَ ، فكان من ذلك مذهبٌ حمل اسم الإنسان وَإِنِ انْحَطَّ به إلى دركة الحيوان ! ، وقد صَيَّرَهُ أَتْبَاعُهُ دِينًا اسْتُبْدِلَ بالأديان القديمة ! فهو يَفُوقُهَا وَيَرْجُحُ إذ يُكِرِّمُ الإنسان وَلَوْ سَلَبَهُ خاصة الانفرادِ في الخلق فَسَاوَاهُ بِسَائِرِ النَّوْعِ ! ، فذلك دِينُ حَدَاثَةٍ يُنْكِرُ ما جَاوَزَ الطبيعة من المعارِفِ ، وهو ما قد عَظُمَتْ به الشبهة لِمَا تَقَدَّمَ من جناية الكهنة الذين انْتَحَلُوا اسمَ الوحيِ زُورًا ، فَدِينُهُمْ ، لَوْ تَدَبَّرَ الناظرُ ، دينٌ إنساني محدَث وَإِنِ انْتَحَلَ اسمَ الوحي المنزل ، فَنَسَخَهُ إنسانيٌّ آخر قد احتمل اسم الحداثة أو الوضع المحدَث الذي جعل التطور أصلا ، إن في الأبدان أو في الأديان ، فكان من تطور المناهج الذي صَيَّرَ الدينَ الذي جاءت به الرسالة طورا لم ينفك العقل يجاوزه ، فَقَدْ بَلَغَ طَوْرَ الوضعِ المحدَث الذي أنكر المرجع من الوحي المنزل ، فأبطل عقائدة واستبدل بها عقائد الإنسانية التي تخدع بما لها من اسم يجمع ، ولكنها تجاوز ذلك المشترك بما رُكِزَ في النفس من فضائل تُحْمَدُ ، فَهِيَ ، وَإِنْ صَحَّتْ وَنَصَحَتْ فَهِيَ من فطرةٍ تُوَاطِئُ ما تَنَزَّلَ من الشرعة ، بل منها ما يُنْكِرُ صاحبُهَا إذ تحكم فآمن بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بآخرَ ، فَلَئِنْ جعلها معيارا في الاستدلال فَثَمَّ فطرةُ خلقٍ تَدُلُّ ضرورة على الخالق الأول الذي اجتهد الدين الإنساني المحدَث أن يجحده فَيَرُدَّ من قصة الخلق ما قد أخبر به الوحي ، فَلَئِنْ صحت تلك المشتركات من الفضائل في الأخلاق والطبائع ، فَلَا تَنْفَكُّ تطلب المبِينَ عَمَّا أُجْمِلَ من دلالاتها تفصيلا في فروع ومعيارا في القياس على أصول ، وذلك ما استوجب رَدَّ ذلك إلى مرجع يجاوز من خارج ، إِنْ فِي التصورِ أو في الحكمِ ، كما تقدم من مثال الرِّبَا ، وله معنى أدق يُجَاوِزُ التحريمَ الشرعي في الحكم العملي ، فَلَهُ من دلالة التَّشْرِيعِ ما يحكي قَدْرًا فَارِقًا يميز دين الرسالة الذي نَزَلَ من الغني ، جل وعلا ، وَغِنَاهُ المطلق فلا يفتقر إلى غَيْرٍ من خارج ، بل كل غَيْرٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، إليه يَفتقر ، ذلك الغنى المطلق مما يحسم وصمة الفقر التي تَحْمِلُ صاحبها على الأثرة والشح أن تكون الذات المحدَثة هي المركز ، مركزَ التَّصَوُّرِ والحكمِ ، فلا يجاوز غَايَتَهَا فِي طَلَبِ لَذَّةٍ ولا يجاوز وسيلتها في أسباب قوة تُشْهَدُ ، ومنها مال يجمع ويكنز ، فكان من ذلك أصل في الفكر قد نشأ عه آخر في الاقتصاد والكسب ، قد خالف عن معيارِ ضرورةٍ في الحسن والقبح ، أَنْ صَيَّرَ الرِّبَا زيادة بلا عوض وظلما لآخر بما يكون من اسْتِئْثَارٍ بكسبه الذي يستبيحه المرابي قسطَ ربا بلا عدل يضاهي أَنْ صَارَ المال في نفسه سِلْعَةً تُتَدَاوَلُ لا معيارا به تُثَمَّنُ الأعيان والأعمال ، فلا ينصح المال للخلق إلا أن يُبْذَلَ ثَمَنًا في سلعة ، أو صَدَقَةً أو هِبَةً بهما الإحسان إلى الخلق ، فكان من معيار حسن وقبح محدَث ما صير هذا الظلم حَسَنًا إذ به يَنَالُ الفرد حظه من أسباب غنى وثروة بها يستغني من فقر ، فَهِيَ في نَفَسْهِا وَإِنْ طَغَى بِهَا وَتَأَلَّهَ ، هي في نفسها شاهدٌ بِضِدٍّ يَفْضَحُ إذ تُبِينُ عَنْ فقرِه الذاتي الذي لا يَسْلَمُ مِنْ وَصْمَةِ الحاجةِ وهو ما يحمل صاحبها أن يظلم ويبغي ، وإن تأول لذلك