ومما عمت به البلوى في الجيل المتأخر أن احتال بعض بما يخدع من زخرف قول يستبدل اسما بآخر مع بقاء المسمَّى الذي لأجله التحريم قد ثبت ، فالعبرة ، كما يقول أهل الشأن ، بالمسمى الثابت في الخارج والذي وضع الاسم دليلا عليه لا سيما إن احتمل الاسم دلالة وصفية تُؤَثِّرُ فهي تحكي معنى معتبرا في الحكم يجاوز آخر طرديا لا مناسبة فيه للحكم فهو مما اطرد في أعيان كثيرة فلا يَرِدُ مناط حكم في الشريعة ، فالدلالة الوصفية تجاوز نظيرتها الطردية ، إذ في الوصفية معنى معتبر يناط به حكم أخص يجاوز الدلالة المجردة على المسمَّى الثابت في الخارج ، فالدلالة الوصفية آنفة الذكر تجاوز الدلالة الْعَلَمِيَّةَ : دلالة الاسم الجامد عَلَمًا على مسمى في الخارج فلا يجاوز إلى وصف يعقل وبه الحكم يناط فهو يدور معه إن في العدم أو في الوجدان ، فكان من الاحتيال استبدال اسم جديد يَلْطُفُ بآخر يبين عن مناط التحريم المحكم ، كما قد عمت البلوى في الجيل المتأخر أَنِ اسْتُبِيحَتْ محرمات قد علم تحريمها من الدين علمَ الضرورة كما الربا مثالا يشتهر في هذا الجيل إذ حُدَّ أقساطَ فائدةٍ وربح وإن محقت بَرَكَتُهَا فهي الضر والخسارة ، فسميت بما يستر حقيقتها على ضَدٍّ من عاقبتها إذ : (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) ، وكذا الحال في الخمر وهي ، أيضا ، مناط بلوى قد عمت ، فكان من الخبر المحكم أن : "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها" ، فَثَمَّ من اللام الداخلة على الجواب ، جواب القسم في : "ليشرَبنَّ" ، ثَمَّ منه ما هو دليل في نفسه ودليل على غيره ، فَهُوَ دليل توكيد إذ اللام لامُ الابتداء التي احتملت العنوان الأخص ، فقد دخلت على الجواب ، فصارت لام ابتداء لجملة مخصوصة وهي جملة الجواب ، جواب القسم ، فاحتملت عنوانه من هذا الوجه ، فَثَمَّ من دلالتها تَوْكِيدٌ أول ، إذ زيادتها في المبنى مئنة من أخرى في المعنى ، مع ما احتملت من المعنى الأخص ، معنى الابتداء ، فهي لام ابتداء في أي سياق فذلك الجنس العام المطلق الذي يجرده الذهن ، جنس اللام المؤكدة صدرَ الجملة ، وتحته أنواع ، ومنها : لام الجواب ، جواب القسم ، ومنها اللام المزحلقة ، كما في لام "لَعَلَى" في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، فهي ، كما تقدم مرارا ، لام ابتداء محلها الصدر ، صدرُ الجملة ، فإذ قَدْ شُغِلَ المحل بآخر أقوى كما الناسخ "إِنَّ" وهو أم الباب وأصله ، فذلك ما استوجب تأخر اللام ، إذ لا يشتغل المحل الواحد بحالَّين اثنين فلا يحتمل محلُّ الابتداءِ اثنين من الجنس نفسه : جنسِ التوكيد ، مع ما وجب لهما من الصدارة ، فَثَمَّ اتحاد فِي الجهة يوجب الترجيح ، ترجيح الأقوى فَيُقَدَّمُ والأضعف فَيُؤَخَّرُ ، وذلك قياس العقل المحقق ، تقديم ما حقه التقديم من الراجح وتأخير ما حقه التأخير من المرجوح ، فَقُدِّمَ الناسخ "إِنَّ" واستقر عنوانَ تَوْكِيدٍ أول صدر الجملة فَلَهُ الصدارة مطلقا فهو المؤكد اللفظي ، وذلك عنوان يوجب لصاحبه الصدارة ، إذ المؤكد المعنوي مما