مذهَبَ سياسةٍ وحربٍ ، واقتصادٍ وكسبٍ ، وأخلاقٍ وفكرٍ ، فهو يجتهد في التأويل ولو باطنا يُزَيِّفُ الحقائق وينكر المعلوم الضروري إذ يكسو القبيح لحاء الحسن فَيُبَرِّرُ ما يروم المخلوق المحدَث من أهواء وحظوظ تَبْطُلُ ، فقد صارت هي مركز التصور والحكم أَنْ نَسَخَتْ مَرْجِعَ الوحيِ والشرعِ ، وَإِنْ رَاجَتْ شُبْهَتُهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ ، أن نَسَخَتِ الدينَ المبدَّلَ ، فليس إلى الوحي المحكم يَأْرِزُ ، فَلَئِنْ أبطلته فذلك حق في الجملة ، ولكنه قَدْ ضُمِّنَ من المكر ما يَعْظُمُ أَنْ تَوَسَّلَ بِهِ صاحبُه فأنكر الوحي كافة ، مرجعا يجاوز من خارج العقل ، وَصَيَّرَ الإنسانَ هو المركز والمعيار مع ما يَتَنَازَعُهُ من الحظوظ والأهواء ، فإنها مما اختلف بل وتناقض بما يغلب على الأفراد مِنْ شُحٍّ وَأَثَرَةٍ ، فالفردانية التي تَسْبَحُ في فلك الذات المحدَثَةِ مرجعَ تصورٍ وحكمٍ يضطرب بما اختلف من الذوات فلكلٍّ تصورٌ وحكمٌ ، معيارَ حُسْنٍ وَقُبْحٍ ، فلا تنفك تطلب المرجع المجاوز من خارج الذي يقضي في حكوماتها قضاءَ المحكم في المتشابه ، وذلك ما قد عَمَّ فاستغرق الخلق والشرع كافة ، فَقَصَّ من ذلك الخلق الأول وبه الإنسان قد كُرِّمَ ، وهو تأويل لما في الوجدان قد أُجْمِلَ من دلالة العقل آنفة الذكر أن المحدِث لا بد له من حادث ، فكان من الوحي مرجعُ صدق وعدل قد سَلِمَ مِمَّا لم تسلم منه المذاهب المحدثة من الهوى والحظ ، وَلَهَا أُسُسٌ وقواعد محكمة لا تَنْفَكُّ تَتَأَوَّلُهَا في الخارج دِينًا هو الحاكم ، وإن سموه بغير الاسم فرارا من لقب الخصم ، وهو لقب الدين الذي لم يكن لهم منه حظ إلا ما بُدِّلَ وَحُرِّفَ بِأَيْدِي بَشَرٍ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ وَصْمَةِ إنسانٍ قد أنكر المرجِعَ المجاوز من خارج ، ولو لسانَ حالٍ إذ طغى بما حصل له من ذوق وهوى فَنَاجَزَ الوحي المنزل بما اقترح من الوضع المحدث ، وهو ما صار بعدا مذهبا يحمل أسماء لا سلطانَ لَهَا من الوحي قد نَزَلَ ، كما الآي بعد قسمة الظلم قد صرح ، فكان من ذلك قصر يحصر ويؤكد ، فـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) ، فكان من ذلك القصر بأقوى الأساليب ، النفي والاستثناء ، وهو قَصْرُ حَقِيقَةٍ فليست تلك المعبودات ، وقد ذُكِرَ منها في الآي : أصنام ذات ماهية في الخارج تدرك بالحس الظاهر : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ، فكان من ذلك استفهام يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ أَنِ اتُّخِذَتْ معبوداتٍ من دون الرب المهيمن ، جل وعلا ، وثم من اسم الرؤية ما به تسجيل الجناية أن كان من البصر شاهد ، وآخر من رؤية العلم الذي يحصل في الوجدان بَعْدًا ، فالمبدأ رؤيةُ عينٍ تُبْصِرُ فوجدان يدرك الماهية دَرَكًا أخص بما يكون من تصور مرجعه الحس ، فكان من صورة أولئك ما تناوله الذم بالاستفهام إذ يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، وثم من التقدير كما اطرد في مواضع ، فهو ما يجري على سنن من اللسان قد اطرد عاما فلا مخصِّص له أن تكون الصدارة مطلقا للعاطف : الفاء في : (أَفَرَأَيْتُمُ) ، فَيُقَدَّرُ بعد الهمز شَطْرٌ يُعْطَفُ عليه آخرُ بالفاءِ ، ويكون منه ما يزيد في الدلالة ، فزيادة المبنى تحكي أخرى من المعنى ، ولو صلةً كما "مِنْ" التي تفيد التنصيص على العموم كما في الآي المحكم أَنْ : (مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ) ، فذلك آكد في الدلالة نَصًّا هو العام فلا يحتمل ، وإن كان في المبدإ من العام المحتمل ، فأصله في غَيْرِ التَّنْزِيلِ المحكَم : ما جاءنا بشير ، و : "بشير" : نكرة في سياق النفي فَتُفِيدُ العموم المستغرق ، من هذا الوجه ، كما قَرَّرَ أهل الأصول والبيان ، فإذ كانت الدلالة في المبدإِ : دلالة الظن الراجح ، فَثَمَّ من قرينة التنصيص ، وهو ما أفادت "مِنْ" ، ثَمَّ مِنْهَا ما زَادَ في الدلالة فصار نَصًّا في الباب يَقْطَعُ لَا ظَنًّا يَرْجُحُ ، فالأول محفوظ لا يحتمل التخصيص ، والثاني وإن كانت دلالته بادي الرأي الاستغراق ، وكان من ذلك ما يوجب العمل حتى يَرِدَ الدليل المخصِّص ، إلا أنه ، من وجه آخر ، دون النص في الدلالة لاحتماله التخصيص خلاف العام المحفوظ نَصًّا بما كان مِنْ زِيَادَةِ "مِنْ" في العموم نَصًّا فقد زادت في معناه إذ زِيدَتْ في مَبْنَاهُ فأفادت العموم المحفوظ فلا يحتمل التخصيص ، كما العام بادي الرأي ، فتلك قرينة رجحت أَنْ رَقَتْ بالدلالة من الظن الراجح إلى القطع الجازم لقرينة تَزِيدُ دلالتها على العموم : التَّنْصِيصَ ، وهي "مِنْ" ، فَزِيدَتْ في المبنى حكايةَ أخرى في المعنى ، مع قرينة منها تُسْتَصْحَبُ قد رجحت في العام خلاف الأصل ، فهو في المبدإ : ظاهر يحتمل التخصيص ، فكان من زيادة "مِنْ" تَنْصِيصٌ ، فصار العام نصا لا يحتمل ، لا ظاهرا يحتمل وإن احتمالا مرجوحا ، فحسمت "مِنْ" الاحتمال وَصَيَّرَتِ العامَّ نصا يفيد اليقين والجزم ، فتلك زيادة مبنى تدل على آخر في المعنى ، وهي من المذكور ، خلاف المقدر المحذوف في الآي محل الشاهد : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ، فكان مِنْ تقدير شطر محذوف قد عُطِفَ بالفاء على آخر هو المذكور على تأويل من قَبِيلِ : أكان منكم بَصَرٌ يَنْصَحُ وعقل يحكم فَرَأَيْتُمْ مَا تَعْبُدُونَ من تلك الأصنام المحدَثة ، أو هو ، من وجه آخر ، مما لا حَذْفَ فيه ولا تَقْدِيرَ ، إذ كان من خاصة الهمز وهو أمُّ بابٍ في الاستفهام ، كان من خاصته أَنْ يُقَدَّمَ مطلقا ولو على عاطف له الصدارة مطلقا ، فذلك أصل قد استصحب عاما هو ، بادي الرأي ، يظهر ، فاحتمل تخصيصا ، وهو ما كان بالهمز لما تقدم من خاصتها في النطق ، أَنْ تُصَدَّرَ أَبَدًا ، وقد يُرَجِّحُ هذا الوجه أَلَّا تَقْدِيرَ فيه وذلك الأصل في الكلام : نفي الحذف والتقدير ، وقد يرجح الأول إذ لم يخالف عن أصل عام قد حُفِظَ أَلَّا يَتَقَدَّمَ على العاطف غَيْرُهُ مَعَ مَا كَانَ مِنْ زِيَادَةِ مَبْنًى يُقَدَّرُ فهو على آخر من المعنى يَدُلُّ ، ولكلٍّ حظ من النظر قد اعْتُبِرَ ، وكلاهما قد وَبَّخَ المخاطَب بِمَا من الصنم قد اتَّخَذَ معبودا في الخارج قد شَهِدَ على نفسه بالبطلان القاطع ، فذكر منها : (اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) ، وذكرها ، من هذا الوجه ، حكايةُ خَاصٍّ يُرَادُ به عام ، فَثَمَّ من العموم المعنوي ما جاوز المذكورات إلى سائر الأصنام والأوثان ، ومنها المحسوس كما المذكور ، ومنها المعقول كما مذاهب محدَثة لا تَنْفَكُّ في كلِّ جيلٍ تظهر ، وجامعها الرئيس : تشريك ينقض أصل التوحيد ، وهو ما تَنَاوَلَ الخلقَ والشرعَ ، فكان منه الشرك في التصور والحكم ، كما الربا مثالا تقدم ، فاستباحته في هذا الجيل أَنْ صَارَ الأصل في الكسبِ وَالتَّمَوُّلِ ، فلا يكاد يسلم منه