يُتَصَيَّدُ من السياق فلا لفظ له يحد في النطق والكتب ، كما الناسخ أو لام الابتداء ..... إلخ ، و إنما المؤكد المعنوي ، كاسمية الجملة مثالا فهي مئنة من الثبوت والاستمرار ، مما يُتَصَيَّدُ من الجملة فلا حد له يخص في النطق بل يصدق في أي اسمية كقولك : محمد مجتهد ، وأحمد مجتهد ، وعمرو مجتهد .... إلخ ، فالنطق والكتب قد اختلفا في كُلِّ مبتدإ "محمد" و "أحمد" و "عمرو" ، ومعنى الاسمية في كلٍّ قد حصل ، وهو مناط التَّوْكِيدِ أَيًّا كان اسم المجتهد ، فلم يكن ثم لفظ مخصوص هو النص في الباب ، كما المؤكد اللفظي : الناسخ أو لام الابتداء مِثَالًا تَقَدَّمَ ، فهو نص في الباب ، فما له لفظ مخصوص هو النص في الباب فهو يجري مجرى العلم الضروري الذي لا يفتقر إلى استدلال ، بل كلٌّ يَسْتَوِي في دَرَكِهِ ، خلاف المؤكد المعنوي ، فإن اسمية الجملة وتعريف الجزأين ..... إلخ ، كل أولئك مما يجري فيه النَّظَرُ فلا نص فيه بِعَيْنِهِ ، فصار المنصوص عليه أَوْلَى من غير المنصوص ، وما قد عُلِمَ ضرورة فهو أولى مما يدرك بالنظر والاستنباط ، فَقُدِّمَ جِنْسُ التَّوْكِيدُ اللفظي على نَظِيرِهِ المعنوي ، فذلك ترجيح جنس على جنس ، وداخل الجنس الواحد آحاد تَتَفَاوَتُ ، فإن المؤكد الناسخ "إِنَّ" يُقَدَّمُ على اللام ، لام الابتداء ، وثم من لام الابتداء محل شاهد تقدم ، فهي عنوان أعم تحته آحاد منها لام الجواب ، وهي الداخلة على جوابِ القسمِ ، وهي دليل قد تأخر على ما تَقَدَّمَ من إنشاءٍ بقسمٍ أول ، على تقدير : والله : "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها" ، وهو ، كما تقدم في مواضع ، مِمَّا خالف عن الأصل المطرد في باب التقدير إذ يدل المتقدم على المتأخر ، فحصول المتقدم أولا عنوان في الذهن يثبت ، وإليه يُرَدُّ بَعْدًا كُلُّ آت قد تأخر ، فَثَمَّ مرجع أول يُرَدُّ إليه مَا حَدَثَ تَالِيًا ، فكان من الخلاف عن هَذَا الأصلِ أَنْ دلت اللام المتأخرة على الْقَسَمِ الأول المتقدم ، وثم من اسم الناس في "ناسٌ من أمَّتي" نكرة في سياق الإثبات ، فَتُفِيدُ الإطلاق وهو ما يحصل بأدنى ما تصدق فيه الماهية ، ماهيَّةِ الناس ، وذلك عنوان يَصْدُقُ فِي كلِّ إِنْسَانٍ ، ذَكَرًا أو أُنْثَى ، وَثَمَّ من قرينة الأمة ما قَصَرَ الإطلاق على الْقَبِيلِ المسلمِ الذي ثَبَتَ له عقد إسلام أول ، فهو من أُمَّةِ الإجابة الأخص ، إذ أمة الدعوة الأعم تجاوز المسلم إلى غيره ، فَالْقَبِيلُ الكافر والمشرك يشرب الخمر ، بادي الرأي ، فلا يَتَذَرَّعُ كما الحال الآن في أمة الإجابة التي وجد بَعْضٌ من أفرادها الحرج في النص المحرم فاحتالوا أن يخالفوا عنه بما استحدثوا من أسماء يسترون بها عين المسمَّى المحرم ، وهو يقلون في موضع ويزيدون في آخر بما يكون من يقظة الجمع تعظيما للشرع ، فإذا غاب الحق أو غُيِّبَ كان من ظهور الباطل وإن استحى أهله بما حاك في الصدر من الإثم وكره صاحبه أن يَطَّلِعَ عليه الخلق فتلك بقية فطرة تَنْصَحُ وإن احتال صاحبها باستحداث ما بها تُطْمَسُ ! ، فكان من ظهور هذا الباطل أن احتال فكسا المسمى المحرم اسما به يروج فلا ينكر السامع بما استقر في وجدانه من أسماء شرعية قد أُنِيطَتْ بها أحكام تكليفية ، فلا ينكر إذ قد استبدل اسم حادث بآخر ثابت تحكما بلا دليل إذ المسمى في الخارج واحد لم يتبدل ليسوغَ في العقل استبدال اسم جديد بآخر قديم أن تَغَيَّرَ الوصف أو استحالت العين التي أنيط بها الاسم القديم ، فهي هي لم تتبدل ، فالقياس أن يثبت الاسم الأول ولا يستبدل آخر به ، فكان من الاحتيال في الباب أن استبدل آخر به ، كما المثال محل الشاهد ، مثال الخمر فثم من أمة الرسالة الخاتمة ما ثبت في كتابه المحفوظ تحريم هذا المسمى المذموم ، مسمى الخمر أيا كان الاسم واللقب فالعبرة بالمسمَّى والماهية في الخارج وما قام بها من الوصف الجالب للحكم فتذرع بالاسم المحدَث مع بقاء الماهية واحدةً لم تَتَبَدَّلْ ، خلاف ما كان من غيرها من الأمم ، فقد استحلت الخمر ، بادي أمرها ، فلم تجد حاجة أَنْ تَتَذَرَّعَ بأسماء محدثة لتستحل المسمى المحرم من الخمر فقد استباحتها وأنكرت تحريمها وإن ثَبَتَ في كتاب أول ، فلم يسلم من تبديل وتحريف ، أو هو مِمَّا قد هَادَنَتْ فِيهِ الأديانُ الحداثةَ في الأعصار المتأخرة ، كما أحكام كثيرة قد أَزَالَتِ الفوارق بين الدين والحداثة كما يَتَنَدَّرُ بعض من حقق ، فاستشهد بأقوال بَعْضٍ من نظار المركز قد اشتهر بحداثته المفرِطة وهو مع ذلك يشيد بالنصرانية قاعدة محكمة لحضار المركز المحدثة ، فدين أصله سماوي قد صار قاعدة لمذهب أرضي يناجزه عناوين التصور والحكم ! ، فما كان ذلك إلا أن بُدِّلَ من الدين السماوي وَحُرِّفَ معان هي الأصول التي تميزه من آخر محدث ، فَزَالَ الفارق وتقاربت الحقائق في الخارج ، فلم يَعُدُ ثم عنوان تعارض أو تناقض ، مع بقاء الأسماء : نصرانية في مقابل حداثة ، وهو ما يوجب ، بادي الرأي ، لو صدقت الأسماء في حكاية مسمياتها ، وهو ما يوجب المفاصلة بل والمناجزة على قاعدة الاختلاف الجذري في المرجع ، فَثَمَّ الرسالة في حد سماوي والحداثة في آخر على ضد وهو الأرضي ، فَأَنَّى يَلْتَقِيَانِ ؟! ، فضلا أن يَصِيرَ السماوي قاعدة التصور والحكم لآخر أرضي يناقض ! .
وذلك عنوان الخصومة المستحكمة بين الرسالة الخاتمة إذ حُفِظَ ذِكْرُهَا وَأُحْكِمَ آيها وخبرها فكان من عنوان الحفظ للذكر ما قد صَيَّرَهُ خصما لا تطيق الحداثة مناجزته وإن أحاطت بمن انتسب إليه فصيرتهم الأتباع الواهنين المنهزمين أن لم يستعلوا به فيكونوا المؤمنين ، ففاتهم الشرط ووجب لهم الانكسار والذل بين يدي الخصم لا ذل الرسالة فهي مما عَزَّ فَغَلَبَ الحداثة وكل مذهب يُنَاجِزُ فكانت الخصومة كما يقول بعض من حقق من نظار المركز ، كانت الخصومة مع الوحي المنزَّل لا مع أتباعه فذكره المحفوظ أبدا عنوان المخالفة عن المذهب المحدث فلا يداهن ما داهنت الأديان الأخرى بعد ما دخلها من التبديل والتحريف .
فكان من نص التوراة وهي كتاب التشريع الأول ، فإليه تُرَدُّ النبوات الإسرائيلية كَافَّةً ، كان من نَصِّهَا في الباب ما يحسم مادة التَّنَازُعِ ، وهو ما خالف عنه أهلها فذلك الظلم الذي صُدِّرَ به سياق يذم القبيل الإسرائيلي إذ أكل الربا وقد نهي عنه ، فـ : (بِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، كما الخمر محل الشاهد ، فتحريم الخمر مما قد أجمعت عليه النبوات ، بل ذلك مما استوجبه قياس العقول الصريحات ، فَمَا يَكُونُ مِنْ إِسْكَارِ العقلِ وإغلاقِه ، وَإِزَالَتِهِ اخْتِيَارًا ، ذلك مما يقبح في كل دين ومذهب ، فالعقل معنى يحمد لِذَاتِهِ لدى الخلق كَافَّةً ، وعنوانه : عنوان الإحكام ، فالعقال لجام يُحْكِمُ الدَّابَّةَ فَلَا تَنْفِرُ ولا تَجْمَحُ ، فهو يأطرها على جادة تُسْلَكُ فَتُفْضِي بِرَاكِبِهَا إلى الغاية والمقصد ، فكذا العقل فإنه يأطر الجوارح على جادة الفريضة والفضيلة ، فَمَنْ كَانَ ذا دين فالعقل مناط التكليف بالفريضة الدينية التي تُزَكِّي النفس ، ومن كان ذا مروءة وحشمة فالعقل يحمله على فضائل نفسانية يحمدها العقلاء كافة ، فَهِيَ محلُّ إجماعٍ يجري مجرى الضرورة العلمية الملجئة ، فمن ذا يُنْكِرُ فضيلة العقل وهو مجمع الأفكار ومعدن الأخلاق ، فكان إجماع الضرورة الدِّينِيَّةِ والعقلية عَلَى حُسْنِ الْعَقْلِ فَهُوَ مستقر الحكمة التي تلجم الأهواء فتحكم النفس كما الحكمة تلجم الدابة ، فذلك عنوان كمال مطلق وهو ما يجعل الحكم بِقُبْحِ الخمرِ أو أَيِّ مسكر يُذْهِبُ العقل ، ما يجعل الحكم بذلك حكم الإجماع الضروري ، الديني والعقلي ، فَثَمَّ حَكَمَةٌ تحكم لجام النفس فلا تطغى وتجاوز الحد إن في الفكرة أو في الحركة ، فذلك عنوان في المعنى يحمد قَدِ اسْتُعِيرَ له من الحس حَكَمَةٌ محلُّها فك الدابة فهي تأطرها على الجادة ، فمادة الحكم مما له وجود في الحس وآخر في المعنى ، فَقِيسَ المعقول على المحسوسِ ، وذلك قول من يجوز المجاز في اللسان والتنزيل ، ومن ينكر فهو على أصل قد تَقَدَّمَ مرارا إذ ثَمَّ من عنوان الحكمة جنس عام يُجَرِّدُهُ العقل فهو مئنة القيد الذي يُحْكِمُ المطلقَ فَيُصَيِّرُهُ المقيَّدَ ، وذلك ما يصدق في عناوين من الحس كما حكمة اللجام فإنها تُقَيِّدُ الدَّابَّةَ ، ويصدق في أخرى من المعنى كما الحكمة التي تَأْطِرُ صَاحِبَهَا على الجادة فيضع الشيء في المحل الذي يقبل ، ويقدر لكلِّ محكومٍ من الحكم ما يواطئ ، وذلك عنوان يصدق في الحكومات كَافَّةً ، الدينية والعقلية والتجريبية ، إذ ثَمَّ من معنى يُعَلَّلُ بِهِ الحكم فهو يدور معه وجودا وعدما ، فيجتهد الحكيم أن يحرر مناط التعليل وأن يحققه في كل محكوم بما يواطئ ماهيته في الخارج ، وذلك ما يتفاوت طردا وعكسا ، وجودا وعدما ، بل ثم من التحقيق في الإثبات ما يتفاوت ، فيكون الوجود على دَرَجَاتٍ ، إذ ثم معنى يتفاوت في الشدة ، كما الإسكار محل الشاهد ، فشدة الخمر وهي سبب في التحريم إذ تُسْكِرُ وَتُغَيِّبُ العقلَ فَتَسْتُرُ منه مواضع الفهم والفقه ، شدَّتُهَا مما يَتَفَاوَتُ ، فيكون من قياس الأولى على الخمر المنصوص عليها ، يكون منه ما يجري في مسكر أشد يُغَيِّبُ من العقل ما لا تُغَيِّبُ خمر العنب وما قد نَصَّ عليه الخبر من أجناس يتخذ منها