أحد ، ولو غُبَارًا يَنَالُهُ إِنْ لَمْ يَنَلْهُ الأصلُ ، فاستباحته في هذا الجيل تجاوز حد العصيان حكايةَ الأثرةِ والشحِّ ، والجمع والمنع ، والاكتناز والاحتكار لأسبابِ قُوَّةٍ بِهَا صاحب المال يَطْغَى ، إِنْ فَرْدًا أو جَمْعًا ، كما من مجموع مركب في هذا الجيل قد احتمل اسم المصرف أو الشركة الَّتِي تجاوِزُ الْقُطْرَ وَتَعْبُرُ الْحَدَّ فَقُوَّتُهَا تَرْجُحُ قُوَّةَ سُلْطَانٍ في السياسة والحكم ، فتلك الاستباحة تجاوز حَدَّ العصيانِ فَثَمَّ من الفكرة والمذهب ما عَظَّمَ رَأْسَ المالِ فَصَارَ الدين المحكَم ، وصار من وَثَنٍ آخر يُعْبَدُ كما اللات والعزى ، فكل أولئك مما عمه القصر آنف الذكر ، إِنِ الأصنامَ المحسوسة في الخارج أو أخرى تُعْقَلُ فِي ذهنٍ لَهَا يُجَرِّدُ منها مذهبا في التصور والحكم ، وهو المحدَث الذي يضاهِي الوحي المنزَّل دِينًا يُقْتَرَحُ ، ومعبودا يُنْتَحَلُ ، فكلُّ أولئك مما عمه القصر آنف الذكر ، فـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) ، فهي أسماء محدَثة قد تَحَمَّلَهَا الخلف عن السلف ، فكان من الإطناب فِي وصفٍ يُذَمُّ ، وبه المعنى يَرْسُخُ فِي سياقِ خَبَرٍ يَبْطُلُ ، فكان من الوصف أول إذ : (سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ) ، وكان من ثان ما يرفد ، فـ : (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) ، فَنَفَى عنها سلطانَ وحيٍ محكَمٍ قد نَزَلَ من الرب المهيمن ، جل وعلا ، وَثَمَّ من التَّنْصِيصِ على العموم ما تَقَدَّمَ ، فتلك دلالة "مِنْ" ، في قوله تعالى : (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) ، وَذَلِكَ آكد في الدلالة من القول في غير التَّنْزِيلِ المحكَمِ : مَا أَنْزَلَ الله بها سلطانا ، فذلك العام ظاهر الدلالة رُجْحَانًا يحتمل فكان من زيادة "مِنْ" قَرِينَةٌ بِهَا صَارَ العام ظَنِّيَّ الدلالة آخرَ محفوظًا يُفِيدُ اليقينَ الجازمَ ، وَثَمَّ تَالٍ يَرْفِدُ بِقَصْرٍ آخر هو الأقوى في قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) ، فَظَنٌّ يُتَوَهَّمُ ، وهو دليلُ فَسَادٍ في المذهب ، فليس الظن الراجح في الاصطلاح المتأخر فذلك مما يفيد دلالة تجزئ في العلم والعمل ، وإنما هو التَّخَرُّصُ والقول بلا علم ، فَظَنٌّ يُتَوَهَّمُ وهوًى لِنَفْسٍ هو الفساد في المسلك فَعَمَّ الفساد : العلم والعمل كَافَّةً ، وَثَمَّ ختامٌ مُؤَكَّدٌ على ضد من مذكور يقبح ، فـ : (لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) ، فَكَانَ من الهدى ما ينسخ ضلالا في الفكر والتصور ، فهو ما قد جاء من الرب المهيمن ، جل وعلا ، وهو مِمَّا أُكِّدَ تحقيقا مع قسم مُقَدَّرٍ صدرَ الكلام قد دلت عليها لام الجواب في : (وَلَقَدْ) ، على تقدير : والله لقد جاءهم من ربهم الهدى ، وَثَمَّ من تقديم الظرفِ : ابتداءَ الغايةِ من الرب ، جل وعلا ، في قوله تعالى : (مِنْ رَبِّهِمُ) ، ثم من تقديمه وحقه في نظم الكلام المعهود التأخير على تقدير : ولقد جاءهم الهدى من ربهم ، ثم منه رعاية فواصل للآي ، من وجه ، مع عناية بالمرجِعِ فهو مناط الفائدة في الباب ، فما كان هدى يَنْصَحُ إِلَّا أَنْ جَاءَ من الرب المهيمن ، جل وعلا ، وهو الهدى الجامع إذ قد حكت منه "أل" : بَيَانَ الجنسِ لمدخولٍ مُنَكَّرٍ "هدى" مع استغراق قد تَنَاوَلَ : المعنى فهو الهدى التام ، والآحاد فقد استغرق العلوم والأعال كافة ، فذلك حد ، وفي آخر ما حدث من المذاهب ، وهو عَلَى ضِدٍّ من المعنى فهو الضلال إذ لم يَكُنْ له من المرجع المحكَم ما إليه يَأْرِزُ ، فَلَيْسَ بَعْدَ الحقِّ إلا الضلال ، فـ : (مَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ، وذلك الاستفهام تقريرا ولا يخلو من دلالة القصر حصرا وتوكيدا ، أَنْ ضُمِّنَ الاستفهام دلالة النفي ، فكان من القصر بأقوى الأساليب : النفي والاستثناء ، على تَقْدِيرِ : ما بعد الحق إلا الضلال ، فلا واسطة ، وتلك قسمة ثنائية قد استغرقت أجزاءها في الخارج ، الحق والضلال ، وهو مما يجري ، من وجه ، مجرى الطباق إيجابا ، ولو طباقَ اللَّازِمِ ، فَإِنَّ الطباق التام يكون بين الحق والباطل ، أو الهدى والضلال ، ولا يخلو كلٌّ مِنْ إِنْشَاءٍ يُلَازِمُ الخبرَ ، فإذ كان من الله ، جل وعلا ، هدى قد جاء ، وهو الهدى التام في العلم والعمل ، فإذ كان ذلك فالواجب اتباعه والعدول عن ضدٍّ ، على تقدير : اتبعوا الهدى من ربكم ، ولا تتبعوا ما دونه من المحدثات فهي الضلال ، فأمر بشيء ولازم له ينهى عن ضد ، وهو ما اسْتُوفِيَ شطراه في مواضع أخرى من التَّنْزِيلِ ، فـ : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ، فـ : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) شطرٌ من القسمة يأمر ، و : (لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) آخر ينهى عن ضد ، وكذا يقال في قوله تعالى : (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) ، فهو استفهام دون دلالة خبرية تقريرية ، ولا يخلو من دلالة إنشائية أَنِ اتَّبِعُوا الحقَّ المفضي إلى الهداية وذلك شطر ، وَلَا تَتَّبِعُوا الباطلَ المفضي إلى الضلال وذلك آخر ، فَلَيْسَ بَعْدَ الحقِّ إلا بَاطِلٌ يُفْضِي اتِّبَاعُهُ إلى الضلال ، وهو ما قد عم المذاهب المحدثة كافة ، ومنها مذاهب في المال والكسب تكسو الربا لِحَاءً يَنْصَحُ مِنْ أسماءٍ بِهَا الباطل يُزَخْرَفُ ، فَمَا أَنْزَلَ الله ، جل وعلا ، بها من سلطان محكم ، فليس إلا شُبُهَاتٍ تَقْدَحُ ، وَلَوْ رُدَّتْ إِلَى محكَمٍ أول من التوحيد والتشريع لاستبان لدى كل من يعقل بطلانها في المرجع والمذهب ، وذلك ما قد جاوز الربا في مذاهب المال إلى أخرى في الفكر والشرع قد ناجزت الوحي المنزل وانتحلت من الاسم ما أُحْدِثَ ، ومنه الاسم الوضعي الأخص ، وله في اصطلاح المذاهب ما يجاوز المتبادر من الإحداث وضعا في الأرض يخالف عن وحي من السماء قد نَزَلَ ، فَثَمَّ من دين الوضع : تَطَوُّرٌ تقدم في الذكر ، وهو لدى أَهْلِهِ معيارُ كُلِّ شَيْءٍ في الخلق والشرع كافة ، وَإِنْ أَفْضَى إلى اضطِّرَابٍ في التَّصَوُّرِ والحكمِ ، ومنه ما كان آنِفًا من قسمة لا تعدل في نسبة لا تصح في آي النجم المحكم : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) ، وهو الاستفهام الذي يُنْكِرُ وَيُوَبِّخُ ، ولا ينفك يُبْطِلُ ، وإبطاله يجاوز المذكور ، فإن نسبة الأنثى الأدنى أو الذكر الأعلى إلى الخالق ، جل وعلا ، ذلك مما يَبْطُلُ كلُّه ، فكان من قولهم ما فيه يصدق : أَحَشَفًا وسوءَ كَيْلَةٍ ! ، فقول فاسد في المبدإ ونسبة هي الأظلم ، وقد حَسُنَ لأجلِه تقديم ما حقه التأخير من الظرف "لكم" في الشطر الأول ، و "له" في الشطر الثاني ، فكان من ذلك إمعان في الحصر والتوكيد في مقام تسجيلٍ لجنايةٍ تَعْظُمُ ، وكان من شطرين ما قد تَقَابَلَ وبهما استيفاء القسمة في الخارج حصرا لقول هو عين الباطل ، مع طباق إيجاب بالنظر في الألفاظ "لكم" و "له" ، فضمير مخاطَب لجنس هو المخلوق الحادث ، وضميرُ غَيْبَةٍ مرجعه الرب الخالق ، جل وعلا ، وذكر وأنثى ، وَإِنْ بَطَلَتِ النسبةُ إلى الله ، جل وعلا ، كافة ، إِنِ العليَا أو الدنيا ، وذلك الإنشاء استفهاما في قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى) فلا ينفك يحكي خبرا يُبْطِلُ هذا الاعتقاد المفحِش ، مع إنشاء آخر يَنْهَى عَنِ انْتِحَالِهِ وَانْتِحَالِ لَوَازِمَ منه تَلْطُفُ ، ومنها اعتقاد المخلوق أنه أفضل ، وذلك مما به استجاز نَبْذَ الوحيِ المنزل واستبدال آخر به من وضعٍ محدث إذ له من القسمة ما هو أعلى ، فـ : (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) ، فَتَنَاوَلَتْهَا الإشارة إلى بعيدٍ في "تِلْكَ" مَئِنَّةَ الإزراء والتحقير ، وإن احتملت الإشارةُ إلى البعيد ، بادي الرأي ، ضِدًّا من الاحتمال ، التَّعْظِيمَ وَضِدًّا من التحقير ، فكان من الإجمال ما أَعْوَصَ ، وَافْتِقَارُهُ إلى البيان أعظم إذ احْتَمَلَ ضِدَّيْنِ من المعنى ، فلا يَنْفَكُّ يطلب قرينة من خارج تُرَجِّحُ ، إِنِ التَّعْظِيَم كما في قوله تعالى : (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ، فالسياق بداهةً يحكي تعظيم الآيات المتلوة ، أو التحقير كما في هذا الموضع ، فَقَرِينَةُ الذَّمِّ أنها القسمة الجائرة ، ذلك مما رجح التحقير والإزراء في الإشارة ، مع ما كان من لفظ قد غَرُبَ في المعجم وَثَقُلَ في النطق قصدا ، لفظ "ضِيزَى" ، فَبِهِ قَرْعٌ في الآذان يُزْعِجُ ، وهو ما لأجله المخاطب يطلب البيان لما سمع فذلك آكد في تَرْسِيخِ المعنى وتسجيل الجناية ، فتلك قسمة ظلم وعوج ونقص فقد بلغت غاية في القبح ، فكان من الغريب في مواضع ما يفيد ما لا يفيد المبين ، بادي الرأي ، كما تقدم من وصف "ضِيزَى" ، وما كان قَبْلًا من العضة في مثالِ تَقَدَّمَ ، فَثَمَّ سؤال عن معنى اللفظ وماهية الفعل المنهِيِّ عنه ، فـ : "إيَّاكم والعِضَةَ" ، تحذيرا قد اطرد في لسان النحو والبيان ، وهو ، بداهة ، مئنة نهي ، وسياق الخبر ، وقد قُرِنَتِ العضة بالكذب في لفظ آخر : "أَلا أُنَبِّئُكُمْ ما العَضْهُ؟ هي النَّمِيمَةُ القالَةُ بيْنَ النَّاسِ . وَإنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: إنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، ويَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ كَذّابًا" ، سياقُ الخبرِ يُرَجِّحُ دلالة التحريم ، وإن لم يلزم ، فقد أجاب بَعْضٌ بل ذلك من الاقتران وهو من أضعف الدلالات في اللسان ، فلا يلزم من الاقتران في اللفظ التَّسَاوِي في الدلالة والحكم ، بل قد يعطف مختلفان في الدلالة والحكم ، كما في قوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ، فَقُرِنَ الأكل وهو المباح بإيتاء الحق وهو واجب مع نهي عن الإسراف وهو المحرم ، وهي المختلفات في الدلالة والحكم ، وهو ما لا يَتَوَجَّهُ في الخبر آنف الذكر إذ كان من قَرْنِ الكذب وهو بداهة المحرَّم بل من السياق ما بِذَا يشهد أَنْ يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ ، جل وعلا ، وصفا يقبح وهو الكذَّاب الذي استمرأ ، مع التحذير المتقدم في "إِيَّاكُمْ" وهو ما استغرق الجمع المخاطَب بِضَمِيرٍ هو نص في المفعول ، فكان من ذلك قرينة أخرى تعضد ، فهي تُرَجِّحُ التحريم لِمَا نَصَّتْ عليه من التحذير ، والغالب فيه التحريم وإن لم يلزم في كلِّ مَوْضِعٍ ، بل ذلك مما يجري مجرى الظاهر المستصحَب أصلا حتى يَرِدَ الدليل الناقل فَأَجْزَأَ فِي الاستدلالِ مَبْدَأَ النَّظَرِ ، وَرَفَدَهُ سَابِقٌ من الكذب ، وهو ، بداهة ، المحرَّم تَحْرِيمَ القطعِ ، ورفده تال بما كان من بَيَانٍ قد نَصَّ على المعنى المشتهر: معنى النميمة ، وبه حُدَّتِ العضة ، وهو ما يُوَاطِئُ مَا اشْتَرَطَ أهلُ الحدِّ والتعريفِ ، فلا يُعَرَّفُ الشيءُ بِأَخْفَى منه إذ لَا يَزِيدُهُ ذلك إلا إشكالا وإجمالا ، وإنما يُعَرَّفُ بِمَا هو أَبْيَنُ فَهُوَ لَهُ يُوَضِّحُ ، كما في هذا الموضع ، فَحُدَّتِ العضة وهي الأخفى بالنميمة وهي الأظهر ، وكان من الدلالة آخر ألطف ، إذ ثم من دلالة الاسم ما يشهد بالأثر ، أَثَرِ النميمة في الخلق ، فهي تقسم وتقطع ، وتلك دلالة العضة في اللسان المفصِح ، كما في آي الذكر المحكم إذ يَصِفُ المقتَسِمِينَ أنهم : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ، أَيْ : قَسَّمُوهُ أَقْسَامًا ، فالنميمة كذلك مما يُقَسِّمُ الخلق على أنحاء إذ يُقَطِّعُ بَيْنَهُمْ ، ويصيرهم شيعا تَتَفَرَّقُ ، فاستعير المعنى المحسوس من القطع لآخر يُعْقَلُ في علائق الخلق ، وهو ، أيضا ، مما به يستأنس مَنْ يُجَوِّزُ المجازَ في اللسان والوحي ، وَمَنْ يُنْكِرُ فَهُوَ أَبَدًا على أصله المطَّرِدِ إذ يجرد المعنى المطلق في الذهن فذلك القطع الذي يحتمل أنواعا في الخارج ، فمنه المحسوس ومنه آخر يُعْقَلُ ، والسياق قرينة ترجح كما رجحت في هذا الخبر القطع المعقول إذ يتوجه إلى علائق الخلق بما يكون من نَقْلِ كلامٍ يُفْسِدُ ذَاتَ البينِ ، وقد يكون السؤال ، من وجه آخر ، قد يكون من المخاطَبين فألقى إليهم صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم اللفظ المجمل ، لفظ السبع الموبقات آنف الذكر ، فبادروا بالسؤال ، ثم كان الجواب الذي بَيَّنَ بعد إجمال ، فكان الجواب بِجُمَلٍ من الكبائر منها الناقض لأصل الدين الجامع ، ومنها آخر ينقض الكمال الواجب ، فالكبيرة ، من هذا الوجه ، جنس عام تَنْدَرِجُ تحته أنواع ، فمنها ناقض لأصل الدين الجامع كما الشرك والسحر اللَّذَانِ صُدِّرَ بهما الجواب ، فَحَصَلَ من ذلك تدرج في البيان من الأعلى إلى الأدنى ، من الشرك الأكبر الذي أُطْلِقَ لفظه في الخبر ، فذلك مما يصرفه ، بادي الرأي ، إلى الجنس الأكبر الناقض لأصل الدين الجامع ، إن الشرك في الألوهية وهو المتبادر بما اطرد من خصومات النبوات مع أقوامها ، وذلك معنى قد عَمَّ فجاوز المتبادر من الشرائع لا سيما العملية ، مع تحكم آخر في جيل قد تأخر ، أَنْ قَصَرَ الحكمَ على حكومات الجلال من الحدود والتعازير ، فمعنى الحكم أعم إذ استغرق الأخبار التي بها تصوُّرُ التوحيدِ يَثْبُتُ فِي المبدإ ، توحيد الإلهيات وتوحيد الخلق والتكوين ، فذلك مما يدخل في الحكم والتشريع ، ولو المبادئَ والمقدمات في الاستدلال تلازما في الباب يطرد بين التصور والحكم ، تصور الإلهيات : صفات الجلال والجمال وبهما الكمال المطلق يثبت ، وهو ما يستلزم في النظر حُكْمًا يستغرق : آثار الصفات من أفعال الربوبية وأخرى هي أحكام الألوهية ، فيكون التجرد والتعبد : بَاطِنًا يُوَحِّدُ في الاعتقاد ، وظاهرا يمتثل في القول والعمل ، فيحصل من ذلك الاسم الديني المجزئ الذي استغرق المحال كافة ، الباطنة والظاهرة ، والأحوال الإرادية : الاعتقاد