الخمر ، فـ : "أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ" ، وذلك من الموقوف لفظه على عمر ، رضي الله عنه ، وله حكم الرفع إذ مثله لا يقال بالرأي ، فقول الصحابي في باب الحل والحرمة ، خبرا لا اجتهادا في مقام الفتوى ذلك مما له حكم الرَّفْعِ وإن لم يصرح برفعه صراحة إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وكذا يُقَالُ في ألفاظ من قَبِيلِ : من السنة كذا ، وإن لم يقيدها بسنة المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يطلق لقب السنة إلا وثم عهد خاص تحتمله "أل" في "السُّنَّة" فهي سنة صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلافا لأهل الظاهر فقد كان من مذهبهم ، كما يقول بَعْضُ من حَقَّقَ ، كان من مذهبهم ظاهرية في الرواية كما أخرى في الدراية ، فاشترطوا الرفع المصرَّح إلى صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فالاجتهاد يحتمل أن يُسْتَفْتَى الصحابي في واقعة فَيُفْتِيَ بحل أو بحرمة بما لا نص فيه فهو يجتهد رأيه ولا يألو ، فذلك مما يثبت فيه الوقف على صاحبه لفظا ومعنى ، إذ كانت فَتْوَاهُ عن اجتهاد في غير منصوصٍ ، كما أُثِرَ عن معاذ ، رضي الله عنه ، فـ : "«كَيْفَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَ: أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو" ، فكان من السؤال إرشادا لا استفهامَ مَنْ يجهل ، وإنما أَرَادَ اسْتِنْطَاقَ المسئول بالجواب فذلك آكد في البيان والتقرير ، فكان الاستفهام عن مرجع القضاء والحكم ، فأجاب معاذ بما يواطئ صحيح النقل وصريح العقل إذ رَتَّبَ المراجع بما يَنْصَحُ ، فكان الكتاب عنوان المرجع الأول فهو أصل الأصول وإليه تُرَدُّ جميعا ، ما كان منها منقولا كما السنة والإجماع فهو مما يحكى نقلا فلا يقال دعوى بلا دليل يشهد ، وما كان معقولا من قياس أو استحسان ..... إلخ ، فالكتاب أول وإن شَاطَرَتْهُ السنة عنوان الوحي المنزل ، فهي قسيم له من هذا الوجه ، إذ تضاهيه بالنظر في الأصل ، أصل التَّنَزُّلِ وإن زاد في الحد أنه المتواتر لفظا ومعنى ، وأن إعجازه باللفظ المتلوِّ المخصوص ، خلاف ما كان من السنة فأكثرها آحاد لم يتواتر وإن كان حجة في الحكومات الدينية كافة ، العلمية والعملية ، فذلك مما نَالَهُ منصبا في التشريع يضاهي الكتاب ، ذلك مما ناله الخبر بما شهدت له الآي الآمرة بالاتباع المطلق ، اتباع صاحب الشرع المحكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فـ : (مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، فأكثر السنة آحاد لم يتواتر ، والإعجاز فيها أعم بما كان من جوامع كلمٍ لا يُتَعَبَّدُ بِلَفْظِهَا التَّعَبُّدَ المخصوص تلاوةً تنعقد بها الصلاة ويثبت الأجر المخصوص المنصوص في التلاوة ، وإنما التعبد في السنة بما يكون من المعنى ، تصديقا بالأخبار وامتثالا للأحكام ، وما كان من حفظ المبنى فحفظا للدين فصاحبه يحمد من هذا الوجه أن حفظ كلام صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يناله تبديل أو تحريف أو زيادة بخطإ يطرأ أو وَضْعٍ يُقْصَدُ ، فكان من حفظه : حِفْظٌ لعنوان من البيان لما أجمل من عامة الآي ، فالغالب عليها الإجمال الذي يستوجب بيانا لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة ، وأي حاجة أعظم أن تستبين الأمة ما أجمل من أمر دينها ، فحفظ الأخبار ، من هذا الوجه ، حفظ للذكر ، ولو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإن كان درك السنة في نفسه واجبا لذاته ، بادي الرأي ، فهو واجب من هذا الوجه لذاته لا سيما في مواضع استأنف بها حكومات دينية ، خبرية أو إنشائية لم يرد ذكرها نصا في الكتاب المتواتر ، وهو ، من وجه آخر ، واجب لغيره إذ يبين عما أجمل من مادة الكتاب المتواتر فذلك حفظ المعنى الذي يرفد آخر من المبنى ، فلا يحصل حفظ الذكر إلا إذا استوفى هذا الحد : المبنى المنطوق والمعنى المعقول ، فذلك الوعد الصادق الذي اتسعت فيه دلالة "أل" في "الذكر" في قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فذلك الذكر الأعم ، ذكر الوحي ذو الأقسام في الخارج : الكتاب والسنة قسيما له يضاهي بالنظر في جنس أعم ، كما قال بعض أهل الشأن ، وهو جنس النص ، فتحته أنواع في الخارج تشترك في العنوان الأعم الذي يطلقه الذهن : عنوان الوحي والرسالة ..... إلخ ، فتحته أنواع وإن تفاوتت في الرتبة والحجية ، فالكتاب يقدم وبعده السنة ، كما أجاب معاذ ، رضي الله عنه ، تَالِيًا ، فـ : "أَقْضِي بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" ، وإن جاوز بَعْضُ مَنْ حَقَّقَ فَبَلَغَ بالسنة أن صارت قسيما للكتاب من كل وجه فهي تساويه في الحجية ، فيكون من الترتيب في الخبر محل استدراك ، فنظر القاضي يتوجه إليهما ابتداء دون تقديم قسيم على آخر ، إذ لهما من الحجية ما تساوى ، فدخولهما في عنوان النص دخولٌ واحد لا امتياز فيه ولا تفاضل ، وهو ما استدرك بعض آخر ، إذ الكتاب هو ما دلت آيه المحكمات على حجية السنة ، وإن كانت أصلا يضاهيه في الجنس الأعم ، جنس الوحي المنزَّل ، فهو الأصل وإن لأصل تال يشاطره الجنس الأعلى ، فكلاهما قد صدر من مشكاة النبوة ، وبعده كان جواب معاذ ، رضي الله عنه ، اجتهادا لا يألو ، فـ : "أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو" ، فلم يذكر الإجماع إذ لا إجماع زمن الرسالة على تفصيل في ذلك ، فَثَمَّ من نظر فيه نظر الاعتبار أن جَوَّزَ به النسخ ، وإن كان في حقيقته دالا على الناسخ بما كان من ترك العمل فلا يكون بداهة إلا بنص ينسخ في عصر رسالة وَحْيُهَا لا زال يَتَنَزَّلُ ، أو هو إجماع على حملان النص على محمل مخصوص ، إن بالفعل أو بالترك ، وثم من إقرار الوحي في مقام العصمة العامة ، عصمة الأمة الخاتمة أن تُجْمِعَ على خلاف الحق ، ولو خلاف الأولى ، فكيف بالباطل الصريح ؟! ، فذلك مما امتنع فيه الإجماع من باب أولى ، فثم من إقرار الوحي في هذا المقام ما يجري مجرى الإقرار سكوتا كما الإقرار نطقا ، فيكون إجماعهم على ترك العمل بخبر زمنَ النبوة ، والوحي لم يَزَلْ بين ظهرانيهم يَتَنَزَّلُ ، يكون ذلك ناسخا أو دليل نسخ معتبر ، فالناسخ هو الوحي الذي أقرهم على هذا النسخ ، فكان سكوته دليلا كما نطقه ، إذ السكوت في موضع البيان بَيَانٌ ، فلم يذكر معاذ الإجماع إذ ما يتبادر منه ما يكون بعد انقضاء النبوة ، ولا زالت نجومها تَتَنَزَّلُ آيا وخبرا ، فلا حاجة إلى الإجماع إذ الوحي يحسم مادة الاختلاف ، بادي الرأي ، إن بنصه المصرَّح أو سكوته المقرِّر ، فكان الاجتهاد بالرأي ثالثا ، وهو ما أنكره الظاهرية إذ عَدُّوا ذلك قدحا في حجية الكتاب والسنة إذ : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وإن استدرك بعض بِنَظَرٍ أدق في السياق : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) ، فذلك كتاب التقدير الأعم لا كتاب التشريع الأخص ، وثم من التنصيص على العموم في قوله تعالى : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، ما صَيَّرَهُ أَلْيَقَ بكتاب التقدير الأعم وإن كان ذلك صادقا في كتاب التشريع الأخص فما فَرَّطَ في شيء ، وهو ما يصدق بما نص عليه من الحكومات المنزلة وما جد من نَوَازِلَ محدثة تدخل في حد المنصوص بما كان من عموم المعنى وما كان من القياس الذي يُرَدُّ به الفرع إلى أصله ، فَمَا كان ثم تفريط في الكتاب الذي استجمعت دلالتُه الأعم على قول من تَقَدَّمَ : كتابَ الآي المنزل وآخرَ من الخبر المدوَّن ، فلا حاجة إلى رأي وقد استوفى كتاب الشريعة الأحكام كافة ، وهو ما استدرك المخالف ، فإن الوحي قد نص على جمهرة كثيرة من النصوص ، وبها كفاية في أخرى كثيرة من الوقائع ، وما حدث فقد كان من بيان الكتاب إذ لم يفرط في شيء أَنْ أبان عن وجه دلالة يعقل فهو مما يتعدى إلى الفرع المحدث ، فالوحي قد دل الناظر على حجية الاجتهاد الأعم والقياس الأخص كما دل على حجية السنة ، وثم منها قدر يعقل ، فلا بد من اجتهاد في تحرير الأخبار التي لم تَتَوَاتَرْ ، وذلك تحرير المبنى ، وثم آخر يتوجه إلى المعنى ، إن في المتواتر أو في الآحاد ، فذلك الاجتهاد في عقل المعنى بما اطرد من دلالة اللسان العربي المبين الذي نَزَلَ به الذكر الحكيم .
فكان من اجتهاد الصحابي ما به يحكم في مقام قضاء أو فتيا ، فذلك مما يجري مجرى الموقوف لفظا ومعنى ، فهو من قول الصحابي أو فعله ، على خلاف في الأصول أهو دليل منها أم ليس بحجة ، وإن كان حجة فما وجه الاحتجاج به وهل يطرد في كل قول لصحابي وفتيا أو يقتصر على ما وقع الإجماع عليه ، ولو سكوتا مع اشتهار القول وَعَدِّ صاحبه من أهل الفقه والتحقيق ممن لهم قدم راسخة في التأويل الناصح ...... إلخ ، فما يقضي به الصحابي بقوله أو فعله فهو باب في الاجتهاد ، وما يكون خبرا يحكي الحكم فذلك آخر ، وهو مما يجري مجرى النقل ، ومثله لا يُقَالُ بالرأي ، فحكاية الإباحة والتحريم لا سيما في مقام التَّنَزُّلِ ، مما يجري مجرى الرَّفْعِ ، رفع الخبر إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلا يحكي الصحابي أو الراوي تَنَزُّلَ الحكم من عنده ، فذلك ما لا يُقَالُ بِالرَّأْيِ ، فله حكم الرفع ، وإن كان لفظه موقوفا على الراوي .
والله أعلى وأعلم .