والقول والعمل ، وهي التي فيها الابتلاء يَثْبُتُ بالاختيارِ الَّذِي يُرَجِّحُ ، وذلك معنى لو تدبره الناظر لعلم أنه المنهاج والشرعة الجامعة ، وهو ما استغرق السلوك الخاص والعام ، سلوك الوجدان الباطن إذ يَتَصَوَّرُ المسائل الكلية التي تَعُمُّ بها البلوى ، فهي سؤالات الضرورة في كلِّ جيلٍ ، سؤالات الخلق الأول والغاية وما جاوز مدارك الحس من غيب تال بعد الموت ...... إلخ ، فكل أولئك مما يحكي الضرورة الوجدانية الباطنة : ضرورة الغائية التي تستنقذ الناظر من الخبط والعبث : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، فأبان الوحي عن تصور جامع في باب الغاية ، فـ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وهو ما أطلق فاستغرق وجوه العبادة كافة فجاوز المتبادر من الشعائر إلى الاعتقادات الباطنة فتلك عبادة أولى بها التصور يَنْصَحُ توحيدًا هو ، كما تقدم مرارا ، المبدأُ ، وَبِهِ تحرير الخلق أن يخرجوا من عبادة الخلق طواغيت الحس والمعنى ، ما خشن وما لطف ، ما صَرَّحَ وما كَنَّى ، ومنه مذهب قد عمت به البلوى أَنِ انْتَحَلَ من الاسم ضد المسمى ، فَتَذَرَّعَ بالحرية وليست إلا أَنْ يَخْرُجَ العقلُ عن سلطان الوحي فيسلك بُنَيَّاتِ طريقٍ تَشْتَبِهُ ويكون من العبودية : عبودية الهوى والذوق ، إِنِ الفردَ أو الجمعَ ، فيكون من مثال الطاغوت ما يضاهي أولا قد طغى في الدين وغلا ، فكان مِنْ ضِدٍّ مَنْ غَلَا في الوضع المحدث ، فَمِنْ قَيْدٍ باطل في الرسالة المبدلة إلى آخر في الحداثة التي انتحلت أسماء الحرية والعلم ..... إلخ ، فَلَهَا شُبُهَاتٌ قد عَظُمَتْ بما كان من جناية الدين المبدَّل الذي قَيَّدَ العقل واسترق الجسد باسم الوحي وهو منه بَرَاء ، فكان من دعاية الحرية والعلم : حَقٌّ قد أُرِيدَ به باطل ، فلا تنصح هذه المعاني إلا أن يكون التوحيد هو الأول ، فهو المعدن الناصح إذ يحرر الخلق من قيد الطاغوت المحدث ليدخلوا في دين الوحي المنزل ، ويكون من علمه المحرر الذي يصدق وينصح ، يكون منه ما ينسخ جهالات التحريف والتأويل ، فذلك أول في التوحيد ، توحيد التصور والغاية ، وبعده مسائل قد فَصَّلَتْ فِي الإلهيات ، وفي أفعال الربوبية ، وفي الشرعيات التي أَطَرَتِ الفردَ والجمعَ على جادَّةِ حَقٍّ وَعَدْلٍ ، وكان منها ما يكفي ويجزئ بما أُحْكِمَ من المقاصد وَحُرِّرَ من الأصولِ وَخُرِّجَ من الفروع ، فهي الشافية بالمبنى والمعنى ، بالمقاصد الكلية والأحكام الجزئية ، وذلك التوحيد الأعم ، فكان من أعظم الموبقات شِرْكٌ يَنْقُضُهُ ، وهو ما ينصرف حال الإطلاق إلى الشرك الأكبر الذي ينقض أصل الدين الجامع ، فتلك أعظم موبقة وأكبر كبيرة ، لا جرم قُدِّمَتْ في الذِّكْرِ ، وكان من وصف الموبقة المهلكة ما قبح وعظم في الشؤم إذ يأتي على الأصل الجامع بالإبطال ، فَيُضِيعُ ما كان من العمل والجهد ، فأطلق اللفظ وانصرف إلى الشرك الأكبر الناقض للأصل ، وإن احتمل آخر ، وهو الأصغر الناقض للكمال الواجب ولا يخلو من وصف الإهلاك فهو يوبق صاحبه كبيرةً تَفْحُشُ ، وإن لم تَبْلُغْ مَا قَدْ بَلَغَ الشركُ الأكبرُ فهو للأصل ، كما تقدم ، يقدح ، وللأقوال والأعمال كافة يبطل .

    والله أعلى وأعلم .


الصفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

تعليمات المشاركة

  • لا تستطيع إضافة موضوعات جديدة
  • لا تستطيع إضافة رد
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •